المرجعية العليا: العشائر ركيزة أساسية في تركيبة الشعب ويمكن أن تكون مطمعاً

السيد أحمد الصافي
زيارات:1833
مشاركة
A+ A A-

إخوتي أخواتي أعرض على مسامعكم الكريمة أمرين، الأمر الأوّل أتحدّث فيه عن العشائر، والأمر الثاني أتحدّث فيه عن ظاهرة الانتحار.

أمّا الأمرُ الأوّل فأبيّن بمقدّمةٍ بسيطة أنّه لا شكّ أنّ الهويّة -هويّة كلّ شعب- هي محلّ اعتزاز وافتخار، وهذا التنوّع الموجود عندنا في العراق نعتزّ به وبكلّ ما يمتّ لهذا البلد من وجودات متنوّعة ومختلفة، ومن الركائز الأساسيّة في تركيبة هذا الشعب هي مسألةُ العشائر، والعشائر العراقيّة لها تأريخٌ حافل ومهمّ ولها وقفاتٌ مشرّفة أيضاً وكثيرة، ويُمكن أن تقفز الى الذاكرة بشكلٍ سريع كيف كان موقفها في ثورة العشرين، وقد أخذت زمام المبادرة بشكلٍ حفظت -في وقتها- للبلاد هذه الحالة للحفاظ على هويّة البلاد، وفي السنين المتأخّرة أيضاً هبّت العشائر مِنْ ضمن مَنْ هبّ للدفاع عن أرض العراق وعن مقدّساته وعن قِيَمه، عندما توفّق الجميعُ لتلبية ما تفوّهت به المرجعيّةُ الدينيّةُ العُليا المباركة في قضيّة الإفتاء ضدّ زمر داعش، إضافةً الى المآثر المحمودة والأخلاق التي تتمتّع بها هذه العشائر من الجود والكرم والشجاعة والنبل والغيرة وغيرها من المآثر المحمودة، ولقد تكوّنت في هذه العشائر مجموعة من حلقات التربية -إذا جاز التعبير- عندما كانت الدواوين والمضائف يجتمع فيها وجوهُ القوم ووجهاءُ العشيرة، ويجلس أبناء العشيرة ممّنْ لم تَخبره الحياة ليستمع للنصيحة ويستمع للتوجيه ويستمع للموعظة، بحيث تُصقل شخصيّة هذا الشابّ وهو يستمع الى وجوه قومه بكلّ ما يُمكن أن يكون عنواناً للفضيلة، بحيث أصبحت المقولة الدارجة أنّ (المجالس مدارس)، ونشأت طبقةٌ تحمل في ثناياها هذه القيم النبيلة والقيم الأصيلة التي نفتخر بها جميعاً، وطبعاً العشائر لأهمّيتها ممكن أن تكون مطمعاً لمن لا يُريد بالبلاد خيراً، لأنّها ذخيرةٌ مهمّة -كما قلت-، وهذه العشائر أيضاً صدّرت الى المجتمع الكوادر العلميّة على اختلاف وجوداتها.

في الفترة المتأخّرة بدأت بعضُ الأشياء تبرز وبدأت تُسيء الى قيم العشيرة، بدأت هذه الأشياء تُسيء الى تلك القيم النبيلة والقيم التي كنّا نراها ونسمع بها، بحيث أصبح بعضُ أفراد العشيرة في حراجةٍ ممّا يسمع وممّا يقول، وأصبحت بعض التصرّفات تتطفّل على هذا التكوين الذي نعتزّ به، وهذا التطفّل العشائر الأصيلة والسلوكيّات النبيلة والتربية التي ذكرنا هي بريئةٌ منه، وأصبحت هذه الأمور تأخذ مساحةً -حقيقةً- هي مساحة غير طيّبة في بعض المجالات، هذه وإنْ قلّت لكنّها تؤثّر، أنا من المُمكن أن أذكر على نحو العُجالة بعضَ هذه التصرّفات التي من غير الصحيح أن تبقى، مثلاً حالة الاحتكام، تعرفون أنّ هناك مشاكل واحتكاك، طفل من هنا وشابٌّ من هنا وشيخٌ من هناك فتحدث حالةٌ من الاحتكاك كما لا يخلو منها أيّ مجتمع، لكن هذا الاحتكاك الموجود الآن هي حالة من الاحتكام التي لا تُحلّ إلّا بمبالغ مُجحِفة، بحيث أصبح الموضوع لا يُغلق إلّا بأمواٍل طائلة، وأصبح هناك من يتصيّد افتعال هذه المشاكل لغرض الاستفادة المادّية بطريقةٍ أو بأخرى، وأصبح هذا الموضوع الآن هو مادّي بحت ويعزّ علينا أن تتحوّل هذه القيم والمآثر الحميدة الى جانبٍ مادّيّ، وتتحوّل الى سلوكٍ لا يعرف إلّا المادّة، وأصبحت هذه الحالة هي حالةٌ سائدة وإنْ قلّت لكن سائدة في مواطن بحيث لا يُمكن أن تُحلّ المشاكل إلّا بمبالغ مُجحِفة جدّاً، أنا أحبّ أن أبيّن موقفاً شرعيّاً أنّ هذه المبالغ أغلبها أكل مالٍ بالباطل، ومن الجميل جدّاً أن يتثقّف الإنسان في الجانب الفقهيّ ويسأل على أنّ هذا الجانب المادّي المُثقِل ما هو وجهُهُ الشرعيّ في ذلك؟ نعم.. وجهاء القوم يُحاولون أن يُلملموا المشكلة ويُمكن أن تتصالح الأطراف ببعض مالٍ أقلّ ما يكون في الجانب الشرعيّ، يُصالح بين الأطراف بشكلٍ حتّى يُطفئ النائرة ويُطفئ الفتنة، أمّا أن تتحوّل المسألة الى جهةٍ ماديّة بحتة وهناك من يدفع بهذا الاتّجاه، حقيقةً هذا خلاف المآثر الحميدة والمسموعات عن تلك الأصول الجيّدة التي تربّت عليها العشائر.

