ما هي حدود وصلاحيات ’آية الله الفقيه’؟

حدودنا وحدود: آية الله الفقيه

أهمُّ معرفة عمليّة يكسبها الإنسان هي معرفة الحدود؛ لا فرق بين أن يبدأ بمعرفة حدوده أولاً، أو أن يبدأ بمعرفة حدود غيره، فمعرفة أحد الحدين يستدعي معرفة الآخر.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

 وقد نُقل أنّ أحد الحكماء الذين خبرتهم رحلة الحياة الطويلة مصحوبة بتأملات عميقة، وخوض واسع في ميادين المعرفة.. سُئل هذا الحكيم: ما الذي استفدتَه من ذلك كلّه؟ فأجاب: معرفة حدودي! وكان له أن يقول: معرفة حدود غيري! فالمسألة ذات طرفين: الأنا والآخر عموماً، وفيما نحن فيه بالخصوص فالطرفان هما: المقلِّد، والمقلَّد، فمعرفة حدود الفقيه وصلاحياته تعرّفنا حدود رجوعنا إليه أيضاً.

وبكل بوضوح، وإيجاز: يمكن تحديد النطاقات التي يُرجع فيها إلى الفقيه، وترسيم العلاقة بين الطرفين: بين الفقيه المرجع، وبين العامي الراجع إليه، عبر قسمة ثنائية أساسها الحكم (ما يجب فيه الرجوع، وما لا يجب):

القسم الأوّل- في حدود العامي/المقلِّد، وهي النطاقات والمجالات التي لا يجب عليه الرجوع فيها للفقيه، وعدم وجوب الرجوع هنا يشمل حالتين: حرمة الرجوع، وجواز الرجوع، ويدخل في هذا القسم ثلاثة عناوين رئيسة: (الأصول من الاعتقادات، والمسائل الضروريات، وتشخيص الموضوعات) وتفصيل الحديث عنها كالآتي:

  •  لا تدخل أصول الدين- التي يطلب فيها حصول اليقين للمكلّف نفسه- ضمن الصلاحيات والحدود التي يلزم المكلّف الرجوع فيها إلى الفقيه، بل لا يجوز له التقليد فيها.. والتقليد هنا يختلف عن مراجعة ما يكتبه أو يقوله العالم كوسيلة يراد منها الوصول للهدف، وهو النظر في البراهين مقدمة للاعتقاد واليقين، فإن وقع ذلك وحصل اليقين فهو المطلوب، وإلا بحث ونقّب وفتّش وراجع حتى يحصل منه المطلوب!؛ لذا قال الأعلام اجماعاً: إنّ أصول الدين ليست محلّاً للتقليد، ومرادهم من التقليد هنا هو اتباع الغير والأخذ بقوله تعبّداً وبلا دليل؛ لأنّ التقليد لا يحقّق مناط وجوب معرفة أصول الدين وسببه، وهو الأمن التامّ من الحساب يوم القيامة الذي يجب على المكلّف دفعه بالقطع واليقين.
  • والضروريات من المسائل، والواضحات من الأحكام الشرعيّة خارجة عن حدود الرجوع للفقيه، فلا حاجة إلى التقليد فيها، سواء كانت المحرّمات: مثل: حرمة الربا، وشرب الخمر، والزنا، واللواط.. أو الواجبات كوجوب الحج والصيام والصلاة والأمر بالمعروف.. إلخ، أو المستحبات كالتصدّق، وزيارة مشاهد الأئمة والصيام في غير شهر رمضان، أو المكروهات: كالصلاة في الحمام، والنوم بين الطلوعين.. أو المباحات كالمشي.. وتشير بعض النصوص للضروريات بعنوان (البيّن)، فمن ذلك مثلاً: ما خطب به أمير المؤمنين يوماً فيما يروى عنه: حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك.. (وسائل الشيعة، ح33531 ج27، ص175)، وما أشرنا له أمثلة من الأحكام البديهية، والمسائل الضروريّة، لذا فالسؤال الذي قد يعلق في الأذهان: من يشخّص تلك الضروريات؟! يستظهر بعض الفقهاء، ومنهم السيد السيستاني: جواز الاعتماد في تشخيص (الضروريات) على قول من يوثق بقوله في ذلك، ولا تعتبر فيه الشرائط المعتبرة في مرجع التقليد. (التعليقة على العروة الوثقى،ج1،ص10).
  • في موضوعات الأحكام
  • درج معظم المتشرعة والمتدينين على مقولة: معرفة الموضوعات وتشخيصها بيد المكلف، ولا تقليد فيها.. وهي مقولة صحيحة وتامّة في الموضوعات الصرفة، والعناوين البديهية الواضحة، والبيّنة: مفهوماً ومصداقاً.. تعريفاً.. وتشخيصاً.. ذهناً.. وخارجاً.. وطبيعة وأفراداً.. التي لا تحتاج إنعام الفكر واطالة النظر، ويتساوى فيها الفقيه و العامي، والعالم والجاهل؛ لأنّها بيّنة المفهوم، وجليّة المصاديق حسّاً؛ وحينئذٍ لا معنى للتقليد فيها، فهي من هذه الناحية لا تختلف عن سابقتها: أعني الأحكام الشرعيّة الضروريّة، فقضيّة: الغيبة حرام، واضحة موضوعاً (الغيبة) وحكماً (حرام)، كما أنّ ذكرك لجارك فلان بن فلان بسوء يكرهه؛ واضح التشخيص عندك وعند الجميع أنّه من أفراد الغيبة ومظاهرها، كلُّ ذلك مفهوم وواضح ولا تقليد فيه ولا رجوع للفقيه، أمّا ما عدا ذلك مما يصطلح عليه بالموضوعات المستنبطة (غير بديهية ولا واضحة) ففيه تفصيل لا يسعه المقال، وصفوة القول فيها إنّها على قسمين:

