الشيعة في الميزان لـ ’محمد جواد مغنية’

الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين

منذ أكثر من ألف عام، وعلماء الإمامية يكتبون ويذيعون عن عقيدة الاثني عشرية كيلا ينسب إليهم ما ليس لهم به علم، ويستدلون عليها بالنصوص بعد درسها وتمحيصها كيلا يكون لأحد فيها مهمز أو مغمز، ويحرصون كل الحرص أن يكون سندها محل وفاق بين جميع المسلمين، لأن الشرط الأساسي عندهم لمدرك العقيدة أن يكون قطعي السند والدلالة على حد تعبيرهم أي العلم القاطع بصحة السند، ووضوح دلالته وضوحاً لا يقبل الشك والتأويل إذا كان المدرك نقلاً عن المعصوم... وبرغم هذا الحرص والتشدد قال قائل : كل تشيع من أي نوع كان ويكون فهو رفض أي غلو. وقال آخر : هو زندقة. وتسامح ثالث وتساهل قائلاً : الشيعة كلهم باطنية.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ولا شيء من هذه الأقوال يقوم على أساس غير التقليد والتعصب، لأن الاثني عشرية يعتقدون بأن الغلو شرك، والزندقة إلحاد، وإخفاء العقيدة، والتأويل بلا مبرر من الشرع أو العقل بدعة وضلالة... وأثبت ذلك بالأرقام في كتاب مع الشيعة الإمامية.

ويبدأ تاريخ الاختلاف بين المسلمين حول الخلافة، يبدأ باليوم الذي انتقل فيه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى، حيث دان قوم بما حدث في السقيفة كأمر واقع لا مفر منه، أو لا يجوز الخطأ عليه، وأنكروا النص على الولاية بمعنى الخلافة والسلطة مع الاعتراف بولاية أهل البيت على معنى الحب والاحترام، ودان آخرون بنصوص الولاية لآل الرسول صلى الله عليه وآله على معنى الخلافة، وأوضحت ذلك مفصلاً في كتاب فلسفة التوحيد والولاية...

وقد اتسع الجدال والنقاش حول الخلافة على مر الزمن، ثم تطور إلى التراشق بالانهامات وخبث الكلمات، ولعبت السلطة الحاكمة دورها في التمزيق والتفتيت، كما هو شأنها في كل جيل.. وحاول المصلحون من الفريقين أن يجمعوا ويوحدوا حرصاً على مصلحة الأمة، فخفت الوطأة إلى حد، بخاصة بعد أن تكررت النكبات والعثرات في كل بلد مسلم..

والآن، وبعد أن تراكمت الهزائم والمشكلات عربياً وإسلامياً فماذا نحن صانعون إذا لم ندفن الماضي، وننظر إلى المستقبل الطويل العسير، ونواجه بالعمل الجدي الموحد !؟... وهذا ما يخافه ويخشاه العدو المشترك.. فأطلق بلسان أبواقه وعملائه صيحات منكرة لإيقاظ الفتنة وكتبوا مقالات مضللة، ونشروا كتباً متخمة بالدس والافتراء لا بأي دافع إلا صالح الاستعمار والصهيونية.. فدعاني هذا إلى أن أعرض عقيدة الشيعة، وبخاصة الفرقة الكبرى الاثني عشرية، أعرضها على حقيقتها، وأدرسها دراسة تفصيلية في ثلاثة مؤلفات هي : «الشيعة والتشيع» و«مع الشيعة الإمامية» و«الاثنا عشرية» وكان لها، ولما كتبه غيري في هذا الموضوع من علمائنا - أحسن الأثر، بالخصوص عند مشايخ الأزهر، وفتوى المرحوم الشيخ محمود بجواز التعبد والأخذ بالمذهب الجعفري - أشهر من أن تذكر..

لقد أقبل القراء على كتاب مع الشيعة الإمامية، وأعيد طبعه بعد خمسة أشهر من الطبعة الأولى، كما أقبلوا على كتاب الشيعة والتشيع والاثني عشرية. ونفدت كل النسخ، ولما كثر الطلب على هذه الكتب الثلاثة رغبت إلى صديقي الكريم الأستاذ محمد المعلم صاحب «دار الشروق» بأن ينشرها في مجلد واحد بعنوان «الشيعة في الميزان» فاستجاب وتبنى المشروع، لأنه يتناول عرضاً شاملاً لعقيدة تكاد تكون مجهولة للكثير من الخاصة فضلاً عن العامة، ونزولاً عند رغبة القراء ورغبتي.. فشكراً للّه وله، وهو سبحانه المسؤول أن يأخذ بيده وإياي لما يحب ويرضى. والصلاة على محمد وآله معدن التقى والعروة الوثقى..

 

الشِّيعةُ والتَّشَيُّع

مقدّمة

بسم اللّهِ الرَحمن الرَحيم

والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله الطاهرين

وبعد :

فان هذه الصفحات ليست استئنافاً للحملات التي قدتها ضد الانتهازيين والمفترين... ولا بحثاً انتقادياً، او تأملاً فلسفياً، وانما هي عرض لعقائد الشيعة، مع اقامة الدليل على ان ما من شيء في عقيدتهم الا وله مصدر متسالم على صحته عند اهل السنة، حتى عدد الأئمة وحصرهم ب 12 إِماماً، وحتى العصمة والتقية والجفر وفكرة المهدي المنتظر، وغيرها.

واشرت الى اهم دولهم كالفاطميين والبويهيين والحمدانيين والصفويين، وما لهم من آثار قائمة، حتى اليوم، للدلالة على مساهمة الشيعة في الحضارة الاسلامية مساهمة فعالة، وترجمت لكل واحد من الأئمة الاثني عشر (ع) ترجمة مختصرة، ربما أغنت عن كثير من المطولات، كما ذكرت الفوارق بين السنة والشيعة، واعتمدت لاكثر ما كتبت على مصادر أهل السنة، والكتب الصحاح عندهم، وتركت اشياء تتصل بموضوع الكتاب، لاني كنت قد ذكرتها في بعض مؤلفاتي السابقة، وبخاصة كتاب «مع الشيعة الإمامية» وكتاب «الشيعة والحاكمون».

وقد لا يصدق القارئ اذا قلت : ان هذه الصفحات هي ثمرة البحث الحر، دون أن أتأثر بأية نزعة شخصية، او فكرة مذهبية... لذا ادع الحكم له وحده، ولا اقطع عليه الطريق بالحمد والثناء على ما كتبت.

ولكن هل يستطيع الانسان ان يتجرد عن وضعه وتربيته وعقيدته التي نشأ واستمر عليها شاباً وكهلاً ؟...

كلا... ولكن ليس من الضروري ان تكون كل عقيدة باطلة، ولا كل تربية فاسدة... بل قد وقد... وتعرف الحقيقة حين تعرض على محك العقل، والجدل المنطقي العلمي، وهذا ما أريد من القارئ ان يعرفه ويتنبه اليه، فانا لا ادعي التحرر، ولكني أطلبه من القارئ. على ان ينظر الى عقيدة التشيع من خلال الإسلام، وعلى ضوء كتاب اللّه وسنّة نبيه. لا من خلال عقله... لان العقل مهما سما يظل مقصراً عن ادراك كثير من الحقائق الإلهية. ككيفية الصلاة، وعدد الركعات، والهرولة في الحج، ورمي الجمار، وما الى ذاك.

وتقول : اراك تهتم كثيراً بامر الشيعة والتشيع، فهل فرغنا من مشاكل الحياة، ولم يبق الا التعريف بهذه الطائفة وصحة ما تدين به وتعتقد ؟.. او ان هذا اهم واجدى ؟...

اجل، ان المشاكل التي نعانيها لا تتصل في واقعها بقضية التشيع والتسنن من قريب او بعيد، بل ان حديث هذه القضية والاهتمام بها يزيد المشاكل تعقيداً، ويجعلها مستحيلة او عسيرة الحل، وهذا ما يريده لنا المستعمرون والصهاينة، اعداء الدين والوطن، انهم يريدون ان نتلهى بالمشاحنات والنعرات الطائفية، ليعزلونا عن الحياة، ويخلو لهم الجو... ويظهر أن لهم جهازاً ضخماً... يعرف مداه من قرأ كتاب «الخلافة» للنبهاني، وكتاب «ابو سفيان» للحفناوي، وكتاب «الخطوط العريضة» لمحب الدين الخطيب، ومجلة «التمدن الاسلامي» التي تصدر بدمشق، والنشرات المتتابعة التي يصدرها «انصار السنة» بالقاهرة، ومقال الجبهان في مجلة «راية الاسلام» السعودية عدد ربيع الآخر سنة 1380 هجري، وغيرها وغيرها...

لقد دأب هذا الجهاز - في تآليفه ونشراته - على مهاجمة الشيعة، وتصويرهم كطائفة ملحدة مجرمة تكيد للاسلام والمسلمين... والغرض الاول هو تنفيذ «الخطوط العريضة» التي رسمها الاستعمار لايقاظ الفتنة، واشاعة الفرقة بين المسلمين...

فرأيت من واجبي أن أنبه الأفكار إلى مقاصد هذا الجهاز الفاسد وأهدافه، واقطع الطريق عليه بالكشف عن عقيدة الشيعة، مع الاشارة الى شيء من تاريخهم، ليتبين للناس المزاعم الكاذبة التي لفقها أولئك المأجورون.

وبديهة ان الشيعة ليسوا من القبائل البائدة التي خيم الظلام عليها وعلى آثارها، حتى يُتقول عليهم بالحدس والتخمين... فهذه بلادهم منتشرة في شرق الارض وغربها، ومؤلفاتهم العقائدية وغيرها تغص بها المكتبات العامة والخاصة، اما علماؤهم فلا يبلغهم الاحصاء، وهم يرحبون بكل من يريد جدالهم ونقاشهم بالحكمة والمنطق... اذن يستطيع طالب الحقيقة ان يعرف عقيدة الشيعة من كتبهم وعلمائهم دون الرجوع إلى كتابي هذا... ومع ذلك فقد عرضت عقائدهم بأسلوبي الواضح الذي يقتصر على الجوهر واللباب، ولا يتكلف الزخرف والتزويق، كي لا يبقى عذر لمعتذر بعدم التفهم للعبارات المطولة المعقدة.

هذا، الى ان من يقرأ هذه الصفحات بتأمل وامعان يتبين له انها تهدف اول ما تهدف الى الاخذ والعمل بمبادئ الاسلام وتعاليمه، واذا اهتمت بالتشيع فانما تهتم به لانه من الاسلام في الصميم بنص القرآن الكريم، والسنة النبوية، بل هو ركن من اركانه برواية الصحابي الجليل ابي سعيد الخدري. وبالتالي، فاني من الذين يؤمنون ان المستقبل للحب والاخاء الانساني، وان روح التعصب آخذة بالزوال يوماً بعد يوم، حتى لا يبقى لها عين ولا أثر - ان شاء اللّه - وعندها لا يجد الانتهازيون وتجار الطائفية مجالاً للدس والتخريب.

واللّه سبحانه المسؤول ان يستعملنا في مرضاته انه ارحم الراحمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

 

التشيّع

هل التشيع فكرة ابتدعها الشيعة من انفسهم، ثم طبعوها بطابع الدين، وصبغوها بالاسلام تمويهاً ورياءً لغايات سياسية، لا تمت الى الاسلام بسبب قريب او بعيد، او ان التشيع عقيدة اسلامية، جاءت من عند اللّه، وبلغها محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه وآله ، تماما كوجوب الصوم والصلاة، والحج والزكاة؟ وبكلمة هل الاسلام اصل للتشيع، او ان اصل التشيع اجنبي عن الاسلام؟

وقبل ان نجيب عن هذا التساؤل نمهد بما يلي :

اسباب المعرفة :

مهما اختلف المفكرون في اسباب المعرفة، وانها التجربة او العقل أو الحدس فانهم متفقون كلمة واحدة على ان السبب الوحيد لمعرفة آراء الغير ومعتقداته هي اقواله وتصريحاته... فاذا اردنا ان نعرف ما تدين وتعتقد به طائفة من الطوائف الدينية، ونتحدث عن عقيدتها فعلينا ان نسند الحديث الى اقوالها بالذات، الى كتب العقائد المعتبرة عندها، ولا يسوغ بحال الاعتماد على قول كاتب او مؤلف بعيد عنها ديناً وعقيدة، لأن هذا البعيد قد يكون جاهلاً متطفلاً، فيحرف الواقع عن غير قصد، او حاقداً متحاملاً، فيفتري بقصد التنكيل والتشهير، او خائناً مستأجراً فيكذب ويدس بقصد التفرقة وايقاظ الفتنة... بل لا يجوز الاعتماد على اقوال راوٍ او كاتب من ابناء الطائفة نفسها اذا لم تجتمع كلمتها على الثقة بمعرفته وعلمه، فان الكثيرين ممن كتبوا عن طائفتهم وعقائدها قد تجافوا عن الواقع، وخبطوا خبط عشواء، ورفض الكبار من علماء الطائفة اقوالهم، وصرحوا بضعفها وعدم الاعتماد عليها.

وكذا لا يصح الاعتماد على العادات والتقاليد المتبعة عند العوام، لان الكثير

منها لا يقره الدين الذي ينتمون اليه، حتى ولو ايدها وساندها شيوخ يتسمون بسمة الدين، وأوضح مثال على ذلك ما يفعله بعض عوام الشيعة في بعض مدن العراق، وايران وفي بلدة النبطية في جنوب لبنان من لبس الاكفان، وضرب الرؤوس والجباه بالسيوف في اليوم العاشر من محرم. فان هذه البدعة المشينة حدثت في عصر متأخر من عصر الأئمة، وعصر كبار العلماء من الشيعة، وقد احدثها لانفسهم اهل الجهالة دون أن يأذن بها إِمام أو عالم كبير، وأيدها شيوخ السوء، لغاية الربح والتجارة... وسكت عنها من سكت خوف الاهانة والضرر او فوات المنفعة والمصلحة، ولم يجرؤ على مجابهتها ومحاربتها احد في ايامنا الا قليل من العلماء، وفي طليعتهم المرحوم السيد محسن الأمين العاملي الذي ألف رسالة خاصة في تحريمها وبدعتها، واسمى الرسالة «التنزيه لاعمال الشبيه»، وقاومه من أجلها اهل الخداع والاطماع.

