التكنولوجيا مهما تكن فيها إيجابيات لكنها في قضية التربية وخصوصا دورها في تنشئة الأطفال كلّها سيئة، أي ليس فيها شيئا إيجابيا.
[اشترك]
فالتكنولوجيا بشكل عام كان لها تأثيرات سلبية على حياة المجتمعات، بدليل أن الناس اليوم أقل سعادة من أي وقت مضى، بل هنالك شعور متزايد بالتعاسة، نعم نحن نلاحظ أن الناس أكثر رفاهية وراحة، ويحصلون على معلومات أسرع، ولكنهم أصبحوا أكثر خوفا وقلقا من المستقبل، وذلك ان التكنولوجيا ادت إلى غياب الحالة الطبيعية في الرشد الإنساني، وبالتالي فقدان النمو الفطري عند الطفل.
فالطفل حين ينمو، لا ينمو جسده أو قلبه أو رئته أو عظامه أو رأسه فقط، وإنما ينمو أيضا بحاجة الى تطوره النفسي والمعنوي والعقلي، فيحتاج إلى حالة من الفطرية الطبيعية في حياته حتى ينمو بصورة صحيحة، لكن التكنولوجيا تمنع الطفل من النمو الفطري الطبيعي، فينمو مشوّها.
ويمكن أن تلاحظ بعض الآباء والأمهات يعطون الطفل وهو في عمر الشهور جهاز الموبايل من باب الضحك أو المزاح، فنلاحظ أن الطفل يتفاعل مع الموبايل، وإذا منعوا عنه الموبايل يبدأ بالبكاء، هم يتصورون بأنهم يلعبون ويمزحون مع الطفل، ولا يعرفون خطورة هذا الأمر، ثم بعد سنة بمجرد أن يبكي الطفل يعطوه الموبايل لكي يكف عن البكاء، وهكذا يصبح الطفل متعلقا ومدمنا على الموبايل.
في السابق كان البعض بسبب انشغالهم يعطون مخدّرا للطفل، لكي ينام أما الآن فقد أصبح جهاز الموبايل هو البديل عن المخدّر حيث يعطونه للطفل حتى يسكت، فأصبح الطفل يعيش في بعد واحد، في حين ان الطفل بحاجة الى ان يتناغم مع الطبيعة الفطرية.
فالكثير من الاطفال في الزمن التكنولوجي يصابون بالتوحّد، وقد يكون توحّدا اكتسابيا وليس بايولوجيا، فالتوحد البايولوجي هو وراثي، أما التوحد الاكتسابي فيحدث من خلال عملية التغذية الرديئة المكثفة بالمعلومات العشوائية، دون أن يكون هناك تفاعل طبيعي تدريجي قابل للهضم للطفل مع هذه المعلومات، وانفعال جبري في مسار واحد وتجاه فردي دون تفاعل مع الآخرين، فيبقى الطفل في إطار البعد الواحد للحياة، ويصبح فكره منفصلا مشوشا مضطربا، ولا يستطيع أن يحدد ولا أن يفكر ولا يتعلم ولا يتفاعل وبالتالي لايستنتج ولايفهم ولايستوعب الخارج والآخر.
لذلك يظهر التوحد بكثرة في الأجيال الجديدة، وهذا يعني أن التكنولوجيا تستلب الطفل، وتجعل هويته ضبابية هلامية سائلة، لأنه لا ينمو نموا نفسيا ومعنويا وعقليا صحيحا.
ويوصف الشخص المشوه نفسيا والمستلب في الخطاب الغربي (الزومبي)، وهو الشخص الميت الحي، فهو حي ماديا ولكنه ميت روحيا ونفسيا، وهذا تعبير عن الإنسان الجديد في زمن التكنولوجيا.
الفردية والانعزال
من الأمور التي لاحظناها أن تربية الأطفال تتجه نحو الفردية والانعزال الاجتماعي، حيث لا يحتاج إلى التفاعل الاجتماعي، ولا للعلاقات الاجتماعية، ولا للتعامل مع الناس، فتنشأ عنده حالة من الفردية الشديدة، فبعض الأطفال يكرهون الناس ولا يرغب في اللقاء بهم، وهذا ليس محصورا بالأطفال فقط، وإنما حتى بالكبار ايضا.