النقطة الثانية تزوير الحقائق، يعني العشيرة تنتصر لولدها وإن كان مخطئاً، هذا الأمر تنأى بنفسها الحكماءُ عنه، الإنسان يملك عقله والعقلاء ينأون عن هذا بل بالعكس هم يحاسبون فرد العشيرة إذا أخطأ بحقّ الآخرين، هم يوجّهون النصح له إذا أخطأ لا أن يكونوا معه على باطله، لا يُمكن أن يتنازع اثنان وكلٌّ منهم يرى أنّ صاحبه هو ملك من الملائكة، لابُدّ من وجود مخطئ والمخطئ يتوجّه له النصح، لا أن نكون مع المخطئ كيفما اتّفق لأنّه من أطراف عشيرتنا، لا تكون هناك حميّة لا ترضى بها الموازين العرفيّة، فيبدأ تزوير الحقائق وأيمانٌ مغلّظة وكلّه كلامٌ باطل في باطل، من أجل أن هذا منّي فلابُدّ أن يكون على صواب كيفما اتّفق، ولا أعتقد أنّ الوجوه الطيّبة التي يُمكن أن تؤثّر قطعاً ترضى بهذا الفرد.

من النقاط المهمّة أيضاً أصبح هناك تعطيل في بعض المؤسّسات وفي بعض الجهات، مثلاً تُعطَّل عيادةُ طبيبٍ لأنّه -مثلاً- اتُّهِم بأنّه أخطأ بحقّ المريض الفلاني، لا معنى لذلك -إخواني التفتوا- دائماً نقول: لا يُمكن أن تكون ردود الفعل أكبر من الفعل، هذا غير صحيح، ما دام المنطق موجوداً والعقل موجوداً تُحلّ الأمور بطريقةٍ أسهل بكثير، في حالة لابُدّ أن تعطَّل عيادةُ الطبيب لأيّامٍ الى أن تُحلّ القضيّة هذا تعطيلٌ لحياتنا اليوميّة، حقّك يُمكن أن يؤخذ بطريقةٍ تحفظ كيان الجميع، الإنسان أخطأ -لو افترضنا- فهناك حلول لمعالجة الخطأ، لا أن تكون ردود الفعل أكبر من الفعل فهذا أمرٌ أصبح يُعاب علينا، بلدُنا بلدٌ متحضّر فلابُدّ أن نرتقي الى حالةٍ كيف نواجه المشاكل بطريقةٍ في منتهى الموضوعيّة.

