عدد الصفحات
عدد الصفحات
عدد الصفحات
عدد الصفحات
عدد الصفحات
عدد الصفحات
عدد الصفحات
عدد الصفحات
وقد وردت النصوص الشريفة عن المعصومين (صلوات الله عليهم) استحباب إحياء هذه الليلة العظيمة بتلاوة آيات من الذكر الحكيم وزيارة المشاهد المشرفة لقبور أهل البيت (عليهم السلام) لا سيما قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، ففي الروايات الكثيرة انه اذا كانت ليلة القدر التي يفرق فيها كل امر حكيم، ينادي مناد من بطنان العرش الى السماء السابعة: ان الله عزوجل قد غفر لمن أتى قبر الحسين عليه السلام.
غير أن هذه الليلة المباركة قد أخفاها الله تعالى، ولذا هي تطلب في ليلتين أو ثلاث ليالٍ، فعن القاسم بن محمد، عن علي، قال كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له أبو بصير ما الليلة التي يرجى فيها ما يرجى قال في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين. قال فإن لم أقو على كلتيهما قال ما أيسر ليلتين فيما تطلب قال قلت فربما رأينا الهلال عندنا، وجاءنا من يخبر بخلاف ذلك في أرض أخرى فقال ما أيسر أربع ليل تطلبها فيها قلت جعلت فداك، ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني فقال إن ذلك ليقال. قلت جعلت فداك، إن سليمان بن خالد روى في تسع عشرة يكتب وفد الحاج. فقال لي يا أبا محمد، يكتب وفد الحاج في ليلة القدر، والمنايا والبلايا والأرزاق، وما يكون إلى مثلها في قابل، فاطلبها في إحدى وثلاث، وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة، وأحيهما إن استطعت إلى النور.
لماذا لم تحدد ليلة واحدة؟والسؤال هنا لماذا لم يحدد الإمام (عليه السلام) للسائل في أي ليلة من شهر رمضان هي ليلة القدر على الرغم من إلحاح السائل؟
لعلنا نقتنص الإجابة من خلال بعض القرائن التي تحيط بأجواء الروايات الواردة بهذه المسألة فنخرج بنتيجة مفادها:
يمكن أن يكون تعمد الإبهام راجع الى توجيه الناس حول الاهتمام بمجموع تلك الليالي المباركة، مما يعني أنها ستحيا جميعها بالتلاوة والأذكار والصلوات وهي عين ما يطلبه المولى عزوجل حيث دلت آيات الذكر الحكيم على أن العبد لا بد أن يلتجأ الى الله تعالى في السراء والضراء.
وقد يقال مع هذا الذي تقدم إلا أنه ليس سبباً كافياً لإخفاء هذه الليلة، فالدعاء مستحب على أي حال.
يمكن القول إن الله تعالى كما قد أخفى غضبه في مجموعة من المعاصي ليتجنب الناس جميع أنواع المعاصي، حتى ورد (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت)، وكما أن الأولياء قد أخفاهم الله بين العباد حتى يكون جميع العباد لهم حرمة، وكما أخفى الآجال فلا يدري المرء متى تحين ساعته الغرض منه أن يكون مترقباً للموت في أي لحظة ومكان، فكذلك أخفى تلك الليلة بين مجموعة من الليالي ليطلبها العباد طلباً حثيثاً ويجتهدوا فيها في التلاوة والذكر والصلاة، لأن الناس لو علموا فضل هذه الليلة وأثرها التكويني على مستقبلهم لاستسهلوا طلبها في عموم السنة لا في ليلتين أو ثلاث.
فأما عن الأثر التكويني المترتب على هذه الليلة فقد ورد عن حُمْرَانَ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا جَعْفَرٍ (الباقر) (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ...).
قَالَ : "نَعَمْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَ هِيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فَلَمْ يُنْزَلِ الْقُرْآنُ إِلَّا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) قَالَ: يُقَدَّرُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ خَيْرٍ وَ شَرٍّ، وَ طَاعَةٍ وَ مَعْصِيَةٍ، وَ مَوْلُودٍ وَ أَجَلٍ أَوْ رِزْقٍ . فَمَا قُدِّرَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَقُضِيَ فَهُوَ الْمَحْتُومُ وَلِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ الْمَشِيئَةُ ".
قَالَ قُلْتُ: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أَيُّ شَيْءٍ عُنِيَ بِذَلِكَ؟
فَقَالَ: "الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ، خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَلَوْ لَا مَا يُضَاعِفُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَا بَلَغُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُ لَهُمُ الْحَسَنَاتِ بِحُبِّنَا".
وأما عن فضل العمل فيها فقد ورد عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالُوا قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا سَعِيداً السَّمَّانَ كَيْفَ يَكُونُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْراً مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قَالَ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
الأشياء – هذه الليلة - تبدو لناظرها على غير هيأتها، والأمور تجري في غير سمتها، متباعدة عن طبائعها، منافرة لعاداتها..
والأحداث تأبى أن تسير قاطعة آنات الزمان، ولعل في الفَلَك رغبة في التوقف، لولا إرادة الله تعالى القاهرة. حتى الليل، أتمثله وقد غشيه ليل آخر، لا ينقشع عن الناس بصباح..
