الأساس في شروط مرجع التقليد الاجتهاد والعدالة.
أما العدالة فنقصد منها المرتبة العالية، وهي التي تمنع الشخص عادةً من مخالفة التكليف الشرعي ومن الوقوع في المعصية وإن كانت صغيرة، بحيث لو صدرت منه ـ نادراً ـ لأسرع للتوبة والإنابة لله تعالى.
وأما الاجتهاد فهو عبارة عن القدرة على أخذ الحكم الشرعي والوظيفة العملية من الأدلة المعتبرة الكافية في الخروج عن المسؤولية أمام الله تعالى. والفاقد للقدرة المذكورة جاهل لا معنى للرجوع إليه وتقليده. هذان هما الشرطان الأساسيان.
نعم، مع العلم باختلاف المجتهدين ـ كما هو حاصل الآن ـ لابد من ترجيح الأعلم مع الإمكان، كما أوضحنا ذلك بتفصيل في بحوثنا الفقهية[1]. ومن هنا تعدُّ الأعلمية شرطاً ثالثاً.
هل تختلف عدالة الفقيه عن عدالة الشاهد وإمام الجماعة؟
أما في عدالة مرجع التقليد فهي نابعة من أن الأمانة كلَّما عظمت وجلّت احتاجت إلى التحصين بملكة رادعة عن الخيانة بنحو أقوى وآكد.
وبعد غياب العصمة عن مقام التبليغ بأحكام الله تعالى والقيام بالوظائف الدينية لا رادع عن التلاعب بالأحكام وضياعها والتفريط في الوظائف الدينية إلا قوَّة العدالة وشدَّة الخوف من الله تعالى.
فالمرجع في التقليد يتعرض:
أولاً: للضغط النفسي عند اختيار الحكم واستنباطه من الأدلة، فإن أدلة الأحكام غير منضبطة، والنفس بطبعها تميل للفتوى بما يطابق الظنون والقناعات والعواطف، فقد يجنح الباحث للحكم، وتلبس عليه نفسه، فيستوضح الأدلة عليه بسبب ذلك، وقد يؤتى حظاً من القدرة على الاستدلال واللحن بالحجة، فيبرز ما ليس دليلاً بصورة الدليل.
ولا حاجز له عن التلاعب أو التسامح أو التغافل في ذلك إلاّ الخوف من الله تعالى، وشدة الحذر من نكاله، حين يلتفت إلى أن الخصم المحاسِب هو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يُخدع بالحجج الواهية، فإنه حينئذ يتجلَّى له أن ما يقيمه من الأدلَّة هل يصلح لأن يكون حجة له مع الله تعالى، وعذراً بين يديه أو لا؟ فيحمله ذلك طبعاً على استفراغ الوسع، واستكمال الجهد لمعرفة الأدلة الحقيقية، والوقوف عندها واستنباط الحكم على أساسها.
وثانياً: للضغوط الأُخرى الخارجة عن مقام الاستدلال، إذ كثيراً ما يكون الحكم الذي تقضي به الأدلة الشرعية غير ملائم لرغبات السلطان، أو العامَّة، أو غير مناسب للظروف القائم، أو العواطف المتأججة.
كما قد يتعرض لضغط الأنانية، بلحاظ حب الظهور في الابتكار والتميُّز عن الآخرين، أو في التجديد والعصرنة، أو في التسهيل من أجل استقطاب أكبر عدد ممكن من الناس، إلى غير ذلك مما يدعو إلى محاولة التخلص من قيود الأدلة الشرعية الحقيقية، والالتفاف عليها، والتشبث بالشُبه والمبررات للخروج عنها.
ونحن نرى أن كثيراً من ذوي العلوم العملية التي تكون نتائج الخطأ فيها ظاهرة ـ كالطب والهندسة ـ قد يخون أمانته تسامحاً أو تعمداً لبعض الدواعي المادية ـ ولو مثل الكسل والضجر ـ ويتحمل تبعات عمله وأقلها ظهور الخطأ عليه وفشله في مهمته عاجلاً أو آجلاً، فكيف بمثل علم الفقه الذي لا يظهر الخطأ والتفريط فيه لعامَّة الناس؟! وكيف يؤمن ذلك فيه لولا شدة التقوى والورع وقوة ملكة العدالة؟!
وثالثاً: أن مرجع التقليد بحكم مركزه معرض لكثير من المخاطر الدينية بسبب ابتلائه بالأموال، وامتلاكه للجاه واحتكاكه بالناس، وذلك يجعله معرَّضاً للدواعي الغضبية والشهوية والنزغات الشيطانية، فإذا لم يتحصَّن بقوَّة الورع والتقوى كان معرضاً للسقوط والهلكة، ولتشويه صورة المرجعية والدين.
كل ذلك مما يؤكد حاجة مرجع التقليد إلى شدة التدين وكونه بمرتبة عالية من العدالة والورع وتقوى الله تعالى.
وعلى ذلك جرى شيعة أهل البيت (عليهم السلام) بمرتكزاتهم وإجماعهم العملي على مرّ العصور، وهو من أقوى الأدلة في المقام، مدعوماً ببعض النصوص المذكورة في محلها، وبذلك صار للمرجعية وجهها المشرق ونورها المتألق.
ولذا نرى الشيعة يكنّون لمراجعهم قدسية عالية لا وجه لها لولا أنهم يفترضون فيهم القرب من الله تعالى بورعهم وتقواهم، وقيامهم بوظيفتهم الشريفة وهي إيصال أحكام الله تعالى لعباده وتقريبهم منه.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يثبت هذه الطائفة على هذا النهج اللاحب، والطريق الواضح، ويسددها في جميع أمورها، ويعصمها من الزيغ والانحراف ومن مضلات الفتن، إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين.
هذا كله بالإضافة إلى أصل اعتبار كون العدالة بمرتبة عالية، وأما ترجيح الأورع عند تساوي المجتهدين في العلم فهو يبتني على أن التخيير عند تساوي المجتهدين في العلم مخالف للأصل، والمتيقَّن حينئذ جواز تقليد الأورع.
وتفصيل الكلام في ذلك في المطوّلات، وقد استوفينا الكلام فيه في كتابنا الفقهي الاستدلالي (مصباح المنهاج).
[1] اُنظر مصباح المنهاج، الاجتهاد والتقليد: 67.