كتب العقائد عند الشيعة :

وكتب العقائد المعتبرة عند الشيعه كثيرة، ومطبوعة تتداولها الأيدي، وتعرض للبيع في مكتبات العراق وايران، نذكر منها على سبيل المثال : اوائل المقالات، والنكت الاعتقادية للشيخ المفيد، والشافي للشريف المرتضى، والعقائد للشيخ الصدوق، وشرح التجريد، وكشف الفوائد للعلامة الحلي، والجزء الأول من اعيان الشيعة ونقض الوشيعة للسيد محسن الامين، وأصل الشيعة وأصولها للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والفصول المهمة والمراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين، ودلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفر.

وبالتالي، نكرر - هنا - ما قلناه اكثر من مرة في ردودنا ومؤلفاتنا، وما اعلنه المعتمد عليهم من علمائنا، ان الشيعة لا يقرون ولا يعترفون بشيء مما قيل عن عقيدتهم، اذا لم تتفق مع ما جاء في الكتب المعتبرة عندهم. سواء أكان القائل مستشرقاً او عربياً، سنياً أو شيعياً، متقدماً أو متأخراً.

معنى التشيع :

لم يكن للعرب وحدة سياسية قبل الاسلام، فكل قبيلة تحكم نفسها، وكل مدينة لا تعرف لغيرها سلطاناً عليها، وبعد الاسلام اوجد النبي سلطة عامة

خضع لها جميع العرب، ومارس هو السلطة بكافة معانيها : التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، فكان يبين الاحكام والحلال والحرام، ويقود الجيش، ويخابر الملوك، ويعقد المعاهدات، ويقضي بين الناس، ويقيم الحدود، وقد ربط القرآن الكريم هذه السلطات بشخص الرسول، ففي الآية 6 من سورة الأحزاب : «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» وفي الآية 36 من السورة نفسها : «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم» وفي الآية 7 من سورة الحشر : «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» وغيرها كثير.

واتفق المسلمون بكلمة واحدة على ان السلطة الزمنية والدينية التي كانت للرسول تعطى لخليفته، ثم اختلفوا فيما بينهم : هل يعين الخليفة بالنص عليه من النبي، او يترك الامر فيه الى اختيار الامة؟. قال الشيعة : ان الخليفة يتعين بالنص لا بالانتخاب، أي ان اللّه سبحانه يأمر النبي ان يبلغ المسلمين بانه قد اختار (فلاناً) خليفة بعده، وان عليهم ان يسمعوا له ويطيعوا، وقد صدر هذا النص بالفعل من النبي على علي بن أبي طالب.

هذا هو التشيع، وهكذا ابتدأ ونشأ دون ان يضاف اليه أي شيء آخر... اما المغالاة في علي وصفاته أو تكفير خصومه السياسيين وما الى ذاك فلا يمت الى التشيع بسبب... والذي يدلنا على ان لفظ الشيعة علَم على من يؤمن بأن علياً هو الخليفة بنص النبي ما قاله فقهاء الإمامية في كتب التشريع من انه اذا اوصى رجل بمال للشيعة، او وقف عقاراً عليهم يعطى لمن قدم علياً في الإمامة على غيره بعد النبي، ولا يعطى للمغالين (كتاب المسالك للشهيد الثاني ج 1 باب الوقف).

وبالتالي، إن التشيع في حقيقته وجوهره يتلخص بهذه الكلمة، وهي الإيمان بأن الإمام المنصوص عليه يتولى الحكم، ويحكم بإرادة اللّه لا بإرادة الناس، وقد أنكر السنة عليهم ذلك، وبالغوا في الإنكار، حتى قال بعض المؤلفين : إن هذه العقيدة نزعة فارسية استقاها الشيعة من الفرس...

ونجيب بانها اسلامية بحت، لا شائبة فيها لغير الاسلام، وقد أُخذت من كتاب اللّه وسنة نبيه، كما يظهر من الادلة الآتية. وإذا اخذ الشيعة هذه النزعة من الفرس. فمن اين اخذ عثمان بن عفان قوله - حين طلب اليه ان يتخلى عن

الخلافة - «ما كنت لاخلع قميصاً قمصنيه اللّه». وقال ايضاً : «لان اقدم فتضرب عنقي احب من ان انزع سربالاً سربلنيه اللّه».

يجوز ان تكون الخلافة قميصاً بل سربالاً من اللّه لعثمان، ولا يجوز ان تكون حقاً الهياً لعلي. ثم أي فرق بين قول عثمان هذا، وقول الشيعة بان الخلافة منصب الهي امرها بيد اللّه لا بيد الناس؟... ولماذا كان قول الشيعة نزعة اجنبية، وقول عثمان نزعة اسلامية؟...

من ادلة الشيعة :

استدل الشيعة على ان الخلافة تكون بالنص لا بالانتخاب بادلة :

منها : أن الخليفة يحكم باسم اللّه لا باسم الشعب، فيجب والحال، ان يُختار من اللّه بلسان نبيه، لا من الشعب بطريق الانتخاب.

ومنها : قوله تعالى في الآية 68 من سورة القصص : «وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة». فاللّه سبحانه حصر الاختيار به، ونفاه عن جميع الناس. (دلائل الصدق ج 3 ص 21 طبعة 1953).

ومنها : أن الأكثرية غير معصومة عن الخطأ، فمن الجائز أن تختار رجلاً لا تتوافر فيه صفات الإمام من العلم والخلق، فتعم الفوضى والفساد. وقد نص القرآن على سقوط رأي الأكثرية في الآية 116 من سورة الانعام : «وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللّه». وفي الآية 106 من سورة المائدة : «وأكثرهم لا يعقلون». وفي الآية 71 من سورة المؤمنون : «وأكثرهم للحق كارهون». وغيرها من الآيات (كتاب فدك للصدر ص 113 طبعة 1955. وج 4 من كتاب الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي ص 109 طبعة سنة 1376هجري).

وجاء في الحديث النبوي ان محمداً صلى الله عليه وآله يرى يوم القيامة اكثر امته تدخل النار. وحين يسأل عن السبب يقال له : انهم ارتدوا بعدك على ادبارهم القهقرى (كتاب الجمع بين الصحيحين. الحديث 267).

واهل السنة الذين قالوا : ان الخليفة يكون بالانتخاب لا بالنص يعترفون بان الاكثرية قد تخطئ، وتختار غير الكفوء، لكن بعضهم قال : اذا انحرف الخليفة، عزلناه، وأتينا بالأصلح... واعلن ابو بكر من على المنبر قائلاً : «اذا استقمت

فأعينوني، واذا زغت قوِّموني». واجاب الشيعة عن ذلك بان وظيفة الإمام ان يقوّم المعوج من رعيته، فاذا قومته الرعية انعكست الآية، واصبح محكوماً، والرعية هي الحاكمة، قال الشاعر الشيعي1 :

وقالوا رسول اللّه ما اختار بعده*** إِماماً ولكنا لأنفسنا اخترنا

أقمنا إماماً إن أقام على الهدى*** أطعنا وإن ضل الهداية قوّمنا

فقلنا إذن أنتم امام إِمامكم*** بحمدٍ من الرحمن تهتم وما تهنا

ولكننا اخترنا الذي اختار ربنا*** لنا يوم خم ما اعتدينا ولا حلنا

يسخر الشاعر من قولهم : انهم يطيعون الامام ان استقام، ويقوِّمونه إن اعوج، ويرد عليهم بانهم اصبحوا هم الإمام، وهو المأموم.

أصل التشيع :

من الذي جاء بالتشيع، وحمل الناس عليه؟ وهل يرجع الى أصل من اصول الاسلام، ومصدر من مصادره كآية من كتاب اللّه، أو رواية من السنة النبوية؟

وقد أجاب الشيعة عن ذلك إجابة حاسمة وواضحة، وأثبتوا بالأرقام من أقوال أهل السنة، وكتبهم الصحاح أن النبي هو الذي بعث عقيدة التشيع، وأوجدها، ودعا إلى حب علي وولائه، وأول من أطلق لفظ الشيعة على أتباعه ومريديه، ولولاه لم يكن للشيعة والتشيع عين ولا أثر.

قال العلامة الحلي في كتاب «نهج الحق» : ذكر الإمام احمد بن حنبل في مسنده، والثعالبي في تفسيره انه لما نزلت الآية 214 من سورة الشعراء : «وانذر عشيرتك الاقربين» جمع النبي من أهل بيته ثلاثين، فاكلوا، وشربوا، ثم قال لهم : من يضمن عني ديني ومواعيدي، ويكون خليفتي، ومعي في الجنة؟ قال علي : أنا. فقال له : انت.

ونقل الشيخ محمد حسن المظفر في كتاب دلائل الصدق ج 2 ص 233 عن كتاب كنز العمال ج 6 ص 397 أن النبي قال لعشيرته : قد جئتكم بخير الدنيا

_____________________________

1 - دلائل الصدق ج 2 ص 25 طبعة سنة 1953، وهذا الشاعر هو سفيان بن مصعب العبدي، قال السيد محسن الأمين: كان من أصحاب الإمام جعفر الصادق، وتوفي في حدود سنة 120 هجري (اعيان الشيعة، القسم الثاني من الجزء الأول ص 166 طبعة سنة 1960 ).

والآخرة، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا؟ قال علي: أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه فأخذ النبي برقبته، وقال: إن هذا أخي، ووصيي،وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لولدك علي1 .

وبهذه المناسبة ننقل ما ذكره الاديب المصري عبد الرحمن الشرقاوي في كتاب «محمد رسول الحرية»، قال في ص 80 الطبعة الاولى:

«ورأى محمد أن يجمع أسرته من بني عبد المطلب، ويدعوهم إلى الإيمان بما جاء به، فليس أحب إليه من عشيرته. وأولم لهم في بيته، وبدأ يتكلم. وبدأوا كلهم يسمعون لمحمد، وهو يحدثهم عما جاء به. ولكن أحداً لم يستجب إليه: إلا علي بن أبي طالب. هو وحده الذي انتفض يؤكد أنه سينصر محمداً بسيفه. وضحك من الاستخفاف بعض الكبار، فقد كان علي هذا أصغر الحاضرين، كان اذ ذاك ما يزال فتى صغير السن، تتقدم به سنه الى أول الشباب، ولكن محمداً لم يستخف بحماسة علي، فقد قام اليه، فعانقه وبكى».

وقال الأميني في الجزء الأول من كتاب «الغدير»2 ص 9 طبعة 1372 هجري: بعد أن رجع النبي من حجة الوداع، وهي الحجة التي لم يلبث بعدها الا قليلاً، ووصل الى غدير خم جمع الناس، وخطبهم وقال فيما قال:

ان اللّه مولاي، وانا مولى المؤمنين، وانا اولى بهم من انفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه يقولها ثلاث مرات، ثم قال: اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، واحب من احبه، وابغض من بغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وادر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب.

ثم ذكر الاميني من رواة هذا الحديث 120 صحابياً ، و 84 تابعياً، اما

___________________

1 - ذكر هذا الحديث محمد حسين هيكل في كتاب «حياة محمد» طبعة أولى، ثم حذفه في الثانية لقاء 500 جنيه، ودليلنا المقابلة بين الطبعتين. انظر التعليق ص 114 من «أعيان الشيعة» ج 1 قسم 1 طبعة 1960 .

2 - هذا الكتاب للشيخ عبد الحسين الأميني، وقد بلغ 12 مجلداً ضخماً، جمع فيه النصوص على خلافة علي من طرق السنة ورواياتهم عن النبي، وقد بلغت المئات، وطبع الكتاب أكثر من مرة في طهران، والمؤلف من علماء الشيعة في هذا العصر ومحل ثقة الجميع واحترامهم.

طبقات رواته من أئمة الحديث واساتذته فقد بلغوا 360، وبلغ المؤلفون في حديث الغدير من السنة والشيعة 26 مؤلفاً.

وقد اعتبر الشيعة حديث الغدير هذا نصاً بخلافة علي بعد النبي، ومن هنا اهتموا به هذا الاهتمام البالغ، واهل السنة يعترفون بصحة هذا الحديث، ويقولون بصدوره عن النبي، ولكنهم أوَّلوا الولاء بالحب والاخلاص، لا بالحكم والسلطان، فحديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» أشبه عندهم بحديث «يا علي لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق» وغيره من الأحاديث الدالة على مكانة أهل البيت وعلو شأنهم، والحب وعلو الشأن شيء، والنص على الخلافة شيء آخر.

وأجاب الشيعة عن ذلك بأن قول النبي أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه يدل بصراحة ووضوح على أن نفس ولاية النبي الدينية والدنيوية هي بعينها قد جعلها النبي لعلي بعده، إذ جعل علياً نظير نفسه في أنه أولى بهم من أنفسهم، ولا شيء سوى ذلك، ولو كان للفظ المولى ألف معنى ومعنى.

لفظ الشيعة:

وكما أثبت الشيعة من كتب السنة وأقوالهم أن النبي هو الذي بعث عقيدة التشيع ودعا اليها أثبتوا أيضاً من طرق السنة أن النبي أول من أطلق لفظ الشيعة على من احب علياً وتابعه، قال الشيخ محمد حسين المظفر في كتاب «تاريخ الشيعة» ص 5 طبع النجف:

جاء في كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر وفي كتاب النهاية لابن الأثير، ان النبي قال: يا علي انك ستقدم على اللّه انت وشيعتك راضين مرضيين.

