الملحد قد يكون طيبا، خيرا، دون أن يؤمن بالله؟!
الرد الكلاسيكى على البرهان الأخلاقي عند أعلام "الإلحاد الجديد" وعوام الملاحدة هو: "هناك ملاحدة على خلق عال حميد رغم أنهم لا يؤمنون بإله فكيف تلزموننا بالإيمان بإله ليكون المرء على خلق وخير؟!"
الجواب:
أولا: القضية ليست: غياب الإيمان بالله ووجود الأخلاق الذاتية، وإنما: غياب الله ووجود الأخلاق الموضوعية.. ليست هي: الحاجة إلى الإيمان لوجود الأخلاق، وإنما: الحاجة إلى وجود الله لتكون هناك أخلاق موضوعية يحتكم إليها الجميع؟ فإننا لن نعرف الصلاح حتى نحتكم إلى قواعد موضوعية خارج أذواقنا ومواجيدنا.
إن السؤال غير متعلق بالالتزام بالقيم الخيرة، وإنما بإثبات الحقيقة الموضوعية للمبدأ الأخلاقي؟ إذ إن الإيمان بأن الطبيعة هي كل شيء ولا شيء ورائها يلزم منه - كما يقول الفيلسوف الملحد مايكل روس - أن "الأخلاق الموضوعية مجرد وهم".
ثانيا: حديثنا متعلق بالجانب الأنطولوجي للأخلاق لا الجانب الإبستيمولوجي: فنحن نناقش حقيقة وجود الأخلاق بمعزل عن ذوق الفرد والمجتمع، ولا نبحث الآن في سبيل الوصول إلى هذه الأخلاق، إذ إننا نقرّ أن الإنسان الملحد والمؤمن بالله يملكان الوصول إلى جوهر[1] الخلق السليم دون عون وحي، إذ إن الميل الخلقي منقوش في قلب كل إنسان (وهدينه النجدين) ولكننا ننكر أن يكون تفسير حجيه السلطان الأخلاقي ممكنا دون أن يقوم على الإيمان بوجود من قنن هذا القانون الأخلاقي بصورة متعالية على البشر، ليكون واحدا، وملزما لهم جميعا.
ثالثا: الملحد لا يملك أن يكون إنسانا خيرا، ضمن منظومته التصورية؟ إذ إن المادية الصرفة لا تعترف بالخير والشر، والحق والباطل. والحكم بخيرية ملحد يفترض انسلاخ الملحد من منظومته إلى منظومة إيمانية تؤمن بالخير والشر، وتقيم أمرها على مفهوم تميز الإنسان وتكريمه، وذاك تناقض. إن الملحد بإمكانه أن يعمل صالحا لكن ليس بإمكانه أن يكون صالحا لأن إلحاده لا يعترف بقيمة الصلاح.
رابعا: الملحد يؤمن أنه - هو نفسه - لم يفز بحظ الوجود اليوم إلا لأن أجداده من الكائنات الدنيا قد استطاعوا أن يأكلوا الكائنات الأضعف التي أفناها الانتخاب الطبيعي. وإذا كان منطق الانتهاش هو الذي خدم وجوده فلم عليه أن يتخلى عنه الآن ضرورة لا ذوقا؟!
إذا كانت الأخلاق موضوعية، فما الحاجة إذن إلى الدين؟
ما الحاجة إلى الدين إذا كانت الأخلاق موضوعية تُعلم بضرورة النفس
دون اكتساب من تعليم وحي؟
الجواب:
اولا: يجب الا نخلط بين الحاجة إلى وجود الله لإثبات إمكان الأخلاق الموضوعية، والحاجة إلى الله لتفصيل المنظومة الأخلاقية؟ إذ إن وجود الله ضرورة لأن توجد أخلاق متعالية ملزمة للإنسان دون أن تكون نابعة من ذاته، وهو ما يتعلق به البرهان الأخلاقي، لكن يبقى أمر تفصيل السلوك الأخلاقي منفصلا عن ذلك.
والإنسان قادر على إدراك الحقيقة الذاتية لكثير مما هو حسن أو قبيح بمعزل عن الشرائع السماوية؟ ولذلك قال القرآن في وصف! قبائح المشركين قبل الرسالة الخاتمة: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28الاعراف)
ثانيا: اتفاق البشر على كثير من القيم الأخلاقية حجة للدين لا ضده؟ إذ تظهر تساوق الخلق والامر الالهيين، فقد خلق الله الإنسان على صفة الاستواء الأخلاقي، وألهمه معرفة الخير والشر، سواء اهتدى بعد ذلك إلى الإيمان بالله ام جحده، ثم أمره بما يوافق ما فظره عليه، وانحراف الإنسان ذوقياً عن القيم التي نزل بها الوحي انحراف في الإنسان عما جبل عليه. قال الله سبحانه في الحديث القدسي (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)
ثالثا: تفصيل دقائق المنظومة الأخلاقية بما لا يجعل للهوى سلطانا على سلوك الإنسان لا يستقيم دون وحي؟ إذ إن اتفاق البشر على مجموعة كبيرة من الأحكام الأخلاقية لا يمنع اختلافهم في أخرى بسبب عوامل البيئة والثقافة والهوى والمصلحة الشخصية. ووظيفة الوحي إحكام المتشابه ومنع الانحراف عن حدود الأحكام.
رابعا: يتحرك الإنسان بالرهبة كما الرغبة ولذلك يحتاج الدين ليحذره مغبة مفارقة الخلق القويم، ويحفزه بالوعد بالنعيم ليلازم طريق الاستقامة الأخلاقية. فالمعرفة الأولية بأصول الخلق الحسن لا تغني عن الحاجة إلى الدين لأن المعرفة وحدها ليست ضمانة للالتزام الأخلاقي.
[1] جوهره لا جميع تفاصيله؟لسلطان الهوى والبيئة في الانحراف أحيانا بمفاهيم الواجب والمحظور.