عند حديثنا حول شخصيات أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» نتناول محورين:
في اختلاف أدوار أهل البيت
.
وفي اختلاف النفس الأدبي لكلمات أهل البيت.
المحور الأول: اختلاف أدوار أهل البيت.
عندما نقرأ تاريخ أهل البيت، نجد أنّ الأدوار التي استندت إليهم أدوار متعدّدة، فقد انتسب إلى الإمام أمير المؤمنين علي
صفة العدالة، وإلى الحسن
صفة الصلح والسلم، وإلى الحسين
صفة الثورة والحركة، وإلى الإمام زين العابدين
صفة العبادة، مع أنّ الجميع بلغوا قمّة الكمال، مثلهم واحدة، كمالاتهم واحدة، ولكن برزت لكل واحد منهم صفة أكثر من بروز الصفة الأخرى، ما هو العامل في ذلك؟ ما هو السر في ذلك؟ هنا قراءتان: قراءة تاريخية، وقراءة عرفانية.
القراءة الأولى: القراءة التاريخية.
وهي التي أشار إليها كثير من علمائنا عند تحليلهم لتاريخ أهل البيت، وهي أنّ اختلاف الأدوار فرضه اختلاف الظروف، اختلاف الظروف الاجتماعية الموضوعية هو الذي فرض اختلاف الأدوار، الظروف التي عاشها أمير المؤمنين علي
كانت ظروف خلافة وحكم، لذلك تجلّت فيه صفة العدالة أكثر من صفة أخرى، الظروف التي عاشها الحسن بن علي
كانت ظروف فتنة وإراقة الدماء، فبرزت فيه صفة السلم الاجتماعي، كان الإمام الحسن
رمزًا للسلم الاجتماعي، كما قال : ”إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعٍ“، الظروف التي عاشها الحسين بن علي
كانت ظروف انهيار إرادة الأمة، حيث إنّ الأمة فقدت إرادتها في رفض الظلم وفي رفض الطغيان، ممّا هيّأ الإمام الحسين للقيام بثورته المباركة من أجل استرجاع الأمّة لإرادتها، ومن أجل تنبيه الأمة من رقدتها، وإيقاد عزمتها تجاه رفض الظلم والذل. إذن، الظروف هي التي جعلت الأدوار مختلفة، الظروف هي التي أبرزت صفة لعلي أكثر من صفة أخرى، وصفة للحسين أكثر من صفة أخرى، فهذا تحليلٌ وقراءةٌ تاريخيةٌ لاختلاف أدوار أهل البيت «صلوات الله عليهم أجمعين».
القراءة الأخرى: القراءة العرفانية.
اختلاف هذه الصفات في شخصيات أهل البيت لاختلاف التجلّي الإلهي في شخصياتهم وفي ذواتهم، بيان ذلك: الله تبارك وتعالى تجلّى لمخلوقاته من خلال صفتي الجلال والجمال، له جلال يتنزّه به عن مخلوقاته، وله جمال من خلاله تنجذب مخلوقاته إليه، فهو من خلال صفتي الجلال والجمال عرفه مخلوقاته، وعرفه خلقه.
مثلًا: نلاحظ الشمس، هذا الجرم الناري، هو مجلى ومظهر لصفة الجلال، وهو مظهر أيضًا لصفة الجمال، الشمس كسائر النجوم التي تعيش اندماجًا نوويًا في داخلها، إذا نظرنا إلى الشمس كنجم يعيش اندماجًا نوويًا في داخله فهو جرم حارق، جرم مميت، إذن الشمس في هذا الاندماج النووي تعتبر مظهرًا لصفة الجلال والعظمة لله عز وجل، ولكن إذا رأينا الشمس أنها هي مصدر الدفء، هي مصدر الحياة، لولا ضوء الشمس لم تعش كائنات حية على سطح الأرض، الشمس مصدر الدفء، مصدر الحياة، إذن الشمس مظهر للجمال الإلهي، الشمس مظهر جلال ومظهر جمال. الله تعرّف إلى خلقه من خلال صفتي الجلال والجمال، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.
كما تجلّى الله في المخلوقات، تجلّى في الشمس، في المجموعات الشمسية، في الأرض، في السماء، فقد تجلّى الله لنا من خلال الأنبياء والأوصياء والأئمة، الإمام مظهر لله، كما أنّ الشمس مظهرٌ لله في جلاله وجماله الإمام أيضًا مظهر لله تبارك وتعالى في جماله وجلاله، تجلّى الله للخلق من خلال هؤلاء الأصفياء والأوصياء، ”السلام على محال معرفة الله“، بهم عرف الله، يعني بصفاتهم عرفت صفات الله عز وجل، ”السلام على محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سر الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله، وذرية رسول الله“.
