قيل لبهلول: عِد لنا المجانين. فقال: هذا يطول، ولكني أعِد العقلاء. وقيل: ان رجلا كتب كتاباً وعرضه على آخر، فقال الاخر: فيه خطأ كثير. فقال الكاتب: علّم على الخطأ فأُصلِحه. فقال الاخر: بل أُعلِّم على الصواب فهو أسهل.
اتصور ان معنى القصتين ينطبق تماماً على مقال الملحد العراقي رياض العصري، والذي أثار فيه جملة من الاشكالات على قصة النبي موسى والخضر عليهما السلام في القران الكريم، واليك نص كلامه، وإن اشتمل على بعض الأخطاء النحوية والإملائية؛ رعاية للأمانة:
"جميع الاديان في العالم صناعة بشرية ... ليس هناك اله في السماء يرسل انبياء الى البشر وينزل كتب من السماء ... ليس هناك اله في السماء يهتم لشؤون البشر ويتألم لمصيرهم، ليس هناك اله يتدخل لمنع وقوع الكوارث على البشر ، أو يتدخل لمساعدتهم في ازالة آثار الكوارث التي وقعت عليهم ، مقالنا هذا يشتمل على نقد لنصوص مختارة من القرآن اثباتا لبشرية هذا الكتاب :
نصوص من القرآن:
1ـ (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا).
2ـ (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ، فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا).
ـ نقد النصوص:
النصوص تتعلق بقصة (العبد الصالح !!! ) الذي ارتكب جريمة قتل غلام يافع بريء غدراً بناءاً على توجيهات من ربه بحجة ( الخشية ! ) من ان يرهق والديه في الكبر ، نتسائل: 1) اذا كان هذا الاله يهدي من يشاء لماذا لم يهدي الغلام لرعاية والديه بدلا من قتله ؟ .. 2) اذا كان هذا الاله يعلم بالغيب ألم يكن الاجدر به عدم خلق الغلام لكي لا يضطر الى قتله لاحقا ؟ ... 3) اذا كان هذا الاله حريص على راحة والدي الغلام المغدور فلماذا لم يمتد حرصه الى الاخرين من الاباء والامهات تعبيرا عن عدالته تجاه جميع البشر ؟ 4) سلوك الانسان غالبا ما يتغير مع تقدمه بالعمر وتجاربه في الحياة .. فكيف يحاسب الغلام على فعل لم يرتكبه بعد وانما بناءا على توقعات مستقبلية لسلوكه ؟ ... فان كان حسابه بناءا على العلم بالغيب فان هذا يعني ان الانسان يتصرف وفقا لتخطيط معد مسبقا ، اي ان الانسان مسير وليس مخير وبالتالي سقطت المسؤولية عن الانسان ، القصة تفتقر الى قيم الحق والعدل والرحمة والمنطق". انتهى.
اقول: كان يكفي الكاتب مراجعة بعض كتب التفسير ليجد جواب ما سأل، ولوجد ان العبد الصالح وهو الخضر عليه السلام كما صرحت بذلك الروايات، كان مكلفاً بتكاليف ليست من سنخ التكاليف الظاهرية، وهو واضح لمن تمعن في الآيات محل الذكر، فالآية تخبر بانه (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً )([1])، فهو سنخ علم موهوب من دون اكتساب ووسائط، وهو من نفس طبيعة علوم الملائكة عليهم السلام؛ وهذا سبب اصرار موسى عليه السلام على ايجاد الخضر ولو افنى حياته في البحث عنه، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً)([2]). فموسى عليه السلام أعلم أهل زمانه بالعلم الظاهري الذي يحتاج اليه البشر، وعليه مدار النبوات، كما في حديث الإمام الصادق عليه السلام: "كان موسى أعلم من الخضر" ([3]). أي أعلم منه في علم الشرع.
ومما يؤكد ما قدمناه حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام والذي بينّ فيه أن مهمة ووظيفة كل من موسى والخضر كانت تختلف عن الآخر، فقد كتب أحدهم إلى الإمام الرضا عليه السلام يسأله عن العالم الذي أتاه موسى، أيهما كان أعلم؟ فكان مما أجاب به الإمام قوله عليه السلام: "أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إما جالسا وإما متكئا فسلم عليه موسى، فأنكر السلام، إذ كانت الأرض ليس بها سلام. قال: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما؟ قال: نعم، قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا. قال: إني وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا أطيقه"([4]).
