قد يتصوّر إن أدوات الفقيه المنهجيّة كانت ضرورة للحاجات المحدودة العلمية السابقة (قبل تطور العلوم) كما كانت افرازات للحاجات المحدودة التي كانت تتطلبها المجتمعات البدائية، أما الآن وبعد هذا الانفجار الهائل للعلوم وتكاثر التخصصات في المجالات المنهجية، لسنا في حاجة لتلك الأدوات، حيث توجد أدوات أكثر تطوراً يمكن أن تعطينا نتائج عملية أدق وأفضل.
وجوابها: إن أدوات الفقيه لاستنباط الحكم الشرعي هي (القرآن والسنة والعقل العملي والنظري...)، والقرآن: هو معجزة الله الخالدة وهو كلام الله للبشر، فهو ليس ضرورة لمرحلة علميّة سابقة أو افرازاً لحاجة محدودة كانت تتطلبها المجتمعات البدائية، بل هو كتاب هداية للبشرية، فيه من التشريعات ما تحتاجه البشرية في كل مراحل حياتها وتطوراتها، ولهذا تراه مسايراً للحياة الجديدة التي تختلف عن الحياة القديمة وتراه مسايراً للعلم والعدل وكل ما يتطلب من الخير والصلاح وبعيداً عن الظلم والفساد.
وكذا السنة النبويّة: التي هي مصدر من مصادر التشريع الاسلامي، ليست هي لمرحلة خاصة بدائية، بل كما جاء في الحديث: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، وجاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه قال: ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلاّ
أمرتكم به، وما من شيء يقربكم إلى النار ويبعدكم من الجنة إلاّ نهيتكم عنه.
وكذا حكم العقل العملي والنظري، فإنه ليس ضرورة لمرحلة سابقة تطلبتها المجتمعات البدائية، بل هو حكم عقلي وادراك لما ينبغي أن يعلم أو يعمل، وهذا لا يتغير بالانفجار الهائل في العلوم وتكثر الاختصاصات في المجالات المنهجية.
إذن هذه المصادر يحتاجها كل انسان آمن بالشريعة الاسلامية لاستنباط الأحكام الكلية (إذا كان مجتهداً فيها).
نعم هناك وسائل لإثبات مواضيع الأحكام وتشخيصها، فكانت وسائل بدائية والآن تطور العلم لإيجاد وسائل أدق وأفضل لتشخيص موضوع الحكم، فالكرّ كان يوزن بموازين قديمة ليست دقيقة، والآن يوزن بموازين أكثر دقة، فتكون الأدوات أفضل من ناحية تشخيص الموضوع، وهذا لا بأس به، ولكن ليس بمعنى ترك التحديد للكرّ بالمساحة التي هي مثلاً ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار بل إذا أردنا تحديد الكرّ بالوزن نتّبع الوزن الأدق، ولكن إذا أردنا تحديد الكر بالمساحة فنتبع الطريقة الشرعية لذلك وهي طريقة عرفية سهلة يعرفها من لم يكن له علم بالموازين الدقيقة.
وعلى كل حال: لا يجوز الخلط بين أدوات الأحكام الشرعية وأدوات تشخيص مواضيع الأحكام الشرعية، فالعلوم الحديثة تنفع في تشخيص مواضيع الأحكام لا في الأحكام الشرعية ولا في أدلتها.
نعم إذا كان للمقولة السابقة حضّ فهو في كلام الآدمي وأدواته في التعامل مع الآخرين ولكن النصوص الدينية ليست كلاماً آدميّاً، وكذا الحكم العقلي فهو لا يتغير نظرياً كان أو عملياً.
وعلى كل حال: فانّ مرجعيتنا في السلوك والفكر هو كلام الله وسنة الرسول الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وحكم العقل العملي
والنظري، وأين هذا من فكر البشر، فإنه لا يقاس بالفكر الديني (الإلهي) المتمثل بالقرآن والسنّة، وقد قال تعالى في القرآن الكريم في أول سورة البقرة (ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وقال تعالى: (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد) (1) وقال تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً) (2).
