- العلاقة بين الدين والدولة
- الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع "الأئمة الإثني عشر"
هناك - على ما أرى - سؤال مركزي لا يزال يبحث في الاجتهاد العربي عن استقرار فكري: هل الإسلام والديمقراطية على تعارض أم توافق؟
بنظري: هناك قدر من تعارض، وقدر من توافق. أرى التعارض على محورين، والتوافق على محور ثالث أجده الأعم والأهم في تنظيم الشأن الإنساني وتطويره للأمثل.
محورا التعارض هما (1) المرجعية، و(2) مجال الاهتمام.
مرجعية الإسلام لاهوتية، مثبتة في نصوص منزلة مقدسة.
مرجعية الديمقراطية ناسوتية، متبلورة من إجتهاد إنساني متحرك.
مجال اهتمام الإسلام: صلاح الشأن الإنساني في الدنيا، وسلامة المصير في الآخرة.
مجال اهتمام الديمقراطية: صلاح وسلامة الشأن الإنساني في الدنيا فحسب.
محور التوافق
محور التوافق أراه على أرضية الأخلاق: الأخلاق ليس بمعنى آداب ظاهرية، بل كما هي شُخصت في الفكر الحضاري قديمه وحديثه، دينية وفلسفية: الأخلاق مسلكاً عمليا ملتزما بالمبادئ الصائنة للحال الإنساني والمرتقية به إلى الأمثل باطراد، بصرف النظر عن فارق دين أو ثقافة أو عرق أو جنس أو موطن.
في نسق هذا الفهم للأخلاق، الوحي الموحى للأنبياء، والفكر الملهم للحكماء، سويا يشخصان المبادئ الأربعة التي تقوم عليها الأخلاق، بمبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان والشورى. كلاهما يؤكد لزومية الارتكاز في هذه المبادئ لأجل ضمان سلامة الإنسان، فردا ومجتمعا، ولأجل دفع الحراك الإنساني عامة نحو الصلاح والنماء.
من هنا أزعم أن أرضية الأخلاق القائمة على المبادئ المؤصَلة في فطرة الإنسان، والمتنامية في وعيه عبر العصور، والتي دأبا ذكر بها الأنبياء وندب إليها الحكماء، هي التي تشكل محور التوافق بين الدين المنزل والديمقراطية الإنسانية، وأن محور التوافق هذا هو أعم وأعمق وأجدر وأهم من محوري التعارض، أي أن محور الأخلاق مقدم على محوري المرجعية ومجال الاهتمام.
الديمقراطية مدنية علمانية، مع أن العلمانية لا تكون ديمقراطية في جميع الحالات، إذ قد ينشأ منها ما هو متناقض مع روح الديمقراطية الملتزمة بالمبادئ. في الديمقراطية الملتزمة نفَس حضاري تتشاركه الأديان. بقدر ما يتنشط في أيما دين هذا النفَس الحضاري يغدو ذلك الدين أرحبَ استيعابا للمنهاج الديمقراطي، وأكثرَ توافقا مع المعطى الحضاري، دينيه وفلسفية.
في المقابل، ليست الديمقراطية معادية الدين، إنما هي غير مستمدة منه، غير مقيدة به، وليست قائمة عليه. الديمقراطية بطابعها المدني تسع الدين والعلمانية معا، تستوعب منظوريهما المتمايزين، ومن ثم تحملهما على التعايش، بل وعلى التثاقف والتعاون فيما يثري المعرفة والفكر، ويعزز مكارم الأخلاق في الخبرة الإنسانية.
من وجه آخر، الديمقراطية ترعى الدين، تحمي حرية المعتقد، وتصون حق المتدينين في ممارسة شعائر ما لهم من دين. بمثل ذلك هي تحمي وتصون مختلف المذاهب في المعرفة والفكر الفلسفي.
لا تولد ديمقراطيةٌ كاملةً، ولا يوجد في خبرة أيما أمة معاصرة نظام ديمقراطي اكتمل فما عاد بحاجة لتطوير. الممارسة الديمقراطية عمل اجتهادي إنساني، لذا أبدا قابل للتطوير. أمم الأرض – بما فيها أمتنا العربية - مدعوة للتسابق والتعاون في مجال الاجتهاد الديمقراطي الإنساني، وللإسهام في تصويبه وتطويره لما هو أوفى وأمثل باطراد.
في إطار هذا الترافد في المسعى، دينيا نظرنا أم ديمقراطيا لانجد واجبا أعلى من واجب إقامة العدل، ولا ضرورةً ألحَ من ضرورة تطبيق المساواة، ولا لزوميةً ألزمَ من صون كرامة الإنسان، ولا استحقاقاً أوكدَ من إرساء حوكمة رشيدة قوامها مبدأ المشاركة العامة في صنع القرار المعني بتنظيم وإدارة أيما شأن وطني مشترك.
في هذا الارتقاء للأسمى لا نرى نفعا للإنسانية أجدى من نفع يأتي من غرس حب الفضيلة والمعرفة في الأجيال، إذ بهما معا تتحصن الشعوب ضد خطيئة الاستبداد، وتردأ عن نفسها رذيلة الفساد.
الإسلام والديمقراطية كلاهما يندب إلى الفضيلة والمعرفة: كلاهما يأمر بإقامة العدل وتحقيق المساواة وصون كرامة الإنسان والعمل بالشورى والتحلي بمكارم الأخلاق. فإذا كانت لكل منهما مرجعيته ومجال اهتمامه، فليكن ولا ضير، طالما ظل الهم مشتركا والسعي مترافدا في تطوير الحال الإنساني للأوفى والأمثل.
من هنا أرى الإسلام على توافق مع الديمقراطية أكثر منه على تعارض، وأرى الديمقراطية بطابعها المدني أكثر حصانة للإسلام من أيما نظام غير ديمقراطي. من هنا، كأمر أساس، أرى أن يكون تحقيق الاستحقاق الديمقراطي في الحياة العربية شأنا مدنيا: قائما على الاجتهاد الإنساني المتبلور بتبلور المعرفة الإنسانية، وفي المقابل، مراعيا للإسلام، موقرا لشعائره، ومسترشدا بالمبادئ المشتركة بين الإسلام والديمقراطية: مبادئ العدل والمساوة وكرامة الإنسان والشورى إطارا لحوكمة رشيدة.