    • موضوعات شرعيّة: وهي الماهيّات والحقائق التي تدخّل الشارع في صياغة حقائقها، إمّا بشكل كامل، كما في العبادات كالحج، والصيام، والصلاة.. وإلخ مما له في اللغة حقيقة ومعنى مختلف عن معناها وحقيقتها في الشرع، أو بنحو جزئي، بإضافة شيء عليها بعد أن كان لها معنى عرفي أو لغوي، كالاستطاعة، أو السفر الشرعي. ولا شكّ أنّ هذا القسم من الموضوعات كالأحكام، وتحديد ماهيته وبيان ما يدخل فيه، وما يخرج عنه؛ يدخل ضمن حدود الفقيه ومجاله، لتنتهي وظيفة الفقيه بتعريف الموضوعات، وبيان أحكمها الكليّة.
    • موضوعات غير شرعيّة -عرفيّة كالغناء، أو لغوية كالصعيد- وهي التي بيّن الشارع حكمها، لكنّه لم يتدخل في صياغة تعريفها، وبيان مفهومها، اعتماداً على معناها العرفي أو اللغوي، وهذه لا تقليد فيها، قال صاحب العروة في المسألة (67): لا (تقليد) في الموضوعات المستنبطة العرفية أو اللغوية، ولا في الموضوعات الصرفة، فلو شك المقلِّد في مائع أنّه خمر أو خل - مثلا - وقال المجتهد: إنّه خمر لا يجوز له تقليده. نعم، من حيث أنّه مُخبر عادل يقبل قوله، كما في إخبار العامي العادل.. وأمّا الموضوعات المستنبطة الشرعية - كالصلاة والصوم ونحوهما - فيجري التقليد فيها كالأحكام العمليّة.

    القسم الثاني- في حدود الفقيه المقلَّد، وصلاحايته، وما يجب فيه الرجوع إليه، والمساحة العامّة لحدود الفقيه التي يشتغل فيها، وتدخل ضمن شؤونه وصلاحياته، وقبل كل شيء: يجب أولاً: التعريف بمصطلح الفقيه.

