إخوتي أخواتي أودّ أن أتحدّث عن مقولة الإمام الحسين (عليه السلام) عندما عُرضت عليه البيعة وهو لا زال في المدينة، بعد حوارٍ طويل بينه وبين الوليد ذكر هذه الجملة قال: (ومِثلي لا يُبايع مثله)، ثمّ ذكر حديثاً آخر، هذه الجملةُ الشريفة من الإمام الحسين (عليه السلام) تمثّل خطّاً عريضاً وواضحاً لمسألةٍ، وهي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قال: (ومِثلي لا يُبايع مثله)، تارةً الإمام الحسين (عليه السلام) يقول: إنّي لا أبايعُه، هذا له مطلبٌ آخر معناه أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لا يبايع الطرف الآخر لاختلافٍ واضح بينه وبين الطرف الآخر، وتارةً -كما عبّر الإمام- يقول: (ومِثلي لا يُبايع مثله) كأنّه أشار الى نقطةٍ أخرى، وهذه النقطة الأخرى عامّة، يُمكن أن تنطبق على ما تفوّه به سيّد الشهداء (عليه السلام)، ومُمكن أن تنطبق على ما قبله ومُمكن أن تنطبق على ما بعده.
الإمام (عليه السلام) في هذه الجملة الشريفة جعل هناك خطّين متوازيين لا يلتقيان أبداً، خطُّ (مثلِي) مثّله هو (سلام الله عليه) والخطّ الآخر هو خطُّ (مثلِه) مثّل الطرف المقابل، وعدم البيعة هي عبارة عن عدم الالتقاء أصلاً، يعني أنا لا أُبايع أي أنا لا ألتقي معك أصلاً، لا شكّ أنّ هذا الطراز من البلاغة له من الأهمّية أيضاً بمكانٍ فهذا شعارٌ، الإمام الحسين(عليه السلام) بيّن طريقةً واضحةً للتعامل مع الطرف المقابل، أنّه مِثلي لا يُبايع مِثله تحت أيّ ضغطٍ من الضغوط، لماذا؟ لأنّ هذا منهج وهذا منهجٌ -التفتوا جيّداً لما أقول- يضادّه فلا يُمكن أن يجتمعا، الأمور المضادّة حتّى الأطفال يعرفونها، الآن عندما يأتي طفلٌ تقول له هذه الورقة سوداء وبيضاء لا يُصدّق، يقول: لا يُمكن للسواد والبياض أن يجتمعا في ورقةٍ واحدة هي بيضاء وسوداء، إمّا سوداء أو بيضاء.
الإمام أراد أن يبيّن أنّ هذه المثليّة التي هي عبارة عن منهج، وهذا المنهج هو منهجٌ ممتدّ والمنهجُ الآخر أيضاً هو منهجٌ ممتدّ، لكن هذان لا يُمكن أن يلتقيا لأنّ بينهما تمام المنافرة وبينهما تمام المضادّة، وإنْ أدّى ذلك الى سفك دمه، مسألة بيعة والتقاء هذا لا يُمكن أن يحصل، ولذلك نقرأ هذه القضيّة بإمعانٍ حتّى نعرف أنّ نتيجتها ماذا؟ نتيجتها شهادة كربلاء، الإمام (عليه السلام) والعالِم يُقدّم سمعته ويُقدّم خطّه ويُقدّم فكره على حياته، أنّ (مِثلي لا يُبايع مثله) هذه مسألةٌ مفروغ منها، هذان لا يُمكن أن يجتمعا، لأنّ هناك عند الإمام صلاح وذاك عنده فساد والصلاح والفساد لا يجتمعان، عند الإمام استقامة وذاك عنده اعوجاج وعنده انحراف، فكيف تجتمع الاستقامة مع الاعوجاج والانحراف؟! أمّا الإمام(عليه السلام) عنده أمانة وهؤلاء عندهم خيانة فلا يجتمع الأمينُ مع الخائن، -لاحظوا الأمانة- الإمام السجّاد له مقولة -أنا أتكلّم عن منهج- قال: (لو أنّ الشخص الذي قتل أبي الحسين أودعني السيف الذي قتله به لأرجعتُه إليه)، أميرُ المؤمنين(عليه السلام) في إحدى معاركه حين مسك الماء قال: (اتركوهم يشربوا من الماء) قالوا: هؤلاء أعداؤنا! قال: يشربون من الماء أنا منهجي يختلف، وهم لمّا مسكوا الماء منعوه عن أمير المؤمنين(عليه السلام).
الإمام الحسين(عليه السلام) الحرّ يُجعجع به بألف مقاتل والإمام قال: اسقوهم، قالوا له: هؤلاء آذونا في الطريق! قال: اسقوهم. منهجُ الإمام يختلف، منهج استقامة وأمانة وعدل ورحمة، هم مسكوا المشرعة قالوا: لا تذوق الماء، منعوا عن العائلة وعن الأطفال والنساء الماء، هذا منهج، كيف يلتقي هذا مع هذا؟!!.