من النقاط الأخرى الأَنَفة من تطبيق القانون، إخواني التفتوا لخطورة ما أقول: يشكو لنا بعضُ موظّفي الدولة وهذه أضعها الآن أمام أنظار المسؤولين، يشكون لنا أنّنا إذا طبّقنا القانون بمجرّد تطبيق القانون سنُحاكم من العشيرة الفلانيّة -بمجرّد تطبيق القانون-، هذا أخطأ في العمل يُعاقب فتأتي العشيرة تُحاكم مَنْ عاقبه، شرطي المرور يقول: أوقف سيارةً متجاوزة يُجيب السائق: ألا تعرفني من أيّ عشيرة؟!!، بعض المؤسّسات فيها عمليّة نقل من مكانٍ الى آخر تجد العشيرة لا تقبل، أنا أقول: إنّ هذا ليس له علاقة بما قلت في البدء من تلك الأصالة والمآثر الحميدة والأخلاق والتأريخ العزيز الكريم، لا يُمكن للبعض أن يحاول أن يصادر هذا كلّه بهذه التصرّفات الضعيفة والقليلة والتي هي بعيدة عن العرف أصلاً، المرجوّ من الأحبّة ممّن يسمع الكلام ويلتفت هذا التماسك لابُدّ أن يبقى في العرف المقبول، لا أن ينفرط العقد وتتحوّل القضيّة الى قضايا غير مفهومة، لابُدّ من وجود ضوابط مقبولة لا تتصادم مع العرف ولا تتصادم مع الشرع ولا تتصادم مع القانون، حتّى يطمئنّ الآخرون بأن إذا أخطأت فهذا الخطأ معروف كيف أتعامل معه، أمّا أن تبقى القضيّة هكذا -إخواني- أعتقد لا يرضى بها الجميع، هذا ما كان من الأمر الأوّل وعندي شواهد كثيرة ولكن طوينا عنها كشحاً.

الأمر الثاني هو مسألة الانتحار، واقعاً تتبّعت ما تذكره الصحافة والإعلام عن مثل هذه الحالات، وبعض الحالات نجا محاوِلُ الانتحار من ذلك، مثلاً يصعد على جسرٍ فيُحاول أن يرمي نفسه ثمّ يُدركه البعض، حاولتُ أن أتتبّع وجدت أنّ هذه الحالة أوّلاً لم تكن موجودة وإن وُجدت فهي لا تُعدّ أصلاً، ثانياً وجدنا هذه الحالة عند الشباب يعني ممّن هم في ريعان الشباب، أنا نصيحتي لمن يكون على هذه الطريقة، أمّا الذي انتحر فهو لا يسمع الكلام لكن الذي قد يفكّر -لا قدّر الله- أبيّن هذا المعنى بخدمتكم، كلّ إنسان في بداية شبابه قد يُبتلى، يُبتلى بتجربةٍ مادّية قد يخسر فيها، بتجربةٍ اجتماعيّة أو علميّة أيضاً قد لا يتوفّق فيها، بتجربةٍ -افترض- عاطفيّة كأن يريد أن يتزوّج من المرأة الفلانيّة لكن لا يجد الى ذلك سبيلاً، هذا الشابّ لا يملك تجربةً واسعة، المشكلة مركّبة فتبقى هذه المشاكل في صدره، لا يجد أباً متفرّغاً له ولا يجد أسرةً تحاول أن توجّه سلوك ولدها، هذا الشابّ في عمره مجموعةٌ من الأصدقاء يحملون نفس ما عنده من أفكار ومن رؤى ومن نظرة قد تكون تشاؤميّة، فيحاول إذا فشل في أوّل تجربة له أن يرى الدنيا قد اسودّت في عينيه، يحاول أن يُعين على نفسه ويحاول أن يجعل ضبابيّة وغشاوة على قلبه وعلى عقله وعينيه بحيث لا يفكّر إلّا في هذه المشكلة، فيرى أنّ المنافذ قد أوصدت عنده، ويرى أفضل حلّ هو التخلّص من الدنيا فيُقدم على الانتحار، أنا أسأل وأنا أطلب من هؤلاء الإخوة، أقول: يا أولادي يا أعزّائي أنتم في ريعان الشباب أنتم الآن الأمل، لا يُمكن أن نُنهي حياتنا بتجربةٍ واحدة بل بتجربتين بثلاثة بعشرة، لا تُنهِ حياتك فأنت الآن تُقدم على فناء أعزّ شيء عندك، من أجل تجربةٍ قد تكون أنت أخطأت أو قد خطّأوك فيها، عليك أن تنتفض وعليك أن تصحو، لا تأخذ النصيحة من فاشل، الفاشل لا يعطيك نصيحةً لأنّ الفاشل لو كان يُمكن أن ينصح لنصح نفسه، خذ النصيحة من إنسانٍ ناجح، تعلّم أن تستنصح الآخرين، لا تفرّطْ بحياتك، الانتحار عملُ المنهزمين، الانتحار عملُ الفاشلين، الانتحار عبارة عن قلّة تدبّر وقلّة تعقّل، المجنون من يرفض حياته، نعم.. عليك أن تستفيد من هذه التجربة وليس من الشجاعة أن ترمي نفسك وتُنهي حياتك وتجعل مآسي الأسرة خلفك، لا أعرف ما الذي تستفيده لمجرّد أن مررت بتجربةٍ وهذه التجربة كانت غير جيّدة فتدمّر مستقبل حياتك بهذه الأشياء، إخواني أنا أقول هذا وأنا أعلم أنّ هذا الكلام لابُدّ أن يُتمّم بكلامٍ آخر، هناك تربية وافدة إلينا لم تكن ثقافة الانتحار لم نسمع بها، نعم كلّ المبرّرات موجودة أحدهم يقول: عمل لا يوجد أو الظروف صعبة، نعم.. أنا أقرّ معك بالظروف الصعبة والعمل لكن ليست النتيجة أن تنتحر، النتيجة أن تبقى، قلْ أنا تحدّيت الظروف وبقيت شامخاً، يا حبيبي لا تُرهقْ أهلك ولا تفكّر بطريقةٍ سلبيّة، الأمل أمامك وأنت شابٌّ دون العشرين، ألم تقل لي ما هي تجربتك؟!! الأب يا أخي العزيز اجلسْ مع الولد علّمه وافتحْ صدره، أنتم الأولاد لا تتعلّموا عدم الاهتمام بالآخرين، نعم.. اعتزّ بشخصيّتك واعتمدْ على نفسك لكن أنت كالعود الطريّ تحتاج الى مسند، تعلّمْ من هذه الأشياء في الطبيعة، الله تعالى علّمنا هناك نبات جيّد مُثمِر لكنّه في بدايته يحتاج الى مسند الى أن يقوى عوده ويشتدّ ثمّ بعد ذلك يعتمد على نفسه، أنت تحتاج وكلّنا نحتاج في أعمارنا الى مسند والى من يوجّه ومن يرشد، ليس عيباً أن تستنصحوا الآخرين أبنائي وأحبّائي، والله كلّما سمعنا بحالةٍ من الانتحار تأذّينا، هذا من رصيد هذا الشعب الأبيّ، لماذا تذهبون الى هذه الطريقة؟!!