وجاء في الدر المنثور للسيوطي ان النبي قال: ان هذا - واشار الى علي - وشيعته لهم فائزون يوم القيامة.

ثم قال صاحب «تاريخ الشيعة»: فكانت الدعوة الى التشيع لعلي من محمد تمشي منه جنباً لجنب مع الدعوة الى شهادة لا إله الا اللّه محمد رسول اللّه.

وبهذا يتبين معنا ان المصدر الاول والاخير للشيعة والتشيع هو النبي دون سواه، فان كان التشيع هو السبب لتمزيق المسلمين وتفريق كلمتهم كما زعم

بعض السنة فالمسؤول عن ذلك هو النبي وحده دون سواه.

الشعر:

وكان لأحاديث الشيعة والتشيع أثر ظاهر في أشعار الصحابة، نقل طرفاً منها الشريف المرتضى في كتاب «العيون والمحاسن»1 والشيخ الاميني في كتاب «الغدير». من ذلك ما جاء في ج 1 ص 11 و ج 2 ص 39 من كتاب الغدير ان حسان بن ثابت قال للنبي بعد ان اعلن قوله من كنت مولاه فعلي مولاه: ائذن لي يا رسول اللّه ان اقول في علي ابياتاً تسمعهن، فقال له النبي: قل على بركة اللّه، فقام حسان، وقال: يا معشر مشيخة قريش، اتبعها قولي بشهادةٍ من رسول اللّه في الولاية:

يناديهم يوم الغدير نبيهم*** بخم واسمع بالنبي مناديا

وقد جاء جبريل عن أمر ربه*** بأنك معصوم فلا تك وانيا

وبلغهم ما أنزل اللّه ربهم*** إليك ولا تخشَ هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفه*** بكف علي معلن الصوت عاليا

فقال فمن مولاكم ووليكم*** فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا*** ولن تجدن فينا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني*** رضيتك من بعدي إِماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه*** فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليّه*** وكن للذي عادى علياً معاديا

فيا رب انصر ناصريه لنصرهم*** امام هدى كالبدر يجلو الدياجيا

وفي ج 2 ص 67 من كتاب «العيون والمحاسن» أن خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين صاحب رسول اللّه، قال:

إذا نحن بايعنا علياً فحسبنا*** أبو حسن مما نخاف من الفتن

وجدناه أولى الناس بالناس انه*** أطب قريش بالكتاب وبالسنن

وإن قريشاً لا تشق غباره*** إذا ما جرى يوماً على الضمر البدن

________________________

1 - هذا الكتاب جمعه الشريف المرتضى من أقوال استاذه الشيخ المفيد، وطبع في النجف سنة 1937 باسم الفهرست خشية ان تمنعه السلطة يومذاك لو طبع باسمه الحقيقي.

وصي رسول اللّه من دون أهله*** وفارسه قد كان في سالف الزمن

وأول من صلى من الناس كلهم*** سوى خيرة النسوان واللّه ذو المنن

وصاحب كبش القوم في كل وقعة*** يكون لها نفس الشجاع لدى الذقن

فذاك الذي تثني الخناصر باسمه*** امامهم حتى أغيب في الكفن

وفي الكتاب المذكور أن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب قال عندما بويع أبو بكر:

ما كنت أحسب أن الأمر منتقل*** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتهم*** واعلم الناس بالآيات والسنن

وآخر الناس عهداً بالنبي ومن*** جبريل عون له في الغسل والكفن

ماذا الذي ردكم عنه فنعلمه*** ها ان بيعتكم من أول الفتن

وقال عبد اللّه بن سفيان بن الحرث بن عبد المطلب:

وكان ولي الأمر بعد محمد*** علي وفي كل المواطن صاحبه

وصي رسول اللّه حقاً وجاره*** وأول من صلى ومن لان جانبه

وقال الصحابي جرير بن عبد اللّه البجلي:

فصلى الإله على أحمد*** رسول المليك تمام النعم

وصلى على الطهر من بعده*** خليفتنا القائم المدعم

علياً عنيت وصي النبي*** يجالد عنه غواث الأمم

وقال عبد الرحمن بن حنبل:

لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة*** على الدين معروف العفاف موفقا

عفيفاً عن الفحشاء أبيض ماجداً*** صدوقاً وللجبار قدماً مصدقا

أبا حسن فارضوا به وتبايعوا*** فليس كمن فيه لذي العيب منطقا

علي وصي المصطفى ووزيره*** وأول من صلى لذي العرش واتقى

وهذا الشاعر الصحابي هو الذي قال في عثمان بن عفان1 :

واحلف باللّه جهد اليمين*** ما ترك اللّه أمراً سدى

ولكن جعلت لنا فتنة*** لكي نبتلي بك أو تبتلى

_____________________

1 - كتاب «الاستيعاب» ج 2 ص 407 طبعة 1939

دعوت الطريد فأدنيته*** خلافاً لما سنه المصطفى

ووليت قرباك أمر العباد*** خلافاً لسنة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس الغنى*** -مة آثرته وحميت الحمى

وفي الجزء الثاني من كتاب «الغدير» ص 67 أن الصحابي قيس بن سعد بن عبادة قال:

وعلي إمامنا وإمام*** لسوانا أتى به التنزيل

يوم قال النبي من كنت مولا*** ه فهذا خطب جليل

إنما قاله النبي على الأمة*** حتم ما فيه قال وقيل

وفي كتاب «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب» لكاظم آل نوح سنة 1374 هجري ص 43: نقلاً عن جمهرة الخطب أن سعيد بن قيس الهمداني كان يرتجز يوم صفين بقوله:

هذا علي وابن عم المصطفى*** أول من أجابه لما دعا

هذا الإمام لا يبالي من غوى

وفي الكتاب المذكور ص 44 أن الفضل بن أبي لهب قال:

الا إن خير الناس بعد محمد*** مهيمنه التاليه في العرف والنكر

وخيرته في خيبر ورسوله*** تبيد عهود الشرك فوق أبي بكر

وأول من صلى وصنو نبيه*** وأول من أردى الغواة لدى بدر

فذاك علي الخير من ذا يفوقه*** أبو حسن حلف القرابة والصهر

وفي صفحة 45 نقلاً عن كتاب «صفين» لنصر بن مزاحم أن زفر بن زيد بن حذيفة الأسدي قال يوم صفين:

فحوطوا علياً فانصروه فانه*** وصيي وفي الإسلام أول أول

وان تخذلوه والحوادث جمة*** فليس لكم عن أرضكم متحول

وفي كتاب «أمالي الشيخ المفيد» ص 91، منشورات المطبعة الحيدرية بالنجف:

إن علي بن أبي طالب لما بلغه مسير طلحة والزبير لحربه خطب في الناس، وقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه:

أما بعد، فإن اللّه تبارك وتعالى لما قبض نبيه قلنا نحن أهل بيته وعصبته

وورثته وأولياؤه أحق خلائق اللّه به، لا ننازع حقه وسلطانه، فبينما نحن على ذلك إذ نفر المنافقون، فانتزعوا سلطان نبينا منا، وولوه غيرنا. وايم اللّه لولا مخافة الفرقة من المسلمين أن يعودوا إلى الكفر، ويعود الدين لكنا قد غيرنا ذلك ما استطعنا، وقد ولي ذلك ولاة مضوا لسبيلهم، ورد اللّه الأمر إليّ، وقد بايعني طلحة والزبير، ثم نهضا إلى البصرة ليفرقا جماعتكم، ويلقيا بأسكم بينكم، اللهم فخذهما لغشهما هذه الأمة، وسوء نظرهما للعامة.

فقام الصحابي بو الهيثم بن التيهاني، وقال: يا أمير المؤمنين إن حسد قريش إياك على وجهين: أما خيارهم فحسدوك منافسة في الفضل، وارتفاعاً في الدرجة، وأما شرارهم فحسدوك حسداً أحبط اللّه به أعمالهم، وأثقل أوزارهم، وما رضوا أن يساووك، حتى أرادوا أن يتقدموك، فبعدت عليهم الغاية، وأسقطهم المضمار، وكنت أحق قريش بقريش، نصرت نبيهم حياً، وقضيت عنه الحقوق ميتاً، واللّه ما بغيهم إلا على أنفسهم، ونحن أنصارك وأعوانك، فمرنا بأمرك ثم انشأ:

إن قوماً بغوا عليك وكادوا*** ثم عابوك بالأمور القباح

ليس من عيبها جناح بعوض*** فيك حقاً ولا كعشر جناح

أبصروا نعمة عليك من اللّه*** وقرماً يدق قرن النطاح

وإماماً تأوي الأمور إليه*** ولجاماً يلين غرب الجماح

كلٍ ما تجمع الامامة فيه*** هاشمياً له عراض البطاح

حسداً للذي أتاك من اللّه*** وعادوا إلى قلوب قراح

ونفوس هناك أوعية البغض*** على الخير للشفاء شحاح

من مسر يكنه حجب الغيب*** ومن مظهر العداوة لاح

يا وصي النبي نحن من الحق*** على مثل بهجة الاصباح

فخذ الاوس والقبيل من الخز*** رج بالطعن والوغى والكفاح

ليس منا من لم يكن لك في اللّه*** ولياً على الهدى والفلاح

فاشعار الصحابة والأحاديث النبوية تدل دلالة واضحة على أن التشيع بمعنى وجود النص على علي بالخلافة بعد النبي بلا فاصل كان موجوداً في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله .

الأصْحَابُ والتّشيّع

ذكر ابن أبي الحديد في «شرح النهج»، والسيد محسن الأمين في الجزء الثاني من «الأعيان»، وكرد علي في «خطط الشام»، والسيد حيدر الآملي في «الكشكول فيما جرى على آل الرسول» ذكر هؤلاء وغيرهم أن جماعة من أصحاب رسول اللّه كانوا يدينون بالتشيع، ويعتقدون أن النبي نص على علي باسمه، وعيّنه خليفة على المسلمين من بعده، وجعله أولى بالناس من أنفسهم، ثم دكروا أسماء هؤلاء الأصحاب.

ولا شيء أقرب إلى التصديق من هذا القول، لأن مقياس الصدق لأقوال المؤرخين وغيرهم هو الواقع، فإن كان ما يدل عليه وجب القبول، وإلا وجب الرد. وتشيع جماعة من الأصحاب لعلي أمر طبيعي، وحقيقة يفرضها الواقع بعد أن كان النبي هو الباعث الأول لهذه العقيدة، كما قدمنا. وليس من المعقول أن ينقض جميع الأصحاب عهد نبيهم، ويخالفوا بكاملهم ما جاءهم به من البينات.

وأيضاً ليس من المعقول أن يتشيع جماعة من الأصحاب، ثم لا يظهر أي أثر لتشيعهم، بخاصة بعد أن صرفت الخلافة عن علي إلى غيره، ومن هنا رأينا هؤلاء الأصحاب يؤلفون حزباً مناهضاً لبيعة أبي بكر وخلافته.

قال السيد محسن الأمين في القسم الأول من الجزء الثالث «لأعيان الشيعة» ص 308 وما بعدها طبعة 1960 1:

______________________

1 - يعتمد المؤلف هنا على تاريخ الطبري، والإمامة والسياسة لابن قتيبة، وعلى ارشاد المفيد واحتجاج الطبرسي.

«انقسم الناس بعد وفاة النبي أحزاباً خمسة:

1 - حزب سعد بن عبادة رئيس الخزرج من الأنصار.

2 - حزب أبي بكر وعمر، ومعهما جل المهاجرين.

3 - حزب علي، ومعه بنو هاشم، وقليل من المهاجرين، وكثير من الأنصار الذين قالوا: لا نبايع إلا علياً، كما جاء في تاريخ الطبري.

4 - حزب عثمان بن عفان من بني أمية ومن لف لفيفهم.

5 - حزب سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن من بني زهرة.

ومال قسم كبير من الأنصار مع حزب أبي بكر وعمر، فقوي حزبهما، واضطر عثمان، وحزب ابن أبي وقاص أن يبايعوا أبا بكر، وبقي حزب علي هو المعارض الوحيد، وحاول أبو سفيان أن يستغل الموقف، ويساوم أبا بكر، فجاء إلى علي وقال:

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم*** ولا سيما تيم بن مرة أو عدي

فما الأمر إلا فيكم وإليكم*** وليس لها إلا أبو حسن علي

أما واللّه لو شئتم يا بني هاشم لاملأنها عليهم خيلاً ورجالاً، فناداه علي ارجع يا أبا سفيان، فواللّه ما تريد اللّه بما تقول، وما زلت تكيد للإسلام وأهله.

ولما سمع أبو بكر تهويش أبي سفيان أسند بعض الوظائف لولده، فرضي وسكت، بل دعا للخليفة بالتوفيق والنجاح.

واجتمع 12 رجلاً من حزب علي، وتشاوروا بينهم في إنزال أبي بكر عن منبر الرسول، فقال قائل منهم: استشيروا علياً قبل أن تفعلوا، ولما استشاروه قال: لو فعلتم لاثرتم حرباً، ولأتى إليّ القوم، وقالوا: بايع، والا قتلناك.

