كيف نجمع بين ما يؤسس له منطوق حديث: خير للمرأة ألا ترى رجلاً.. وبين الواقع الاجتماعي للمرأة و الواقع التاريخي للزهراء (ع)؟، هذا هو السؤال المركزي للمقال.
الحديث وإشكالية المعارضة:
في العادة، يحضر نص الحديث في الأوساط الشعبية والفكرية مترافقاً مع مشكلتين أو واحدة منها، وقاسمهما المشترك هو التعارض مع مضمون الحديث:
أـ إمّا المعارضة مع فعل الزهراء (ع) فقد خرجت مع بعض النسوة من بني هاشم لمسجد النبي تحاجج أبي بكر في شأن فدك وألقتْ خطبتها في جماعة من المهاجرين والأنصار، مضافاً إلى اللقاء الذي حصل بينها وبين الشيخين حين جاءا يسترضياها بعد حادثة الهجوم على الدار...إلخ.
ب ـ أو المعارضة مع واقع المرأة المسلمة اليوم؛ فكيف لها أن تأخذ بمضمونه وتعمل به، والمطلوب منها: التعلّم لدينها أو دنياها، وأحياناً: إعالة أبنائها ورعايتهم، أو رعاية نفسها وعلاجها.. إلخ.
لفظ الحديث وصيغه:
الحديث يروى على صيغتين:
الأولى: «خير للمرأة من أن لا ترى رجلا ولا يراها»
عن علي بن أبي طالب أنّ النبي سألَنا ذات يوم: أي شيءٍ خير للمرأة؟ فلم يكن عندنا لذلك جواب، فلما رجعت إلى فاطمة قلتُ: يا بنت محمد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألنا عن مسألة فلم ندر كيف يجيبه. فقالت: وعن أي شيء سألكم؟ فقلت: قال: أيّ شيءٍ خير للمرأة؟ قالت: فما تدرون ما الجواب؟ قلت لها: لا، فقالت: ليس خير للمرأة من أن لا ترى رجلا ولا يراها، فلما كان العشي جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله إنك سألتنا عن مسألة فلم نجبك فيها، ليس للمرأة شيء خير من أن لا ترى رجلا ولا يراها. قال: ومن قال ذلك؟ قلت: فاطمة. قال: صدقت، إنها بضعة مني.
الثانية: «أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر دارها»
إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دخل على الزهراء، وبه كآبة شديدة فقالت فاطمة يا علي ما هذه الكآبة؟ فقال علي: سألنا رسول الله ص عن المرأة ما هي قلنا عورة، فقال: فمتى تكون أدنى من ربها فلم ندر فقالت فاطمة لعلي ع ارجع إليه فأعلمه أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها فانطلق فأخبر رسول الله بما قالت فاطمة فقال رسول الله إن فاطمة بضعة مني.
والصياغتان متقاربتان جداً، كما هو واضح من سياق وظرف صدورهما، وتختلف الاضافات في ذيل الحديث ففي بعضها: فضمها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض، وبعضها الآخر: صدقت، إنّها بضعة مني...وهكذا، كما أن الصياغة الأولى قد تنقل مختصرة بأن سأل النبي الزهراء مباشرة: أيّ شيءٍ خير للمرأة؟ فأجابت: ألّا ترى رجلاً...إلخ.
مصدر الحديث واسناده
وأول ما ينبغي البحث والسؤال عنه هو: المصادر الإسلامية التي روته، سلسلة رواته، ليتسنى بعد ذلك الحديث عن مضمونه وترتيب الآثار عليه والتثقيف لفحواه وما يؤصّله، فما هي مصادره الأولى؟ وهل له إسناد، وإذا كان له اسناد فهل رواته ثقاة؟!.
وعمدة المصادر الشيعية ـ فيما أعلمُ ـ التي روته ونقلته، أربعة مصادر أوليّة، ومعظم المصادر الأخرى المتأخرة تنقل عنها، وهي كالتالي:
كتاب دعائم الإسلام(ج 2 ص: 215، ح793)، للفقيه الاسماعيلي: النعمان بن محمد بن منصور التميمي المغربي(ت 363 هـ)، وثانياً: كتاب: مناقب آل أبي طالب (ج: 3 ص: 341) لابن شهرآشوب المازندراني(ت 588هـ)، ويشترك هذان المصدران في رواية الحديث بصيغته الأولى عن أمير المؤمنين مرسلاً، من غير إسناد.
وأمّا الصيغة الثانية للحديث فنقلتْ في كتاب: (النوادر، ص14)، للسيد ضياء الدين، فضل الله بن علي بن عبيد الله الحسيني، المعروف بالراوندي ( من أعلام القرن السادس، توفي بحدود سنة: 570هـ)، وهو وإن رواها مرسلة عن الصادق 8 من غير إسناد، بيد أنّ معظم روايات النوادر مأخوذة من الجعفريات، وقد جاء الحديث بصيغته الثانية مسنداً غير مرسل(ص95، من النسخة المتداولة).
