يورد البعض إشكل على الشيعة فقالوا: روى الكليني في الكافي عن أحمد بن محمد رفعه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يكره السواد إلا في ثلاث: الخف، والعمامة، والكساء. (فروع الكافي للكليني 6 /449).
وروى الحر العاملي في وسائله عن الصدوق عن محمد بن سليمان مرسلاً عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: قلت له: «أصلي في القلنسوة السوداء؟ قال: لا تصل فيها؛ فإنها لباس أهل النار. (الوسائل 3 /281).
وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السلام مرسلاً، وفي العلل والخصال كما في الوسائل عنه عليه السلام مسنداً أنه قال لأصحابه: لا تلبسوا السواد؛ فإنه لباس فرعون.
بل وردت بعض الأخبار عند الشيعة تبين أن السواد من زي بني العباس أعدائهم، مثل ما روي عن الصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلاً أنه قال: روي أن جبريل عليه السلام أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وعليه قباء أسود ومنطقة فيها خنجر، فقال صلى الله عليه وآله: يا جبرائيل ما هذا الزي؟ فقال: زي ولد عمك العباس، فخرج النبي صلى الله عليه وآله إلى العباس فقال: يا عم، ويل لولدي من ولدك، فقال: يا رسول الله أفأجبُّ نفسي؟ قال صلى الله عليه وآله: جرى القلم بما فيه.
وقد روى الصدوق في من لا يحضره الفقيه 1/252 بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق عليه السلام أنه قال: أوحىالله إلى نبي من أنبيائه عليهم السلام: قل للمؤمنين لا تلبسوا ملابس أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، ولا تسلكوا مسالك أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي.
وبعد هذه الأخبار وغيرها في ذم الأئمة للسواد، وأنه لباس أعداء الشيعة:
لماذا يلبس الشيعة السواد ويعظمونه، ويجعلونه لباس الأسياد؟!!
وللإجابة نقول:
1- أن الروايات التي ذكرها المخالف أكثرها مراسيل لا يصح الاحتجاج بها، وكان اللازم على المخالف أن يحتج على الشيعة بروايات صحيحة السند.
ومع الإغماض عن أسانيد تلك الروايات فإنها تدل على أن لبس السواد مكروه، وليس بمحرم، ومن لبس السواد فأقصى ما فعله هو ارتكاب المكروه لا المحرم.
2- أن ظاهر الروايات هو كراهة اختيار لبس السواد من دون مناسبة، أو من أجل التشبّه بأعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وآله الذين اتخذوا السواد شعاراً لهم، أما لو لبسه حزناً في مصيبة، أو لزيادة الستر كما هو الحال بالنسبة إلى النساء، أو لأنه لا يملك غيره، أو للتوقي من البرد مثلاً، أو لغير ذلك من الغايات الحسنة، فإنه لا كراهة فيه.
3- أن أحاديث أهل السنة دلت على أن النبي صلى الله عليه وآله كان يلبس السواد.
فقد أخرج مسلم بسنده عن عائشة، قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود1.
والمرط: كساء يكون تارة من صوف وتارة من شعر أو كتان أو خز. قال الخطابي: هو كساء يؤتزر به
وأخرج أيضاً عن عائشة، قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)2.
وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء3.
وعن عمرو بن حريث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء3.
وعن عائشة قالت: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة سوداء حين اشتد به وجعه، قالت: فهو يضعها مرة على وجهه، ومرة يكشفها عنه، ويقول: «قاتل الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». يحرِّم ذلك على أمته4.
والخميصة: ثوب خز أو صوف مُعْلَم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء مُعْلَمَة، وكانت من لباس الناس قديماً5.
وعن عبد الله بن زيد قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة له سوداء، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقه6.
وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس بُردة سوداء، فقالت عائشة: ما أحسنها عليك يا رسول الله، يشوب بياضك سوادها، ويشوب سوادها بياضك. فبان منها ريح، فألقاها، وكان يعجبه الريح الطيبة7.
وعن عائشة رضي الله عنها: أنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جُبَّة من صوف سوداء، فلبسها فلما عرق وجد ريح الصوف، فخلعها، و كان يعجبه الريح الطيب8.
والأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وآله كان يلبس السواد كثيرة جدًّا، وأنا أتعجب من هذا المخالف الذي يشكل على الشيعة بأمر ثبت عندهم بأحاديث صحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله كان يفعله.
4- أن جملة من علماء أهل السنة أفتوا باستحباب لبس السواد.
فقد ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية ما يلي: يندب لبس السواد عند الحنفية، قال ابن عابدين: «ندب لبس السواد؛ لأن محمداً ذكر في السير الكبير في باب الغنائم حديثاً يدل على أن لبس السواد مستحب».
وقال في الفتاوى الهندية: (الباب التاسع في اللبس: ما يكره من ذلك، وما لا يكره) ندب لبس السواد، وإرسال ذنب العمامة بين الكتفين إلى وسط الظهر، كذا في الكنز.
وأفتى آخرون بأن لبس السواد جائز، ليس بمكروه.
