إن الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما لمصلحة الإنسان وانتفاعه بها في معيشته، مع أن المصائب والبلايا تنافي هذه الغاية وتضادها، والفاعل الحكيم لا يصنع ما يضاد غرضه.
أضف إلى ذلك أن مقتضى رحمة الله الواسعة رفع المصائب ودفع الشرور الواقعة في عالم الطبيعة كي لا تصعب المعيشة على الإنسان وتكون له هنيئة مريئة بلا جزع ومصيبة.
والإجابة عن هذه الشبهة تبتني على بيان أمور:
الأول: المصالح النوعية راجحة على المصالح الفردية
لا شك أن الحياة الإنسانية حياة اجتماعية، فهناك مصالح ومنافع فردية، وأخرى نوعية اجتماعية، والعقل الصريح يرجح المصالح النوعية على المنافع الفردية، وعلى هذا فما يتجلى من الظواهر الطبيعية لبعض الأفراد في صورة المصيبة والشر، هو في عين الوقت تكون متضمنة لمصلحة النوع والاجتماع، فالحكم بأن هذه الظواهر شرور، تنافي مصلحة الإنسان، ينشأ من التفات الإنسان إليها من منظار خاص والتجاهل عن غير نفسه في العالم، من غير فرق بين من مضى في غابر الزمان ومن يعيش في الحاضر في مناطق العالم أو سوف يأتي ويعيش فيها.
وما أشبه الإنسان في مثل هذه الرؤية المحدودة بعابر سبيل يرى جرافة تحفر الأرض، أو تهدم بناء مثيرة الغبار والتراب في الهواء، فيقضي من فوره بأنه عمل ضار وشر، وهو لا يدري بأن ذلك يتم تمهيدا لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيئ للمحتاجين إلى العلاج وسائل المعالجة والتمريض.
ولو وقف على تلك الأهداف النبيلة لقضى بغير ما قضى، ولوصف ذلك التهديم بأنه خير وأنه لا ضير فيما يحصل من ضوضاء الجرافة وتصاعد الغبار.
الثاني: آلة علم الإنسان ومحدوديته
إن علم الإنسان المحدود هو الذي يدفعه إلى أن يقضي في الحوادث بتلك الأقضية الشاذة، ولو وقف على علمه الضئيل ونسبة علمه إلى ما لا يعلمه لرجع القهقرى قائلا: (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك).(1) ولأذعن بقوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).(2) ولذلك ترى كبار المفكرين وأعاظم الفلاسفة يعترفون بجهلهم وعجزهم عن الوقوف على أسرار الطبيعة وهذا هو المخ الكبير في عالم البشرية الشيخ الرئيس يقول: " بلغ علمي إلى حد علمت أني لست بعالم ".
الثالث: الغفلة عن القيم الإنسانية العليا
ليست الحياة الإنسانية حياة مادية فقط، بل للإنسان حياة روحية معنوية، ولا شك أن الفلاح والسعادة في هذه الحياة، هي الغاية القصوى من خلق الإنسان، ومفتاح الوصول إلى تلك الغاية هو العبادة والخضوع لله سبحانه، وعلى هذا الأساس فالحوادث التي توجب اختلالا ما في بعض شؤون الحياة المادية ربما تكون عاملا أساسيا لاتجاه الإنسان إلى الله سبحانه كما قال سبحانه: (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا).(3) كما سيوافيك بيان ذلك.
الرابع: المصائب وليدة الذنوب والمعاصي
القرآن الكريم يعد الإنسان مسؤولا عن كثير من الحوادث المؤلمة والوقائع الموجعة في عالم الكون، قال سبحانه: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس).(4) وقال سبحانه: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون).(5) وقال سبحانه: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير).(6) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن لأعمال الإنسان دورا واقعيا في البلايا والشرور الطبيعية والاجتماعية، ولكن الإنسان إذا أصابته مصيبة وكارثة يعجل من فوره، وبدل أن يرجع إلى نفسه ويتفحص عن العوامل البشرية لتلك الحوادث ويقوم بإصلاح نفسه، يعدها مخالفة لحكمة الصانع أو عدله ورحمته.