تجلّى الله فيهم، تجلّى في النبي محمد من خلال صفة الرحمة، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، الرحمة المتمثلة في النبي هي رحمة الله عز وجل تجلّى بها من خلال شخصية النبي
، تجلّى في علي من خلال القوّة والعدالة، هي قوّة الله، هي عدالة الله تجلّت في شخصية علي بن أبي طالب، ”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“، ”والله لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف والمال مال الله“.
تجلّى الله تبارك وتعالى في الحسن بن علي من خلال الحلم والسلم والكرم، حلم الله في الحسن، كرم الله في الحسن، سلام الله في الحسن، فكان الحسن شخصية ورمزًا للحلم والكرم والسلم الاجتماعي، مظهر لله في هذه الصفات العظيمة الجليلة. وتجلّى الله في الحسين من خلال صفة العزّة، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، عزّة الحسين حكت عزة الله، عزة الحسين حكت عزة خالقه تبارك وتعالى، فالحسين بمظهر العزة مظهرٌ لله عز وجل.
وعندما نأتي لزين العابدين وسيّد الساجدين علي بن الحسين
فقد تجلّى الله في هذه الشخصية العظيمة من خلال صفة الوله، ومن خلال صفة العشق، ومن خلال صفة الحب، كان الإمام زين العابدين قطعة من الحب لله، للناس، لأهله، لعشيرته، للمسلمين، حبّه مظهرٌ لحبّ الله، حبّه مظهرٌ لهذه الصفة الجميلة لله تبارك وتعالى، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
إذن، اختلاف صفات أهل البيت لا يرتبط فقط بعوامل تاريخية وبظروف موضوعية، وإنما اختلاف صفاتهم وأدوارهم يرجع إلى قضية عرفانية، يرجع إلى تجليات الله تبارك وتعالى من خلال شخصياتهم من خلال صفتي الجلال والجمال، لأنهم مظهر له تبارك وتعالى.
المحور الثاني: اختلاف النفس الأدبي بين الأئمة.
عندما نقوم بمقارنة بين علي وعلي، بين أمير المؤمنين وزين العابدين، كلاهما غارقان في العبادة، كلاهما حكي عنهما أنهما يصليان في اليوم والليلة ألف ركعة، يعني يقطعان ثمان أو تسع ساعات من اليوم في الصلاة، وكان زين العابدين يقتدي بجدّه أمير المؤمنين، يقول الباقر: قال لي أبي: ناولني صحيفة أعمال جدّي أمير المؤمنين لأقتدي به، فناولتها إياه، فقرأ الصحيفة وبكى وبكى وبكى، ثم قال: من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين؟!
إذا قمنا بمقارنة، عندنا أدعية للإمام علي، دعاء الصباح، دعاء كميل، عندنا أدعية للإمام السجاد، الصحيفة السجادية، هذا الرافد العملاق، الصحيفة السجادية لما أهديت للشيخ الطنطاوي صاحب التفسير المعروف المتوفى سنة 1358 للهجرة، لما قرأها تعجّب وكتب: ما رأينا هذا السفر الخالد من قبل لا في مواريث الأنبياء ولا في تراث أهل البيت، وإنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.
الصحيفة السجادية قارن بينها وبين أدعية الإمام علي، ما هو الفرق بينهما؟ لكل إمام لغة تخصّه، لكل إمام نفس أدبي يخصّه، من خلال هذه اللغة تعرف أنّ هذا الدعاء للإمام أم لغيره، دعني أضرب لك أمثلة: إذا وردتك أبيات للمتنبي، قالوا هذه أبيات للمتنبي، المتنبي يمدح أمير المؤمنين عليًا، يقول:
وتركت مدحي للوصي iiتعمّدًا
وإذا استطال الشيء قام iiبنفسه
إذ كان نورًا مستطيلًا iiشاملًا
وصفات ضوء الشمس تذهب باطلًا
كيف نعرف أنّ هذا الشعر للمتنبي؟ من خلال نفسه الأدبي، إذا قرأنا هذه الأبيات وقارنا بينها وبين قصائد المتنبي وجدنا أنّ النفس الأدبي واحد، وأنّ النغمة واحدة، لذلك نقول: هذه الأبيات للمتنبي، هذا طريقٌ في العلوم الأدبية لإثبات أسانيد الأدب والشعر.
مثال آخر: ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة، عنده كتاب شرح نهج البلاغة للإمام علي، هو من أهل السنة، من المعتزلة، لكنه شرح كتاب نهج البلاغة للإمام علي شرحًا عظيمًا لا نظير له، ابن أبي الحديد لما وصل إلى هذه الخطبة، خطبة الشقشقية التي شكا فيها الإمام علي من الوضع، وقال: ”لقد تقمّصها فلان وهو يعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير، فطويت عنها كشحًا، وسدلت دونها ثوبًا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبًا“، هذه خطبة معروفة للإمام علي.
