إنّ الوقوف على حقيقة الشفاعة يتوقف على بيان أقسامها، وتفاسيرها فنقول: إنّ الشفاعة حسبما يستفاد من القرآن الكريم تطلق على معان أو على أقسام، وبعض هذه المعاني أو الأقسام وإن كان خارجاً عن الشفاعة المصطلحة بين أئمّة علم الكلام والتفسير، غير أنّ الوقوف على مفاد عامّة ما ورد في القرآن الكريم حول الشفاعة يتوقف على توضيح جميع هذه المعاني أو الأقسام، فنقول: إنّ الشفاعة على معان أو على أقسام:
1. الشفاعة التكوينية.
2. الشفاعة القيادية.
3. الشفاعة المصطلحة.
وإليك شرح هذه الأقسام :
1. الشفاعة التكوينية
تشهد النظرة العلميّة والفلسفيّة بقيام النظام الكوني على أساس سلسلة الأسباب والمسبّبات وارتباط كل ظاهرة من الظواهر الكونية بعلّة وسبب، وهذا أي كون العالم كعلّة خاصة من مجموعة العلل والمعاليل، مما أثبتته الأُصول الفلسفية واعترفت به الآيات القرآنية.
غير أنّ الظواهر الكونية بحكم أنّها ممكنة الوجود، غير مستقلّة في ذاتها كما هي غير مستقلّة في علّيتها وتأثيرها، بمعنى أنّها لا تؤثر إلّا بإرادة الله وإذنه سبحانه، ضرورة أنّها لو كانت مستقلّةً في التأثير يلزم أن تكون مستقلةً في الوجود لبداهة أنّ الاستقلال في العلية فرع الاستقلال في الوجود، ولو سلمنا الاستقلال في التأثير فلا محالة قد سلّمنا قبله الاستقلال في الذات وهو يساوق كون الشيء واجباً غنياً عن العلّة، وهو خلاف الفرض.
ولأجل ذلك اتّفقت الفلاسفة والمتكلمون إلّا من شذّ من المعتزلة على أنّه لا مؤثّر مستقلّ في الوجود غيره سبحانه، وأنّ غيره مفتقر في الوجود والتأثير إليه سبحانه، ولأجل ذلك صار شعار القرآن في حق الإنسان ( وحتى غير الإنسان أيضاً ): قوله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ )[1]وقوله سبحانه: ( وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ)[2].
وقال سبحانه حاكياً عن موسى الكليم عليه السلام: ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )[3].
فعالَم الكون بما أنّه عالَم إمكاني لا يملك من لدن ذاته وجوداً ولا كمالاً، بل كلما يملك من وجود وكمال فقد أُفيض إليه من جانبه سبحانه فهو بحكم الإمكان موجود مفتقر في عامة شؤونه، وتأثيره، وعلّيته.
وإلى ما ذكرنا من توقف تأثير كل ظاهرة كونية، على إذنه سبحانه يشير قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ )[4].
فإنّ الآية بعدما تصف الله سبحانه بأنّه خالق السماوات الأرض في ستة أيام وأنّه استوى بعد ذلك على العرش، وأنّه يدبّر أمر الخلق، تعلن بأنّ كل ما في الكون من العلل الطبيعية والظواهر المادية يؤثر بعضه في البعض بإذنه سبحانه، وأنّه ليست هناك علّة مستقلة في التأثير بل كل ما في الكون من العلل، ذاته وتأثيره، قائمان به سبحانه وبإذنه، فالمراد من الشفيع في الآية هو الأسباب والعلل المادية وغيرها، الواقعة في طريق وجود الأشياء وتحقّقها وإنّما سميت العلة شفيعاً لأجل أنّ تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه فهي ( مشفوعة إلى إذنه سبحانه ) تؤثر وتعطي ما تعطي.
