الاستخفاف بدين الله تبارك وتعالى له مظاهر كثيرة وآثار متعددة، في هذه الكلمة وبنحو من الإيجاز أتعرض لبعض الأمور التي هي من مظاهر الاستخفاف بدين الله تبارك وتعالى:
الأمر الأول: هو مخالفة الأحكام الإلزامية.
كل معصية بلا عذر هي استخفاف بدين لله تبارك وتعالى وبأحكام الله تبارك وتعالى، فتارة يرتكب الإنسان المعصية وهو معذور ؛ لأن المعصية ليست منجزة في حقه، كما لو كان يجهل الحكم أو يجهل الموضوع، مثل صدر منه موقف خشن مع أخيه المؤمن وهو لا يعتقد بحرمة هذا الموقف، أو هو يعتقد بحرمة إهانة المؤمن ولكن يعتقد أن هذا التصرف ليس مصداقاً من مصاديق الإهانة، فعنده إما جهل بالحكم أو جهل بالموضوع، فمثل هذا لا يُعتبر مستخفاً بالدين، فجهله عذره، وأخرى يكون ملتفتاً إلى الحكم وملتفتاً للموضوع، ويعلم بأن هذا الحكم ثابت في الشريعة وأن موضوعه متحقق ومع ذلك يُقدم، فهو في الحقيقية أوقع نفسه في رتبة من رتب الاستخفاف بدين الله تبارك وتعالى فلم يرجو لله وقار، و الشريعة المقدسة أخبرت بوجود عقاب لكل ذنب، وما ذاك إلا لأن كل مذنب استخف بدين لله تبارك وتعالى و استحق العقاب، وهذه القضية واضحة لا تحتاج إلى توضيح، لهذا ينبغي على المؤمن قبل أن يُقدم على مخالفة لله تبارك و تعالى أن يتحدث مع نفسه ولو لثانية يُذكّر نفسه فيها بأن اقدامه على الفعل فيه استخفاف بالله تبارك وتعالى خصوصاً إذا كان في خلوته، فيُذكّر نفسه أنه بفعله جعل الله أهون الناظرين إليه حيث يُقدم في الخلوة على ما يراه قبيح، ولا يجرأ على الإقدام عليه أمام الناس مع علمه أن الله تبارك وتعالى يرى، وليُذكّر نفسه أيضاً بأن هذا الاستخفاف قد يكون سبباً لخلوده في نار جهنم -والعياذ بالله- (إياكم والتهاون في أمر الله فإن من تهاون في أمر الله أهانه الله تبارك وتعالى في يوم القيامه) يقول تعالى: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴾ سورة النبأ.
الأمر الثاني: الدين أمر بسيط!
من مظاهر الاستخفاف بدين الله تبارك وتعالى هو النظر إلى الدين على أنه أمر بسيط يمكن أن يُفهم من أي شخص ولا نحتاج في فهمه إلى المتخصصين المتعمقين، المهندس محمد يقول في كتاب الدولة والمجتمع: "ظهر فقه العبادات كالوضوء والصلاة والحج والزكاة، حتى شمل الفقه كثيراً من المجلدات، علماً بأن العبادات جاءت للعالم والجاهل واضحة، وللعامة والخاصة مفصلة، لا تحتاج إلى كل ذلك" ص 33، فهو يرى أن أحكام الدين أحكام بسيطة جداً وكانت تلقى على العالم وتلقى على الجاهل، فلماذا الفقهاء سودوا المطولات في كتابة البحوث الاستدلالية، فكل هذا مما لا داعي له في نظره، لأن الدين أمر بسيط وسهل ليس فيه غموض وليس فيه تعقيد، و في المقابل يروى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق)، فإن من الحق أن أحكام الله تبارك وتعالى أحكام سهلة ويسيرة، وكل إنسان بإمكانه إذا رجع إلى المعصوم (صلوات الله وسلامه عليه) أو إلى العالم المتخصص لكي يتعرف على وظيفته في فرض من الفروض فإن بإمكانه أن يتعرف على الفتوى بسهولة إذا كان المجيب عنده بيان واضح وقدرة فائقة على الشرح، إلا أن هذا لا يعني أن الدين أمر سهل وبسيط لا نحتاج إلى تخصص فيه، فإنه يشتل على عمومات و اطلاقات وقواعد كلية، و مخصصات ومقيدات وفروض كثيرة تكييفها الفقهي دقيق خصوصاً مع وجود الفاصل الزمني الطويل بينا وبين المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم)، فإنه بسبب هذا الفاصل الطويل فقدنا القدرة على فهم الروايات كما يفهمها المعاصر لهم، فإن المعاصر لهم كان عربياً صميماً، والإمام يتحدث بلغته آن ذاك، بينما نحن الآن فقدنا القدرة على معرفة المراد وفق أسلوب المحاورة الموجود في زمن الأئمة (صلوات الله سلامه عليهم)، فنحتاج أن نتمرس في قراءة القرآن و الروايات و الأساليب الفصيحة بعد دراسة القواعد اللغوية التي تعلمنا أسلوب المحاورة في ذلك الزمان، كما أن كثيراً من الروايات لم ينقل بالتواتر وإنما نقل بطرق ظنية ونحتاج أن نتعرّف على وثاقة رواتها وعدم وجود إرسال في طريقها، ونقل من نسخ ليست مشهورة نحتاج أن نتثبت من صحة النسخة التي أخذت منها الروايات، هذا بعد بحث كبرى حجية الظن، ثم إننا بحاجة إلى معرفة القواعد العامة التي طرحها المعصومون (صلوات الله وسلامه عليهم) حتى نرجع إليها في تكييف الفروع الفقهية، مثلاً طرحوا قاعدة عامة تسمى بقاعدة الفراغ و قاعدة التجاوز، و قاعدة عامة تسمى بقاعدة الاستصحاب، و نحن بحاجة إلى دارسة الروايات الواردة في هذه القاعدة لكي نقف على النتيجة الموجود في هذه القاعدة لكي نتمكن بعد ذلك من تطبيق هذه النتيجة على الفروض التي نبتلي بها، ثم لكل عام يوجد مُخصص ولكل مطلق يوجد مُقيد، و نحتاج أن نُحيط بكل التراث الروائي إذ لعلنا نظفر بعموم ويوجد له مخصص لم نظفر به، فنطبق العموم في غير محله، و هناك قواعد كثيرة وأمثلة متعددة هي التي جعلت كتب الفقه تتسع ؛ لأن البحث العلمي بسبب الفاصل الزمان وعدم التعامل مع المعصوم مباشرة أحوجنا إلى أن نتعمق في دراسة مصادر الاستنباط الفقهي حتى نتعرّف على الوظائف الشرعية خصوصاً في الوقائع المستجدة التي لم تكن موجودة في زمن المعصومين ونحتاج أن نُكيفها على ضوء القواعد التي ذكرها المعصومون (صلوات الله وسلامه عليهم)، وهل يتمكن كل إنسان من أن يقوم بهذا الدور الشائك والمضني من دون أن يكون متخصصاً في العلوم التي تدرس في الحوزة العلمية.
