يعرف عن أبناء المذهب الجعفري بربطهم الخرق السوداء والخضراء وما شاكلها في أياديهم وحاجياتهم الخاصّة بعد مسحها أو ربطها بالشباك المقدس لضريح الأئمة المعصومين عليهم السلام، دون أدنى معرفة بأصل هذه العادة، ويُسألون كثيراً عن هذه العادة من قبل الآخرين.
في هذه المقالة، سنستعرض منشأ هذه الظاهرة ومشروعيتها..
أولياء الله أحياء
إنّ الشيعة بل المسلمين جميعاً، يعتقدون بحياة الأولياء بعد الموت، ودليلهم في ذلك أدلّة كثيرة، منها قوله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[1] ، هذا حال الشهداء، فكيف بأئمّة آل البيت عليهم السلام فهم شهداء وأولياء.
فاعتقاد حياتهم ممّا لاشكّ فيه ولا ريب، وإذا كان الأمر كذلك، فإنّهم يرون ويسمعون من زارهم، ومن سألهم وهم في قبورهم هذه كرامة ومنزلة وهبها الله لهم تعظيماً لمقامهم وشرفهم.
ومن هنا، فإنّ الشيعة يقفون على قبورهم، ويسألون الله بحقّهم، ويدعونه فيستجاب لهم، فإنّ الله قد جعل لبعض الأماكن شرفاً ومنزلة، فأحبّ أن يدعوه المؤمن في هذه الأماكن المقدّسة، كما أحبّ أن يدعوه عند مساجده وبقاعه المشرّفة.
وبذلك فإنّ زائري قبورهم يستحصلون من قبورهم وضرائحهم البركة، ويتعاملون معهم أحياءً لا أمواتاً، لذا فإنّ أضرحتهم قد حلّت بها البركة، وأنّ لهذه الأضرحة آثاراً كما لأجسادهم الشريفة، فيجعلون ما مسّ أضرحتهم مورداً للاستشفاء بإذن الله تعالى، وهذه الخرق السوداء والخضراء حينما تمسّ هذه الأضرحة، يعتقد الناس ببركتها، فتكون لهم حرزاً لطلب الشفاء مثلاً.
خديجة (ع) تتبرك ببردة النبي (ص)
وهذه حالة من حالات اعتقاد الناس بحياة الأئمّة عليهم السلام بعد الموت، فهم يتعاملون معهم أحياءً لا أمواتاً.
ولهذه الحالات نظائر قد حدثت في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله، والأئمّة عليهم السلام كذلك، فالروايات تشير إلى أنّ خديجة بنت خويلد عليها السلام قد طلبت من النبيّ صلى الله عليه وآله أن يكفّنها ببردته تبرّكاً بها، ولتحميها من هول المطّلع، ومن القبر وحالاته، وفعلاً فقد استجاب لذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فكفّنها ببردته[2].
وهذا زهير بن أبي سلمى خلع عليه رسول الله صلى الله عليه وآله بردته فقبّلها متبرّكاً بها،
بعد أن مدحه بقصيدته التي سمّيت بالبردة.
والكميت الأسدي الشاعر المعروف، حين ألقى قصيدته عند الإمام الباقر عليه السلام أعطاه الإمام مالاً، فرفض الكميت أخذه وقال: ما مدحتكم للدنيا، فإنّ جزائي أُريده من الله تعالى، وطلب منه قميصه أن يعطيه تبرّكاً بهذا القميص الذي مسّ جسد الإمام عليه السلام، وفعلاً فقد أعطى الإمام قميصه[3].
ودعبل الخزاعي حين أنشد قصيدته عند الإمام الرضا عليه السلام، قدّم الإمام عليه السلام له عطاءً جزيلاً فرفضه، وطلب منه جبّته وقال: لتقيني من أهوال القبر يا بن رسول الله[4].
وفعلاً أعطاه جبّته، فلمّا وصل بغداد كانت له جارية قد شكت عينها، وأصابها العمى، فمسح بفاضل جبّة الإمام على عينها، فزال ما بها من ألمٍ وعمى.
كلّ هذه شواهد على إقرار الأئمّة عليهم السلام بما اعتقده شيعتهم.
مضافاً إلى ما كان عمر بن الخطّاب يتبرّك بالحجر الأسود ويقبّله[5]، مع أنّه حجر، وضريح الإمام مشرّف بما حواه من جسد الإمام عليه السلام، كما أنّ غلاف القرآن منزلته تأتي ممّا يحويه من كلام الله تعالى.
والذي نريد قوله: إنّ اعتقاد الشيعة بشرف هذه الأضرحة، واستحصال البركة بكلّ ما يمسّ هذه الأضرحة من خرقة خضراء أو غيرها، ويتمّ الاعتقاد بأنّ الله تعالى لمنزلة هذا الإمام، قد جعل سبب الشفاء والبركة لما يعتقده الإنسان بهذا الخرقة.
على أنّنا نودّ التنبيه إلى أنّ لفّ هذه الخرق ليس من الضروريّ أن تكون من ضرورات مذهبنا، بل هي حالة اعتقادية يعتقدها الشيعة لحسن ظنّهم بالله، واعتقادهم بمنزلة الإمام عليه السلام، ويمارسونها ليعطيهم الله ذلك على حسب ما يعتقدونه، وليس في ذلك ما يخالف الكتاب أو السنّة، بل العقل كذلك.
ومن ثمّ ما تعارف عليه المسلمون من التبرّك بما خلّفه رسول الله صلى الله عليه وآله من قميصه وشعره، والمسلمون جميعاً يروون قصّة الرجل الذي أحجم رسول الله صلى الله عليه وآله فبعد حجامته له شرب ذلك الدم، فسأله النبيّ صلى الله عليه وآله: (أين ألقيت الدم)؟ فقال: شربته يا رسول الله، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك، ولكن قال له: (إنّ جسدك لم تمسّه النار أبداً)[6]، ممّا يشير إلى أنّ لدمه صلى الله عليه وآله خصوصية، وعدم مسّ ذلك الجسد الذي اختلط بدم رسول الله صلى الله عليه وآله.
الهوامش:
[1] آل عمران: 169.
[2] شجرة طوبى 2 / 235.
[3] مناقب آل أبي طالب 3 / 329.
[4] الأمالي للشيخ الطوسيّ: 359.
[5] مسند أحمد 1 / 51، صحيح البخاريّ 2 / 162، صحيح مسلم 4 / 66.
[6] 1 ـ المبسوط للسرخسيّ 3 / 69.