وفي بيت أمير المؤمنين (ع)، المولى على غير ما اعتاده أبناؤه وأهله، يخرج ساعة بعد ساعة، يقلِّب طَرْفه في السماء، وينظر في الكواكب، ويقول "اللهم بارك لي في الموت". حتى أرقت ابنته أم كلثوم معه.
خائض الأهوال ومضرج الأبطال، هذ الليلة قلق متململ.. ويستعد(ع) للخروج إلى المسجد، لكن في غير الوقت الذي اعتاد أن يخرج فيه..
نزل إلى صحن الدار، وإذا بالإوز خرجن وراءه يصحن في وجهه، وكنَّ قبل تلك الليل لم يصحْنَ. حتى الجمادات - هذه الليلة - لم يكن بها رغبة في أن يطوي الليل نفسه..
وحين همَّ المولى بالخروج، لم تطاوع الباب نفسه دون أن تعلق بمئزره، وكأنه يقول له: لقد اجتزتني أيها المولى مراراً وكراراً راجلاً، أتوسل إليك أن لا تخرج وتعود إليَّ محمولاً..
ويتوجه نحو المسجد في بهيم الليل، ولم يعهد أبو محمد الحسن(ع) خروج أبيه في مثل هذا الوقت. ولم نسمع أن أمير المؤمنين (ع) ردَّ طلبا لابنه السبط الأكبر، ولكن في هذه الليلة، ذهبت محاولات أبي محمد (ع) أدراج الرياح في إقناع أبيه (ع) أن يعود إلى المنزل..
ويدخل المولى المسجد، والقناديل التي وُضِعت لتملأ أجواء المكان ضياء قد خمد ضوؤها. ويمر على ابن ملجم (لعنه الله) فيراه نائما على غير الهيأة التي ينبغي للنائم أن يكون عليها، فهو نائم على وجهه، وقد أخفى تحت ثيابه ما (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)، يُقدِّم له النصح في تغيير هيأة نومه، وهو أعلم بما خبَّأ تحت ثوبه..
ويرتقي المئذنة، ويؤذن للفجر، وليس في جدران الكوفة رغبة أن ترد صدى صوت أمير المؤمنين (ع) كما كانت تفعل قبلُ، بل تود لو تحتضن ترددات صوته المقدس بين آجرها وطينها..
ويقف الإمام (ع) يصلي في محرابه، منقطعا بكُلِّه إلى الله تعالى، وصوت المحراب، الذي تسمعه الأشياء كلها - خلا الإنسان - يرن في أصداء الوجود قائلا: وداعا سيدي أمير المؤمنين..
وينزل السيف على رأس المولى إلى حيث موضع سجوده، وقد اختلطت دموع السيف بدم رأس الإمام (ع) معتذرا قائلا: أعتذر سيدي، فإن الأمر خارج عن إرادتي، فلست إلا آلة بيد أشقى الأشقياء..
ويعلو صوت جبرئيل (ع) على جميع الأصوات معلنا للناس حزن أهل السماء على سيد أهل الأرض: تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتل ابن عم المصطفى، قتل الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى، قُتل والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء.
ويهتك الفجر ستر الظلام ليعلن للعالم يوم حداد بمصاب سيد الوصيين.. ويجتمع على باب دار الإمام (ع) لفيف من الأرامل واليتامى، ولسان حالهم: يا أمير المؤمنين، نقسم عليك بمحمد وفاطمة (صلوات الله عليهما) أن لا تفجعنا بفراقك، فهذه العشر من شهر رمضان أواخره، وقد أزف العيد.
فمن يدخل الفرحة علينا؟
ومن يحنو على ضعيفنا؟
ومن يمسح على رأس صغيرنا؟
ومن يتفقد حالنا؟
ومن يذرف دموعه رحمة لنا؟
مصابنا بك مصابان: الأول بفقدك، والثاني بضيعتنا بعدك.
*نقلاً عن النبأ
هل تريد أن يسامحك الرب على إفراطك في معصيته؟ هل تبحث عن ثروة؟ عن حياة طيبة خالية من المشاكل؟.. أكتب أمانيك كلها، وانقطع إلى الله في ليالي القدر الثلاث أو في إحداهن، ومن ثم اطلب منه تحقيق ما تتمنى وحدد مصير القادم من حياتك، فإنها ليلة استثنائية تنعدم فيها المسافة بين الأرض والسماء.
نعم، إنها ليلة تحديد المصير، وليس من الحكمة أبداً أن يدخل الإنسان هذه الليلة ويخرج منها دون أن يحقق أي انجاز أخروي أو يستثمر ساعاتها بطلب المزيد من نعيم الدنيا. إنها فرصة وطبيعة الإنسان استغلال الفرص دائماً فلا تضيعها.
في العشر الأواخر من شهر رمضان، كان رسول الله (ص)، كما يروي علي بن أبي طالب (ع)، يطوي "فراشه ويشد مئزره" استعداداً لهذه الليالي التي لا ينبغي أن تمر مرور الكرام على أي إنسان مؤمن.
يحدثنا علي بن أبي طالب (ع) عن إجراءات أشد كان يأتي بها رسول الله من أجل إحياء هذه الليالي العظيمة، يقول: "كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وعِشْرِينَ، وكَانَ يَرُشُّ وُجُوهَ النِّيَامِ بِالْمَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ".
إذاً.. هي ليلة جديرة بالاهتمام حتى من قبل الأنبياء الذين نعرفهم نحن البشر كمخلوقات نورانية لا يخطئون ولا يقترفون ذنباً أبداً، ورغم ذلك يصر سيدهم محمد (ص) على إحياء هذه الليلة مع عائلته رغبةً بما فيها.
