في الوقت الذي كانت في العلل الموجِدة او المحركة للظواهر الطبيعية خافية على الانسان كان التفسير الغيبي او الميتافيزقي هو الراجح، وكان الخط الالحادي يراوح في مكانه غير قادر على تجاوز معضلته الكبرى في حاجة تلك الظواهر الى علل، حتى جاء الزمن الذي اكتشف فيه العلم قوانين الطبيعة التي تسيّر الكون وأجزاءه، فالأفلاك تحكمها قوة الجاذبية والبرق هو التقاء شحنات كهربائية مختلفة والمرض ينشأ بسبب فيروسات ومكروبات ... الى آخره.
الملحد اعتبر هذه الكشوفات بمثابة الحسم لما بينه وبين الطرف المؤمن، في حين أن حقيقة الامر تخلو تماما من أي حسم، فغاية ما توصلت اليه الكشوفات هو معرفة الآلية التي يتم بها فعل الظواهر، وهذه الالية لا تنهض الى ما يجعلها علة تامة، فهب ان بين كتل الطبيعة قوة جاذبة فماهي هذه القوة؟! وكيف تؤثر في الاجسام، إن العلم يفسر تحول الحديد الى مغناطيس بان جزيئاته تترتب بشكل متواز ولكن يبقى السؤال لماذا ينشأ المغناطيس من هذا الترتب؟! لماذا الحرارة تعمل على إبعاد الجزيئات وليس البرودة في تمدد الاجسام؟!
الملحد وكيما يحافظ على انتصاره رفض شرعية السؤال وقال "إنها طبيعة الاشياء" وواضح ان هذه المقولة هي أمر مفروض على واقع الاختلاف الدائر بينه وبين المؤمن وذلك لأن الطبيعة نفسها هي أصل التساؤلات التي تواجه الانسان، فمثلا الانسان الاول استفهم عن ظاهرة البرق في السماء.. كيف تحدث وما الذي يُحدثها؟ وحين جاء الرد العلمي بانها تصادم للشحنات المختلفة صار الضوء الصادر من تصادم الشحنات المختلفة بمثابة دعوة لإعادة نفس الاسئلة عنه، كيف تحدث وما الذي يُحدثها؟ أي ان كل ماقامت به المكتشفات العلمية هو أنها أضافت ظاهرة جديدة وسؤال آخر، فتبخر الماء عند تعرضه للحرارة كان هذا يمثل للانسان ظاهرة تفرض عليه سؤالا هو لماذا يتبخر الماء بالحرارة؟ وبعد اكتشاف العلم بأن الحرارة تباعد بين جزيئات الماء صار هذا التباعد الذي يتم بفعل الحرارة بمثابة ظاهرة جديدة تفرض سؤالا آخر هو لماذا تتباعد جزيئات المادة بالحرارة؟
إن رد الملحدِ على السؤال الثاني بالطبيعة، اي انها تحصيل حاصل بطبيعة الاشياء ولا معنى للسؤال، يجعله مساويا للكنيسة في ردها على السؤال الاول بأنه تحصيل حاصل بقدرة القدير ولا معنى للسؤال.
ولكن هذا لا يعني انه ليس هناك فارق بين السؤالين، وهذا الفارق ناشئ من مفهوم العلية ـ حاجة المعلول الى علة ـ المرتكز في ذهن الانسان منذ القدم، فعملية البحث عن علة تبخر الماء ـ في مثالنا ـ هي ما دفعت العالم الى وضع عينة الماء في المختبر وفحصه لينتهي الى نتيجة ان تباعد الجزيئات هي السبب، وهنا يكون السؤال هو هل يمكن للعالم ان يرد على السؤال الثاني (لماذا تتباعد جزيئات المادة بالحرارة) بنفس الطريقة؟
الجواب كلا
وذلك لان فحوى السؤال الاول تتضمن تحول عنصر الماء المادي من حالة السائل المادية الى حالة الغاز المادية، وعليه فالعلة هنا مادية ويمكن كشفها بالمختبر وهذا ما حدث بالفعل حين كشفت لنا اجهزة المختبر ان الحرارة تقوم بإبعاد المسافات بين الجزيئات مما يؤدي الى انخفاض كثافة الماء، أما السؤال الثاني فيتضمن البحث في حقيقة الحرارة وقدرتها على إبعاد الجزيئات وهي تفاصيل غير مادية، وهنا نكون امام حالة هي ان السؤال الثاني واقع يفرض نفسه وقول الملحد بالطبيعة هو بمثابة تهرب ليس إلا، حيث انه يبرر قدرة الحرارة على التأثير باللاشيء ـ أي انها قدرة لاتتضمن غير ذاتها ـ، وليس في قابلية العلم الاجابة على السؤال.
ننتهي من كل هذا الى ان التفسير الشامل للظواهر يتأتى من عملية مزج بين رد الكنيسة ورد العلم، أي ان قدرة القدير جعلت ما اكتشفه العلم بمثابة الآلية التي تنشأ من خلالها الظواهر. وبهذا فإن الغيب عنصر داخل في علل الظواهر شاء الملحد أم أبا، ويسمى هذا العنصر فلسفيا بالفيض الالهي الذي تستمد منه الموجودات قدرتها على التواجد في دائرة الكون والحياة.
ولنأتي الان الى الامراض.. إن الاساس الاول في اي عملية علاج من الامراض الفيروسية والجرثومية هي قدرة الكريات البيضاء على التعرف على الجسم الغريب ودراسته من قبلها ومن ثم تحديد طريقة القضاء عليه، وفي هذا من دلائل الغيب ـ قدرة الله ـ ما لا يمكن انكاره، حيث ان قدرة الكريات البيض هي بمثابة قدرة الحرارة، وحتى العقار الذي يصنعه الانسان فإنه في حقيقته لا يعدو عن كونه محفزات للكريات البيض كيما تتعرف على الفايروس، أي أن دور الطبيب في عملية الشفاء لا يتجاوز حدود تهيئة الظروف المؤدية الى تحقق قدرة الله.
نخلص بهذا الى ان الانسان سيكون في غاية المنطقية حين يوكل الى الطبيب ما هو مناط به من دور في عملية الشفاء ويدعو الله ـ في الوقت نفسه ـ ان يحقق الشفاء. كما يمثل الانسان في هذا حالة الوسطية المطلوبة فلا يجنح الى اليمين الديني الداعي الى امور وصلت الى تقبيل فم المريض بكورونا ولا الى اليسار اللاديني الهازيء بالدعاء وطلب العون من الغيب.
وخير شاهد على ضرورة هذه الوسطية ما هو واجب علينا من توفيق بين قوله تعالى (واذا مرضت فهو يشفين) وقول النبي الاكرم ص ( تداووا فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له دواء).