الفوائد التربوية للمصائب
إذا عرفت هذه الأصول فلنرجع إلى تحليل فوائد المصائب والشرور، فنقول:
- المصائب وسيلة لتفجير الطاقات
إن البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدم العلوم ورقي الحياة البشرية، فإن الإنسان إذا لم يواجه المشاكل في حياته لا تنفتح طاقاته ولا تنمو، بل نموها وخروجها من القوة إلى الفعل رهن وقوع الإنسان في مهب المصائب والشدائد. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى: (فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب).(7)
- البلايا جرس إنذار وسبب للعودة إلى الحق
إن التمتع بالمواهب المادية والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقية وكلما ازداد الإنسان توغلا في اللذائذ والنعم، ازداد ابتعادا عن الجوانب المعنوية.
وهذه حقيقة يلمسها كل إنسان في حياته وحياة غيره، ويقف عليها في صفحات التاريخ، ونحن نجد في الكتاب العزيز التصريح بصلة الطغيان بإحساس الغنى، إذ يقول عز وجل: (إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى).(8) فإذا لا بد لانتباه الإنسان من هذه الغفلة من هزة وجرس إنذار يذكره ويرجعه إلى الطريق الوسطى، وليس هناك ما هو أنفع في هذا المجال من بعض الحوادث التي تقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات حتى يدرك عجزه ويتنبه من نوم الغفلة.
ولأجل هذا يعلل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأنها تنزل لأجل الذكرى والرجوع إلى الله، يقول سبحانه: (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون).(9)
ويقول أيضا: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون).(10)
ويقول أيضا: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).(11)
ويقول تعالى: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون).(12)
- حكمة البلايا في حياة الأولياء
يظهر من القرآن الكريم والأحاديث المتضافرة أن البلايا والمحن ألطاف إلهية في حياة الأولياء والصالحين من عباد الله وشرط لوصولهم إلى المقامات العالية في الآخرة.
قال سبحانه: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا...).(13)
وقال أيضا: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).(14)
وروى هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: " إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الأمثل فالأمثل ".(15)
وروى سليمان بن خالد عنه (ع) أنه قال: " وأنه ليكون للعبد منزلة عند الله فما ينالها إلا بإحدى خصلتين، إما بذهاب ماله أو ببلية في جسده ".(16)
وقد شكا عبد الله بن أبي يعفور إلى أبي عبد الله الصادق (ع) مما أصابته من الأوجاع - وكان مسقاما - فقال (ع): " يا عبد الله لو يعلم المؤمن ماله من الأجر في المصائب لتمنى أنه قرض بالمقاريض ".(17)
حاصل المقال إن المصائب على قسمين: فردية ونوعية، وإن شئت فقل: محدودة ومطلقة، ولأعمال الإنسان دور في وقوع المصائب والبلايا، وهي جميعا موافقة للحكمة وغاية الخلقة، فإن الغرض من خلقة الإنسان وصوله إلى الكمالات المعنوية الخالدة، وتلك المصائب جرس الإنذار للغافلين و كفارة لذنوب المذنبين وأسباب الارتقاء والتعالي للصالحين.
هذا في جانب الغرض الأخروي، وأما في ناحية الحياة الدنيوية فيجب إلفات النظر إلى أمرين:
1. ملاحظة منافع نوع البشر المتوطنين في نواحي العالم، بلا قصر النظر إلى منافع الفرد أو طائفة من الناس.
2. ملاحظة ما يتوصل إليه الإنسان عند مواجهته للمشاكل والشدائد من الاختراعات والاكتشافات الجديدة المؤدية إلى صلاح الإنسان في حياته المادية.
1- 1. آل عمران: 191.
2- 2. الإسراء: 85.
3- 1. النساء: 19.
4- 2. الروم: 41.
5- 1. الأعراف: 96.
6- 2. الشورى: 30.
7- 1. الانشراح: 5 - 8.
8- 2. العلق: 6 - 7.
9- 3. الأعراف: 94.
10- 1. الأعراف: 130.
11- 2. الروم: 41.
12- 3. الأعراف: 168.
13- 4. البقرة: 214.
14- 1. البقرة: 155 - 157.
15- 2. الكافي: ج 2، باب شدة ابتلاء المؤمن، الحديث 1.
16- 3. نفس المصدر: الحديث 23.
17- 4. نفس المصدر: الحديث 15.