وهذه الآية وهي كلام الله لا تعني ان البشر والجن لا يتمكنون من تكوين آيات وألفاظ القرآن الكريم، بل إنما تعني أيضاً - وهو الأظهر - عدم امكان الجن والإنس على أن يأتوا بمثل أفكار ونظريات وأحكام القرآن الكريم التي هي قادرة على الصمود بالرغم من امتداد الزمن (3).
نعم من ورث الموروثات الخاطئة من غير تمحيص ولا مراجعة، ومن تبع الدعاية وأنشطتها الاعلامية التي تصنع مفاهيم مغلوطة بفعل ما تمارسه من أساليب خدّاعة لجعل العصري أحسن حالاً مما سبقه، ومن يقرأ النصوص الدينية قراءة سريعة انفعالية ويكون متأثراً بموروثاته الخاطئة، ومن يتبع غيره من دون وعي منه، تتشكل عنده قواعد خاطئة تتحكم في كثير من مواقفه الثقافية والاجتماعية والسياسية، فينادي بالجديد معتبراً ذلك قاعدة كلية في كون كل جديد أحسن حالاً من كل قديم، وهذا هو مصيبة كل من لم
يملك رأياً اجتهادياً وتخصصياً، ويدخل في مجال التخصص ويتكلم وكأنه مجتهد ولكن لا حضّ له من الاجتهاد الصحيح.
والخلاصة: ان نظرية القراءة الجديدة للنصوص الدينية التي تعني أن النص يمكن أن تكون له معان متعددة ومتضادة تعتبر كلها صحيحة ولا رجحان لأيّ منها على الآخر، لهي نظرية لا دليل عليها، بل الدليل يقف ضدها لما ثبت من أن النص لا يكون له أكثر من معنى واحد وهو المعنى الظاهر من اللفظ أو الصريح فيه الذي هو حجة على السامع والمتكلم وهو الذي يسعى إليه لمعرفته، ففي الحقيقة ان المتدينين هدفهم الأصلي هو معرفة مراد المتكلم (قرآن وسنة) للعمل على وفقه للحصول على مرتبة الطاعة لتحقيق رضا الله تعالى والقيام بحق مولوية المولى الثابتة بالعقل، من أجل نيل سعادة الدارين.
وفهم المعنى الواحد من النص الديني له موازين وأصول معيّنة عيّنتها اللغة وأصول الفقه، فليست عملية الفهم من النصوص عملاً عشوائياً، ففي كل فن لا يُقبل ولا يُعقل أن يحاول غير ذوي الاختصاص ابداء الرأي، ففي علم الفقه وعلم الأصول وعلم المنطق والتفسير وأشباهه يكون ابداء الرأي فيها للمتخصصين في هذه العلوم (المجتهدون) ولا يسمح لأي فرد آخر التداخل في إبداء النظر والرأي ما دام لم يعرف أصول ومبادئ هذه العلوم وغاياتها وغير متضلع فيها.
نعم قد يكون النص محتملاً لمعنيين أو أكثر إلا انه توجد موازين ومعايير لترجيح أحد المعنيين على الآخر، فليس من الصحيح القول بعدم وجود مرجحات لأي معنى على آخر إذا كان النص يحتمل معاني متعددة، بل المرجحات لمعرفة أحد المعاني على غيره أمر ممكن بواسطة اتباع القرائن وقواعد اللغة.
وقد تطرقنا إلى الصيحات الداعية إلى الدعوة إلى القراءة الجديدة للنص الديني ورددناها رداً علمياً وأثبتنا أنّ المنهجية الدينية في فهم النصوص الدينية قائمة على منهج علمي رصين، والدعوة إلى نبذه عبارة عن الدعوة إلى نقض الصرح القائم على كلام الله وسنّة النبي وحكم العقل النظري والعملي والذهاب إلى الفوضي وغلق باب الاستفادة من النصوص الدينية، حسب القواعد العرفية واللغوية وقطع الرابطة بيننا وبين الدين الذي نحن مكلفون بالالتزام به للنجاة في الآخرة والسعادة في الدنيا.
من كتاب: (بحوث في الفقه المعاصر) للشيخ حسن الجواهري، ج4 ص86.