قد يتوهم البعض فساد التقليد لشبهة وقوع الاختلاف بين الفقهاء، واستدل البعض عليه بما روى الصدوق (ره) في معاني الأخبار وفي العلل عن علي بن أحمد الدقاق، عن محمد بن جعفر الاسدي، عن صالح بن أبي حماد، عن أحمد بن هلال، عن ابن ابي عمير، عن عبد المؤمن الانصاري قال: قلت لابي عبد الله (ع): ان قوماً يروون عن رسول الله (ص) قال: اختلاف أُمتي رحمة، فقال: صدقوا، فقلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب، فقال: ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد، قول الله عزوجل: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ...)، فأمرهم ان ينفروا إلى رسول الله (ص) فيتعلموا، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، انما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين الله، إنما الدين واحد، إنما الدين واحد([1]).
وأيضاً ما رواه السيد محمد بن الحسين الرضي في نهج البلاغة، عن أمير المؤمنين (ع) انه قال في ذم اختلاف العلماء في الفتيا: ترد على أحدهم القضية فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم يجتمع القضاة بذلك عند إمامهم الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد. أ فأمرهم الله بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على اتمامه أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أم أنزل الله ديناً تاماً فقصّر الرسول في تبليغه؟ والله يقول: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)، وفيه تبيان كل شيء وذكر ان الكتاب يصدق بعضه بعضاً وانه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)،.. الحديث([2]).
والجواب: ونحن قبل بيان الوجه في معنى الروايتين وأمثالهما لابد ان نذكر بأن هذا الاختلاف الكثير الذي نشاهده بين الفقهاء في الفتوى مرضي ومجاز من قبل الشرع الشريف، ضرورة أننا بعد ان فرغنا من وجوب التقليد وارتكازية رجوع الجاهل في كل شيء إلى العالم، وأن الائمة (ع) قد عَلِموا بأن علماء الشيعة في زمان الغيبة وحرمانهم عن الوصول إلى الإمام، لا محيص لهم من الرجوع إلى كتب الأخبار والأصول والجوامع، كما أخبروا بذلك، ولا محالة وقوع الاختلاف بين العلماء في فهم هذه النصوص والأخبار، لإمكان عثور أحدهم على حجة في غير مظانها، أو أصل من الأصول المعتمدة، ولم يعثر عليهما الآخر مع فحصه بالمقدار المتعارف، فتمسك بالأصل العملي، أو عمل على الأمارة التي عنده، فلولا ارتضاؤهم (ع) بذلك لكان عليهم الردع، إذ لا فرق بين السيرة المتصلة بزمانهم وغيرها، مما علموا وأخبروا بوقوع الناس فيه، فإنهم أخبروا عن وقوع الغيبة الطويلة([3])، وأن كفيل أيتام آل محمد (ص) علماؤهم ([4])، وأنه سيأتي زمان هرج ومرج يحتاج العلماء إلى كتب أصحابهم ([5])، فأمروا بضبط الأحاديث وثبتها في الكتب.
أي أنهم (ع)، علموا وقوع الاختلاف بين الفقهاء لاحقاً لعلمهم بوقوع الغيبة وانحصار رجوع الفقهاء الى كتب الأحاديث، مما يقتضي وقوع الخطأ في فهم البعض ومع هذا لم يمنعوا ويردعوا عن ذلك، مما يدل على رضاهم وإقرارهم له؛ هذا أولاً.
وثانياً: تقدم إن من أهم أدلة التقليد هو سيرة العقلاء وهي قائمة على رجوع الجاهل الى العالم وإن احتمل الخطأ إذا كان ضعيفاً لدرجة لا يعتد بها، فمن يراجع طبيباً فإنه يحتمل انه سيخطأ في وصف الدواء، لكن هذا الاحتمال لا يمنعه من مراجعته، نعم إذا علم اختلاف الأطباء فيما بينهم في تشخيص مرضه فالعقل يحكم بوجوب رجوعه الى أعلمهم كون طريقيته للواقع أقرب غالباً، فيكون ترجيحه بمرجح بخلاف الرجوع الى المفضول فانه ترجيح بلا مرجح؛ لكن هذه مسألة أخرى.
