ظل الفكر الإسلامي المعاصر يتطلع إلى أن يخوض دورة معرفية جديدة، من خلال إنجاز عطاءات فكرية متميزة، وإبداعات ثقافية أصيلة ومتجددة، والسعي نحو الارتباط والتواصل مع مشكلات الحضارة، والانشغال بعمليات النهوض الحضاري في الأمة. الأمر الذي تطلب دوما العناية بتطهير حركة الفكر الإسلامي من رواسب الانحطاط والتخلف، وتجديده ليعود أصيلا وفقا"، الأصالة التي يؤسس عليها الفكر الإسلامي معاصرته، وليستعيد من خلالها منبع الفاعلية، ويمتلك قدرة التجديد والتطوير في الحياة الإسلامية.
وعلى هذا الأساس حاول الفكر الإسلامي أن يقرأ منظومته المفاهيمية والمعرفية بمنهجية جديدة، تقوم على تجزئة الأفكار وتحليلها وتنقيتها، ومن ثم إعادة تركيبها بانسجام بين الفروع والأصول، وبين الجزئيات والكليات، وبين المقيدات والمطلقات، وبين الثوابت والمتغيرات.
وهذا ما نلاحظه في بعض القراءات الإسلامية المعاصرة لجدليات فكرية دقيقة في نطاق النظريات، ولمشكلات واقعية حادة في نطاق التطبيقات، حيث خضعت هذه الأفكار والوقائع إلى تفكيكات معرفية ومنهجية من أجل تحليل مكوناتها وعناصرها، لتشخيص النفع من الضرر، والسلب من الإيجاب، والنفع القريب من الضرر البعيد، أو الضرر القريب من النفع البعيد.
وأفضل نموذج على ذلك طريقة تكوين المعرفة بفكرة الديمقراطية، الفكرة التي كانت قابل من قبل بالشك والرفض في أغلب خطابات الإسلاميين، لأن النظر لها كان يجري في نطاق العموم والإطلاق، وباعتبارها تمثل فلسفه ومذهبة اجتماعية يفوض كل شيء للأمة بما في ذلك التشريع.
وتغير الموقف حين تغيرت الطريقة وتحولت من النظر الكلي الإطلاقي، إلى النظر التجزيئي النسبي، وذلك بعد التعرف على العناصر الإيجابية والمفيدة في فكرة الديمقراطية، وتطوير المعرفة بهذه الفكرة، والاقتناع بها، والتمسك بهذه العناصر الإيجابية، التي منها الاعتراف بالتعددية وحق الاختلاف، التعايش السلمي بين الجماعات، الفصل بين السلطات، احترام حقوق الإنسان، والالتزام بالقانون، والعمل بالدستور ... إلى غير ذلك من عناصر شديدة الأهمية.
هذا التطور المنهجي جاء نتيجة تأسيسات معرفية في المنظومة الفكرية الإسلامية من جهة، ونتيجة انفتاحات على منظومة المعارف الإنسانية من جهة أخرى، وكان من نتائجه الاقتراب من النسبية الحيوية، والتخلي عن الإطلاقية الجامدة التي كانت غالبة على تفكير المسلمين فيما مضى.
وبإمكان هذا التطور أن يضمن للفكر الإسلامي حيوية وتوازنا، ويكسبه انفتاحا وإيجابية في تعامله ونقده للأفكار والتصورات والمناهج الأخرى بمشاربها الفكرية المختلفة، وذلك انطلاقا من خلفية أن الحق والصواب يجب أخذه أنى كان مصدره، ومن أية جهة كان، وهذا يجعلنا نتوصل إلى ما نصطلح عليه بنظرية الموافقة النسبية، التي تحتاج لتأسيسات منهجية ومعرفية في الفكر الإسلامي، وذلك لكثرة الحاجة إلى هذه النظرية.
ولعل من أدلة الأخذ بهذه النظرية ما نستوحيه من قوله تعالی (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18الزمر)، وكذلك ما نستوحيه من الأحاديث الشريفة التي تعد الحكمة ضالة المؤمن، وهو أحق بها أني وجدها.
ما نخلص إليه من هذا التمهيد، أن الفكر الإسلامي المعاصر بات يظهر وعيا وفهما ونضجا أفضل تجاه المفاهيم والقضايا الإشكالية والجدلية التي تشغل اهتمام النخب الفكرية بمشاربها المختلفة، وفي مختلف مراکز العالم، مثل قضايا الديمقراطية، والحداثة، وحقوق الإنسان، وغيرها.
ومن هذه القضايا كذلك، والتي نحن بصدد دراستها، قضية التعددية
الحزبية والسياسية، وهي القضية التي كان الفكر الإسلامي إلى وقت قريب يتعامل معها بنوع من الحساسية والحرج والتحفظ، وحسب رأي الدكتور محمد عمارة: «إن الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة، ولا نبالغ إذا قلنا أكثريتها إنما تقف من مبدأ التعددية، سواء في الرؤى الفكرية أو في الأوعية التنظيمية والتنظيمات الحركية، موقف الرفض العدائي، أو الريبة الشديدة، أو الشك في شرعيتها، أو في ضرورتها وجدواها» (2).
وهذا ما تغير فيما بعد نتيجة ما نسميه بالصحوة المفاهيمية التي مرت على الفكر الإسلامي، وهذه الصحوة في المعايير الحضارية هي أهم من تلك الصحوة السياسية التي شهدنا تعاظمها على امتداد جغرافيا العالم الإسلامي.
الهوامش:
(1) القرآن الكريم، سورة الزمر، الآية ۱۸.
(2) عبد الله النفيسي، الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية.. أوراق في النقد الذاتي (القاهرة:
مكتبة مدبولي، ۱۹۸۹)، ص ۳۳۰.