وعلى ذلك تخرج الآية عن الدلالة على الشفاعة المصطلحة بين أئمّة علم الكلام، وإنّما اخترنا هذا المعنى لوجود قرائن في نفس الآية، فإنّها تبحث في صدرها عن خلق السماوات والأرض وتحدّد مدّة الخلق والإيجاد بستة أيام، ثم ترجع الآية وتنص على سعة قدرته على جميع ما خلق وإحاطته بهم، وانّه بعد ما خلق السماوات والأرض، استوفى على عرش القدرة وأخذ يدبّر العالم وعند ذلك ينطرح في ذهن القارئ أنّه إذا كان هو المدبّر والمؤثر فما حال سائر المدبرات والمؤثرات التي يلمسها البشر في حياته؟
فللإجابة عن هذا السؤال أتى بقوله: ( مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ مصرّحاً بأنّ كل تأثير وتدبير في سبب من الأسباب فإنّما هو بإذنه ومشيئته ولولا إذنه ومشيئته لما قام السبب بالسببية ولا العلة بالعلية، وهذه القرائن توجب حمل هذه الجملة على ما يجري في عالم الكون والوجود من التأثّر والعلّية، وتفسيرها بالشفاعة التكوينية وإنّ كل ظاهرة مؤثّرة كالشمس والقمر والنار والماء لا تؤثر إلّا بالاستمداد من قدرته سبحانه والاعتماد على إذنه ومشيئته حتى يتم بذلك التوحيد في الخالقية والتدبير، فلا خالق إلّا هو، كما لا مدبر إلا هو، فما يتراءى في صفحة الوجود من الخلق والتدبير فليس على ظاهرهما وإنّما تقوم سائر العلل بالخلقة والدبير مستمداً من حوله وقوته، فيرجع معنى الآية إلى أنّه لا مؤثّر في الكون إلّا من بعد إذنه، ولأجل ذلك تستنتج الآية وتخاطب البشر بأنّه إذا كان هو الخالق والمستولي على عرش القدرة والمدبر لجميع العالم، وإذا كان تأثير كل ما سواه بإذنه، فليعبد ذلك الرب سبحانه دون غيره، إذ هو اللائق دون ما سواه بالعبادة، فإنّ منشأ العبادة والخضوع هو الوقوف على الجمال والكمال المطلقين في المعبود بحيث يحمل ذلك الوقوف الإنسان العارف على العبادة والخضوع وليس ذلك الكمال موجوداً إلّا فيه سبحانه، لأنّه الخالق المستولي المدبّر المعطي لكل ما سواه: الوجود والتأثير، قال: ( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ).
إذا وقفت على ما ذكرنا تقف على أنّه لا يناسب حملها على الشفاعة المصطلحة التي تدور حول التكاليف والتشريعات وعصيان العباد ومخالفتهم لها، ثم توسيط الشفعاء لغفران ذنوبهم وحط سيئاتهم.
وإلى ما ذكرنا يشير العلّامة الطباطبائي بقوله: « إنّ ربكم معاشر الناس هو الله الذي خلق هذا العالم المشهود كله سماواته وأرضه في ستة أيام، ثم استوى على عرش قدرته، وقام مقام التدبير الذي إليه ينتهي كل تدبير وإرادة، فشرع يدبر أمر العالم، وإذا انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد، لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأمور ـ وهو الشفاعة ـ إلّا من بعد إذنه، تعالى، فهو سبحانه هو السبب الأصلي الذي لا سبب بالأصالة دونه وغيره من الأسباب أسباب بتسبيبه وشفعاء من بعد إذنه، وإذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربكم الذي يدبر أمركم لا غيره مما اتخذتموه أرباباً من دون الله وشفعاء عنده وهو المراد بقوله: ( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي لماذا لا تنتقلون انتقالاً فكرياً حتى تفهموا أنّ الله هو ربكم لا ربَّ غيره[5].
2. الشفاعة القيادية
المراد من هذا الصنف هو قيام قيادة الأنبياء والأولياء والأئمّة والعلماء والكتب السماوية مقام الشفيع والشفاعة في تخليص البشر من عواقب أعماله وآثار سيئاته.