اليقظة في هذه الليلة تعني ألا تعيش لحظة الحرمان التي يجتهد كل إنسان بالهروب من الشعور بألمها، وهذا ما تبيّنه لنا سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء (ع)، التي تقول: " مَحْرُومٌ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا" -أي ليلة القدر-، ولهذا كانت لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة أسوة بأبيها، وفي الرواية أنها كانت "تداويهم بقلة الطعام وتتأهب لها -ليلة القدر- من النهار.
وانت تتلو قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ستعرف جيداً إنها ليلة إزاء عمرك كله جاءت لتمحو كل ما كتبناه من شقاء في ذاكرتنا الخفية التي لا يعرفها سوى الله وملائكته. ألف شهر يقابلها 83 عاماً، وهو المعدل الطبيعي لعمر أي إنسان، وكأن الله يريد أن يقول لها: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا.. لا تيأسوا.. إليكم هذا العرض الخاص قيام ليلة واحدة ثمنٌ لغفران ذنوب عشرات السنين".
ليلة واحدة، كفيلة بنسيان ألم الضمير وأذى النفس وهما يرددان على مسامعك كل لحظة ذات القائمة التي تضم أعداداً هائلة من الأخطاء التي لا تغتفر ولا يمكن نسيانها أو حتى إصلاحها من دون هذه الليلة.
الدعاء، نجم ساطعٌ هذه، إنه قارب النجاة لنا جميعاً، الحبل الذي يربطنا بالله ويمنحنها فرصة الشعور بقربه. في ليلة القدر ينبغي ألاّ نمل أبداً من ترديد ما نعرفه من الأدعية المأثورة وغيرها. ندعو لأقاربنا لأصدقائنا ولخلاص شعوبنا مما تمر به من مآسٍ باتت تهدم حياتنا وتهددنا بالزوال.
وإذا ما نال منك التعب أو الملل أو التكاسل وانت تطوي ساعات الليل متهجداً متبتلاً، فحاول أن تكون ذاكراً لربك داعياً إيها على أي هيئة تستسيغها او تحبها، فإن أجهدتك صلاة مئة ركعة وأنت قائم، حاول أن تؤدي ما تبقى منها وأنت جالس، وإن لم تستطع أيضاً فعلى فراشك، كما يفصل ذلك الإمام الصادق (ع) لأحد أصحابه، وكان يفترض في اسئلته عدم القدرة على قيام ليلة القدر وإحيائها، لكن الإمام كان يشدد عليه في كل إجاباته بضرورة إحياء هذه الليلة.
أخيراً.. سيزول تعبك وتزول آلامك كلها عندما تنظر إلى ليلة القدر وإحيائها من زاوية الربح والخسارة، فالعرض الإلهي السنوي مغرٍ جداً والرابح من استغل هذا العرض. من زاوية أخرى فأنا وأنت سجناء ذنوبنا وها قد جاءنا العفو والحرية بانتظارنا.
المشهد العالمي الحالي يتّسم بالتشنج، ويزداد الاحتقان على المستويين الفردي والجمعي، وما ينتج عن ذلك، حالة من الاكتئاب تصيب الفئات العمرية المختلفة من كلا الجنسين، بالأخص الشباب فهؤلاء أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بوباء الاكتئاب، فهل نحن نغالي بوصف (وباء الاكتئاب) أم أنها حقيقة يعاني منها العالم؟.
لو أجرت المؤسسات المنظمات ومراكز البحوث المعنية، مسحا عالميا للاكتئاب، وانتشاره في معظم دول العالم، فإننا سنحصل على الأدلة التي تثبت بأن الاحتقان والاكتئاب بلغا درجة الوباء، لا يقتصر ذلك على المجتمعات المتأخرة والدول القابعة في أسفل قائمة البؤس، بل حتى المجتمعات التي نعتقد بأنها مرفهة، كالدول الغربية، سنلاحظ أن نسبة الاكتئاب والعدمية وحتى الانتحار تشكل ظاهرة في هذه المجتمعات والدول.
أما الأسباب فهي تكاد تكون جلية لمن يهمه هذا الأمر، فالتراجع في الاهتمام الروحاني والتركيز على الجانب المادي الشكلي الذي لا يشمل الروح، جعل من العالم كله يعيش حالة من الاحتقان والاكتئاب، يعلو مستواها وينخفض تبعا لتطور الدول والمجتمعات، يحدث هذا في ظل صراعات قائمة ودائمة بين القوى الكبرى لديمومة قوتها وما تتطلبه حماية مصالحها وتطبيق حساباتها، النتائج غالبا ما تنعكس على الدول والشعوب الفقيرة او المتأخرة، فتظهر حالة الشعور بالعدم واللاجدوى بقوة، وتؤدي الى سيطرة ظاهرة الاكتئاب على التفكير والسلوك الفردي والجمعي في وقت واحد، كما نلاحظ ذلك بوضوح في المجتمعات الإسلامية والعربية، وكذلك في الشعوب التي لا تزال تقبع في حالة من التخبط والفوضى، إذ تنمو حالة اكتئاب لتشكل ظاهرة واضحة لدى الشباب والفئات العمرية الأخرى، لا يمكن تجاهلها أو نفيها، بل لابد من التأكيد على انتشار ظاهرة الاكتئاب حتى في المجتمعات الغربية المتطورة، حتى يكون هناك رأي عالمي لمكافحة هذه الظاهرة أو هذا الوباء، من خلال استخدام الطرق والأساليب والوسائل العلمية لحصر الشعور بالاكتئاب وتطور الاحتقان عالميا والأسباب التي تقف وراء ذلك.
