كتب د. علي القائمي:
التربية أمر واعٍ وعمدي، ولا يمكن للفوضوي النجاح في هذا الطريق، والذي لا يعلم ماذا عليه أن يفعل في العمل التربوي لا يستطيع الوصول إلى الهدف المطلوب، والتربية غير الواعية لا تفضي إلى نتيجة مطلوبة.
[اشترك]
إن النجاح في مسألة التربية وفقا لما دلت عليه التجارب الماضية والحاضرة مرهون ببعض الشروط التي لا تتوفر كلها لجميع الناس، إلا أن الاطلاع عليها والسعي لتحصيلها وكسبها ولو بمستوى أقل من المئة بالمئة يؤدي إلى إثراء وزيادة رونق العمل التربوي، وسوف نسعى إلى طرح نكات بشأن العوامل الإنسانية وغير الإنسانية من أجل بحث هذه الشروط.
العوامل الإنسانية: قلنا إن الإنسان يتأرجح منذ ولادته حتى نهاية عمره بین عوامل متنوعة، إنسانية، غذائية، مناخية وعوامل الماء والبرودة والحرارة و...، فيتعلم من الناس درس الأخلاق والإيمان والعمل، ومن الحيوانات العبرة ومن دوران الأرض والكرات درس التحول والتغيير والحركة والسير وعشرات النكات والمسائل الأخرى.
وأما ما هي الشروط والأركان التي يقوم عليها البناء التربوي، فجواب ذلك هو أنه يقوم على ثلاثة أركان هي الوعي والإيمان والعمل، وهذه دراسة لكل واحدة منها:
شرط الوعي:
باستطاعة كل فرد بالغ أن يتزوج فيستقر ويسكن عن هذا الطريق، ولكنه إذا أراد أن ينجب ولداً أو يقوم بالعمل فمن الضروري أن يحصل على معلومات تمثل شروط التربية، فيدخل في هذا الطريق وهو على علم، وهذا الوعي يكون في بعض المجالات، وأهمها ما يلي:
١- الوعي الديني: الناس العقلاء لديهم التزام بعقيدة ونمط فكري معين، ولكل شخص أو جماعة عقيدة ودين يعتقدون به ويعملون بتعاليمه، وليس هناك فرد لا يؤمن بأي نظام، وحتى الذين يعتبرون أنفسهم بلا دین ولا نظام. فإنهم يتبعون نظاماً وقيوداً وقاعدة وضابطة معينة.
وينبغي على العامل في مجال التربية أن يكون لديه اطلاع على عقيدته ودينه، فيعلم ماذا تقول تعاليم ذلك الدين في الأمور المختلفة، وما هو الأساس والأركان التي تقوم عليها رؤيته الكونية، وما هي أسسه العقائدية، وما هي الضوابط التي يضعها للإنسان، وما هي دعوته، وما هي فلسفته الوجودية؟
٢- هدف الحياة: يجب أن يحمل الشخص العامل في النشاط التربوي رؤية واضحة لفلسفة الحياة فيعلم الهدف من الخلق، والحياة والعمل والطعام، والهدف من تشكيل الأسرة ولماذا يموت.
ويجب أن يتضح للمربي الهدف الذي يسعى إليه في الجوانب الاقتصادية وفي السياسة والثقافة والمجتمع والحرب والسلم؟ وما هو هدفه في الحياة؟ وفي أية نقطة هو الآن؟ إلى أية نطقة يريد الوصول؟ وما هو السير الذي يريده ولماذا؟ وأي طريقة علیه استخدامها للبلوغ إلى الهدف النهائي، وكيف يعيش وكيف يموت؟
إن المعرفة بهذه المسائل ضرورية للشخص العامل في المجال التربوي، لأن الطفل يتعلم منه هذه الجوانب، والمربي ينقل إلى الصبي هذه الجوانب من خلال التعليم.
