ترجمة: د. غريب محمد غريب
بدأ تحول حاسم في مجرى التاريخ بدعوة البابا أوربان الثاني في السابع والعشرين من نوفمبر عام ۱۰۹۰ م في كليرمونت [1] بفرنسا؛ كافة فرسان الغرب إلى حمل الصليب والزحف لـ «تحرير» «قبر عيسى المقدس» ببيت المقدس زاعما أنه قد تخرب وتهدم..» وقد كشفت الأحداث، كما سيتضح فيما بعد، أن هذه كانت مجرد دعاية، وأن ذلك الشعار المرفوع لتحرير قبر يسوع، محض خدعة كنسية، تخفي من ورائها أهداف الكنيسة السياسية، التي حسبت حسابها بغاية الدقة، وقد نجحت تلك الدعاية البابوية في تأجيج حماسة الفرسان الذين كاد صبرهم ينفد، حيث كانوا عاطلين بلا عمل، كما ألهبت تلك الدعاية حمية الوعاظ الجوالين، الذين ما لبثوا أن تحولوا إلى حركة جماهيرية شعبية، تملكها ما يشبه الوجد الصوفي في نشوتها والتهابها شوقا.
تحرير قبر المسيح!
كان البابا أوربان الثاني هذا، يمنى نفسه، قبل كل شيء، بتحقيق خطة البابا الأسبق جريجورى السابع، في رأب صدع الكنيسة، التي كانت قد انشقت على نفسها، بحيث تضم الكنيسة الرومانية الكاثوليكية كل طوائف النصارى، وأن يعيد الكنيسة الشرقية العاصية أو المنشقة إلى حظيرة الاتحاد الكنسي من جديد، وقد طمع في نجاح مسعاه، إذا وفق في القيام بصفقة معينة.. ولقد شاءت المقادير أن تتيح له الفرصة المنشودة لتحقيق أمنيته، حينما طلب إليه القيصر البيزنطي ألكسيوس أن يمده بجيش من الفرسان الصليبيين والمرتزقة من نصارى الغرب لينقذوه من براثن الجحافل التركية السلجوقية الذين وطئوا آسيا الصغرى واكتسحوا إمبراطورتيه البيزنطية؛ على أن الحق الذي ينبغي أن يذكر أن خطر الترك كان قد زال أو كان على وشك الزوال والانقشاع.
والحق أيضا أن الباسليق[2](۱) كان يرى أن يشن حرباً انتقامية ضد الترك دون الاستعانة بالقوى الغربية الكاثوليكية. ثم أنه لم تكن هناك أي حاجة للتحرير المزعوم القبر المسيح، ذلك أن تلك الأبنية المقدسة، سواء كنيسة القيامة التي كانت قد تهدمت قبل أربعة أجيال، أو مقبرة المسيح التي ألح البابا أوربان الثاني على اتخاذها شعارا لتكمل بها خطته ( لشن الحروب الصليبية ) .. كان قد بدأ سابقا ترميمها وإعادة بنائها، ولم يكن ثمة خطر يتهددها. على أن البابا كانت له مآرب أخرى؛ فهو بوصفه أعلى سلطة كنسية في العالم النصراني، والمتربع على كرسيه المقدس « رسولا للرب » ما كان يليق به أن يخيب ظن الفرسان، الذين كانوا يضطرمون شوقا لتحرير مقدسات النصرانية والغاية تبرر الوسيلة، وما كان له أن يخلف وعده لهم فيقعدوا مخلفين في بيوتهم وديارهم وبلادهم التي ضاقت عليهم، والتي تحرم النصرانية فيها القتال عليهم، وما كان له أن يتردد في اغتنام الفرصة للخروج من الضائقة الاقتصادية، واختبار صدقهم في القتال وبلائهم فيه خارج ديارهم في الأقطار النائية، سواء كان ذلك الرغبة الجامحة في القتال باسم الدين، أو الرغبة المحضة في النزال، أو الظمأ للمغامرة، أو الطمع في الغنائم ومهما كان الأمر، فقد استغل ( قداسته ) الفرصة، ودعا إلى أن يحمل النصاری السلاح، ويخرجوا قاصدين بيت المقدس، يؤدون فريضة الحج « التقديس » ويطهرون المقدسات ويحرروها، وأهاب بالفرسان واستثار نخوتهم وخاطب روح الفروسية فيهم ليحملوا السلاح، ويحرروا إخوانهم مسيحيي المشرق في آسيا الصغرى الذين يعانون الذل والهوان على أيدي أعداء الرب، وما كان هدفه من وراء ذلك سوى السعي لتحقيق الغاية العظمى المنشودة، وهي زيادة السلطة الكنسية ونفوذها، بواسطة الاتحاد مع الكنيسة الشرقية وكسبها إلى صف روما.
لقد كان داهية أتقن دوره كل الإتقان، فقد دعا إلى مؤتمره الكنسي الذي أبرز أمامه فرسانا روعی اختيارهم بدقة. وخطط للمؤتمر بذكاء، وافتتحه كل مرة بعرض تمثیلی مؤثر في مناقشات استمرت أياما طويلة، كان يختتمها دائما بندائه محرضة على القتال، ناطقة باسم المسيح، ولا يلبث بعد ذلك الأسقف أديمار، الذي استقر
الرأي على أن يقود أول حملة صليبية أن يضرب المثل المحتذى للفرسان، فيتقدم الصفوف، ويركع أمام البابا، ملتمسا بركاته، فيتلقى منه إشارة الصليب..
ولقد كان ذلك البابا يعرف كيف ينتقي أشد الكلمات في تلك اللحظة تأثيرا، فيضرب على الوتر الحساس في نفوس الفرسان، ويثير حميتهم وغضبهم، فيخلع عليهم صفات القداسة ويرفعهم إلى مصاف أبناء الرب الذين يحاربون في سبيله، ويخلع على الأعداء أحط الصفات، جاعلا قتلهم فرض مقدسة ثم يؤكد نداءه بقوله: «ولست أنا الذي ينذركم وإنها الرب نفسه يطلب إليكم ويحذركم، بصفتكم حملة لواء المسيح والمبشرين الداعين إليه، أن تطهروا الأرض المقدسة التي يعيش فيها إخوانكم المسيحيون، من أولئك الرعاع ».
بهذه الكلمات التي تلفظ بها ذلك البابا في إلحاح وتأكيد.
لا يمكن إطلاقا إصلاح ما أفسد البابا أبدا ... بهذه المناقضة المغرقة في التطرف، والتي يفرض بها الرئيس الروحي الأعلى للمسيحية بقوة تفويضه الإلهي وسلطته المقدسة، على فرسان الغرب، ألا يكفوا عن حرب العالم الإسلامي أبدا، إنما يعهد إليهم بسلاح لا تلتئم جراحه الغائرة ( بالإزميل ) الذي به شوهوا وجه العرب والمسلمين تشويها، على مدى ألف عام، وبطريقة ظالمة.
[1] مدينة تقع على بعد ۲۸۸ جنوب پاريس - المترجم .
[2] رئيس الرهبان في الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية المترجم .