مهمة مراكز البحوث والدراسات
المراكز البحثية المتخصصة يمكنها القيام بهذه المهمة، بل هي تدخل في صلب اختصاصها، وليس صحيحا أن تُترَك الأمور على عواهنها، فحالة الاكتئاب كما يصفها المعنيون، هي حالة من الحزن الشديد والمستمر ويبدو الشخص المصاب وكأنة في حداد دائم والكآبة واضحة على قسمات وجهة، نتيجة الظروف الخاصة والعامة المحزنة والأليمة التي يعيشها او يعاني منها، وقد لا يعي المريض مصدر الكآبة التي تهيمن عليه فكرا وسلوكا، وقد يشعر الإنسان انه مصاب بأمراض فاتكة لا أمل له في الشفاء منها أو انه ارتكـب خطيئة لا آمل له في المغفرة أو الغفران، يرافق ذلك شعور بالملل والاعتياد على مخلوق نراه دائما في نفس الحالات التي رأيناه فيها من قبل، أي أن الملل شعور بالاعتياد والتكرار، وآفة الاعتياد أنه يفقد المرء إحساسه بالدهشة والإثارة، كما أن التكرار يوحي بأننا أمام مشهد سبق أن رأيناه من قبل، مما تعزف عنه النفس ولا أحد فينا يحب أن يرى ما سبق أن رآه عشرات المرات، ومن أهم أعراض الاكتئاب، مزاج هابط يتظاهر بملل لا يعجبه شيء، وهبوط الروح المعنوية معظم الوقت، والانشغال بأفكار سلبية، وضعف في النشاط والطاقة، وصعوبة في التركيز واتخاذ القرار وإهمال في الدراسة، وشعور بعدم الثقة بالنفس. والابتعاد عن الآخرين، وتراجع الاهتمام بالذات وبالآخر أيضا، وهذه علّة لا ينبغي لها الاستمرار، لكن العقبات تكمن في أشكال الصراع السياسي العالمي والمحلي بمستوياته المختلفة وما ينتج عن ذلك من انعكاس على المجتمعات والافراد في شكل أمراض يكون الاحتقان والاكتئاب من أشدها.
ما هي الحلول المتاحة؟؟ إنه شهر رمضان الكريم وما يحمله معه من أجواء تنعش الأرواح وتهدّئها، وتمنحها الأمل والطمأنينة، لذا لابد من معالجة هذه الظاهرة بشهر الصوم وأجوائه خصوصا أن الاحتقان والاكتئاب قطبان يشكلان إعاقة واضحة لتنمية الفرد والمجتمع، لاسيما الطاقة الشبابية، وهكذا يأتي شهر رمضان المبارك ليشكل فرصة ذهبية للتصدي لظاهرة الاكتئاب، بسبب الأجواء الإيمانية والهدوء الروحي والنفسي الذي يعيشه الجميع في هذا الشهر المميز بتصاعد الجانب الروحي على حساب الماديات بأكملها، لذلك يعده المعنيون فرصة مهمة لمقارعة ظاهرة الاكتئاب في المجتمع الإسلامي وحتى على الصعيد العالمي، وقد ثبت علميا أن دعم الجانب الروحي ينبغي أن لا يقل من حيث المستوى والنوع عن الجانب المادي، على الرغم من أن الدول وحتى على مستوى الأفراد يكون الاهتمام بالمادة أكثر بكثير.
سبل تخفيف الاحتقان
وحين ندعو إلى استثمار شهر رمضان وأجوائه بتخفيف أو القضاء على الاحتقان، فإننا لا ننطلق من هدف ذاتي ترويجي ديني، بل هي الحقيقة التي تدعم الوجود العالمي وتجعله أكثر اتّزانا، فهذه الظاهرة تستدعي خطوات إجرائية مهمة ومتواصلة، للمعالجة على صعيد التخطيط والتنفيذ، علما أن بث روح الأمل وتعميق الإيمان في النفوس، يتطلب ظرفا نفسيا وعمليا مناسبا، وليس هناك أنسب من شهر رمضان الكريم كي نستثمره في بث روح التفاؤل، والتغيير والحماسة والحيوية في نفوس الشباب وغيرهم، لكن الأمر يتطلب جهدا منظما ومدروسا، على أن لا يقتصر ذلك على المنظمات الأهلية أو الدينية، أو بعض الجهات والشخصيات المهتمة بشكل محدود في مقارعة هذه الظاهرة، لأنها من الخطورة بمكان بحيث تتطلب جهدا استثنائيا يقارب الجهد الحكومي في كل دولة على حدة، من حيث التخطيط والتطبيق للحد او القضاء على هذه الظاهرة، وهو هدف ينبغي أن يكون ضمن مسؤولية الجميع، فتخفيف الكآبة والاحتقان على مستوى العالم مهمة ينبغي أن يتصدى لها قادة الدول الكبيرة ومن يشترك معها ويجاريها، نزولا إلى مستوى التجمعات الصغيرة وحتى الأفراد، لكن المهم هو الجانب التخطيطي والتنسيق الجمعي، حتى لا تهدر الجهود ولا تضيع سدى بسبب الارتجال، أو عدم التنسيق بين الحكومات والمنظمات والأفراد أيضا.