وكتاب: (الجعفريات) أو (الأشعثيات) عنوانان لكتاب واحد، فإذا نسب لراويه :محمّد بن محمّد بن الأشعث سُمي(الأشعثيات) وإذا نسب للمروي عنه: الإمام جعفر الصّادق 8 سمي(الجعفريات)، لمحمد بن محمد بن الأشعث، والحديث بصيغته الثانية وإن جاء فيه مسنداً كما أسلفنا، لكن للتحقيق مجال واسع جداً: في اعتبار أصل كتاب الأشعثيات ومطابقة النسخة المتداولة مع الأصلية، وفي الطريق إليه، وغيرها من جهات تختلف فيها الأنظار والتحقيقات والمباني. (ينظر: أصول علم الرجال،ج2، ص15،للداوري).
وقد رأى بعضٌ أنّ للحديث شواهد تقوّي معناه وتؤدي مضمونه، من بينها وأقواها ما ورد مكرراً في مناسبات وموارد شتى تجمعها عبارة: إن لم يكن يراني فأنا أراه، أو: إن لم يركما فإنكما تريانه، وقد رويت عن الزهراء تارة، وعن النبي مع عائشة وحفصة أخرى، ومع أم سلمة وميمونة ثالثة، وقصة صدورها في جميع الحلات الثلاث واحدة، وهي أنّ رجلاً أعمى (تحدده بعض المرويات بابن أم مكتوم) استأذن لدخول بيت النبي، فبادرتْ الزهراء للاحتجاب، فسألها النبي عن سبب الاحتجاب والحال أنّ المقُبل أعمى، فقالتْ تلك العبارة، وفي حالة غير الزهراء كان النبي هو الآمر بالاحتجاب، وهنّ السائلات.
الدلالة وحل المعارضة
إن لم تثبت صحة الحديث لا بالإسناد ولا بالقرائن انتفت المعارضة بشقيها، أمّا إن صحّ، فطريق الحل يكمن في دلالة ألفاظه، وتحليل مفرداته، ومجمل القول: إنّ في حديث: (خير للمرأة ألا ترى رجلاً..) مفردتين تستحقان الوقوف والتأمل: الخيرية – الرؤية.
أمّا الخيرية فتعني الإرشاد لحكم أخلاقي، لا تعني بالضرورة تأسيس حكم شرعي يفيد الطلب والحث ـ وجوباً أو استحباباً ـ، فالحديث لتأسيس قاعدة أخلاقية وأصل إرشادي، يعمل ويُطلب تفعليه في الحالة الطبيعية التي تخلو من موجبات أو محرّمات رؤية الرجال والخروج من البيت، ويفيد أنّ كفّة الترجيح والأفضلية في تلك الحالة هي لعدم الخروج، ولا يقصد من الحديث حرمة الخروج جزماً، بحيث تُؤثم المرأة لو خالفته، ولو كان هذا هو المقصود، فكيف نفسّر ثبوت الأحكام الشرعية التي تقتضي خروجها ورؤيتها الرجال أو رؤية الرجال لها، ولا أوضح من: وجوب الحج، وصلاة الجمعة، وصلة الأرحام.. على أنّ هذه الخيرية مرنة غير صلبة، فسواء فسّرت بالإرشاد والأولوية كما أسلفنا أو فسّرت بإنشاء حكم شرعي طلبي يقضي باستحباب مكوث المرأة في بيتها، فهي خيرية محكومة بقواعد التزاحم وتقديم الأولويات، شأنها شأن خيرية كل شيء، فصيام غير الواجب للمرأة خير لها، والخيرية هنا تعبّر عن حكم مستحبٍ، بيد أنّها محكومة بعدم مزاحمة حق الزوج، وإلا انقلبتْ، وبهذا يعرف أنّ عدم خروج المرأة المسلّمة في زماننا قد يكون مصداقاً للخير الكثير والفضل الوفير بل قد يمثّل تكليفاً شرعياً، وهكذا الحال بالنسبة للزهراء (ع)، وهي الأعرف بتكليفها وتشخيصه، والزبدة: تلك الخيرية والأفضلية القاضية بعدم الظهور أمام الرجال تجري على طبق الأصل الذي يؤسسه الحديث، ما لم يزاحم بالأقوى ملاكاً ومصلحة، كما وقع لمريم: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم: 26]، ويجرنا هذا للوقوف على ثاني المفردتين (الرؤية)، فالذي يبدو منها أنّ معناها، ليس مجرّد النظر و المشاهدة البصرية، وإنّما الرؤية المصاحبة للمحادثة واللقاء من ثمّ قد تكون تعبير كنائي عن الاختلاط والمحادثة وتبادل الكلمات، وإلا لو كانت الرؤية لا تعبّر إلا عن المشاهدة البصرية وحسب، كيف ساغ الانتقال في الآية المباركة منها (ترين) إلى الأمر بالقول (فقولي)، وليس ذلك بعزيز على الأسلوب الوحياني والقرآني الراقي والمؤدب، فهو الذي كنّى عن الجماع باللمس، وهو الناهي عن الخضوع والترقيق في صوت المرأة بما يوجب الفتنة: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) [الأحزاب: 32]، فذيل الآية يفيد أن موضوع النهي هو الخضوع في القول، وليس القول، و لو كان يريد النهي عن ذلك لقال: فلا تقلن، بدلاً من: لا تخضعن بالقول، والمعارضة بفعل الزهراء غير واردة أصلاً، وعلاوة على ما تقدم، فإنّ النصوص التاريخية لا تصرّح بأكثر من خطبتها وحديثها، على العكس، يفيد بعضها، أنّها لمّا خطبتْ في المهاجرين والأنصار قد نيطت دونها ملاءة، و(لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها" وهلمّ جراً.