    الفقيه: المصطلح والمفهوم

    المصطلح الدارج والرديف للفظ "الفقيه" هو مصطلح "المجتهد"، وهو كلّ من كان قادراً على بيان الحكم الشرعي بالحجّة، والتعريف المشهور والمتداول للاجتهاد هو استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقرّرة: القرآن، والحديث، والعقل والاجماع، والأمر واضح، لكن بالرغم من ترادف الكلمتين في الفقه الشيعي المعاصر، إلا أنّنا نرجّح استعمال مصطلح "الفقيه والفقاهة" لسببين:

    الأوّل: هو التخلّص من عبئ النزاع التاريخي، وتجاوز الاختلاف الشكلي الذي لا مرّر له بين المدرستين: الأصوليّة، والأخبارية حول مسألة "الاجتهاد والتقليد" والذي ينتهي في الأخير إلى أنّ ما أُنكر على الأصوليين لا يثبتوه، وما أثبتوه لا ينكره الأخباريون؛ لذا نصّ الأعلام المعاصرون: إنّ النزاع بين الفريقين لفظيٌّ، وهو راجعٌ إلى التسمية، فإنّ المحدّث لا يرضى بتسمية تحصيل الحجّة اجتهاداً، وأمّا واقعه فكلتا الطائفتين تعترف به. (الخوئي-التنقيح،ج1 ص11).

    والثاني: هو أنّ الروايات الشريفة قد استعملتْ كلمة الفقه والفقيه والفقاهة دون المجتهد والاجتهاد، قال السيد السيستاني: إنّ كلمة (الفقه) واردة في الروايات، فلابدّ من الاهتمام بـهذا المعنى بدلاً عن الاجتهاد الذي لم يستعمل في الروايات بالمعنى الثاني-وهو المعنى الذي يريده علماء الشيعة اجماعاً وهو: معرفة فروع الشريعة من الحلال والحرام.. (تقريرات بحوث السيد السيستاني،ج5،ص24)، والزبدة، فالفقيه في الفقه هو المجتهد في الاصطلاح الأصولي، وهو من له القدرة على النظر في الأدلة لاستخراج الأحكام منها، ويجب على من ليس هذه القدرة الرجوع إليه.

    الرجوع للفقيه.. حدوده ودليله

    وأصل وجوب الرجوع للفقيه بالمعنى آنفاً؛ قد أرشدت إليه الآيات، كآية النفر والسؤال، والأحاديث، كمقبولة عمر بن حنظلة، و كقول الصادق (ع) لأبان: اجلس في المسجد وأفت الناس..، كما دلّت عليه السيرتان: سيرة العقلاء في الرجوع لذوي الاختصاص، وسيرة المتشرعة المتصلة بزمان المعصومين في ارجاع الشيعة إلى الفقهاء، وقبل ذلك كلّه: قد دلّ عليه العقل أيضاً، وهو الدليل المبني على قاعدة: لزوم دفع الضرر المحتمل، بتحصيل المؤمّن من العقاب الذي يحتمله فيما لو أهمل التكليف المتعلّق به جزماً على تفصيل مذكور في المطولات الفقيه والأصوليّة، على أنّنا قد أشرنا إلى طرف منه في ثنايا الحديث عن القسم الأوّل.

    هذا في أصل الرجوع، وأمّا حدود الرجوع ومساحته، واطاره العام: فيما عدا أصول الدين، وتشخيص الموضوعات، والأحكام الضروريات! هو القضايا غير اليقينيّة، فيدخل فيها ما يجهله العامي، أو يحصل له الظن فيها فضلاّ عن التوهم والشك، مما يتوقف عيه حفظ مصالحهم الدينية والدنيوية في العبادات والمعاملات، لكنّه يبقى إطار عام وعائم، وغير واضح الحدود والمعالم؛ وبسطه كالآتي:

    إنّ وظيفة الفقيه في عصر الغيبة الكبرى التي يحتاجه المؤمنون فيها تتلخّص في عنوانين:

     1- بيان واجباتهم الدينية 2- وحفظ مصالحهم الدنيوية.