لقد شعر حزب علي بالخيبة، وانتاب رجاله هزة عنيفة ارتعشت منها قلوبهم وأعصابهم، لصرف الحق عن أهله، والاستهتار بالدين، وأقوال سيد المرسلين، وإذا نهاهم الإمام عن حمل السلاح، وإعلان العصيان، ومجابهة الحاكم وجهاً لوجه فإن هناك سبيلاً آخر لمناصرة الحق، وهو الدعاية له، والعمل على نشره في جميع الأوساط، ومختلف الطبقات. وهذا ما حصل بالفعل، فكانوا - أينما حلوا - يوجهون الناس إلى علي، ويحدثونهم عن فضائله، ومكانته عند اللّه والرسول، ويؤكدون حقه في الخلافة، ويركزون دعايتهم هذه على كتاب اللّه

وسنة نبيه، وهما أشد وسائل الدعاية تأثيراً في نفوس المسلمين، بل ان الدعاية مهما يكن نوعها لا تبلغ إلا عن طريق الدين، لأنها كانت يومذاك أساس الحياة، بخاصة الحكم والسلطان.

وقد انتشر الشيعة من الأصحاب في الأمصار على عهد الخلفاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأكثرهم أو الكثير منهم تولى الإمارة والمناصب الحكومية في البلاد الإسلامية، ونذكر طرفاً من أقوالهم في هذا الباب.

كان سلمان الفارسي يحدث الناس، ويقول: بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين، والائتمام بعلي بن أبي طالب، والموالاة له. وقال: إن عند علي علم المنايا والوصايا، وفصل الخطاب، وقد قال له رسول اللّه. أنت وصييّ وخليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى. أما واللّه لو وليتموها علياً لاكلتم من فوقكم، ومن تحت أرجلكم.

وفي الجزء السادس من البحار أن سلمان خطب إلى ابنته، فرده عمر، فقال له سلمان: أردت أن أعلم هل ذهبت الحمية الجاهلية من قلبك، أم هي كما هي؟

وكان أبو ذر ينادي في الناس، ويقول: عليكم بكتاب اللّه، والشيخ علي ابن أبي طالب. وكان يدخل الكعبة، ويتعلق بحلقة بابها، ويقول: أنا جندب بن جنادة لمن عرفني، وأنا أبو ذر لمن لم يعرفني، إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله يقول: إنما مثل أهل بيتي في هذه الأمة مثل سفينة نوح في لجة البحر، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق. ألا هل بلغت؟

وكان أبو ذر يسمي علياً بأمير المؤمنين في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، وكان يقف في موسم الحج، ويقول: يا معشر الناس أنا صاحب رسول اللّه، وسمعته يقول في هذا المكان، وإلا صمت أذناي : علي بن أبي طالب الصديق الأكبر. فيا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها لو قدمتم من قدمه اللّه ورسوله، وأخرتم من أخره اللّه ورسوله لما عال ولي اللّه، ولا طاش سهم في سبيل اللّه، ولا اختلفت الأمة بعد نبيها.

وقال : قال رسول اللّه لعلي : أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق

والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين، وأنت أخي ووزيري، وخير من أترك بعدي.

وقال عمار بن ياسر : يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا عن أهل بيت نبيكم؟.. تحولونه ههنا مرة، وههنا مرة، ما أنا آمن أن ينزعه اللّه منكم، ويضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله.

وحين بويع عثمان بن عفان دار نقاش بين المقداد بن الأسود، وبين عبد الرحمن بن عوف.

قال المقداد : ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت.

قال عبد الرحمن : ما أنت وذاك؟

قال المقداد : إني واللّه أحب هذا البيت لحب رسول اللّه، وإني لأعجب لقريش، وتطاولهم على الناس بفضل رسول اللّه، ثم انتزاعهم سلطانه من أهله.

قال عبد الرحمن : أما واللّه لقد أجهدت نفسي لكم.

قال المقداد : اما واللّه لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق، وبه يعدلون، اما واللّه لو كان لي على قريش أعوان لقاتلتهم قتالي إياهم يوم بدر وأحد.

قال عبد الرحمن : اني اخاف ان تكون صاحب فتنة وفرقة.

قال المقداد : ان من دعا الى الحق واهله وولاة الامر لا يكون صاحب فتنة. ولكن مَن اقحم الناس في الباطل، وآثر الهوى على الحق فذاك صاحب الفتنة والفرقة.

فتربد وجه عبد الرحمن، وانصرف.

وقال أبو هارون العبدي : كنت أرى رأي الخوارج، حتى جلست إلى الصحابي أبي سعيد الخدري، فسمعته يقول : اُمر الناس بخمس، فعملوا بأربع، وتركوا واحدة، فقال رجل : ما هذه الأربع التي عملوا بها؟ قال : الصلاة والزكاة والصوم والحج. فقلت : وما الواحدة التي تركوها؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب1.

___________________________

(1) وبهذا اللفظ رويت اخبار كثيرة عن الامامين الباقر والصادق، ذكرها الكليني في كتاب «أصول الكافي».

وذكرنا في كتاب «مع بطلة كربلاء» أن الزهراء (ع) هي أول من أعلن حق علي في الخلافة بعد أبيها، أعلنت هذا الحق في خطبتها الشهيرة بالمسجد الجامع، وقالت تخاطب أباها في قبره، وتشكو إليه أمته :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة*** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها*** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب1

قام هؤلاء الأصحاب وغيرهم ممن تشيع لعلي في عهد الخلفاء الثلاثة بدور رئيسي في بث التشيع، وغرس جذوره وبذوره في كل أرض وطأتها أقدامهم، دعوا إلى التشيع على صعيد القرآن والحديث، وبذكاء ومرونة وطول أناة، وكانوا محل التعظيم والثقة عند الناس لمكانتهم من رسول اللّه، ومن هنا تجاوبت معهم القلوب والعقول، وكان لأقوالهم أثرها البالغ، ونتائجها البعيدة.

وقد تعرض بعضهم للاهانة والشتم والتشريد والضرب، كأبي ذر وعمار بن ياسر، ومع ذلك استمروا في بث الدعوة بصبر وشجاعة... ورحم اللّه عماراً، حيث يقول : واللّه لو ضربونا، حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على حق، وأنهم على باطل.

قرأت في كتاب «الإمام زيد» للشيخ أبي زهرة ص 107 طبعة أولى، قوله «نشأ الشيعة ابتداء في مصر، وكان ذلك في عهد عثمان، إذ وجد الدعاة فيها أرضاً خصبة، ثم عمت بعد ذلك أرض العراق».

أرسل المؤلف هذا القول، ولم يسنده إلى دليل، على أهميته من الوجهة التاريخية، فأخذت أبحث وافتش، فرأيت في «أعيان الشيعة» ج 42 ص 213 طبعة سنة 1958 «أن عثمان بن عفان أرسل رجالاً يتحرون العمال، ومنهم عمار، أرسله إلى مصر، فعادوا يمتدحون الولاة إلا عماراً استبطأه الناس، حتى ظنوا أنه اغتيل، فلم يفاجئهم إلا كتاب من عبد اللّه بن أبي السرح والي مصر يخبرهم أن عماراً قد استمال القوم بمصر، وقد انقطعوا إليه، فكان تصريح عمار بالحق سبب اعتداء غلمان عثمان عليه، فضربوه، حتى انفتق له فتق في بطنه، وكسروا ضلعاً من أضلاعه».

___________________________

(1) في البيت الأخير اقواء، وهو كثير في كلام العرب.

هكذا كان الصفوة الخلص من أصحاب الرسول أجهزة الدعاية للتشيع يوجد حيثما يوجدون، وينبث حيثما يحلون، وسلاحهم الوحيد كتاب اللّه وسنّة نبيه... ابتدأ التشيع في مصر بسبب عمار، وفي الشام وتوابعها، كجبل عامل بسبب أبي ذر، حيث نفاه عثمان إلى هناك، وفي المدائن بسبب سلمان الفارسي، وفي الحجاز بسبب هؤلاء وغيرهم كحذيفة اليمان، وجابر بن عبد اللّه الأنصاري، وأبي بن كعب ومن إليهم، وقد ذكر السيد حيدر الآملي في كتاب «الكشكول فيما جرى على آل الرسول» أكثر من مائة صحابي كانوا يتشيعون لعلي بن أبي طالب، ويحفظون الأحاديث التي سمعوها من النبي في الولاية، وينشرونها في الأمصار الإسلامية.

وبهذا يتبين التحامل في قول من قال: إن سبب التشيع هو ابن سبا والفرس، وما إلى ذاك من الهراء والافتراء.

مصادر هذا الفصل

المجلد السادس من البحار للمجلسي، والاحتجاج للطبرسي، وأعيان الشيعة للامين ج 2و 16و 34و 42و 48 والكشكول لحيدر الآملي.

 

شُرُوطُ الإمَام

أثبتنا فيما تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله هو المصدر الأول للتشيع، ونتكلم في هذا الفصل عن شروط الإمام عند الشيعة، ومصدر هذه الشروط في الكتاب والسنّة، ونمهد لذلك بما يلي :

سبب تعدد الفرق :

في الغالب أن العقيدة أول ما تبدأ تكون في منتهى البساطة والسذاجة، بحيث لا يحتاج فهمها إلى تعمق ومقدمات نظرية، وبمرور الزمن تتصدى فئة من الأتباع لتفسيرها وشرحها بأقوال يضفون عليها ما للعقيدة من قداسة وحصانة، وينعتون من يخالفها بالكفر والجحود، تماماً كمن يخالف كتاب اللّه وسنة نبيه. وإليك المثال :

جاء الإسلام بشهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، وخاطب بها البدوي في الصحراء كما خاطب بها أكبر العلماء، وأعمق المفكرين على السواء، ثم جاء الفلاسفة وعلماء الكلام يتناقشون فيما بينهم : هل اللّه جسم أو منزه عن الجسمية؟ وهل صفاته عين ذاته أو غيرها؟ وهل يفعل لغاية أو هو منزه عن الغايات؟ وهل يعلم الكليات والجزئيات أو الجزئيات فقط؟ وهل كلامه قديم أو حادث؟ وهل يُرى يوم القيامة؟ وهل الأنبياء معصومون؟ وإذا كانوا معصومين فهل هم معصومون قبل البعثة وبعدها، أو بعدها فقط؟ وهل الأشياء منقادة لارادتهم بحيث يتصرفون بها كيف يشاؤون؟ وهل لهم حق الشفاعة؟ وهل يجوز تأويل الوحي، أو يجب الأخذ بظاهره؟ وهل الخلافة تكون بالنص أو الانتخاب؟ وهل يعاد الإنسان غداً بالروح والجسم، أو

بأحدهما؟ وهل الإنسان مسيّر أو مخيّر؟ وهل مرتكب الكبيرة مخلد في النار؟ وهل النفس من المجردات؟ وهل للأفلاك نفوس ناطقة متحركة بالإرادة، إلى غير ذلك. وهذه الخلافات هي المصدر لتعدد الفرق الإسلامية.

كل الأديان :

وقد وقعت هذه الخلافات وما شاكلها في كل الأديان، وتفرق أتباع كل دين شيعاً أو أحزاباً، فبنو إسرائيل اتخذوا من دون اللّه عجلاً له خوار، وموسى حي، وما أن انتقل إلى ربه، حتى افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترق المسيحيون بعد نبيهم إلى اثنتين وسبعين، كما جاء في الحديث1 وما زالوا مختلفين لا يتزاوجون ولا يتوارثون، ولا يجتمعون للصلاة وللعبادة في معبد واحد.

ولم تقف هذه الخلافات والمنازعات على أهل الأديان، فلقد اختلف العلماء فيما بينهم، وكذلك الأدباء والفلاسفة والسياسيون، وكل الناس يختلفون في الآراء والأفكار، وينقسمون إلى فئات وأحزاب، يعتنق كل حزب نظرية تباين النظرية التي يعتنقها الحزب الآخر، ثم ينقسم الحزب على نفسه، ويختلف أفراده في الشروح والتفاسير، والقيود والحدود ضمن الإطار الحزبي، والمبدأ العام الذي يؤمن به الجميع، فالاشتراكيون على ما بين جميعهم من قاسم مشترك لم يتفقوا على جميع النقاط، ويتحدوا من جميع الجهات، وكذلك الرأسماليون والفلاسفة المثاليون، والواقعيون والوجوديون... ذلك أن الاختلاف في القضايا النظرية أمر طبيعي، بل حتى المحسوسات أنكرها السفسطائيون، واخوانهم المثاليون.

بالمناسبة :

وبهذه المناسبة نشير إلى سذاجة الذين يدعون إلى توحيد الأقوال والآراء بين السنة والشيعة ذاهلين عن أن الاختلاف بالرأي ضرورة يفرضها واقع الإنسان بما هو إنسان، لا بما هو سني أو شيعي. إن الذين يحاولون التوحيد بهذا المعنى

__________________________________

1 - من المسائل التي اختلف فيها المسيحيون مسألة هل للمسيح طبيعة واحدة أو طبيعتان؟ وادى هذا الاختلاف إلى اغراق الأرض بدماء الملايين.

يطلبون المحال. وكل ما يستطاع صنعه في هذا الباب هو أن نصلح ما أفسده الماضي البغيض، فنتخلص من مخلفاته وتعصباته التي جرّت على المسلمين الويلات والخصومات، وأن تكف كل طائفة عن تكفير الأخرى، والكيد لها، والافتراء عليها، وأن يفهم كل سني وشيعي أن الاختلاف في بعض المسائل كعدالة الصحابة، وتقديم زيد، وتأخير عمرو لا يستدعي الخصام والانتقام.