وهذا يتضح من التعليقات التي نقرأها في مواقع التواصل، ومنها إن الناس لا فائدة فيهم، وهذا يدل على أن التكنولوجيا جعلت الفرد أو الطفل يعيش في حالة فردية متضخمة، بل أصبح يكره المجتمع ويحقد عليه، وبالنتيجة فإن التكنولوجيا جعلته منكفئا على نفسه ومستقلا بذاته دون أن يحتاج للتفاعل مع الآخرين، وهذا كله يؤدي إلى زيادة الاكتئاب عند الإنسان.
إن أحد أسباب الكآبة هو اختلال العلاقات الاجتماعية، لذلك نلاحظ أنه أصبح الوباء الأكبر في العالم وخصوصا عند الأطفال.
غياب الخبرة الاجتماعية
كذلك سيطرة التعليم الإلكتروني وغياب الخبرة الاجتماعية، فالتعليم والتربية لا تتحقق من خلال الإلكترونيات، بل تأتي بالخبرة، ولا يكفي أن يكون ذكيا إلكترونيا، فالعلم يؤكد على اهمية التجارب الاجتماعية في التعليم السليم والمنتج، وقد ذكرت التقارير الدولية المختصة ان التعليم في جائحة كورونا كان أسوأ تعليم، فالآثار التي سوف تخلفها فجوة ثلاث سنوات من كورونا على التعليم سوف تؤثر على 30 سنة من عمر الإنسان في المستقبل.
صعود أجيال أمية جديدة من خلال فجوة كبيرة حدثت خلال ثلاث سنوات، والآن الكل يعاني من ذلك، بحسب التقارير التي اطلعتُ عليها شخصيا، وفي كل الدول هناك فجوة تشبه الفجوة الاقتصادية التي يعيش العالم تداعياتها لحد الآن، فالأزمة الاقتصادية كما يقول العلماء سببها اختلال سلاسل الامداد في زمن كورونا، كذلك حدثت نفس الفجوة في التعليم بسب غياب الخبرة الاجتماعية.
استعباد ممنهج
كذلك تؤدي التكنولوجيا بالإنسان إلى التعرض لعمليات غسيل مخ ممنهج، وتضع الإنسان (الطفل) في حالة استعباد، الآن ربما لا يمكن أن نلاحظ النتائج، لكن بعد عشر سنوات سوف تحدث كارثة اجتماعية هائلة، فالأطفال ليس من جيلنا، والآن بدأت تظهر عند بعض الناس، لكنها عند الطفل تكون أكثر من الشخص البالغ، فقد يتأثر الشخص البالغ لكن يوجد لديه جوانب معينة، بسبب التغذية السابقة.
في علم الاجتماع المعاصر يقسمون الأجيال بسبب الرقمنة، الى (جيل X- وجيل الملينيوم- وجيل z- وجيل ألفا)، والجيل الأخير نشأ في عمق الهاتف الذكي، الذي سيؤدي إلى عمليات غسيل مخ كبيرة وصناعة العيش في عالم الأوهام من دون وجود حدود لهذا العالم الوهمي، مثل المنغمسين في الألعاب الإلكترونية، فهم يُصابون بتداخل الحدود بين عالم الوجود الواقعي وعالم الاغتراب الوهمي، وحتى شبكات التواصل الاجتماعي فإنها أيضا تختزل الواقع في ابعاد افتراضية، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى ارتدادات وظهور أمراض نفسية.
المهارات الطبيعية
كذلك أيضا فقدان المهارات الطبيعية، حيث يحتاج الإنسان إلى مهارات حياتية لكي يواصل العيش، كالعمل والتعامل والتفاعل مع الآخرين، كل هذه الأمور تحتاج إلى مهارات طبيعية لمواصلة الحياة، ويمكن تدمير كل هذه المهارات الطبيعية حينما يعيش الطفل متقوقعا في العالم الإلكتروني.
كراهية الذات
كنتيجة للنقاط أعلاه يبرز غياب التقدير الذاتي للفرد، وكراهية الذات، حيث يكره الإنسان نفسه ويكره وجوده، فبعض الأطفال والشباب يعاتبون الآباء والأمهات على وجودهم في هذه الدنيا، لأنه يشعر بأنه لا يوجد له تقدير في شبكات التواصل الاجتماعي من خلال قلة الإعجابات او تعرضه للنقد والتنمر الالكتروني، وكذلك مقارنته لنفسه بالآخرين فيكون ناقما على نفسه.
وهكذا لا يكتفي بالحقد على المجتمع بل يغيب عنده التقدير الذاتي فيصبح شخصية ضعيفة وهشّة، وتتضخم في اوهامه نقاط الضعف، فلا يستطيع أن يرى نقاط القوة في داخله.