٣- الفرد المتربي: الناس ليسوا مثل إنتاج معمل من المعامل، فهم من منشأ و مبدأ واحد، لكنهم يختلفون عن بعضهم البعض، وتنتقل إلى الأفراد عوامل وظروف متنوعة بيئية واجتماعية واقتصادية وثقافية وأفكار مختلفة وطباع وأمزجة وحالات وسلوك الوالدين والأجداد بنسب متفاوتة.
ويجب أن يعلم العامل في المجال التربوي ماهية الشخص الذي يتعامل معه؟ من هو، وما هي خصائصه، وكيفية مستواه الإدراكي واستنباطه وذاكرته وقدرته وتحرکه و...؟ ويجب أن تتضح من سنين التمييز والرشد العقلاني والفكري نمط فکره ورغباته وآماله وأمنياته وذوقه ومیله إلى الأمور والمسائل الداخلية ومدى رغبته بالفنون والحرف والعلم و... حتى يعمل على سد نقاط الضعف وتقوية نقاط القوة .
٤- طريقة التربية: إن موضوع عملنا هو الإنسان وتربيته، الإنسان الذي يولد وهو يحمل ثروات وعوامل متنوعة ومتفاوتة مع الآخرين، فهو يحمل غرائز يجب توازنها ولديه جوانب فطرية يجب رشدها وتنميتها وتتوفر فيه قابليات يجب تفعيلها وأخيرا يريد السير في طريق العبودية حيث يجب أن يكون قادرة على ذلك.
إن القيام بهذه الرغبات لا يمكن من دون امتلاك مقدورات ووعي بطريق وكيفية التربية، والمربي ليس باستطاعته توجيه الأفراد المرؤوسين من دون المعرفة بالطرق والأساليب، فيعرفهم على المقررات والقوانين المرسومة ويقوم بالإحياء الفطري المهمل ويعمل من الإنسان المتعلق بنفسه وبالتراب الفردي إنساناً صافياً من العوارض المادية إنسانا ذو صميمية وإخلاص وأنس مع سائر الناس ومواس للمحرومين.
ومن ناحية أخرى عليه أن يكون عارفاً بفنون التربية وطريقة انتقال العلم إلى الأفراد، خاصة وأن الأعمار محدودة والمعلومات المطلوبة والتجارب والوعي والعلوم والفنون والابتكارات والاختراعات غير محدودة
٥- القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية والإدارية والعسكرية والاجتماعية سواء منها التي داخل مجتمع الإنسان المتربي أما خارجه والتي تؤثر فيه وتجره بشكل ما إلى المواجهة وتدفعه إلى اتخاذ موقف خاص.
إن الإنسان في العالم المعاصر يواجه عشرات المسائل، وإن الغفلة عن أي منها يؤدي إلى تعرضه إلى صدمة وكذلك تعرض سيره ومشيه الذي اختاره في الحياة، فنحن نعيش في عالم متصل بحيث انه إذا وقع نزاع واختلاف في مغرب الأرض، فإن الناس في شرقها لا يكونوا في مأمن من انعكاساته. ورغم أن وجود الحدود بين الناس قد فصل بينهم، إلا أن وجود وسائل الإعلام قد رفع الحدود من جهة أخرى وعرف بين الناس وأصبح كل منهم يؤثر ويتأثر بالآخر. والمربي إذا كان جاهلا بالزمان والمكان وما نسميه بتاريخه وثقافته فسوف لا يوفق في العمل التربوي .
٦- الوظيفة: وأخيرا فإن ما هو أهم من كل شيء بالنسبة للوالدين هو أن يعرفوا وظيفتهم وأن يعملوا بها، ويعلموا ماذا عليهم أن يفعلوا الآن وما هي الوظيفة والجهد الذي يجب القيام به.
إن الصبي المولود، يعيش في المجتمع، وعلى جميع أفراد المجتمع وليس الوالدين فقط، أن ينظروا إليه نظرة إنسانية ويعتبروه من الناحية الإسلامية، أمانة من الله.