مرحلتان :

ونستخلص مما تقدم أن العقيدة أو النظرية تمر - غالباً - في مرحلتين : الأولى مرحلة تسليم الجميع بها دون خلاف ونزاع. الثانية مرحلة الخلافات وتعدد الفرق ضمن الإطار المبدئي. وقد مر التشيع بالمرحلتين، ابتدأت الأولى في عهد الرسول، واستمرت طوال عهد الخلفاء الثلاثة، وابتدأت الثانية باستشهاد الحسين (ع)، كما ستعلم، والقاسم المشترك الذي يشمل المرحلتين كلتيهما، ويدخل فيه جميع الفرق الشيعية الباقية منها والبائدة هو الإيمان بأن منصب الخلافة حق لعلي بنص النبي، مع العلم بأن المغالين ليسوا من الشيعة والتشيّع في شيء، لأن أساس التشيع هو الإسلام، ومن أعطى صفة الألوهية أو النبوة بعد محمد لإنسان، أي إنسان فهو ليس بمسلم، فضلاً عن أنه غير شيعي، وعليه فإن تقسيم الشيعة إلى فرق يجب أن يرتكز على الإيمان بهذا النص دون الارتقاء بعلي أو أحد أبنائه إلى مرتبة الألوهية أو النبوة، وبهذا يتبين خطأ الذين جعلوا شخص علي وأبنائه - على الإطلاق - أساساً لتقسيم الشيعة وتعددهم إلى فرق، دون أن يميزوا بين مقالة المغالين وغير المغالين.

فرق الشيعة :

أنهى بعض المؤلفين فرق الشيعة إلى ثلاثين، وآخر إلى ما يزيد عن هذا العدد بقليل أو كثير، زاعماً أن المغالين من الشيعة، وأن الثلاثة والأربعة يشكلون فرقة مستقلة، وثالث نسب الغلو والكفر لكل من تشيع لأهل البيت، ورابع خلط بين الفرق البائدة والباقية، وخامس لم يميز بين الشيعيين، والشيوعيين... إلى آخر هذه الجهالات والعمايات التي لاقينا منها أنواع المصاعب والمتاعب.

وألجأتنا إلى الكلام والخوض فيما يحسن السكوت والاغضاء عنه.

ونحن بعد أن فسرنا التشيع بأنه الإيمان بوجود النص من النبي على علي بالخلافة مع عدم المغالاة فيه، ولا في أحد أبنائه، وقلنا أن تقسيم فرق الشيعة وتعددها يجب أن يرتكز على هذا الأساس، بعد أن قلنا هذا ينحصر الخلاف بين فرقهم في عدد الأئمة وأعيانهم فقط، لا في أصل النص، ولا في نفي الغلو. ومن هذه الفرق :

الكيسانية :

وجدت هذه الفرقة بعد استشهاد الحسين في كربلاء، وبها يبتدئ تعدد فرق الشيعة، حيث قالت بإمامة علي والحسن والحسين، ثم محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، وقال غيرها بإمامة علي بن الحسين، ونفت الإمامة عن ابن الحنفية، فحصل التعدد، ويزعم الكيسانية أن محمداً هذا هو المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنه حي لم يمت، ولا يموت، حتى يظهر الحق، وفي ذلك يقول الشاعر الكيساني كثير عزة :

الا ان الأئمة من قريش*** ولاة الحق أربعة سواء

علي والثلاثة من بنيه*** هم الأسباط ليس بهم خفاء

فسبط سبط إيمان وبر*** وسبط غيبته كربلاء

وسبط لا يذوق الموت حتى*** يقود الخيل يقدمها اللواء

يغيب فلا يرى منهم زماناً*** برضوى عنده عسل وماء

وقال الشيخ المفيد المتوفى سنة 413هجري في كتاب «العيون والمحاسن» : «ولا بقية للكيسانية جملة، وقد انقرضوا، حتى لا يعرف منهم في هذا الزمان أحد».

الناووسية :

وهم أصحاب عبد اللّه بن ناووس، قالوا بإمامة الستة : علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق، وزعموا أن الصادق هو الإمام المنتظر، وأنه حي لا يموت، حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وقد بادت هذه

الفرقة، ولا يوجد منها أحد.

الاسماعيلية :

قالوا بأئمة الستة المذكورين، وان السابع هو إسماعيل بن جعفر الصادق، وليس موسى الكاظم كما يقول غيرهم، وهم ثلاث فرق : الأولى قالت : إن الصادق مات قبل ولده اسماعيل. والثانية قالت : إن اسماعيل مات قبل أبيه الصادق، ولكنه قبل موته نص على ولده محمد بن اسماعيل، وهؤلاء هم القرامطة. الثالثة قالت : إن اسماعيل مات قبل أبيه، ولكن الذي نص على إمامة ولده محمد هو جده الصادق، لا أبيه اسماعيل. والاسماعيلية باقون إلى اليوم، وأكثرهم في باكستان، وقليل منهم في الحجاز وسورية واليمن والهند وأفريقيا، ويقارب عدد الجميع المليون كما قيل، ولا يدخل فيهم أتباع «آغا خان».

الفطحية :

قال هؤلاء : إن الإمامة لم تنتقل من الصادق إلى ولده اسماعيل، ولا إلى ولده موسى الكاظم، بل إلى ولده الأكبر، وهو عبد اللّه الأفطح، ولقب بالأفطح، لأنه أفطح الرأس، أي ذو رأس عريض، وهم من الفرق البائدة، ولا يوجد منهم أحد.

الواقفية :

وهم الذين قالوا بثمانية أئمة : علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا، ووقفوا عنده، ولم يتجاوزوا إلى غيره، وزعموا أن الرضا هو المهدي المنتظر. وهم من الفرق البائدة.

الاثنا عشرية :

وهم القائلون بإمامة علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين، ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري والمهدي المنتظر. وهم أكثر فرق الشيعة، ومنتشرون اليوم وقبل

اليوم في شرق الأرض وغربها، وفيهم العلماء والأدباء والشعراء والفقهاء والمتكلمون والفلاسفة وأصحاب الحديث والتفسير، ويأتي التفصيل1

الزيدية :

ليس لدي مصادر للزيدية، كي أرجع إليها، لذا اعتمدت في حديثي عنهم على مصادر السنّة، والاثني عشرية.

قال صاحب «المواقف» من السنّة ج 8 ص 391 :

الزيدية ثلاث فرق : الأولى الجارودية أصحاب أبي الجارود، قالوا بالنص على علي وصفاً لا تسمية، أي ان النبي لم يذكر علياً باسمه حين نص عليه، وإنما ذكره بصفاته، وقالوا : إن خلافة الثلاثة الأولى باطلة، وأن الإمامة بعد علي لولده الحسن، ثم للحسين، ثم هي شورى بين المسلمين على أن تكون في أولاد فاطمة.

الثانية : السليمانية أصحاب سليمان بن جرير، وانكر هؤلاء النص من الأصل وصفاً وتسمية، وقالوا : ان الإمامة شورى وان إمامة أبي بكر وعمر صحيحة، وإمامة عثمان باطلة.

الثالثة : البتيرية أصحاب بتير الثومي، قالوا بمقالة السليمانية، ولكنهم توقفوا في إمامة عثمان، فلم يقولوا بصحتها، ولا ببطلانها.

ثم قال شارح المواقف، الشريف الجرجاني2 : هذي هي فرق الزيدية في زماننا، وأكثرهم مقلدون يرجعون في الأصول إلى الاعتزال، وفي الفروع إلى مذهب أبي حنيفة إلا في مسائل قليلة.

وقال الخواجا نصير الدين الطوسي في كتاب «قواعد العقائد» :

قال الزيدية بإمامة علي والحسن والحسين، ولم يقولوا بإمامة زين العابدين، لأنه لم يقم بالسيف، وقالوا بإمامة ولده زيد، لأنه ثار على الباطل، وهم

____________________

1 - اعتمدنا في ذكرهذه الفرق على الشيخ المفيد في كتاب «العيون والمحاسن» وقد انهاها هو إلى أربع عشرة فرقة.

2 - توفي سنة 816هجري.

لا يشترطون العصمة بالإمام، ويجوز عندهم قيام إمامين في بقعتين متباعدتين، وكل من جمع خمسة شروط فهو إمام1) أن يكون من ولد فاطمة بنت الرسول من غير فرق بين ولد الحسن وولد الحسين2) أن يكون عالماً بالشريعة 3) أن يكون زاهداً4) أن يكون شجاعاً5) أن يدعو إلى دين اللّه بالسيف. وأكثرهم يأخذ بفقه أبي حنيفة إلا في مسائل قليلة.

وقال السيد محسن الأمين في «أعيان الشيعة» القسم الثاني من الجزء الأول ص 13 طبعة 1960 :

قالت الزيدية : «إن الإمامة تكون بالاختيار، فمن اختير صار إماماً واجب الطاعة، ولا يشترط أن يكون معصوماً، ولا أفضل أهل زمانه، وإنما يشترط أن يكون من ولد فاطمة، وأن يكون شجاعاً عالماً يخرج بالسيف».

وبهذا يتبين معنا أن الزيدية ليسوا من فرق الشيعة في شيء، كما أنهم ليسوا من السنّة ولا من الخوارج، وأنهم طائفة مستقلة بين السنة والشيعة، ليسوا من السنة ولا من الخوارج، لأنهم حصروا الإمامة في ولد فاطمة، وليسوا من الشيعة، لأنهم لا يوجبون النص على الخليفة، هذا، إلى أنهم يأخذون بفقه أبي حنيفة، أو أن فقههم أقرب إلى الفقه الحنفي منه إلى الفقه الشيعي.

وقال السنّة : ان الزيدية أقرب إليهم من جميع فرق الإمامية، لأنهم يوجبون الإمامة بالانتخاب، لا بالنص، ولا يقولون بعصمة الإمام، ويجيزون تقديم الفاضل على الأفضل، ويأخذ أكثرهم بالفقه الحنفي.

وقال الشيعة : إن الزيدية أقرب إليهم من المغالين، لأنهم لا يؤلهون أحداً من الأئمة، وأيضاً أقرب إليهم من السنة، لأنهم يوجبون الإمامة في ولد فاطمة، وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن الزيدية ليسوا من السنة ولا من الشيعة، وإنما هم فرقة مستقلة بذاتها.

الغرض :

والغرض الأول من الإشارة إلى هذه الفرق أن نبين خطأ الذين نسبوا أهل الغلو وغيرهم كالزيدية إلى الشيعة، وأن نؤكد ونوضح أن الضابط الصحيح لتعدد فرق الشيعة وأقسامها ينحصر بالخلاف في عدد الأئمة قلة وكثرة، وفي

تعيين أسمائهم وأشخاصهم بعد الاتفاق على أن الإمام يعين بالنص لا بالانتخاب، وأنه إنسان كسائر الناس لا يختلف عنهم في طبيعته، ولا في صفاته الملازمة للإنسان بما هو إنسان... أجل هناك شروط لا بد من توافرها في الإمام باتفاق المسلمين جميعاً، وإن اختلفوا فيما بينهم في نوعها وعددها، كما يظهر مما يلي :

الإمام من أهل البيت :

يشترط في الإمام شروط، أولها عند السنة أن يكون من بيوت قريش، لحديث «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» روى هذا الحديث البخاري في صحيحه ج 9 كتاب «الأحكام».

وقال الشيعة الاثنا عشرية: أن الإمامة خاصة بعلي وولديه الحسن والحسين، ثم لأولاد الحسين فقط. واستدلوا بما رواه مسلم في صحيحه ج 2 ص 191 طبعة 1348 هجري: أن النبي قال: إن هذا الأمر لا ينقضي، حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش، ومثله في صحيح البخاري ج 9 كتاب «الأحكام»، ولكنه ذكر لفظ «أمير» بدل «خليفة».

وعليه تكون فكرة الاثني عشرية إسلامية عامة للسنة والشيعة، ولا تختص بفريق دون فريق.

وقال العلامة الحلي في «شرح التجريد» ص 250 طبعة العرفان: ان المراد بال 12 هم أئمة الشيعة، حيث ثبت بالتواتر أن النبي قال للحسين: ابني هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة، تاسعهم قائمهم.

وروى المحب الطبري الشافعي في كتاب «ذخائر العقبى» ص 136 طبعة 1356 هجري: ان النبي قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوماً واحداً لطول اللّه ذلك اليوم، حتى يبعث رجلاً من ولدي، اسمه كاسمي. فقال سلمان: من أي ولدك يا رسول اللّه؟ قال: من ولدي هذا، وضرب بيده على الحسين.

وإذا سأل سائل: لمادا حصر الاثنا عشرية الإمامة بعلي وبنيه، ثم في 12 لا يزيدون ولا ينقصون؟

الجواب:

أما حصر الإمامة بعلي وأولاده فلما قدمناه من أن السنة هم الذين حصروا

الأمامة بقريش فقط دون غيرهم، وقال الشيعة: ما دام الأمر كذلك، فبيت النبي هو أفضل بيوت قريش، ولولاه لم يكن لها هذا الشأن... بل لولا محمد وآله لم يكن للعرب تاريخ ولا ذكر. وفي القسم الثاني من الجزء الثاني من صحيح مسلم ص 54 طبعة سنة 1348 هجري «كتاب الفضائل» أن رسول اللّه قال: إن اللّه اصطفى كنانة من ولد اسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.

أما حصر الأئمة في 12 فسببه رواية البخاري ومسلم في صحيحيهما التي أشرنا اإليها.

العصمة:

العصمة قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، بحيث لا يترك واجباً، ولا يفعل محرماً مع قدرته على الترك والفعل، وإلا لم يستحق مدحاً ولا ثواباً، أو قل: إن المعصوم قد بلغ من التقوى حداً لا تتغلب عليه الشهوات والأهواء، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطئ معها أبداً 1.

والشيعة الإمامية يشترطون العصمة بهذا المعنى في الإمام، تماماً كما هي شرط في النبي، قال الشيخ المفيد في كتاب «أوائل المقالات» باب «القول في عصمة الأئمة»: إن الأئمة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وحفظ الشرائع، وتأديب الانام معصومون كعصمة الأنبياء لا تجوز عليهم كبيرة ولا صغيرة... ولا سهو في شيء من الدين، ولا ينسون شيئاً من الأحكام، وعلى هذا مذهب سائر الإمامية إلا من شذ منهم.