وتوضيح ذلك: أنّه إذا كانت نتيجة الشفاعة المصطلحة يوم القيامة هي تخليص العصاة من عواقب أعمالهم، وآثار معاصيهم وأفعالهم، فإنّ قيادة الأنبياء والأولياء والكتب السماوية والعلماء وأقلامهم تقوم بنفس هذا العمل.
غير أنّ الفرق بين الشفاعتين واضح فإنّ الشفاعة المصطلحة توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له، وهذه الشفاعة توجب أن لا يقع العبد في عداد العصاة حتى يستحق.
وإن شئت قلت: إنّ الشفاعة الأولى تخلّص العبد بعد زلته وعثرته وبعد وقوعه في المهالك والمهاوي، ولكن الشفاعة القيادية تمنع من وقوع العبد في المهالك وزلته إلى المهاوي، فالأولى من قبيل الرفع، والثانية من قبيل الدفع، والفرق بينهما واضح، فإنّ الرفع يمنع المقتضي عن التأثير بعد وجوده، والدفع يمنع عن وجود المقتضي وتكوّنه.
وعلى ما ذكرنا من قيام قيادة الأنبياء والأئمّة مقام الشفيع والشفاعة في تخليص العبد من الوقوع في المهالك، يظهر أنّ إطلاق الشفاعة على هذا القسم ليس إطلاقاً مجازياً بل إطلاق حقيقي. وقد شهد بذلك القرآن والأخبار، قال سبحانه: ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )[6] والضمير المجرور في ( بِهِ ) يرجع إلى القرآن[7].
ولا شك أنّ ظرف شفاعة هذه الأمور إنّما هو الحياة الدنيوية، فإنّ تعاليم الأنبياء وقيادتهم الحكيمة وهداية القرآن وغيره إنّما تتحقق في هذه الحياة الدنيوية، وإن كانت نتائجها تظهر في الحياة الأخروية، فمن عمل بالقرآن وجعله أمامه في هذه الحياة قاده إلى الجنة في الحياة الأخروية، ولأجل ذلك نرى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله يأمر الأمّة بالتمسك بالقرآن ويصفه بأنّه الشافع المشفّع ويقول: « فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع، وماحل مصدّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبرهان »[8].
فإنّ قوله: ومن جعله أمامه، تفسير لقوله: فإنّه شافع مشفّع.
والحاصل: أنّ الشفاعة القيادية شفاعة بالمعنى اللغوي، فإنّ المكلفين بضم هداية القرآن وتوجيهات الأنبياء والأئمّة إلى إراداتهم وطلباتهم، يفوزون بالسعادة ويصلون إلى أرقى المقامات في الحياة الأخروية ويتخلّصون من تبعات المعاصي ولوازمها.
فالمكلف وحده لا يصل إلى هذه المقامات، ولا يتخلص من تبعات المعاصي، كما أنّ خطاب القرآن والأنبياء وحده من دون أن يكون هناك من يسمع قولهم ويلبّي نداءهم لا يكون له أثر وإنّما يؤثر إذا انضمّ عمل المكلف إلى هدايتهم، وهدايتهم إلى عمل المكلف فعندئذ تتحقق هذه الغاية.
وبهذا تبيّن أنّ هذه الشفاعة لغوية، لا تمت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة، وذلك لأنّ جميع هذه الأمور، أعني اتّباع المكلف وقيادة الأنبياء وهداية القرآن، غير متحققة إلّا في الظروف الدنيوية وإن كانت تظهر النتيجة التامة في الحياة الأخروية، والشفاعة المصطلحة عبارة عن تحقق الشفاعة في الحياة الأخروية وظهور نتائجها فيها، وعندئذ يكون بين الشفاعتين بون بعيد.
والدليل على أنّ ظرف الشفاعة المصطلحة هو الحياة الأخروية: ما ورد في القرآن الكريم، حيث عرف ظرفها اليوم الأخروي، إذ قال سبحانه: ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ )[9].
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ )[10] وقال سبحانه: ( يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً )[11] وقال سبحانه: ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلا مَن رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِيزُ الرَحِيمُ )[12].