الكسل والسطحية
أيضا التكنولوجيا تجعل الطفل متطبعا على الكسل، والسطحية وعدم القدرة على استخراج مكنونات ذاته، فالإنسان عنده إمكانيات ذاتية عميقة، من حيث العقل والعاطفة والمشاعر والقدرات والمواهب الذاتية، فالتكنولوجيا تشل تفكير ومواهب الطفل وحتى في الشباب والكبار.
لكن التأثير على الطفل يكون أكبر، فتشل كل قدراته وعدم قدرته على استخراج مكنوناته الذاتية، فيصبح كسولا وسطحيا، وقد يصبح غبيا أيضا، ويجب أن لا نتصور أن الإنسان الذي يمتلك التكنولوجيا سوف يكون ذكيا، فالذكاء غير مرتبط بالمعلومات، وإنما مرتبط بابتكار الافكار والقدرة على إجادة التفكير العميق، وإظهار المشاعر الصادقة.
فالتكنولوجيا تحطم المشاعر، أو تغلقها، وتجعل الإنسان متبلّدا عاطفيا، وهكذا بالنتيجة سوف يغرق في عالم التفاهة، وهكذا نلاحظ انه كلما توغل الإنسان في عالم التكنولوجيا وعالم التواصل الإلكتروني أكثر، تحدث عنده تفاهة أكثر، وتطبيق (التيك توك) مثال كبير عن مقدار التفاهة.
فقدان اليقظة الذهنية
بالنسبة للمعالجات:
إن أهم نقطة هي اليقظة الذهنية والانتباه للمخاطر التي من الممكن أن تواجهها الأسرة، والقدرة على إدراك المخاطر وفهمها، ومن خلال تجاربي ألاحظ أن كثيرا من الناس ليسوا منتبهين إلى المخاطر الهائلة، حيث يجلس الجميع معا ولكن جميعهم ممسكين بأجهزة الموبايل ويتصفحون المواقع، فكل فرد يعيش في عالمه الخاص، وخصوصا الأطفال.
لكن على كل إنسان أن تكون لديه يقظة دائما، حتى في طبيعة ونوعية ما يأكله من طعام، أو في طبيعة حركته وتنقّله من مكان إلى آخر، فعندما يعبر الشارع يجب أن تكون عنده يقظة ذهنية، وهي القدرة على التنبّؤ والإدراك للمخاطر التي تحدث في المستقبل.
العزل التكنولوجي
لذا لابد من العودة إلى التربية الفطرية، وهناك نظرية لجان جاك روسو دعا فيها الى العودة إلى الطبيعة وعدم الانغماس في العالم الصناعي، حيث كتب كتابا عنوانه (في التربية: إميل نموذجاً) على هيئة قصة طفل، وتبدأ القصة بنشأة الطفل إميل وتنتهي بزواجه وهو في سن 25 سنة. يربي النشء على طبيعته بدون إجباره على حفظ العلوم والثقافات، بذلك يتعلم النشئ من طبيعة ميوله وبالتجربة الشخصية، وأهم ما يصبوا إليه روسو أن ينشأ في الطفل الشعور الاجتماعي.
فالمشكلات التي تسببت بها التكنولوجيا وتأثيرها السيء العميق على تشكيل شخصية الطفل قد توجب التفكير الجاد في العودة إلى التربية الطبيعية للإنسان، من خلال عزله عن عالم التكنولوجيا، إلى أن يصبح عمره 15 سنة ويصبح لديه وعيا كاملا بنفسه، في ذلك الوقت يمكن أن يدخل في عالم التكنولوجيا، قبل هذا العمر عليه أن لا يدخل هذا العالم ويبقى يتربى تربية فطرية طبيعية صحيحة، إلى أن يصبح الشاب قادرا على أن يفكر ويقرر وأن يتخذ قراره في الحياة.
التربية المعنوية
كذلك هناك الحاجة الى التربية المعنوية، وليس التربية المادية فحسب، فاليوم التربية المادية قائمة على الاستهلاك المتضخم، والاستهلاك هو أحد أسباب سيطرة التكنولوجيا علينا، التي تسوق للرفاه الزائف المتمحض بالمتعة واللذة. وإذا سيطرت الأشياء علينا فهذا يعني العبودية للتكنولوجيا، لذا يجب أن نعلم الطفل على المعنويات، وعلى تقديره لذاته، فإذا علمناه الجانب المعنوي فإننا علمناه تقديره لنفسه وذاته، وقدرته على استخراج مكنوناته الذاتية.