وقال العلامة الحلي في كتاب «نهج الحق»: ذهب الإمامية إلى أن الأئمة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش، من الصغر إلى الموت عمداً وسهواً، لأنهم حفظة الشرع والقوامون به، حالهم في ذلك كحال الأنبياء، ولأن الحاجة إلى الإمام إنما هي للانتصاف للمظلوم من الظالم، ورفع

_______________

1 - قال الإمام يصف نفسه: ما وجد النبي صلى الله عليه وآله لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، وكنت اتبعه اتباع الفصيل اثر أمه. يرفع لي كل يوم نميراً من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به. وهذا معنى العصمة عند الشيعة لا كذب في قول، ولا زلة في فعل.

الفساد، وحسم مادة الفتن، ولأن الإمام لطف يمنع القاهر من التعدي، ويحمل الناس على فعل الطاعات، واجتناب المحرمات، ويقيم الحدود والفرائض. ويؤاخذ الفساق، ويعزر من يستحق التعزير، فلو جازت عليه المعصية، وصدرت عنه انتفت هذه الفوائد، وافتقر إلى إمام آخر.

أما السبب الأول لقول الشيعة بالعصمة فهو قوله تعالى: «إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً - 33 الأحزاب». وقول الرسول الأعظم: «علي مع الحق، والحق مع علي يدور معه كيفما دار» وقوله «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، وانهما لم يفترقا، حتى يردا عليّ الحوض». رواه مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده. ومن دار معه الحق كيفما دار محال أن يخطئ. وأمْر الرسول بالتمسك بالعترة والكتاب يدل على عصمة العترة من الخطأ، تماماً كعصمة الكتاب، وقوله لن يفترقا، أي لا يخالف أحدهما الآخر.

وروى صاحب كنز العمال من السنة أن النبي قال: «من أحب أن يحيا حياتي، ويموت موتي، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فليتولَّ علياً وذريته من بعده، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة»1 .

واذا كان النبي هو الذي وصف أهل بيته بالعصمة فأي ذنب للشيعة إذا أطاعوا ربهم، وعملوا بسنّة نبيهم؟!.. لقد أقام المهوشون الدنيا وأقعدوها على الشيعة، لأنهم قالوا بالعصمة، ولو كانت لهم أدنى خبرة بسنة الرسول لقالوا بمقالة الشيعة، أو ألقوا المسؤولية على الرسول نفسه، إن كان هناك من مسؤولية. ثم إن قول الشيعة بعصمة الأئمة الأطهار من آل الرسول ليس بأعظم من قول السنة ان الصحابة كلهم عدول، وأن المذاهب الأربعة يجب اتباعها، وأن اجتهاد الحاكم، أي حاكم، واجتهاد الإمام الأعظم تحرم مخالفتهما، لأن صلاح الخلق في اتباع رأيهما. (المستصفى للغزالي ج 2 ص 355 طبعة بولاق، وأصول الفقه للخضري ص 218 الطبعة الثالثة).

ومهما يكن ، فإن الرجال تعرف بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، كما

_______________________________

1 - دلائل الصدق أول الجزء الثاني.

قال علي أمير المؤمنين. وقد أجمع الموافق والمخالف على أن الأئمة من أهل البيت كانوا على هدي جدهم الرسول صلى الله عليه وآله قولاً وعملاً، وأن الناس كانوا يلجأون إليهم في حل المشكلات والمعضلات، وكانوا يتقربون إلى اللّه سبحانه بتعظيمهم وتقديسهم، تماماً كما كانت الحال بالنسبة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله .

وختاماً نسأل الذين أنكروا على الشيعة القول بالعصمة: هل تنكرون أصل العصمة وفكرتها من الأساس، أو تنكرون عصمة الأئمة فقط؟.. والأول إنكار لعصمة الأنبياء التي اتفق عليها السنة والشيعة، والثاني إنكار لسنة الرسول الذي ساوى بين عترته وبين القرآن. هذا، إلى أن نصوص الشريعة جامدة لا حراك فيها، وإنما تحيا بتطبيقها والعمل بها، وإذا لم يكن القائم على الشريعة هو نفس الشريعة مجسمة في شخصه لم يتحقق الغرض المقصود. لذا قال الإمام: ذاك القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق.

العلم:

قال الشيعة الإمامية: «يجب ن يكون الإمام أفضل من جميع رعيته في صفات الكمال كلها من الفهم والرأي والعلم والحزم والكرم والشجاعة وحسن الخلق والعفة والزهد والعدل والتقوى والسياسة الشرعية ونحوها، وبكلمة يلزم أن يكون أطوع خلق اللّه للّه، وأكثرهم علماً وعملاً بالبر والخير»1 .

وفي هذه الشروط وشرط العصمة تتجلى روح الثورة على الباطل، وعلى كل من يتطفل على مناصب ليس بها بأهل. وقد يقال، أو يتوهم أن هذه الشروط جاءت كنتيجة لتنكيل الحكام بالشيعة وما لحقهم من الاضطهاد والتشريد، ولكن الأصل لهذه الشروط قول اللّه تعالى: «أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمَّن لا يهدي إلا ن يهدى فما لكم كيف تحكمون» - 35 يونس.

وجاء في الحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» وقال ابن عبد البر، من السنة في كتاب «الاستيعاب» الجزء الثالث المطبوع مع «الإصابة» ص 40 طبعة 1939:

_________________________

1 - تلخيص الشافي للطوسي ص 320 ، ودلائل الصدق للمظفر ج 2 ص 17 .

«قالت عائشة: إن علياً لأعلم الناس بالسنة، وقال ابن عباس: أُعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وايم اللّه لقد شاركهم في العشر العاشر، وقال ابن عبد البر أيضاً: ما كان أحد يقول: سلوني غير علي».

وروى المحب الطبري في كتاب «الذخائر» ص 17 أن النبي قال: «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي... نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد».

وبالتالي، فقد تبين بالشواهد والأرقام أن كل شرط اعتبره الشيعة بالإمام يستند إلى ما ثبت من حديث الرسول، تماماً كما يستند إليه أصل التشيع.

عُلومُ الإمَام

هل يعتقد الشيعة أن أئمتهم يعلمون كل شيء، حتى الصناعات واللغات؟ ثم هل علوم الأئمة ومعارفهم في عقيدة الشيعة، كعلوم سائر الناس ومعارفهم، أو هي وحي، أو إلهام وما أشبه؟

ولست أعرف مسألة ضلت فيها الأقلام، حتى أقلام بعض الإمامية أكثر من هذه المسألة. مع أنها ليست من المسائل الغيبية، ولا المشاكل النظرية.

وذكرنا في فصل سابق ان الحديث عن عقيدة طائفة من الطوائف لا يكون صادقاً، ولا ملزماً لها إلا إذا اعتمدت على أقوال الأئمة، والعلماء المؤسسين الذين يمثلونها حقاً، لذلك اعتمدنا في هذا البحث على أقوال الأئمة الأطهار، والشيوخ الكبار، كالمفيد والمرتضى والخواجا نصير الدين الطوسي، ومن إليهم أمانة وعلماً.

قال الشريف المرتضى في الشافي ص 188 ما نصه بالحرف: «معاذ اللّه أن نوجب للإمام من العلوم إلا ما تقتضيه ولايته، وأسند إليه من الأحكام الشرعية، وعلم الغيب خارج عن هذا». وقال في ص 189: «لا يجب أن يعلم الإمام بالحرف والمهن والصناعات، وما إلى ذاك مما لا تعلق له بالشريعة. إن هذه يرجع فيها إلى أربابها، وان الإمام يجب أن يعلم الأحكام، ويستقل بعلمه بها، ولا يحتاج إلى غيره في معرفتها، لأنه ولي إقامتها، وتنفيذها».

وقال الطوسي في «تلخيص الشافي» المطبوع مع الكتاب المذكور ص 321: «يجب أن يكون الإمام عالماً بما يلزم الحكم فيه، ولا يجب أن يكون عالماً بما لا يتعلق بنظره» كالشؤون التي لا تخصه ولا يرجع إليه فيها.

وهذا يتفق تماماً مع قول الشيعة الإمامية بأن الإمام عبد من عبيد اللّه، وبشر

في طبيعته، وصفاته، وليس ملكاً ولا نبياً، أما رئاسته العامة للدين والدنيا فإنها لا تستدعي أكثر من العلم بأحكام الشريعة، وسياسة الشؤون العامة.

وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب، وهم يؤمنون بكتاب اللّه، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه «لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير». وقوله «إنما الغيب للّه». وقوله «قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللّه».

وقال الشيخ الطوسي في «مجمع البيان» عند تفسير الآية 123 من سورة هود: «وللّه غيب السموات والأرض»:

«لقد ظلم الشيعة الإمامية من نسب إليهم القول بأن الأئمة يعلمون الغيب. ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق. فأما ما نقل عن أمير المؤمنين (ع) ورواه عنه الخاص والعام من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها مثل الإيماء إلى صاحب الزنج، وإلى ما ستلقاه الأمة من بني مروان، وما إلى ذلك مما أخبر به هو وأئمة الهدى من ولده، أما هذه الأخبار فإنها متلقاة عن النبي صلى الله عليه وآله مما أطلعه اللّه عليه، فلا معنى لنسبة من يروي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنه يعتقد كونهم عالمين الغيب، وهل هذا إلا سب قبيح وتضليل لهم، بل تكفير، لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير، واللّه هو الحاكم وإليه المصير».

وإن افترض وجود خبر أو قول ينسب علم الغيب إلى الأئمة وجب طرحه باتفاق المسلمين، قال الإمام الرضا: «لا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنا ان تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه. إن لكلامنا حقيقة، وان عليه لنوراً، فما لا حقيقة له، ولا نور عليه فذاك قول الشيطان».

وبكلمة إن علوم الأئمة وتعاليمهم يحدها - في عقيدة الشيعة - كتاب اللّه 1

_____________________

1 - قال الأمام زين العابدين في الصحيفة السجادية: اللهم انك انزلت القرآن على نبيك مجملاً، والهمته علم عجائبه مكملاً، وورثتنا علمه مفسرا، وفضلتنا على من جهل علمه وقويتنا عليه، لترفعنا فوق من لم يطق حمله.

وسنة نبيه، وإن كل إمام من الأول إلى الثاني عشر قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين من الألف إلى الياء، بحيث لا يشذ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلاً وتأويلاً، ولا شيء من سنة رسول الله قولاً وفعلاً وتقريراً. وكفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنة فضلاً وعلماً، أن هذه المنزلة لا تتسنى ولن تتسنى لأحد غيرهم، ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد جدهم الرسول تماماً كالقرآن والسنة.

وقد أخذ أهل البيت علوم الكتاب والسنة وفهموها ووعوها عن رسول اللّه، تماماً كما أخذها ووعاها رسول اللّه عن جبرائيل، وكما وعاها جبرائيل عن اللّه، ولا فرق أبداً في شيء إلا بالواسطة فقط لا غير، ونظم الشاعر الإمامي هذا المعنى فقال:

إذا شئت أن تبغي لنفسك مذهباً*** ينجيك يوم البعث من لهب النار

فدع عنك قول الشافعي ومالك*** وأحمد والمروي عن كعب أحبار

ووالِ أناساً نقلهم وحديثهم*** روى جدنا عن جبرئيل عن الباري

أخذ علي عن النبي، وأخذ الحسنان عن أبيهما، وأخذ علي بن الحسين عن أبيه، وهكذا كل إمام يأخذ العلم عن إمام، ولم تروِ أصحاب السّير والتواريخ أن أحداً من الأئمة ال 12 أخذ عن صحابي أو تابعي أو غيره، فقد أخذ الناس العلم عنهم، ولم يأخذوه عن أحد، قال الإمام الصادق:

عجباً للناس يقولون: أخذوا علمهم كله عن رسول اللّه، فعملوا به واهتدوا، ويرون انا أهل البيت لم نأخذ علمه، ولم نهتد به، ونحن أهله وذريته في منازلنا أنزل الوحي، ومن عندنا خرج العلم إلى الناس، أفتراهم علموا، واهتدوا، وجهلنا وضللنا؟...

وقال الإمام الباقر: لو كنا نحدث الناس برأينا وهوانا لهلكنا، ولكنا نحدثهم بأحاديث نكتنزها عن رسول اللّه، كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم.

وبهذا يتبين الجهل، أو الدس في قول من قال بأن الشيعة يزعمون أن علم

الأئمة إلهامي، وليس بكسبي، وترقى بعضهم، فنسب إلى الشيعة القول بنزول الوحي على الأئمة وبرد هذا الزعم بالإضافة إلى ما نقلناه من أحاديث الأئمة الأطهار ما قاله الشيخ المفيد في كتاب «أوائل المقالات»: «قام الإتفاق على أن من يزعم أن أحداً بعد نبينا يوحى إليه فقد أخطأ وكفر».

وهنا سؤال يفرض نفسه، وهو: بماذا يفتي الإمام إذا لم يجد نصاً في الكتاب والسنة؟ هل يجتهد، ويعمل بالرأي، كما يجتهد العلماء؟

الجواب:

إن القرآن والسنة فيهما تبيان كل شيء ولو بجنسه أو نوعه، وقد جاء في الحديث أن النبي أتى الناس بما اكتفوا به في عهده، واستغنوا به من بعده، وغير الإمام يضطر إلى الاجتهاد، حيث تخفى عليه مقاصد الكتاب ومعاني آياته، وحيث لا يهتدي إلى الأحاديث النبوية بالذات، كما لو سمعها من الرسول الأعظم، أما الإمام فإنه كما سبق وبيّنا يحيط بجميع علوم الكتاب والسنة، ولا يخفى عليه شيء يتصل بهما، فيفتي بالنص الخاص إن وجد، وإلا فبالأصل العام، والأصل العام بالنسبة إليه تماماً كالنص الخاص بلا تفاوت، لأن المفروض أن الإمام معصوم كالقرآن يدور الحق معه حيثما دار، وعليه فلا يخطئ في التفريع والتطبيق. وبكلمة ان غير الإمام عنده حديث ضعيف وحديث صحيح، وحديث معارض، وآخر بلا معارض، وحديث مجمل، وآخر مبين، أما الإمام فالحديث عنده هو عين ما قاله الرسول مع الصراحة والوضوح.