فأنت إذا لاحظت هذه الآيات وأمعنت النظر في كلمة ( يَوْمَ ) التي وردت في هذه الآيات مكررةً، تقف على أنّ ظرف إعمال الشفاعة وتحققها وظهور نتائجهاجميعاً إنّما هو الحياة الأخروية، أعني اليوم الموعود الذي وعده الله لجميع الناس.
وأمّا الشفاعة القيادية فنفس الشفاعة وتحقّقها وتكوّنها في الحياة الدنيا وإنّما تتحقّق نتائجها وتظهر آثارها في الحياة الأخروية فكيف يصح أن تفسّر إحدى الشفاعتين بالأخرى ؟!
والذي يكشف عن ذلك هو أنّ بعض الآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها إنّما وردت في نفي عقيدة اليهود القائلين بالشفاعة الباطلة، فأراد القرآن بنصوصه إخراج أمر الشفاعة بصورة صحيحة لا تأباه الفطرة، ولا تنخرم به الأصول العقلية، فبما أنّ اليهود يعتقدون بأنّ انتسابهم إلى الأنبياء يوجب أن لا تمسّهم النار يوم القيامة إلّا أياماً معدودة، جاء القرآن يفنّد هذه المزعمة بنفي الشفاعة المطلقة المحررة من كل قيد وإثبات شفاعة محدودة ومقيّدة، وعلى ذلك فالنفي والإثبات في آيات الشفاعة لا يردان على المورد الواحد إلّا بجعل ظرف تلك الشفاعة هو يوم القيامة والحياة الأخروية.
وعلى ذلك لا ينبغي لمفسّرٍ إرجاع الآيات المربوطة بالشفاعة، إلى الشفاعة القيادية، التي لا ترتبط بعقيدة اليهود في أمر الشفاعة وليس لها ظرف إلّا هذه الحياة الدنيوية.
أضف إلى ذلك أنّ القرآن يعرّف الملائكة بأنّهم من الشفعاء ويقول سبحانه: ( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ )[13] ومن المعلوم أنّ الشفاعة الممكنة من الملائكة في حق الإنسان إنّما هي الشفاعة المصطلحة، لا القيادية فإنّ البشر العادي لا يقدر على الاستنارة والاستفادة من الملك، ولا يمكن للملك أن يتكفل قيادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا.
وهذه الوجوه وغيرها تفنّد زعم من فسّر الشفاعة الواردة في القرآن الكريم بالشفاعة القيادية، منهم الشيخ الطنطاوي في تفسيره، فإنّه لما لم يتوفّق لحل مشاكل الشفاعة التي اخترعتها بعض العقول المنحرفة في أمر الولاية، صار إلى تفسير آياتها بالشفاعة القيادية، وأخذ يفسرها بتعاليم الأنبياء وهداية القرآن التي يصل بها الإنسان إلى الفوز والسعادة، ويتخلّص بها من العذاب حيث قال :
إنّ شفاعة الأنبياء ليس من قبيل الهبات المالية ولا الوظائف الإدارية وإنّما هي نفحات علمية وأخلاق حكمية وآداب نبوية[14].
فَمَن فَقِهَ ما قالوه واتّبع ما رسموه واستثمر من بذور الشفاعة ما بذروه، تمت له الشفاعة ودخل مع الجماعة وليس هذا القول بمخالف أهل السنّة ولا المعتزلة، فإنّ خروج العاصي من النار بالشفاعة أو إبعاده عنها قبل الدخول وكذلك زيادة الحسنات في الأعمال للصالحين، كل هذا جاء من شفاعته واتّباعه بل كل ثواب فإنّما هو بسبب ذلك وهكذا كل نجاة، فإنّه صلى الله عليه وآله لو لم يأت لنا بالشريعة لكنّا أقرب إلى الحيوان فصرنا باتّباعه داخلين في شفاعته، ولا يكون ذلك إلّا باتّباعه ولا ننال إلّا ما استعددنا له.