أنتم شبابٌ في مقتبل العمر لا تغرّكم بعض الأمور فتجعلون الدنيا مسودّةً لأنّه مستقبلي انتهى، لا لم ينتهِ مستقبلك يا ولدي، الآن الحياة أمامك لابُدّ أن تكون قويّاً أن تكون شجاعاً أن تكون صبوراً، هذه الخشونة في الرجولة مطلوبةٌ منكم أبنائي، الرجل يتحمّل المسؤوليّة، شخص كان عمره ستّة عشر عاماً ذهب الى الدواعش وفجّر قنبلةً في الدبّابة وفرّ سالماً منها، ستّة عشر عاماً كان عمره وهو في الصحراء، الإنسان إذا أراد شيئاً حصل عليه، لماذا هذا الإحباط والانكسار؟! لماذا؟! أنتم أبناء لديكم أمّهات غذَّيْنكم بحليبٍ طاهر، أبناء آباءٍ من أصلابٍ طاهرة، لا تذهبوا الى أن تُنهوا حياتكم من أجل أشياء في منتهى التفاهة والبساطة، من علّمكم على هذه الطريقة؟ هذه ليست شجاعة، المنتحر مهزوم، المنتحر فاشل، المنتحر جبان يجبن أن يواجه الحياة فيذهب الى الانتحار، لا أعرف من أين وفدت هذه القضيّة والصحافة تنقل يوميّاً، طبقة شباب لا تزالون في ريعان شبابكم أبنائي لا تذهبوا الى هذه القضيّة، واجهوا الأمور بشجاعة وقوّة والله سبحانه وتعالى يُعينكم على فتح آفاق كثيرة جدّاً، أنت لا ترى كلّ المشهد الآن أنت لا تزال في تجربةٍ قليلة، المشهد أصعب من جهةٍ ممّا تراه وأسهل من جهةٍ أخرى ممّا تراه، الحياة تحتاج الى مرشِد وتحتاج الى موجّه وتحتاج الى أحد تستند عليه يا بُني، لا تُعجّل بأن تُنهي حياتك لأسبابٍ هي جدّاً جدّاً بسيطة وتافهة.

نسأل الله سبحانه وتعالى وأدعو لشبابنا الأعزّاء في هذه الأعمار الفتيّة، نحن نرغب ونتمنّى أن نراكم في طليعة الناس الذين يبنون هذا البلد بعيداً عن هذه الممارسات المرفوضة، نسأل الله سبحانه تعالى لكم يا شبابنا ويا أبنائي دوام التوفيق والتسديد والأمل، وأن يفتح الله تعالى بصركم وبصيرتكم على أمورٍ تُبعدكم عن هذه الممارسات، اللهمّ احفظنا واحفظ شبابنا واحفظ أهلنا جميعاً وأسرنا، واحفظ بلدنا من كلّ سوء، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.


النص الكامل للخطبة الثانية من صلاة الجمعة ليوم (8 ذي القعدة1440هـ) الموافق لـ(12 تمّوز 2019م)، والتي أُقيمت في الصحن الحسينيّ بإمامة السيّد أحمد الصافي (دام عزه)

 

مواضيع مختارة