وما دام الخطأ محالاً في حقه فلا يقال: إنه مجتهد يعمل بالرأي، لأن المجتهد يحتمل في حقه الخطأ والصواب على السواء، ولأجل هذا نقول: إن من استطاع أن يأخذ جميع ما يحتاج إليه من الأحكام مشافهة من المعصوم لا يجوز له الاجتهاد بحال، وإن بلغ من العلم ما بلغ، وقد ذهل عن هذه الحقيقة جماعة من السنة، فأجازوا الاجتهاد، والعمل بالرأي على النبي بالذات وليت شعري كيف يقال: إن النبي مجتهد، والمجتهد يخطئ ويصيب، وقول النبي هو الحجة البالغة، والدليل القاطع الذي يعتمده جميع المجتهدين والمحققين؟

____________________

1 - المستصفى للغزالي، وجامع الجوامع لابن السبكي، وأصول الفقه للخضري.

وسئل الإمام الصادق : بأي شيء يفتي الإمام؟ فقال: بالكتاب. فقال السائل: فما لم يكن في الكتاب؟ فقال الصادق: بالسنة. فقال السائل: فما لم يكن في الكتاب والسنة؟ فقال: ليس شيء إلا في الكتاب والسنة.

وقال أيضاً: ما رأيت علياً قضى قضاء إلا وجدت له أصلاً في السنة.

هذي هي أقوال أئمة الشيعة وعلمائهم الثقات، فأين الغلو وعلم الغيب؟... وأين الوحي والإلهام؟... ومن الخير أن نشير هنا إلى طرف من أقوال علماء السنة الثقات التي تتصل بهذا الموضوع، لنرى : هل الغلو فيما قالوه أو فيما قاله علماء الشيعة؟

روى البخاري في صحيحه ج 5 باب «مناقب عمر بن الخطاب» أن النبي قال : لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون - أي تحدثهم الملائكة - من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي أحد فعمر».

وقال الغزالي في كتاب «المستصفى» ج 1 ص 270 طبعة 1322هجري :

قال النبي صلى الله عليه وآله إن منكم لمحَدثين، وإن عمر لمنهم.

وقال الشاطبي في الجزء الثاني من الموافقات ص 266 :

عمل الصحابة بالفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي، كقول عمر، وهو في المدينة يخاطب سارية بن حصن، وهو في إيران بقوله : «يا سارية الجبل» وقد سمع سارية الصوت وصعد الجبل.

إذا قيل بأن عمر علم الغيب وإن له ملكاً يحدثه فلا غلو، وإذا قيل بأن الأئمة من أهل البيت يقولون الحق ويعرفون علوم الكتاب والسنة فكفر وغلو.

وقال ابن السبكي في «جامع الجوامع» باب «الاجتهاد» : يجوز أن يقال من قبل اللّه تعالى لنبي أو عالم : احكم بما تشاء، فهو صواب، ويكون مدركاً شرعياً، ويسمى التفويض.

إذا قيل بأن اللّه يجوز أن يتخلى عن تشريع الأحكام، ويفوض أمر وضعها أو رفعها إلى عالم من العلماء فلا كفر ولا غلو، أما إذا قيل بأن أهل البيت يعرفون شريعة جدهم كاملة، كما أنزلها اللّه على نبيه فكفر وغلو.

وقال الشاطبي في «الموافقات» ج 2 ص 267 : «إن أبا بكر انفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رؤيت»، أي ان رجلاً مات، ولم يوصِ في حياته،

ثم أوصى بوصايا بعد موته، وأبلغ وصيته لمن أراد في المنام، فنفذ أبو بكر هذه الوصية.

فحُكم أبي بكر استناداً إلى الأحلام والأطياف صحيح وحجة، أما أحكام أهل البيت المأخوذة من الكتاب والسنة ففيها نظر.

ولدي من هذه الأمثلة ما لا يبلغه الإحصاء، وقد ادخرته لوقت الحاجة، وقطعت على نفسي عهداً أن لا أذكر منها شيئاً إلا للدفاع. وفيما ذكرت يفي بالغاية والقصد، كما يدل بصراحة ووصوح أن الذين يتهمون الشيعة، ويرمونهم بالغلو أولى بهذه التهمة، وهي بهم الصق وأليق. واللّه سبحانه من وراء القصد.

 

التقية وَالبدَاء وَالرّجعَة وَالجفر وَمصْحف فاطِمة بَين السُنّة وَالشّيِعَة

أثبتنا في فصل سابق أن الشيعة الإمامية يقولون بأن الإمامة تكون بالنص، لا بالانتخاب، وإنهم يوجبون العصمة للإمام، وإنهم يستدلون على هذين الأصلين بأحاديث صحيحة ثابتة عند السنة والشيعة، وأيضاً عرفنا أنهم أبعد الفرق عن الغلو والمغالين، وإنهم لا يدّعون لأئمتهم علم الغيب، ولا الإيحاء والإلهام، وإن من نسب إليهم شيئاً من ذلك فهو جاهل متطفل، أو مفترٍ كذاب، وإن علوم الأئمة - في عقيدة الشيعة - يحدها كتاب اللّه وسنة نبيه.

ولكن نُسب إلى الشيعة الإمامية القولُ بالتقية والبداء والرجعة، وأطلقت في وجوههم صرخات الكفر والزندقة من أجلها. فهل هذه النسبة صحيحة؟ ثم ما معنى هذه الألفاظ، ومدلولاتها على التحقيق؟ وبالتالي، هل يستدعي القول بهذه المبادئ الكفر والخروج عن الإسلام؟

وإليك الجواب الصريح.

التقية :

أما التقية فقد قال بها الشيعة الإمامية، وبحثوها مطولاً في كتبهم الفقهية1 وفرعوا عليها مسائل كثيرة، واستدلوا على تشريعها وجوازها بالكتاب والسنة والعقل.

ومعنى التقية التي قالوا بها أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد، لتدفع الضرر عن نفسك، أو مالك، و لتحتفظ بكرامتك، كما لو كنت بين قوم لا يدينون بما تدين، وقد بلغوا الغاية في التعصب، بحيث إذا لم تجارهم في القول والفعل

__________________________

1 - ألف الشيخ الكبير مرتضى الانصاري رسالة خاصة بالتقية. طبعت في آخر كتاب «المكاسب».

تعمدوا إضرارك والإساءة إليك. فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك، وتدفع الأذى عنك، لأن الضرورة تقدر بقدرها. وقد مثل فقهاء الشيعة لذلك بأن يصلي الشيعي «متكتفاً»، أو يغسل رجليه في الوضوء بدلاً من مسحهما في بيئة سنية متعصبة، بحيث إذا لم يفعل لحقه الأذى والضرر.

هذي هي التقية في حقيقتها وواقعها عند الشيعة، وما هي بالشيء الجديد، ولا من البدع التي يأباها العقل والشرع. فقد تكلم عنها الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل الإسلام وبعده، تكلموا عنها وأطالوا، ولكن لا بعنوان التقية، بل بعنوان : «هل الغاية تبرر الواسطة؟» وما إلى ذاك، وتكلم عنها الفقهاء، وأهل التشريع في الشرق والغرب بعنوان : «هل يجوز التوصل إلى غاية مشروعة من طريق غير مشروع؟». وبعنوان «المقاصد والوسائل» وتكلم عنها علماء الأصول من السنة والشيعة بعنوان : «تزاحم المهم والأهم» واتفقوا بكلمة واحدة على أن الأهم مقدم على المهم، ارتكاباً لأقل الضررين، ودفعاً لأشد المحذورين، وتقديماً للراجح على المرجوح...

وهذه العناوين وما إليها تحكي التقية كما هي عند الإمامية، ولا تختلف عنها إلا في الأسلوب والتعبير. وكانت التقية وما زالت ديناً يدين به كل سياسي في الشرق والغرب، حتى المخلص الأمين.

وإذا سأل سائل : ما دام الأمر كذلك فلماذا عبر الشيعة بلفظ التقية، ولم يعبروا بلفظ المقاصد والوسائل، أو الغاية تبرر الواسطة؟

الجواب :

إن العبرة بالمعنى، لا باللفظ، وقديماً قال العارفون : «النقاش في الاصطلاحات اللفظية ليس من دأب المحصلين».

ثانياً : إن علماء الشيعة يأخذون - دائماً أو غالباً - ألفاظهم ومصطلحاتهم الشرعية من نصوص الكتاب والسنة، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بمادة الاتقاء، كما تدل الآية التالية :

ومهما يكن. فقد استدل الإمامية بالآية 28 من سورة آل عمران : «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه

في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة». فالآية صريحة في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء إلا في حال الخوف واتقاء الضرر والأذى، واستدلوا بالآية 106 من سورة النحل : «من كفر باللّه بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان».

قال المفسرون : إن المشركين آذوا عمار بن ياسر، وأكرهوه على قول السوء في رسول اللّه، فأعطاهم ما أرادوا. فقال بعض الأصحاب : كفر عمار. فقال النبي : كلا، ان عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه. وجاء عمار، وهو يبكي نادماً آسفاً، فمسح النبي عينيه، وقال له : لا تبك، إن عادوا لك، فعد لهم بما قلت.

واستدلوا أيضاً بالآية 28 من سورة غافر : «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه». فكتم الإيمان، وإظهار خلافه ليس نفاقاً ورياء، كما زعم من نعت التقية بالنفاق والرياء. وبالآية 195 من سورة البقرة : «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».

ومن السنة استدلوا بحديث «لا ضرر ولا ضرار» وحديث « رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة، والحسد، والوسوسة في الخلق». والحديثان مرويان في كتب الصحاح عند السنة. وقول الرسول الأعظم، «وما اضطروا إليه» صريح الدلالة على أن الضرورات تبيح المحذورات.

وقال الغزالي في الجزء الثالث من إحياء العلوم «باب ما رخص فيه من الكذب» : «إن عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب».

وبعد أن نقل الرازي الأقوال في التقية، وهو يفسر قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» قال : روي عن الحسن أنه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان».

ونعى الشاطبي في الجزء الرابع من الموافقات ص 180 على الخوارج «إنكارهم سورة يوسف من القرآن، وقولهم بأن التقية لا تجوز في قول أو فعل على الإطلاق والعموم».

وقال جلال الدين السيوطي في كتاب «الأشباه والنظائر» ص 76 : «يجوز

أكل الميتة في المخمصة، وإساغة اللقمة في الخمر، والتلفظ بكلمة الكفر. ولو عم الحرام قطراً، بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه».

وقال أبو بكر الرازي الجصاص - من أئمة الحنفية - في الجزء الثاني من كتاب «أحكام القرآن» ص 10 طبعة 1347هجري :

قوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» يعني أن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم، وقد حدثنا عبد اللّه بن محمد بن اسحاق المروزي عن الحسن بن أبي الربيع الجرجاني عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى «لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون اللّه» قال : لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه، وقوله تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة» يقتضي جواز إظهار الكفر عند التقية، وهو نظير قوله تعالى «من كفر باللّه من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان». وفي الجزء الثالث من السيرة الحلبية ص 61 مطبعة مصطفى محمد «لما فتح رسول اللّه خيبر قال له حجاج بن علاط : يا رسول اللّه إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك، وقلت شيئاً، فأذن له رسول اللّه أن يقول ما يشاء».

وهذا الذي قاله صاحب السيرة الحلبية عن النبي، ونقله الجصاص إلى الجمهور من أهل العلم هو بعينه ما تقوله الإمامية، إذن القول بالتقية لا يختص بالشيعة دون السنة. أما قصة نعيم بن مسعود الأشجعي فأشهر من أن تذكر.

ولا أدري كيف استجاز لنفسه من يدعي الإسلام أن ينعت التقية بالنفاق والرياء، وهو يتلو من كتاب اللّه، وسنة نبيه ما ذكرنا من الآيات والأحاديث، وأقوال أئمة السنة، وهي غيض من فيض مما استدل به علماء الشيعة في كتبهم، وكيف تنسب الشيعة إلى الرياء، وهم يؤمنون بأنه الشرك الخفي، ويحكمون ببطلان الصوم والصلاة والحج والزكاة إذا شابتها أدنى شائبة من رياء؟

وأود أن أوجه هذا السؤال لمن نسب الشيعة إلى النفاق والرياء من أجل التقية : ما رأيك فيمن قال - من علماء السنة - إن جبرئيل ليلة أسرى بالنبي إلى السماء جاءه بقدحين : أحدهما من لبن، وآخر من خمر، وخيره بين شرب

أيهما شاء (كتاب الفروق ج 1 ص 12 طبعة 1345هجري وصحيح البخاري ج 6 باب سورة بني إسرائيل).

وأيضاً ما رأيك فيمن أفتى - منهم - بأن من ترك الصلاة عمداً لا يجب عليه قضاؤها، ومن تركها نسياناً يجب عليه أن يقضي. (كتاب نيل الأوطار للشوكاني ج 2 ص 27 طبعة 1952).