وبرأينا أن الشخص السعيد والموفق في أمر التربية، هو الذي يعرف هذه الوظيفة ويسعى لأدائها وفقا للفكر والوعي والإيمان وعليه أن يعلم ماذا يصنع تجاه هذا الفرد الذي هو اليوم تحت إشرافه وتأثيره، وكيف يقوم بوظيفته .
شرط الإيمان :
الشرط الثاني لنجاح العاملين في مجال بناء الفرد وتغييره، وهي العقيدة والإيمان. الإيمان بالعقيدة وبالوظيفة وبظهور نتائج العمل. الإيمان هو مصدر إيجاد واستمرار كل الفضائل وسبب حصول القوة وعامل لحصول رؤية في انتخاب الطريق وفي المسير .
إن وجود الإيمان عند المربي للقيام بالتربية له أهمية حيوية، حيث يؤدي إلى اعتماد الطفل عليه، ومتابعته خطوة خطوة، ثم انه لا يمكن تجاهل تأثيره الروحي في التلاميذ. وإيمان المربي والمعلم هو كمصباح يضيء حياة الطفل ويطبعها بطابع معين. ولا يمكن انتظار حصول إضاءة مفيدة وبناءة من معلم ضعیف الإيمان وآباء فاسدي العقيدة والعبارة التي تقول ان الكلام إذا خرج من القلب استقر في القلب صحيحة إلى حد كبير خاصة للذين لديهم أرضية مساعدة، ونحن نعرف أن المدارس التربوية القائمة والتي أغلبها عبارة عن نتائج نمط فکر رنسانس، وتجديد الحياة في الغرب، قد وضعت من أجل إصلاح الجوانب المادية للإنسان ولم تهتم بالجانب المعنوي والإيماني والعقائدي للأفراد، فكانت النتيجة ظهور الفضائح وأعمال التدمير التي رأينا مظهرها في الحرب العالمية الأولى والثانية .
إن أفضل أنواع التربية، لا يعطي ثمرة مفيدة وقيمة، إذا قام به مربون لا إيمان لهم، ونحن نعلم أن تعلم المسائل في النظام التربوي الإسلامي، لا عيب فيه ولو كان من أفراد كافرين أو مشركين، ولكن علينا أن لا ننسى أن تعلم المسائل من فرد يختلف عن تسليم أمور تربية وحياة الفرد بيد إنسان مشرك، هذا أولا، وثانياً إن هذا الكلام يصدق على الذين تبلور طابعهم وشكلهم العقائدي ويتمتعون بأرضية عقائدية قوية، فيستطيعون التمييز بين الخير والشر، ولهذا فإن إعطاء أمر التربية الأشخاص من الكافرين والمشركين وأهل الوجهين والمنافقين، لا يثمر إلا ازدياد الكافرين والمنافقين.
شرط العمل:
يحصل القسم الأكثر من معلومات الإنسان واكتساباته عن طريق العمل. وهذا الأمر بصدق في الجانب المادي للتربية وفي الجانب غير المادي. وأبناؤنا يتعلمون المهارة والكفاءة في أداء العمل وكيفية بناء الأشياء وأدوات الزراعة والصناعة والمسائل ذات العلاقة بالفنون والحرف من خلال عمل المربي، وهم يرون أعمالنا ويتأسون بنا في الأدب والثقافة والأخلاق والعبادة والتقوى وحب الخير وخدمة الناس والإعانة والتعاون وحسن النية والأنانية والغرور والفساد والخيانة والصميمية والإخلاص وحب الحق والعدالة و...
وعلى هذا الأساس يمكن القول أن روح التربية تظهر في ظل العمل التربوي، والعمل يحدد قيمة الإنسان وحقيقة عمله، وإذا كان هناك جيل غير عامل أو لا يتقدم وفقا للأهداف المرسومة، فذلك بسبب أنه لم يترب للعمل ولم تتوفر له أسوة وطريقة لائقة.
المصدر: كتاب أسس التربية