بالتالي في حال استثمارنا لشهر رمضان جيدا، واعتماد أجوائه للارتفاع بالمستوى الروحي، سوف يمهد للقضاء على الكآبة والاحتقان، لذلك لا يمكن التعامل بنوع من التجاهل مع ظاهرة خطيرة كهذه، تهدف إلى زرع اليأس التام في النفوس، ولا شك أننا مطالبون جميعا، ونعني بذلك المؤسسات والمنظمات والنخب، بالتعامل مع ظاهرة الاكتئاب والاحتقان بصورة علمية وعملية
في وقت واحد، ولا توجد مغالاة أو تضخيم لهذه الظاهرة، كما أن المعالجة من خلال توظيف المزايا الرمضانية هدف ينبغي أن لا يغيب عن أذهان وعقول القادة والمنظمات المستقلة التي يهمها أمر استقرار العالم والمجتمعات وتوازنها، والابتعاد عن كل ما يفاقم الأزمات عالميا، مجتمعيا، وفرديا، على أن يلجأ المجتمع العالمي وقادة الدول إلى الوسائل وسبل المعالجة الصحيحة، وفي مقدمتها رفع مكانة الروحيات وعدم التركيز على الماديات فقط.
*نقلاً عن النبأ
وقد دلت مجموعة من الروايات المباركة على هذه الحقيقة نذكر منها المجموعة التالية:
عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله في أول يوم من شهر رمضان تغل مردة الشياطين.
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ تُفَتَّحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ وَتُغَلَّقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ السَّبْعَةُ وَيُصَفَّدُ فِيهِ كُلُّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ وَيُنَادِي مُنَادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ يَا طَالِبَ الْخَيْرِ هَلُمَّ وَيَا طَالِبَ الشَّرِّ أَمْسِكْ.
وقال رسول الله (صلى الله عليه واله) إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نادى الجليل تبارك وتعالى رضوان خازن الجنة فيقول يا رضوان فيقول لبيك ربي وسعديك فيقول نجد جنتي وزينها للصائمين من أمة محمد صلى الله عليه وآله ولا تغلقها عنهم حتى ينقضي شهرهم قال ثم يقول يا مالك فيقول لبيك ربي وسعديك فيقول أغلق الجحيم عن الصائمين من أمة محمد صلى الله عليه وآله ولا تفتحها عليهم حتى ينقضي شهرهم ثم يقول لجبرئيل يا جبرئيل فيقول لبيك ربي وسعديك فيقول أنزل على الأرض فغل فيها مردة الشياطين حتى لا يفسدوا على عبادي صومهم.
وغير هذه النصوص التي لو قمنا بإحصائها طال بنا المقام، لكن ما ينبغي التركيز عليه وهو ماذا يقصد بأن الشياطين تكون مغلولة في شهر رمضان؟
في البداية لا بد أن نعرف أن الشياطين ليست من جنس الماديات حتى تغل (تقيد) فإذا عرفنا هذا تحصل عندنا أن هذا المعنى يطلق عليه تشبيه المعقول بالمحسوس لأن البشر لا يمكنه أن يتعامل مع غير الماديات وحتى تتضح عنده الصورة تشبه الأشياء الماورائية (ما وراء المادة) بالأشياء المادية كتشبيه الملائكة بأنها ذات أجنحة وغير ذلك.
إذا اتضح ذلك أقول يحتمل من تقييد الشيطان في شهر رمضان عدة احتمالات كل واحد منها له وجه:
منعهم عن التسلط1 ـ إن الإنسان مركب من مزيج قوى وهي الشهوية والغضبية والعاقلة والخيالية، فمعنى أن الشياطين مغلولة هو أن القوى العقلية تكون ناشطة في شهر رمضان على حساب بقية القوى بفضل تلاوة القرآن الكريم والأدعية.
يقول العلامة المجلسي في كتابه مرآة العقول شارحاً هذا المعنى: "كناية عن منعهم عن التسلط على المؤمنين والمخالفات الحاصلة في شهر رمضان إما عن غير المردة منهم، وإما من النفس الأمارة بالسوء، أو كناية عن أن بالصوم تنكسر القوي الشهوانية وتقوى القوة العاقلة".
ممنوعون من الحسد2 ـ عدم تسليط الشياطين على الناس بمعنى أنهم ممنوعون من حسدهم على نعمة شهر رمضان قال السيد ابن طاووس في كتاب الإقبال: "قد سألني بعض أهل الدين فقال: إنني ما يظهر لي زيادة انتفاع بمنع الشياطين لأنني أرى الحال التي كنت عليها من الغفلة قبل شهر رمضان كأنها على حالها ما نقصت بمنع أعوان الشيطان. فقلت له يحتمل أن الشياطين لو تركوا على حالهم في إطلاق العنان كانوا يحسدونكم على هذا شهر الصيام فيجتهدون في هلاككم مع الله جل جلاله، أو في الدنيا بغاية الإمكان فيكون الانتفاع بمنعهم من زيادات الأذيات والمضرات ودفعهم عما يعجز الإنسان عليه من المحذورات.
3 ـ وقد يكون المقصود من تقييد الشياطين لا عن مطلق البشر بل عن جماعة مخصوصين بحسب استحقاقهم من حيث العمل.