    والعنوان الأول، يتمثّل بالإفتاء والقضاء، أو الفتوى والحكم، وكلاهما ينتميان إلى المسائل الفرعيّة، والقضايا الشرعية، إلا أنّ هناك فارقان مهمّان: الأوّل- هو كليّة الفتوى، وجزئيّة الحكم، فالإفتاء هو بيان الأحكام الشرعيّة العامّة والكليّة من الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب والكراهة.. والصحة والفساد، مثل: الغصب حرّام، وبيان موضوعها أيضاً فيما لو كان الموضوع شرعياً على ما بيّناه في القسم الأوّل، وأمّا القضاء والحكم ففرقه عن الفتوى هو أنّه حكم خاص وشخصي خارجي، مثل أن يقول: هذه الأرض التي يسكنها زيد هي ملكُ عمرو. والفرق الثاني هو أنّ الفتوى لا تُلزم إلا لصاحبها ومن يقلّده، بينما الحكم القضائي نافذ على الجميع فيما لو ملك زمام السلطة القضائية.

    والمساحة الثانيّة للفقيه: حفظ المصالح الضرورية التي يتوقف عليها حفظ أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم، وهو ما يصطلح عليه في الفقه بالأمور الحسبيّة، فهي من مهمات الفقيه  و إحدى الوظائف المناطة به، ويمكن لغيره أن يؤديها ويتصدّى لها بعد إذن الفقيه، ومع فقدان الفقيه يجب على المكلّفين أداؤها وجوباً كفائياً، وإنّما قيدنا المصالح بالضرورية؛ لأنّ الأصل  هو عدم ولاية أحد من البشر على أحد، فالولاية المطلقة وما يتفرع عنها من الطاعة المطلقة والتصرّف في النفوس والأموال.. هي منصب ثابتٌ لمن نصّ الله على ولايتهم أعني النبي وأهل بيته(ص) وبموجبه تمّ التنازل عن أصالة عدم الولاية، وحيث أنّ الولاية للفقيه -على ما هو المشهور- غير ثابتة، فيقتصر جواز تصرّف الفقيه في الحسبيات على ما كان بمقدار الضرورة لا غير، فلو كان الأمر الحسبي أمراً كمالياً أو فيه مصلحة للناس دون أن يبلغ الضرورة كتوسعة الطرق أو المراقد أو غير ذلك، فإنّما يجوز اجراؤها على خلاف رضا أصحابها بمقدار ما تتأمن به الضرورات ، وأمّا الزائد على ذلك من الكماليات والمصالح الثانوية فلا يجوز اجراؤها.(للتفصيل: انظر مقال للكاتب بعنوان: دور الفقيه في الأمور الحسبية ولاية أم حِسْبة؟).

    أختم:

     بكلمة شاهدة على ما قرّرناه، و موجِزة لجميع ما فصّلناه، لمعلّم الفقهاء وأستاذهم، كتب يقول: الثابت [للفقيه] حسبما يُستفاد من الروايات أمران : 1- نفوذ قضائه. 2- وحجيّة فتواه، وليس له التصرّف.. إلاّ في الأمر الحِسبي فإن الفقيه له الولاية في ذلك، لا بالمعنى المدعى، بل بمعنى نفوذ تصرفاته بنفسه أو بوكيله وانعزال وكيله بموته، وذلك من باب الأخذ بالقدر المتيقن لعدم جواز التصرف في مال أحد إلاّ بإذنه، كما أن الأصل عدم نفوذ بيعه لمال القصّر أو الغيّب أو تزويجه في حق الصغير أو الصغيرة ، إلاّ أنه لما كان من الاُمور الحِسبية ولم يكن بدّ من وقوعها في الخارج كشف ذلك كشفاً قطعياً عن رضى المالك الحقيقي وهو الله (جلّت عظمته) وأنه جعل ذلك التصرف نافذاً حقيقة ، والقدر المتيقن ممن رضى بتصرفاته المالك الحقيقي ، هو الفقيه الجامع للشرائط فالثابت للفقيه جواز التصرّف دون الولاية. )المصدر السابق،ص361).

    *السيد علي الحسيني: أستاذ الفقه والأصول في الحوزة العلمية بكربلاء المقدسة.. كاتب وباحث في موقع الأئمة الاثني عشر