وثالثاً: ذهب جماعة الى ان مناط رجوع الجاهل الى العالم هو قيام الحجة وسقوط التكليف والعقاب بأي وجه اتفق سواء طابقت فتوى الفقيه الواقع او لا، وبعبارة اخرى: ان العامي انما يرجع الى الفقيه لأن قوله حجة ومعذر عند الله تبارك وتعالى، فإن طابقت فتواه الواقع فبها، وإلا فهو معذور، وبالتالي فالعمل وفق رأي المجتهد مبرئ للذمة ولا ضرر في اختلافهم ما دام المدار على المعذّرية، لأن المجتهدين مع اختلافهم في الرأي، مشتركون في عدم التقصير في الاجتهاد، فرجوع العقلاء إليهما لأجل قيام الحجة والعذر، وهما المطلوب لهم، لا إصابة الواقع الاولي.
لكن يلاحظ على هذا الطريق انه يستلزم جواز رجوع العامي لأي مجتهد وإن لم يكن أعلم، وهذا خلاف سيرة العقلاء من رجوعهم اليه عند الاختلاف!!
فإذا كان السبب هو سقوط التكليف والمعذّرية فهو متحقق بالرجوع لأي فقيه وإن لم يكن أعلم.
فإن قلت: الرجوع لأي فقيه مقيد بعدم العلم بالخلاف، وإلا وجب الرجوع الى الأعلم، وبعبارة أخرى: ان سيرة العقلاء قامت على رجوع الجاهل الى العالم لأجل الحجية وسقوط التكليف، مادام لا يعلم بالخلاف بين الفقهاء، فإذا علم به رجع الى الأعلم.
قلت: بالإضافة الى عدم قيام السيرة على ذلك، نسأل: ما هو سبب الرجوع الى الأعلم؟
فلابد من ان يكون سبباً آخر وهو أقربيته الى الواقع ([6])، لا مجرد الحجية وسقوط التكليف، وحينئذ فلابد ان نجعل الأقربية الى الواقع وضعف احتمال عدم إصابته هو المناط والسبب في رجوع الجاهل الى العالم.
والخلاصة: ففي الأمرين الأولين إجابة عن الإشكال، يبقى بيان معنى الحديثين المستدل بهما صاحب الشبهة، فنقول: ان الرواية الأولى بصدد بيان معنى الاختلاف الوارد في الحديث النبوي الشريف Sاختلاف أمتي رحمةR، فبيّن (ع) ان المراد من الاختلاف الذهاب والمجيء إلى حلقات العلم كما في قوله تعالى: (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)([7])، فليس هو في صدد بيان المنع من التقليد كما يدعي صاحب الشبهة كما هو أوضح من ان يذكر.
وأما الرواية الثانية: فيشير بها الإمام أمير المؤمنين (ع) الى مذهب أهل الرأي كما هو واضح في العنوان الذي ذكره المستشكل، والرأي يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النص يرجع الى تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما رجح في فكره الشخصي من تشريع.
والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلة الفقيه ومصدراً من مصادره، فكما ان الفقيه قد يستند الى الكتاب او السنة ويستدل بهما معاً كذلك يستند في حالات عدم توفر النص الى الاجتهاد الشخصي ويستدل به.
وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى رأسها مدرسة ابي حنيفة؛ ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت والفقهاء الذين ينتسبون الى مدرستهم([8]).
([1]) نقلاً عن الفصول المهمة في اصول الأئمة: ج2، ص92، وبحار الأنوار: ج4، ص1، ص227.
([2]) نهج البلاغة: ص 60 خطبة 18؛ الفصول المهمة في اصول الأئمة: ج2، ص92.
([3]) انظر بحار الانوار 51: 72 وما بعدها.
([4]) مستدرك الوسائل 17: 317، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 22، 23، 24، 27، 28.
([5]) الكافي 1: 42 / 11، وسائل الشيعة 18: 56، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8، الحديث 18. منها: ما عن عن المفضل بن عمر، قال: قال لي أبو عبدالله ( ع): "اكتب، وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فانه يأتي على الناس زمان هرج، لا يأنسون فيه إلا بكتبهم".
وما عن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبدالله (ع): "احتفظوا بكتبكم، فإنكم سوف تحتاجون إليها".
([6]) وهو ما تقدم بيانه في الأمر الثاني.
([7]) المؤمنون: 80.
([8]) حلقات الأصول: الحلقة الأولى.