4 ـ أن يكون العبد له قبل شهر رمضان ذنوب قد سودت قلبه وعقله وصارت حجابا بينه وبين الله جل جلاله فلا يستبعد منه أن تكون ذنوبه السالفة كافية له في استمرار غفلته فلا يؤثر منع الشياطين عند الإنسان لعظيم مصيبته، ويمكن غير ذلك من الجواب وفي هذا كفاية لذوي الألباب.
5 ـ يحتمل أن يكون لكل شهر شياطين يختص به دون سائر الشهور، فيكون منع الشياطين في شهر رمضان يراد به شياطين هذا الشهر المذكور وغيرهم من الشياطين على حالهم مطلقين فيما يريدونه بالإنسان من الأمور فلذلك ما يظهر للإنسان سلامته من وسوسة الصدور.
وقد يعترض البعض بالقول إذا كان في شهر رمضان تقيد حركة الشياطين فكيف نرى بعض الناس يرتكب أنواع المحرمات في هذا الشهر الفضيل؟
الجواب يظهر مما تقدم ويمكن اختصاره بالقول:
أن الشياطين ليست مقيدة عن كافة الناس بل من كان ـ بحسب عمله ـ مستحقاً لأن لا يسلط عليه الشيطان.
انى لي ان افهم فلسفة قدسيتك وهلالك بدر لامس شعاشه السماوات العلى، ليرتد كغيث يحيي النفوس الصحرى، بك امتزج الانجيل بالقران، توجت النبوة بالعترة، استبشرت الارواح وذرفت الدموع، استهللت علينا بالبيعة الرضوية، ثم كان عليا عليه السلام بمنزلة هارون من موسى، مكاتيب الغدر ودعوات الكوفيين نذير شؤم لواقعة الطف الخالدة، بدرك هلال بانتصافه ولد الكرم المجتبى وأشرق الجود فيك من ارض المدينة.
كيف لي ان افك طلاسم الاحداث فيك، مابين الركعتين انبرى الباطل للحق بسيف مسموم، ليهدم بذلك اركان الهدى، وتفجع الامة بوصيها الخاتم، ليأتي القسم "فزت ورب الكعبة"، افتتحت ايامك بالمسيح وختمت معدوداتك بالاسلام، فأي ليلة عظيمة "تنزل الملائكة والروح فيها"، واحدةً من ثلاثِ ليالٍ هي الفرقان، محطات متنوعة واثار مستدامة، انه رمضان شهر الامتناع والامتثال والخضوع، صيام له فلسفة خاصة ليس مجرد تجويع. إن قول الامام الصادق عليه السلام :" ليس الصيام من الطعام والشراب، لكن إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك وبطنك وفرجك"، علامات واضحة لتعبر عن الهدف الاسمى من الصيام، ايصال الفرد الى حالة من الانعزال عن السيئات،ليس مجرد انقطاع فترة زمنية عن الاكل والشرب، شهر رمضان مدرسة تهذب الروح ينضج الفكر، تصحي الضمير.
كلنا من دون شعور تجذبنا تلك الهالة البيضاء التي يشع بها رمضان، وكأننا نستسلم لتلك المدارات طوعاً ننظم الى تلك المسيرة الممتدة منذ ان كتب الصيام على ابونا ادم الى صوم مريم الى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الى العترة الطاهرة الى يومنا هذا الى ان تقوم الساعة، فان حقل الطاقة الايجابية التي يحملها هذا الشهر الفضيل تعم العالم اجمع، اذ نرى المسلم وغيره ينصهر مع عباداته وعاداته وتقاليده، وكانها اشارة الهية بالفطرة السليمة التي خلق عليها البشر.
اذ يفسراهل العلم لعلكم تتقون في الاية "يا ايها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، بانها علة الصيام، تهدف الى ايصال المؤمنين إلى حالة التقوى من خلال العمل، فالصائم عن الطعام والشراب ويتنازل عنهما وهما أحوج شيء للإنسان، ستتولد لديه الإرادة والتقوى التي تجعله يمتنع عن المعاصي ويتجنبها.
أما إذا لم يحصل على ذلك فلا فائدة من صيامه لأن "من صام صامت جوارحه" فلا يكفي الصوم فقط عن الطعام والشراب وإنما يجب أن تصوم جوارح الإنسان عن الحرام، اذ تتعزز التقوى عندما يتفاعل المؤمن مع عبادة الصوم تفاعلاً قلبياً وروحياً ينتج منه عشقاً لهذه العبادة التي تقربه من المعشوق الحقيقي، الانسان بطبيعته يبحث عن الكمال، وان اقرب الطرق اليه هو التقرب الى الله بصفاء نية، وتوجه خالص يذيب المادية التي تعارض معنوية النفس وسير تقدمها نحو الهدف المنشود.
أي أن تكامل الإنسان يتناسب طردياً مع درجة معرفته بالله تعالى، فكلما كانت معرفته بالله تعالى أكثر كان سائراً في مدارج الكمال أكثر فأكثر، شهر رمضان المبارك يهيئ الوسائل التي تصفو بها النفس لتنال نصيبها من الكمال ومن المعارف الإلهية، والاهم من ذلك هو ديمومة التحلي باداب رمضان، ولا تكن وقتية تزول بزوال المسبب، اذ ان الانسانية بنيت على تلك الصفات واننا بامس الحاجة لكون اخلاقنا رمضانية طوال العام حتى يكون هناك تعايش سلمي له اهدافه ويعمل المجتمع بتفانٍ على ادراكها.