3. الشفاعة المصطلحة
وحقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلّا أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده، وليس هذا بأمر غريب فكما أنّ الهداية الإلهية التي هي من فيوضه سبحانه، تصل إلى عباده في هذه الدنيا من طريق أنبيائه وكتبه، فهكذا تصل مغفرته سبحانه وغفرانه إلى المذنبين والعصاة يوم القيامة من عباده عن ذلك الطريق.
وإن شئت قلت: إنّ إرادته الحكيمة جرت في صفحة الوجود أن يتحقق كل شيء من طريق الأسباب الخاصة، والعلل المعينة فكما أنّ رحمته التي وسعت كل شيء تصل إلى عباده في الحياة الدنيوية، عن طرق خاصة وعلل طبيعية يلمسها كل من فتح عينه على الكون، فكذلك رحمته المعنوية ومغفرته الوسيعة تصل في الحياة الأخروية إلى عباده عن طريق علل وأسباب خاصة ومن تلك الأسباب، أولياؤه وصفوة خلقه، ودعاؤهم وطلباتهم.
وما ذلك إلّا لأنّ الله سبحانه قد جعل لكل شيء سبباً وقضى أن لا يصدر المسبب إلّا بتوسط أسبابه، فدار الوجود وصفحة الكون مدار الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات، وقد جرت عليه مشيئته وإرادته.
أضف إلى ذلك أنّ وصول فيضه عن طريق أوليائه إلى عباده، تكريم للأولياء، وإظهار لمقامهم ونوع مثوبة لهم بالنسبة إلى طاعتهم وتضحياتهم، في طريق الحق، وإبلاغ رسالاته وأوامره.
ولا بعد في أنّ يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة عن طريق خيرة عباده فإنّ الله سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سبباً، ونص بذلك في بعض آياته فنرى أنّ أبناء يعقوب لما عادوا خاضعين، رجعوا إلى أبيهم وقالوا له: ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ )[15] فأجابهم يعقوب بقوله: ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ )[16].
وليس يعقوب وحيداً في هذا الباب بل النبي الأكرم أحد من يستجاب دعاؤه في حق العصاة قال سبحانه: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً )[17].
وهذه الآيات ونظائرها مما لم نذكرها مثل قوله: ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ )[18] تدل على أنّ مغفرته سبحانه قد تصل إلى عباده بتوسيط واسطة كالأنبياء، وقد تصل بلا توسيط واسطة، كما يفصح عنه سبحانه بقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )[19]، وقوله: ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ )[20] إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ توبة العبد تجلب المغفرة بلا واسطة أحد وقد تصل بتوسيط واسطة هي من أعز عباده وأفضل خليقته وبريته.
وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق وبخاصة دعاء الصالحين من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة والمعلول، ولا تنحصر العلة في العلل الواقعة في إطار الحس، فإنّ في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا وحواسنا بل قد تكون بعيدة حتى عن تفكيرنا، يقول سبحانه: ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً)[21].
فما المراد من ( المُدَبِّرَاتِ أَمْراً ) ؟ أهي مختصة بالمدبرات الطبيعية المادية، أو المراد هو الأعم منها ؟ فقد روي عن أمير المؤمنين تفسيرها بالملائكة الأقوياء، الذين عهد الله إليهم تدبير الكون والحياة بإذنه سبحانه، فكما أنّ هذه المدبرات يجب الإيمان بها وان لم تعلم كيفية تدبيرها وحقيقة تأثيرها، فكذلك الدعاء يجب الإيمان بتأثيره في جلب المغفرة، ودفع العذاب وان لم تعلم كيفية تأثيره.
ويشير إلى ذلك ما روي عن النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله حيث سئل عن الأحراز التي يتداولها سواد الناس يقصدون بها الاستشفاء، وهل أنّها تستطيع أن تغير القدر أو لا ؟ فأجاب صلىاللهعليهوآله: « هي من قدر الله »[22]. فأخبر بهذا عن أنّ الدعاء أيضاً جزء من القدر الإلهي، فكما قدر أن يشفى المريض بسبب الداوء كذلك قدر أن يشفى بالدعاء.