قال الملا علي القاري: وفي الجملة جاز لبس السواد في العمامة وغيرها وإن الأفضل البياض نظراً إلى أكثر أحواله عليه الصلاة والسلام فعلاً وأمراً، وأغرب الشافعية في قولهم: «لبس الخطيب السواد بدعة، فليتركه ويلبس الأبيض، إلا إن أُكْرِه بخصوصه كما كان يفعله العباسيون»، وما أحسن عبارة الطيبي: فيه جواز لبس السواد في الخطبة وإن كان البياض أفضل9.
وذكر بعضهم أن من علامات المسلمين: لبس السواد.
قال السرخسي في المبسوط: وأما السواد من علامات المسلمين، جاء في الحديث «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا لبستْ أمَّتي السواد فابغوا الإسلام»، ومنهم من روى: «فانعوا»، والأول أوجه، فقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم بشَّر العباس رضي الله عنه بانتقال الخلافة إلى أولاده بعده، وقال: «من علاماتهم لبس السواد»، والكفار لا يلبسون السواد10.
وقال الصنعاني في بدائع الصنائع 1/303: ولو اجتمع الموتى المسلمون والكافر يُنظر إن كان بالمسلمين علامة الفصل بها يفصل، وعلامة المسلمين أربعة أشياء: الختان، والخضاب، ولبس السواد، وحلق العانة.
5- أن علماء أهل السنة اتفقوا على أنه يجوز للمرأة أن تلبس السواد في المصيبة.
فقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ما يلي: اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للمتوفّى عنها زوجها لبس السّواد من الثّياب، ولا يجب عليها ذلك، بل لها أن تلبس غيره. واختلف فقهاء الحنفيّة في المدّة الّتي يجوز لها أن تلبس فيها السّواد، فقال بعضهم: لا تجاوز ثلاثة أيّام. ولكنّ فقهاء المذهب - ومنهم ابن عابدين - حملوا ذلك على ما تصبغه الزّوجة بالسّواد، وتلبسه تأسّفاً على زوجها، أمّا ما كان مصبوغاً بالسّواد قبل موت زوجها، فيجوز لها أن تلبسه مدّة الحداد كلّها. ومنع الحنفيّة لبس السّواد في الحداد على غير الزّوج. وقال المالكيّة: إنّ المحدّ يجوز لها أن تلبس الأسود، إلاّ إذا كانت ناصعة البياض، أو كان الأسود زينة قومها. وقال القليوبيّ من الشّافعيّة: إذا كان الأسود عادة قومها في التّزيّن به حرم لبسه، ونقل النّوويّ عن الماورديّ أنّه أورد في «الحاوي» وجهاً يلزمها السّواد في الحداد11.
فإذا جاز لبس المرأة للسواد في الحداد والمصيبة، فإن مصابنا بالإمام الحسين عليه السلام عندنا أشد من مصاب المرأة بزوجها، فجوازه فيه أولى.
6- أن الشيعة لم يجعلوا لبس السواد شعاراً لهم بحيث يلبسونه في تمام السنة، وفي جميع الأوقات، وإنما يلبسون السواد في أيام الحزن على مصائب أهل البيت عليهم السلام، فهو في حقيقته نوع من التعبير عن الحزن عليهم، وعن مودتهم، والموالاة لهم، وهذه غاية شريفة يحسن لأجلها لبس السواد.
7- أن بعض الأحاديث المروية في كتب الشيعة دلَّت على جواز لبس السواد.
منها: ما رواه الشيخ الصدوق في علل الشرائع بسنده عن داود الرقي، قال: كانت الشيعة تسأل أبا عبد الله عليه السلام عن لبس السواد، قال: فوجدناه قاعداً وعليه جبة سوداء، وقلنسوة سوداء، وخف أسود مبطن، ثم فَتَقَ ناحية منه، وقال: «أما إن قطنه أسود»، وأخرج منه قطناً أسود، ثم قال: بيِّضْ قلبك، وألبسْ ما شئت12.
ومنها: ما رواه البرقي في المحاسن بسنده عن عمر بن زين العابدين عليه السلام، قال: لما قُتل جدِّي الحسين المظلوم الشهيد لبس نساء بني هاشم في مأتمه ثياب السواد، ولم يغيِّرنها في حرٍّ أو برد، وكان الإمام زين العابدين عليه السلام يصنع لهن الطعام في المأتم13.
قلت: وعليه، يمكن الجمع بين هذه الأخبار وتلك بأن تحمل الأخبار الناهية على جعل السواد شعاراً، أو لبسه من أجل التشبّه بأعداء الله تعالى، وتحمل الأخبار المبيحة على لبسه حزناً على مصائبهم عليهم السلام، أو لأي غاية أخرى حسنة.
قال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة: لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين عليه السلام من هذه الأخبار؛ لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الأحزان14.
1. صحيح مسلم 3/1649
2. صحيح مسلم 4/1883
3. a. b. صحيح مسلم 2/990
4. مسند أحمد 6/274
5. النهاية في غريب الحديث 2/81
6. سنن أبي داود 1/302. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/215، وإرواء الغليل الألباني 3/142
7. صحيح ابن حبان 14/305. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين
8. المستدرك 4/209، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في سلسلته الصحيحة 5/168
9. مرقاة المفاتيح 5/599
10. المبسوط 10/199
11. الموسوعة الفقهية الكويتية
12. علل الشرائع 2/347
13. المحاسن 2/420
14. الحدائق الناظرة 4/160