ابن أبي الحديد يقول: كنت أدرس عند أستاذي ابن الخشّاب، وصلنا إلى هذه الخطبة، هذه الخطبة محرجة، الإمام علي يشكو من الوضع كله، فقلت له: أستاذي، يقولون هذه الخطبة منحولة على علي - يعني ليست لعلي - وإنما هي من صنع الرضي، الشريف الرضي هو الذي صنعها ونسبها للإمام علي، قال: والله إني لأعلم أنها من علي كما أعلم أنّك أمامي، لقد قرأنا شعر الرضي ونثره وما وجدناه من هذه الخطبة في خلّ ولا خمر، إنّ كلام علي كالقرآن - هذا إنسان عالم، لاحظ كيف يحتكم إلى النفس الأدبي - يجري مجرى الماء الواحد، أوله كوسطه، ووسطه كآخره، لا تختلف أبعاضه.
يريد أن يقول: هذا نهج البلاغة نفس واحد، من خلال أي خطبة تستطيع أن تعرف أنها لعلي أم لا، فلذلك لما قرأنا الخطبة الشقشقية وجدنا نفس علي، نبرة علي، روح علي
واضحة فيها، فعرفنا أنّها له وليست من غيره.
هنا أيضًا عندما نقرأ النفس الأدبي لعلي، والنفس الأدبي لعلي بن الحسين، كل منهما له نفس أدبي يختلف عن الآخر، تستطيع أن تميّز أنّ هذا الدعاء لزين العابدين أم هذا الدعاء لعلي بن أبي طالب، من خلال اختلاف اللغة، من خلال اختلاف النفس الأدبي لكل منهما «صلوات الله عليهما». تأتي إلى علي، لغة الإمام علي لغة فلسفية، الإمام علي يخاطب الفكر، يخاطب العقل، حتى في دعائه، أدعية الإمام علي لغتها لغة فكرية، لغة فلسفية، تخاطب العقل بأدقّ المعلومات.
اقرأ دعاء الصباح: ”يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته، وجلّ عن ملاءمة كيفياته، يا من قرب من خواطر الظنون، وبعد عن ملاحظة العيون، وعلم بما كان قبل أن يكون“، لغة فلسفية فكرية تخاطب العقل، عندما تأتي إلى دعاء كميل، في ضمن دعائه يتحدّث عن العلم والفكر، مثلًا عندما يقول: ”إلهي أتسلّط النار على وجوه خرّت لعظمتك ساجدة، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبّدك طائعة، وعلى قلوب اعترفت بإلهيتك محققة، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة“، كلها لغة فكرية تخاطب العقل. في نهاية دعاء كميل: ”أسألك بحقّك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك، أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة، حتى“ يضع مقاربة فكرية في الوسط ”حتى تكون أعمالي وأورادي كلها وردًا واحدًا، وحالي في خدمتك سرمدًا“.
بينما تأتي إلى زين العابدين، لغة أخرى، نفس آخر، أسلوب آخر، الإمام زين العابدين في دعائه لغته لغة عاطفية، لغة وجدانية، زين العابدين يخاطب القلب، لا يخاطب العقل، يخاطب الروح، لا يخاطب الفكر، يخاطب القلب والروح بلغة عاطفية رقيقة شفّافة، إذا قرأ الإنسان أدعية زين العابدين يجد نفسه فيها، يجد نفسه متمثلًا فيها، إذا قرأت المناجات الخمسة عشرة للإمام زين العابدين تجد أنّها تتحدّث عن ذاتك، عن نفسك، عن مشاعرك، عن عواطفك، كان أسلوبه أسلوبًا رقيقًا ينفذ إلى المشاعر، ينفذ إلى القلوب، ويتحدّث عنها بلغتها.
لاحظ الإمام زين العابدين، نأخذ بعض الأدعية من صحيفته، الإمام زين العابدين عندما يصف النفس يصفها وصفًا دقيقًا، بحيث كل إنسان عندما يقرأ الدعاء كأنه يتحدّث عن نفسه، يصف النفس وصفًا وجدانيًا دقيقًا يكون مثالًا لقوله: ”من عرف نفسه فقد عرف ربّه“، كيف؟ يقول: ”اللهم إني أشكو إليك نفسًا بالسوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، وإلى سخطك متعرّضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسّها الخير تمنع، وإن مسّها الشر تجزع، ميّالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة، وتسوّفني بالتوبة“، هكذا نفس الإنسان، كل إنسان يشعر أنّ الوصف وصفٌ لنفسه، وصفٌ لما يجده بوجدانه.