فثمة نظامان في هذا العالم، الأول هو النظام التكويني، والأخر هو النظام التشريعي، فعلى سبيل المثال، يقوم الله سبحانه وتعالى ـ بتوسط الملائكة او بعض الأولياء كالخضر عليه السلام ـ ومن أجل اختبار العباد، بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزة وفقدانهم حتى يتبين الصابر من غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات.
ونرى أن الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان، بسلب النعمة من الإنسان بسبب عدم شكره، كأن تغرق أمواله في البحر، أو يصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربه على نعمة السلامة... هذا كله بحسب النظام التكويني، ولكنّا من وجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنف الأمور في إطار هذه القوانين التكوينية.
على سبيل المثال نرى أن الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين بحجة عدم سراية السم إلى قلبه، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إصبع شخص آخر بحجة تربيته على الصبر أو عقابا له على كفرانه للنعم؟ (بالطبع الخالق يستطيع القيام بذلك حتما لأنه يلائم النظام الأحسن).
والآن بعد أن ثبت وتوضح أن في العالم نظامان (تكويني وتشريعي)، وأن الله هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى مجموعة بأن تطبق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة من الملائكة أو بعض البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني.
ومن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ بحادثة معينة، ثم يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأن أخطارا كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل كما أن وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتم لمصلحة معينة كالامتحان والابتلاء وغير ذلك.
وأيضا لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه تعالى بأن خروجي من البيت لو تم فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها، لذا فهو تعالى يمنعني منها ([5]).
ثم إن التصرف في عالم التكوين يخضع لقوانين العدل الإلهي، فقد يكون العبد مستحقاً لأمر معين، ثم يتغير استحقاقه نتيجة اختياراته فتتغير أقدار الله تعالى له، وهوما يعرف بعقيدة البداء، ومن ذلك إجماع الفريقين - سنّة وشيعة - في تفسير قوله تعالى: )وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(([6]).
فلقد أجمع علماء الفريقين في تفسيرها، أنّه إذا ظهر لله من أهل القرى الإيمان والتقوى، فإنّ الله تعالى سيظهر لهم بركات السماء والأرض، وبالعكس فإذا أظهر أهل القرى التكذيب؛ فإنّ الله تعالى سيظهر لهم عقاباً ونقمة.
ومن خلال ما تقدم يتضح جواب العصري، فقد يكون العبد مستحقاً لولد يرهقه ظلماً وكفراً، فيعمل عملاً صالحاً فيغير الله أقداره، توضيح ذلك أكثر: ان الله تعالى أخذ على نفسه ايصال كل انسان الى ما يختاره، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)([7])، والآية صريحة في أنه تعالى يوصل من يختار الدنيا الى اختياره، ومن يختار الآخرة الى اختياره، فلو فرضنا إنساناً كان مريداً للدنيا، فقدر الله تعالى له ما يوصله الى ذلك، ثم تاب واختار طريق الاخرة، فإنه تعالى يغير أقداره تبعاً لذلك.
والخلاصة ان القصة مسوقة لبيان عناية الله سبحانه بالمؤمنين، وان يد الغيب ترعاهم وهم لا يشعرون، فالقصة تحكي عن ثلاث حوادث تخص المؤمنين، الاولى هم اصحاب السفينة المساكين، والثانية للوالدين المؤمنين، والثالثة لغلامين كان ابوهما مؤمناً، بل في وصفه تعالى لأصحاب السفينة بأنهم مساكين ما يشعر لتدخله تعالى لدفع البلاء عن مطلق المستضعفين، وان لم يكونوا مؤمنين.
فالقصة برمتها تُكذب وتناقض قول الكاتب: ليس هناك اله في السماء يهتم لشؤون البشر ويتألم لمصيرهم، ليس هناك اله يتدخل لمنع وقوع الكوارث على البشر، أو يتدخل لمساعدتهم في ازالة آثار الكوارث التي وقعت عليهم).
الهوامش:
([1]) الكهف: 65.
([2]) الكهف: 60.
([3]) تفسير الميزان، ج 13، ص 356.
([4]) مجمع البيان، ج 6، ص 480. والميزان، ج 13، ص 356.
([5]) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج9، ص333.
([6]) سورة الأعراف: 96.
([7]) سورة الأعراف: 96.