ويعد رمضان رسالة سلام الى الامم لايضاح الاسس والعقائد الانسانية التي جاء بها الاسلام، من الشعور بالاخر وكف الاذى وحفظ اللسان والتعامل الحسن، الشعور بالغير هي حاجة ماسة داخل المجتمع ليكون هناك نقطة التقاء عند عطاء الرحمن، اذ يجسد الجوع في الصيام اجمل صورة بطريقة مهذبة واخلاقية، ليعيش الغني حالة الفقير من الجوع والانتظار والترقب، وهو منطلق لان يسود الود والالفة بين طبقات المجتمع كافة.
كثيرون يتصورون أن شهر رمضان المبارك هو شهر مخصص للاهتمام بالجانب الروحي فقط، حيث تعم أجواء الشهر الفضيل المحافل لتلاوة آيات الذكر الحكيم في أرجاء المعمورة إلى جانب قراءة بعض الأدعية، لكن هناك جنبة ينبغي تسليط الضوء عليها، وهي مسألة التكافل الاجتماعي في شهر رمضان المبارك، والمقصود بالتكافل الاجتماعي هو كون الأفراد في المجتمع يتشاركون في المحافظة على المصالح العامة والخاصة، وكذلك الجانب الذي يعنى بدفع المفاسد والأضرار سواء كانت مادية أو معنوية، وهذا ما يولد عند كل من أفراد المجتمع الشعور أنهم بالإضافة إلى الحقوق الخاصة بهم، فإن عليهم واجبات للآخرين، وخاصة الذين ليس بمقدورهم أن يلبوا احتياجاتهم الخاصة، وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهـم.
والملاحظ أن خطبة النبي الأعظم (صلى الله عليه واله) قد احتوت على هذا المضمون في فقرات متعددة، حيث جاء في إحدى هذه الفقرات قوله "تصدَّقوا على فقرائكم و مساكينكم...".
فالمعروف أن الفقير هو من لا يملك قوت سنته والمسكين أتعس حالاً منه، فهو الذي لا يملك قوت يومه، ومن هنا ورد الحث النبوي على العناية بهذين الصنفين من الناس ـ وما اكثرهم في المجتمع ـ فكيف يوفق الإنسان بين حبه للثروة وبين تضحيته بها بلا مقابل في سبيل الناس؟ هذا التفكير هو عبارة عن عملية تغيير، وشهر رمضان يتكفل بذلك، فشهر رمضان لا يربي على الجوع والعطش فقط، بل يربينا على أن نشعر بحاجة المحرومين، وبحاجة المضطهدين والمظلومين، ويعلمنا على التضحية بما عندنا في سبيل إنعاش مجتمعاتنا، فشهر رمضان عبارة عن عملية تغيير لإحداث توازن بين الفئات المجتمعية التي تئن من الجوع والأخرى التي تئن من التخمة.
لقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع قال: وما من أهل قرية يبيت وفيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه قال - لأصحابه -: ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره جائع، فقلنا: هلكنا يا رسول الله، فقال: من فضل طعامكم ومن فضل تمركم وورقكم وخلقكم وخرقكم، تطفئون بها غضب الرب.
ولو لاحظنا هذين الحديثين لوجدنا أن شهر رمضان المبارك هو فرصة ليس فقط لتصليح التقاطع بين العبد وربه من خلال الأدعية والتوسل، وإنما هو لمعالجة التفريط بحقوق الطبقات التي تعاني الأمرين في سبيل تحصيل لقمة العيش، حيث ورد في الحديث القدسي: "الفقراء عيالي، والأغنياء وكلائي، فمن بخل بمالي على عيالي أدخله النار ولا أبالي".
وهناك طبقة أخرى ورد ذكرها في الخطبة المباركة للنبي الأعظم (صلى الله عليه واله) وهم (الأيتام) حيث قال: "وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم....".
والتحنن هو الترحم والتعطف، فاليتيم إذا كان قد فقد أباه قد بلوغه فهذا ما سيعرضه الى معاناة ومآسي جمة، فأول ما سيفقده هو العطف والحنان الذي سيوفره له الأب لو قدر له العيش، ولذا ورد النص النبوي بصيغة الوجوب، فإذا كان مجرد التحنن والتعطف على الأيتام قد افرد له الخاتم (صلى الله عليه واله) شطراً من خطبته، فما ظنك بباقي إحتياجاتهم الأساسية التي لا أقل أن منها الأكل والشرب؟!
وخصوصاً في هذا الشهر الفضيل، حيث تزداد الاحتياجات وتكثر المتطلبات.
لقد ذكر الله تعالى هذه الفئة في كتابه الكريم 23 مرة وقد عاتب في بعضها من لا يعير لهم أي اهتمام بقوله: (كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)
وكانت وصية أمير المؤمنين (سلام الله عليه) الأخيرة وهو مسجى على فراش الموت العناية بهذه الشريحة، حيث قال: "الله الله في الأيتام لا تغبوا[1] أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من عال يتيما حتى يستغني أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار".
أخيراً، هذه دعوة لتفعيل جنبة التكافل الاجتماعي -التي تتضمنها نفحات هذا الشهر المبارك- بين شرائح المجتمع لتحقيق أقل قدر من المساواة بينهم.