الإمام الحسين(عليه السلام) في الأمانة ويعلّمنا النزاهة ويعلّمنا الصدق ونأخذ منه هذه المعارف، المقابل يسرق ويغصب ويقتل، كيف يجتمع هذا مع هذا؟!!، الإمام (سلام الله عليه) منتهى العدل ولا يُمكن أن يظلم، حتّى في واقعة الطفّ وضع خدّه على خدّ ولده عليّ الأكبر ووضع خدّه على خدّ جون مولى أبي ذر، كان يأتي لهذا المقاتل كما يأتي لولده، الطرف المقابل ظالمٌ غشوم يقتل النفس المحترمة المحرّمة، كيف يستقيم هذا مع هذا؟!.
لذلك إخواني وأعزّائي -وهذا الكلام عامّ- كما كانت مقولة الإمام الحسين في ذلك الوقت مستمرّة الى أن يرث اللهُ الأرض ومنْ عليها، لابُدّ أن تكون هناك (مِثلي لا يُبايع مثله)، استحالةُ التقاء الفضائل مع الرذائل، استحالة الالتقاء، ولذلك ذكرنا في أكثر من مناسبة أنّ المنازعة الدينيّة لا تقبل المصالحة، تختلف عن المنازعة الدنيويّة، لأنّ المنازعة الدينيّة هذا شعارُها (مِثلي لا يُبايع مثله)، عليه أن يتحلّى بما عندي أهلاً وسهلاً، عليه أن يترك القتل والسرقة والنفاق والظلم والدجل أهلاً وسهلاً، أمّا أن نكون بهذين الخطّين المتنافرين الذي أحدهما يرفض الآخر فيستحيل أن يلتقيا، فهذه قاعدةٌ ضربها سيّد الشهداء(عليه السلام) وبالنتيجة هي مستقاة من جدّه المصطفى(صلّى الله عليه وآله وسلم) في قوله: (حسينٌ منّي وأنا من حسين)، النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلم) عُرض عليه كلّ شيء، أن اترك هذا الأمر، هؤلاء جهلة.
إخواني الجاهلُ مشكلة، الجاهلُ أو المتجاهل، والمتجاهلُ قد يكون شأنُه أصعب، يعرضون على النبيّ كلّ شيء مقابل ماذا؟ اترك الدعوى، هذا أمرٌ خارجٌ عن أن أترك وما أترك، أنتم الآن في الكعبة تعبدون الأصنام وتتّخذون آلهةً من دون الله، أنا منهجي منهجُ توحيد وهذا غير هذا، لا يُمكن أن يجتمعا، وأميرُ المؤمنين(عليه السلام) مرّ بقصصٍ من هذه القِصص التي لا نتحدّث عنها، وسيّد الشهداء بيّنها وهو في المدينة (ومِثلي لا يُبايع مثله)، أنا أختلف منهجيّاً، منهجي مِثلي، لا الإمام السجّاد يُبايع المقابل ولا الإمام الصادق وحتّى الإمام الرّضا(عليهم السلام)، تعرفون جيّداً تلك المعاناة التي مرّ بها (عليه السلام) بيعة بمقدار أنا وأنت؟ لا، وهذه (مِثلي لا يُبايع مثله)، (لاءات) سيّد الشهداء أرجو أن نقف عندها هذه ليست (لاءات) شعاراتٍ وإنّما (لاءات) حقيقيّة، الإنسان عندما تكون هناك عنده مصداقيّة وحقّانية حقيقيّة يقترب من سيّد الشهداء خطوةً خطوةً، (لا أُعطيكم بيدي...) حقيقةً هي شعارٌ حقيقيّ ولم يُعطِ، (لا أقرّ) هو لم يقرّ، (ومِثلي لا يُبايع) لم يبايعْ، لماذا؟ لأنّ هذا المنهج يختلف عن ذاك المنهج.
لذلك إخواني في كلّ أوقاتنا وأزماننا وعصورنا هذان المنهجان موجودان، هما امتدادٌ الى صراع قابيل وهابيل، الى الحقّ والباطل، الى الخير والشرّ، أحدهما لا يُمكن أن يلتقي بالآخر، يعني الخير لا يخضع للباطل وإن كان الباطل أقوى، وإن كان الباطل استعدى، وإن كان جنود الباطل أكثر، لكن الحقّ لا يخضع إطلاقاً.
وبحمد الله تعالى اليوم نرى سيّد الشهداء(عليه السلام) هو الصوت الأقوى، حتّى بعد أربعة عشر قرناً -كما يتصوّرون- وهو دائماً الصوت الأقوى، يتصوّرون كما قلت في الخطبة الأولى أنّ المُكنة لهم، لماذا؟ لأنّ هذا الخطّ لا يُمكن أن يكون تحت هذا الخطّ.
نسأل الله سبحانه وتعالى بمَنْ نحن بجواره صاحب هذه المقولة (ومِثلي لا يُبايع مثله) أن نكون من الذين يستنّون بسنّته وتكون فيهم كلّ المُثُل من القيم التي جاء بها سيّد الشهداء(عليه السلام)، وأن يُبعدنا وإيّاكم عن الظالمين والمنافقين والحاسدين والكائدين وكلّ جهات الانحراف، ونسأله تعالى التوفيق لما يحبّ ويرضى، أرانا الله تعالى في الجميع كلّ خير، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.
*الخطبة الثانية من صلاة الجمعة المباركة ليوم (6 محرّم 1441هـ) الموافق لـ(6 أيلول 2019م)، التي أُقيمت في الصحن الحسينيّ الطاهر وكانت بإمامة السيّد أحمد الصافي (دام عزّه)