إذن، القول بأن الدين سهل لا نحتاج فيه إلى التخصص نحو من أنحاء الاستخفاف بدين لله تبارك وتعالى.
الأمر الثالث: الاصغاء لكل من تكلم في الدين
هو اعتبار كل متكلم في أمور الدين متخصص وينبغي أن يُصغى إلى كلامه، فإن هذا مظهر من مظاهر الاستخفاف بالدين، إذ كيف يُقبل أن يكون كل متكلم متخصص، ففي الرواية: (يأتي على الناس زمان وجوهم فيه ضاحكة مستبشرة وقلوبهم مظلمة كدرة، كل جاهل عندهم خبير)، إذا وصلهم مقطع مثلاً يتحدث فيه شخص عن حكم الحجاب لشخص، والمتحدث لم يدرس في الحوزة العلمية شهراً متصلاً، ولكنه يقول كلام مرتب وعنده قدرة على صف الكلمات وترتيب الجمل، تجد بعض البسطاء يرون له رأياً في مقابل رأي الفقهاء، و يقولون: هو أيضاً أجتهد واستطاع أن يصل إلى هذه النتيجة، ولأنه توجد حرية فكرية فمن حقه أن يُبدي رأيه ويجب أن يُحترم ويُحترم رأيه!
إن هذا ضرب من ضروب الاستخفاف بالدين، فالذي يُعطي هذا الشخص حرية الرأي ويعتبر رأيه رأياً محترماً كرأي المراجع العظام أو الفقهاء المسلم باجتهادهم هو في الحقيقة والواقع يستخف، لأنه يرى الدين أمراً ضحلاً سطحياً يمكن أن يُحسن كل من يتحدث فيه، ولهذا يُعطي هذا المتحدث حقاً في أن يتكلم كيفما يشاء، وهذا ضرب من ضروب التلاعب، يقول أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): (من اتخذ دين الله لعباً ولهوا أدخله الله تبارك وتعالى نار جهنم مُخلداً فيها ).
فإن من تعظيم الدين والنظر إلى دين لله بعين التقدير والاحترام أن لا يُعطى حق لكل متكلم أن يتكلم في أحكام الله تبارك وتعالى، و أن لا يُعطى أي شخص حرية أن يُصدر فتاوى من عنده في مسائل الدين كمسألة الرق و الحجاب، و استماع الغناء ونحو ذلك، فلابد أن يُعلم أولاً تاريخ المتحدث العلمي وهل يؤهله لأن يتكلم في الدين، هل تعلم أم لا، فإن كان تعلم فله أن يتكلم، وإلا ينبغي أن يُقال له دع الكلام لغيرك، ونحن لا نُضيع وقتنا للاستماع إليك، ونراك مجرد مفتر، يقول تعالى: (قلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) سورة يونس 59.
لو أسس شخص موقعاً طبياً وأخذ يُعطي وصفات طبية وينتقد نظريات طبية وهو لم يمارس دراسة الطب، هل يهتم الناس بشأنه ويقرؤون ما يكتب ويسمعون ما يقول؟
الجواب: كلا؛ لأنهم يقطعون أن الطب شأن عظيم تخصص دقيق عميق لا يمكن أن يُحسن الحديث فيه كل متكلم، والقانون يجرم ذلك ويعاقب عليه، لما يترتب عليه من ضرر.
لماذا لا يكون الأمر كذلك في دين الله تبارك وتعالى، والذي ضرره دنيوي وأخروي؟
إن هذا الدين له قدره ومكانته، وهو دين عميق ولا ينبغي أن يتكلم فيه كل متكلم، بل ينبغي أن يتخصص الإنسان أولاً ثم بعد ذلك يتكلم، و الذي يتكلم بلا علم هو يستخف بدين لله، والذي يسمح له بالكلام ويُعطيه حرية أن يتكلم هو أيضاً يستخف بدين لله تبارك وتعالى، ووظيفتنا أن نُنبه هذين إلى ما وقعا فيه من أمر خطير وجلل.