ثم إنّ العلّامة الطباطبائي رضوان الله عليه قد أوضح كيفية تأثير الشفاعة في جلب الغفران ودفع العذاب بقوله: « إنّ الشفيع إنّما يحكّم بعض العوامل المربوطة بالمورد، المؤثرة في رفع العقاب مثلاً من صفات المشفوع عنده ( أي الله سبحانه ) على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته ( إلى أن قال: ) ومن هنا يظهر أنّ الشفاعة من مصاديق المسببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الأوّل ومسبّبه.
وإن شئت قلت: إنّ الشفيع يستفيد من صفات الله العليا من الرحمة والخلق والإحياء والرزق وغير ذلك في إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه، فكما أنّ الشفاعة التكوينية ( التي مر ذكرها وشرحها في القسم الأوّل من الشفاعة ) ليست إلّا توسط العلل والأسباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها كما يفصح عنه قوله سبحانه: ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ )[23] فكذلك الشفاعة المصطلحة فإنّ الآيات تثبت الشفاعة لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء، فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبداً من عباده ساءت حاله بالمعصية وشملته بلية العقوبة، ولله الملك وهو القائل عز من قائل: ( فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ )[24]. [25]
وبذلك ظهر أنّ الشفاعة المصطلحة قسم من الشفاعة التكوينية، بمعنى تأثير دعاء النبي ومسألته في جلب الغفران بتوسيط صفاته العليا في هذا الأمر.
أضف إلى ذلك: انّ تأثير الشفاعة في جلب الغفران ونزول الفيض، لا يحتاج إلى هذا التحليل أساساً، فإنّ الله سبحانه هو مالك يوم الدين وله الملك وله الأمر، فكما أنّ له إحباط عمل الكفار والمنافقين إذ يقول سبحانه: ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنثُوراً )[26] وقال سبحانه: ( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ )[27] فكذلك له أن يغفر من ذنوب عباده ما شاء ولمن شاء وبما شاء إذ يقول: ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ )، والآية واردة في غير مورد الإيمان والتوبة فإنّ الإيمان والتوبة، يغفر بهما الشرك أيضاً.
فكما أنّ له تكثير القليل من العمل قال سبحانه: ( أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَرَّتَيْنِ ) وقال سبحانه: ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) كذلك له أن يجعل المعدوم من العمل موجوداً قال سبحانه: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِنْ عَمَلِهِم مِن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ).
وهذه الآية تصرح بأنّ ثواب العمل يصل إلى ذرية الإنسان أيضاً وإن لم تفعل هي بنفسها.
ولا يتوهم من هذه الآيات أنّ المغفرة والعقاب لا يخضعان لقانون بل الله يفعل ما يفعل بملاكات ومصالح مقتضية خفية علينا، ولتكن من ذلك شفاعة أوليائه وتوسط صفوة عباده في هذا المورد.
الهوامش:
[1] فاطر: 15 ـ 17.
[2] محمد: 38.
[3] القصص: 24.
[4] يونس: 3.
[5] الميزان: 10 / 6 ـ 7.
[6] الأنعام: 51.
[7] مجمع البيان: 2 / 304.
[8] الكافي: 2 / 238.
[9] البقرة: 48.
[10] البقرة: 254.
[11] طه: 109.
[12] الدخان: 41 ـ 42.
[13] النجم: 26.
[14] ) تفسير الطنطاوي: 1 / 69 ـ 70.
[15] يوسف: 97.
[16] يوسف: 98.
[17] النساء: 64.
[18] التوبة: 103.
[19] التحريم: 8.
[20] هود: 90.
[21] النازعات: 1 ـ 5.
[22] ) التاج الجامع للأصول: 3 / 178 ـ 179. وروى الصدوق عن الإمام الصادق عليهالسلام عندما سئل عن الرقى: أتدفع من القدر شيئاً ؟ فقال: « هي من القدر ». راجع توحيد الصدوق: 389.
[23] يونس: 3.
[24] الفرقان: 70.
[25] الميزان: 1 / 161 ـ 163 بتلخيص.
[26] الفرقان: 23.
[27] محمد: 9.