[1] اغبّ القوم: جاءهم يوماً وترك يوماً، أي صِلوا أفواههم بالإطعام ولا تقطعوه عنها.
منذ أن عرف الإنسان نفسه وهو يجتهد لإيجاد أفضل الطرق لتربيتها وصناعة مجد ذاتي يستدعي بدايةً أن يوفر ما يضمن -لهذه النفس- تحمل الظروف الصعبة مواجهة التحديات الكبيرة. حتى عرف الإنسان الدين الذي بدأ يفرض طرقاً لتربية الجسد والروح معاً لتحقيق هذا التطلع الفطري لدى كل إنسان.
فمثلاً كان الفرد من بني اسرائيل إذا ما اراد ان يتفرغ للعبادة والتبتل فعليه أن يؤهل نفسه مدة طويلة عبر الصيام عن الطعام والشراب وحتى الكلام، ففي العبادة تكمن كل فرص الصلاح كما يعتقد.
ومن هنا ظهرت عبر هذه الأديان صوراً واشكالاً متعددة للصيام، كالصوم عن أكل اللحم وكل ما يرتبط بمنتوج الحيوانات، وكان هناك أيضاً من يصوم بشكل متواصل تحت عنوان "صوم الوصال" لتحقيق هدف ما كنزول المطر مثلاً او حتى عودة الغائب أو أي حاجة أخرى.
وهكذا تشاركت كل الأديان في تربية الفرد عبر أشكال مختلفة من الصيام، إلى أن جاءت الفكرة الحضارية المغيرة لاعتقادات الانسان المتواضعة عبر الإسلام ونظم هذه الأشكال ووجهها بشكل صحيح ليجعل للصيام هدفاً سامياً.
وهذا يعني أن فريضة الصوم لم تكن يوماً غريبة على الناس، وإنما كانت موجودة حتى قبل أن يكتشف الإنسان الأديان، وكل ما قامت به رسالة الإسلام هو توجيه هذه الفرضية بالشكل الذي يضمن "الهدفية" في الممارسة العبادية.. ولكن ما هو هذا الهدف؟
ظاهر ممارسة الصيام الكف عن الأكل والشرب وباقي الملذات الأخرى من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وهي حالة تشبه إلى حد كبير مع فوارق بسيطة ما تقوم به باقي الأديان الأخرى، فما الذي يميز الإسلام عن غيره إذا كان هدف الصيام في الإسلام الامتناع عن الأكل والشرب والممارسة الجنسية كما يعرفه أهل اللغة والاختصاص؟
يجيب عن هذا السؤال قوله تعالى: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
إذاً.. الآية تبين أن الهدف من الصيام هو "التقوى" الذي أشار له تعالى في قوله: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، وهنا يكمن توجيه الإسلام للصبر والمعاناة في نهار الصيام وبتحويله مدرسة للتقوى.
وعندما تكون التقوى هدف الصائم ستختلف الممارسة كثيراً عن غيرها من باقي الاديان، فعندما تصوم الجوارح لا تصوم عن الحرام فقط، بل إنها تحاول أن تتجنب كل ما يلوث أجواء هذه الممارسة الإلهية الفريدة، فيصوم اللسان عن الغيبة والكذب والافتراء مثلاً، والرواية الشهيرة التي يطلب فيها رسول الله (ص) من إحداهن بتناول الطعام بعد أن اغتابت أحدهم توضح هذه الفلسفة وترسخها بقوة.
إذ يقول (ص): "كيف تكونين صائمة وقد أكلتِ لحم الناس؟"، في إشارة منه إلى الإتيان بالغيبة التي يرفضها الإسلام في الأيام الاعتيادية فكيف إذا كانت في ساعات الصوم؟
إن بلوغ هدف الصيام في شهر رمضان الكريم لن يتحقق ما لم توظف كل جارحة من جوارح الإنسان لنيل هذا الهدف وهو التقوى، فالأمر ليس بالسهولة التي نتصورها في الامتناع المعروف عن الطعام والشراب وحسب، وإنما أن تكون هنالك حالة من اليقظة المستمرة للجوارح ومحاربة حالة الشرود التي تحدث لها عبر الغضب وسوء الخلق التي يأتي بها البعض تحت ذريعة صعوبة مواصلة الصيام.
وحتى تفسيرات الأئمة عليهم السلام التي وردت في كتب الروايات الشريفة تصب في هذا الاتجاه، فعندما يقول رسول الله (ص) في احدى خطبه بمناسبة حلول شهر رمضان: "يا معشر الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غلت مردة الشياطين وفتحت أبواب السماء وأبواب الجنان وأبواب الرحمة وغلقت أبواب النار..."، فهي إشارة إلى حالة التقوى التي ستكون سائدة على المجتمع الإسلامي، والتي تفرض عبر أجواء الصيام كانعدام الأنانية أو أي تصرف سيء مصدره الشيطان.
وكذلك حينما يخبر الإمام الصادق (ع) أصحابه بأن الصيام زكاة للأجساد فهو يشير إلى بلوغ التقوى عبر هذه الوسيلة.
أخيراً.. صوم شهر رمضان فرصة للتزود بالتقوى التي تحصن الفرد في الدنيا والآخرة وتجعل منه شخصاً مختلفاً يسعى نحو الكمال.. نحن نصوم في شهر رمضان لنثور على النفس المعاندة التي طالما تحكمت بأفعالنا على مدار العام وجاء الآن شهر الصيام ليروضها.