الإمام زين العابدين عندما يتحدّث عن حب الله عز وجل، يشعرنا بأنّ العلاقة بيننا وبين الله ليست علاقة خوف، نحن لا نعبد الله خوفًا منه، ولا نعبد الله طمعًا فيه، يحسّسنا أنّ بيننا وبين الله حبًا عميقًا راسخًا يصنع في قلوبنا الحب، يصنع في وجداننا العشق لله، يصنع في مشاعرنا الشوق إلى الله تبارك وتعالى، يجعلنا ننظر إلى الله بنظرة أخرى، كثير منا ينظر إلى الله بنظرة الخوف، أنه يخاف من قوة الله وبطشه، كثير منا ينظر إلى الله نظرة مصلحية، يريد جنة ويريد حورًا ويريد قصورًا، زين العابدين يحرّرنا من هذه النظرات، يجعلنا ننظر إلى الله نظرة حبّ وشوق وعشق، اقرأ مناجاته مناجاة العارفين، يقول: ”اللهم اجعلنا من الذين ترسّخت أشجار الشوق في حدائق صدورهم، واجعلنا ممّن أخذت محبّتك بمجامع قلوبهم، فهم إلى أوكار الأفكار يأوون، وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون، ومن حياض المحبّة بكأس الملاطفة يكرعون، وشرائع المصافاة يردون، اللهم اكشف الظلمة عن أبصارنا، والريب عن ضمائرنا وعقائدنا“، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾.
الإمام زين العابدين في مناجاة التائبين يعلّمنا كيف هو طعم التوبة، نحن لا نشعر بطعم التوبة، نحن نذنب ثم نستغفر ثم نتوب لكن نعود للذنب مرة أخرى، لماذا؟ لأننا لا نعيش التوبة بمعانيها، لا نعيش التوبة بواقعها، لا نعيش التوبة بطعمها الحقيقي، زين العابدين من خلال مناجاة التائبين يربّي فينا طعم التوبة، يغرس فينا كيف نحبّ التوبة وننقاد إليها، يقول زين العابدين: ”إلهي، ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي، وجلّلني التباعد منك لباس مسكنتي، وأمات قلبي عظيم جنايتي، فأحيه بتوبةٍ منك يا أملي وبغيتي، ويا سؤلي ومنيتي، فوعزتك لا أجد لذنوبي غيرك غافرًا، ولا لكسري غيرك جابرًا، وقد خضعت بالإنابة إليك، ودنوت بالاستكانة لديك، فإن طردتني عن بابك فبمن ألوذ، وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ“.
الإمام زين العابدين يؤجّج فينا حسّ التوبة وحسّ الإنابة، الإمام زين العابدين يتحدّث عنا، نحن عندما نعصي الله كيف يكون شعورنا؟ نحن عندما نقترف المعصية والرذيلة كيف تكون مشاعرنا وعواطفنا؟ يصوّر لنا النفس في ذلّة المعصية، يقول في دعاء أبي حمزة: ”إلهي، ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا بأمرك مستخف، ولكن“ ما الذي يدفعني للذنب؟ ”ولكن سوّلتني نفسي، وأعانني عليها شقوتي، وغرّني بذلك سترك المرخى عليّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من أتصل إن قطعت حبلك عنّي، فواسوأتاه غدًا من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط، ويحي كلما طال عمري كثرت خطاياي، أما آن لي أن أستحي من ربّي“.
زين العابدين كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكان يسجد في حجر إسماعيل السجدة الطويلة، يقول طاووس الفقيه: دنوت منه لأستمع دعاء العبد الصالح من أهل بيت طيّب، ماذا يقول في دعائه؟ فرأيته يبكي بكاء الثكلى، ويقول: ”إلهي، عبيدك ببابك، مسكينك بفنائك، أسيرك بين يديك، فقيرك برحلك، يا غياث المستغيثين“، يقول: فبكيت لكلامه، قلت: أنت تقول هذا يا زين العابدين وأنت ابن الحسن والحسين؟! قال: دع عنك حديث أبي وجدّي؛ إنّ الله خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّدًا قرشيًا.
زين العابدين علي
حجّ خمسًا وعشرين حجّة على الناقة، ما زجرها ولا قرعها، يقول الباقر: لما مات أبي ودفنّاه رأينا الناقة خرجت من مكانها، وجاءت تبحث عن قبره، حتى عرفت قبره من بين القبور، وانكبت على القبر تدلك جرانها بترابه، وهي ترغو رغاء الثكلى. زين العابدين في دعائه، في دموعه، في بكائه، كان ينتصر لأبيه الحسين، كان بدموعه ينتصر لقضية الحسين، ولثورة الحسين، وكان شريكًا في نهضة الحسين، لولا زينب وزين العابدين لماتت قضية الحسين، لولا خطاب زينب ودموع زين العابدين لتبخّرت حركة الحسين.