وغريبة الغرائب أن يُعذر المفتي على فتواه التي خالف بها الاجماع والقواعد والنص والقياس الجلي السالم عن المعارض، ولا يعذر من يفتي بالتقية مستنداً إلى كتاب اللّه وسنة رسوله. (الفروق للقرافي ج 2 ص 109).

وبالتالي، فإن التقية كانت عند الشيعة حيث كان العهد البائد، عهد الضغط والطغيان، أما اليوم حيث لا تعرّض للظلم في الجهر بالتشيع فقد أصبحت التقية في خبر كان.

في عام 1960 أقامت الجمهورية العربية المتحدة مهرجاناً دولياً للغزالي في دمشق، وكنت فيمن حضر وحاضر، فقال لي بعض أساتذة الفلسفة في مصر فيما قال : أنتم الشيعة تقولون بالتقية... فقلت له : لعن اللّه من أحوجنا إليها. إذهب الآن أنّى شئت من بلاد الشيعة فلا تجد للتقية عندهم عيناً ولا أثراً، ولو كانت ديناً ومذهباً في كل حال لحافظوا عليها محافظتهم على تعاليم الدين ومبادئ الشريعة.

البداء :

اتفق المسلمون بكلمة واحدة على جواز النسخ، ووقوعه في الشريعة الإسلامية، ومعناه في اصطلاح المفسرين وأهل التشريع أن اللّه يشرع حكماً كالوجوب أو التحريم، ويبلغه لنبيه، وبعد أن يعمل النبي وأمته بموجبه يرفع اللّه هذا الحكم وينسخه ويجعل في مكانه حكماً آخر، لإنهاء الأسباب الموجبة لبقاء الأول واستمراره، وهذا النوع من النسخ ليس بعزيز، فإنه موجود في الشرائع السماوية والوضعية، واستدل المسلمون على جوازه ووقوعه بأدلة، منها أن الصلاة كانت في بدء الإسلام لجهة بيت المقدس، ثم نسخت، وتحولت إلى جهة البيت الحرام، كما نطقت الآية 144 من سورة البقرة : «فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام».

ونتساءل : إذا جاز النسخ على اللّه بهذا المعنى في الأمور التشريعية فهل يجوز عليه ذلك في الأشياء الكونية والطبيعية، وذلك بأن يقدر اللّه ويقضي بإيجاد شيء في الخارج، ثم يعدل ويتحول عن قضائه وإرادته؟

اتفق المسلمون جميعاً على عدم جواز النسخ في الطبيعيات، لأنه يستلزم الجهل وتجدد العلم للّه، وحدوثه بعد نفيه عنه. تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ويسمى هذا بالبداء الباطل، وقد نسبه البعض إلى الإمامية جهلاً أو تجاهلاً، رغم تصريحاتهم المتكررة بنفيه.

روى الشيخ الصدوق في كتاب «إكمال الدين وإتمام النعمة» عن الإمام الصادق أنه قال : من زعم ان اللّه عز وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه.

وبعد أن نفى المسلمون جميعاً البداء بهذا المعنى أجازوا بداء لا يستدعي الجهل وحدوث العلم لذات اللّه، وهو أن يزيد اللّه في الأرزاق والأعمار، أو ينقص منهما بسبب أعمال العبد، قال المفيد شيخ الشيعة الإمامية في كتاب «أوائل المقالات» باب القول في البداء والمشيئة : «البداء عند الإمامية هو الزيادة في الآجال والأرزاق، والنقصان منهما بالأعمال».

وتدل على هذا الآية 60 من سورة غافر : «وقال ربكم ادعوني أستجب لكم» وروى الترمذي في سننه باب لا يرد القدر إلا الدعاء أن النبي قال : لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر1.

وبالتالي، فقد اتفق السنة والشيعة بكلمة واحدة على أن أية صفة تستدعي الجهل وتجدد العلم فهي منفية عن اللّه سبحانه بحكم العقل والشرع، سواء أعبّرنا عنها بالبداء أو بلفظ آخر، وعليه فلا يصدق القول بأن الشيعة أجازوا البداء على اللّه دون السنة، لأن المفروض أن البداء المستلزم للجهل باطل عند الفريقين، والبداء بمعنى الزيادة أو النقصان في الأرزاق والآجال جائز عند الفريقين. فأين محل النزاع والصراع؟

هذا، إلى أن الإمامية قد تشددوا في صفات الباري أكثر من جميع الفرق

_____________________

1 - انظر كتاب «البيان في تفسير القرآن» للسيد الخوئي ص 277.

والطوائف، وبالغوا في تنزيهه عن كل ما فيه شائبة الجهل والظلم والتجسيم والعبث، وما إليه. فلم يجيزوا على اللّه ما أجازه الأشاعرة وغيرهم من سائر الفرق الإسلامية الذين قالوا بأن الخير والشر من اللّه، وإنه سبحانه يكلف الإنسان بما لا يطاق، وإنه تعالى علواً كبيراً يأمر بما يكره، وينهى عما يحب، ويفعل بدون غرض (كتاب المواقف ج 8 للإيجي وشرحه للجرجاني، وكتاب الفروق للقرافي ج 2 وكتاب المذاهب الإسلامية لأبي زهرة). كما أن الإمامية قد نفوا التجسيم عن اللّه الذي قال به الحنابلة، ومنهم الوهابية الذين رووا عن النبي : «لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول : هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول : قط. قط» . (العقيدة الواسطية لابن تيمية المطبوعة مع الرسائل التسع سنة 1957 ص 136).

الرجعة :

قال فريق من علماء الإمامية : إن اللّه سبحانه سيعيد إلى هذه الحياة قوماً من الأموات، ويرجعهم بصورهم التي كانوا عليها، وينتصر اللّه بهم لأهل الحق من أهل الباطل، وهذا هو معنى الرجعة. وأنكر الفريق الآخر ذلك، ونفاه نفياً باتاً.

ونقل هذا الاختلاف الشيخ الإمامي الثقة أبو علي الطبرسي في «مجمع البيان» عند تفسير الآية 83 من سورة النمل : «ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون».

قال : استدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية. ووجه الدلالة - بزعم هؤلاء - أن اليوم الذي يحشر اللّه فيه فوجاً من كل أمة لا يمكن أن يكون اليوم الآخر بحال، لأن هذا اليوم يُحشر فيه جميع الناس لا فوج من كل أمة لقوله تعالى في الآية 48 من سورة الكهف : «وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً». فتعين أن يكون الحشر في هذه الدنيا لا في الآخرة.

أما الذين أنكروا الرجعة من علماء الإمامية فقد قالوا : إن الحشر في الآية يراد به الحشر في اليوم الآخر، لا في هذه الحياة، والمراد بالفوج رؤساء الكفار والجاحدين، فإنهم يحشرون ويجمعون لإقامة الحجة عليهم.

ومهما يكن، فإن غرضنا الأول من نقل كلام الشيخ الطبرسي الإمامي هو التدليل على أن علماء الإمامية لم يتفقوا بكلمة واحدة على القول بالرجعة. وقد اعترف باختلافهم الشيخ أبو زهرة، حيث قال في كتاب «الإمام الصادق» ص 240 ما نصه بالحرف : «ويظهر أن فكرة الرجعة على هذا الوضع ليست أمراً متفقاً عليه عند إخواننا الإثني عشرية، بل فيهم فريق لم يعتقده».

وقال السيد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص 473 طبعة 1951 : «الرجعة أمر نقلي، إن صح النقل به لزم اعتقاده، وإلا فلا». وقال ص 515 يتعلق بالبداء : «أجمع علماء الإمامية في كل عصر وزمان على أن البداء بهذا المعنى باطل ومحال على اللّه، لأنه يوجب نسبة الجهل إليه تعالى، وهو منزه عن ذلك تنزيهه عن جميع القبائح، وعلمه محيط بجميع الأشياء إحاطة تامة جزئياتها وكلياتها، لا يمكن أن يخفى عليه شيء، ثم يظهر له».

ولو كانت الرجعة من أصول الدين أو المذهب عن الإمامية لوجب الاعتقاد بها، ولما وقع بينهم الاختلاف فيها، أما الأخبار المروية في الرجعة عن أهل البيت فهي كالأحاديث في الدجال التي رواها مسلم في صحيحه القسم الثاني من الجزء الثاني ص 316 طبعة 1348 هجري، ورواها أيضاً أبو داود في سننه ج 2 ص 542 طبعة 1952، وكالأحاديث التي رويت عن النبي في أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الأموات (كتاب مجمع الزوائد للهيثمي ج 1 ص 228 طبعة 1352 هجري).

إن هذه الأحاديث التي رواها السنة في الدجال وعرض أعمال الأحياء على الأموات، وما إلى ذاك تماماً كالأخبار التي رواها الشيعة في الرجعة عن أهل البيت. فمن شاء آمن بها، ومن شاء جحدها، ولا بأس عليه في الحالين. وما أكثر هذا النوع من الأحاديث في كتب الفريقين1.

________________________

1 - ولنفترض أن الشيعة كلهم أو بعضهم يقولون بالرجعة. فماذا يكون؟. وهل هذا القول كفر وزندقة؟. لقد اعتقد المسلمون منذ أن وجدوا، حتى اليوم أن المسيح (ع) حي بروحه وجسده، ومع ذلك نشر شيخ الأزهر فضيلة الشيخ محمود شلتوت مقالاً مطولاً في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ 15 / 11 / 1963 قال فيه : إن عيسى قد مات حقيقة، كسائر الانبياء، ومع ذلك لم يكفر شيخ الأزهر، ولا كفره أحد، فعلام هذا التهويش حول الرجعة.

الجفر :

جاء في بعض مؤلفات السنة والشيعة أن عند أهل البيت علم الجفر، وأنهم يتوارثونه إماماً عن إمام إلى جدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، ومن كتب السنة التي جاء فيها ذكر الجفر المواقف للإيجي، وشرحه للجرجاني الحنفي، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي، وقال أبو العلاء المعري :

لقد عجبوا لأهل البيت لما*** أروهم علمهم في مسك جفر

ومرآة المنجم وهي صغرى*** أرته كل عامرة وقفر

ونفى أفراد من السنة والشيعة ذلك، ولم يعتقدوا بشيء يسمى الجفر عند أهل البيت ولا عند غيرهم.

ما هو علم الجفر؟

واختلف القائلون بوجود الجفر في تفسير معناه، فمن قائل بأنه نوع من علم الحروف تستخرج به معرفة ما يقع من الحوادث في المستقبل. ومن قائل بأنه كتاب من جلد1 ، فيه بيان الحلال والحرام، وأصول ما يحتاج إليه الناس من الأحكام التي فيها صلاح دينهم ودنياهم، وعلى هذا فلا يمت الجفر إلى الغيب بصلة.

ومن الطريف أن يقول عالم كبير من علماء الأحناف، وهو الشريف الجرجاني بالأول، وإن الجفر الذي عند أهل البيت تستخرج منه الحوادث الغيبية، وأن يخالفه في ذلك عالم كبير من الإمامية، وهو السيد محسن الأمين، ويقول بالثاني، وإنه علم الحلال والحرام فقط.

قال الجرجاني في كتاب «المواقف وشرحه» ج 6 ص 22 ما نصه بالحرف: «الجفر والجامعة كتابان لعلي رضي اللّه عنه، وقد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث إلى انقراض العالم، وكان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما».

وقال السيد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص 295: «ليس

____________________________

1 - الجفر في أصل اللغة ولد الشاة إذا عظم واستكرش، ثم أطلق على جلد الشاة.

الجفر علماً من العلوم، وإن توهم ذلك كثيرون، ولا هو مبني على جداول الحروف، ولا ورد به خبر ولا رواية - إلى أن قال - ولكن الناس توسعوا في تفسيره، وقالوا فيه أقاويل لا تستند إلى مستند، شأنهم في أمثال ذلك».

وقال في «أعيان الشيعة» قسم أول من ج 1 ص 246 طبعة 1960: «الظاهر من الأخبار أن الجفر كتاب فيه العلوم النبوية من حلال وحرام، وما يحتاج إليه الناس في أحكام دينهم، وصلاح دنياهم».

السيد الأمين الذي تثق الإمامية كافة بعلمه ودينه ينفي الجفر بمعنى علم الغيب عن أهل البيت، ويثبته علماً من أعلام الأحناف، ويقول: «عندهم علم ما يحدث إلى انقراض العالم». وبهذا يتبين ما في قول الشيخ أبي زهرة وغيره من الذين جعلوا القول بالجفر من اختصاص الإمامية، ونسبوا لهم الزعم بأن أهل البيت يستخرجون منه علم الغيب. إن غير الإمامية من الفرق الإسلامية يدّعون أمثال ذلك، ثم ينسبونه إلى الأمامية، لا لشيء إلا لشينعوا، ويهوشوا، وكذلك فعلوا في دعوى تحريف القران والنقص منه، ودعوى الإيحاء والإلهام.

هذا، إلى أن مسألة الجفر ليست من أصول الدين ولا المذاهب عند الإمامية، وإنما هي أمر نقلي، تماماً كمسألة الرجعة، يؤمن بها من تثبت عنده، ويرفضها إذا لم تثبت، وهو في الحالين مسلم سني، إن كان سنياً، ومسلم شيعي، إن كان شيعياً.

الخلاصة:

إن الإمامية يدينون بأن الإمامة تكون بالنص لا بالانتخاب، وإن محمداً صلى الله عليه وآله نص صراحة على علي بن أبي طالب، وإنهم يوجبون العصمة للإمام، وينفون عنه علم الغيب، ويقولون بالتقية عند خوف الضرر، وينفون - متفقين - صفة البداء عن اللّه المستلزمة للجهل، وحدوث العلم، ويختلفون في الرجعة.

مصحف فاطمة:

نسب إلي الإمامية القول بأن عند فاطمة بنت الرسول مصحفاً، فيه زيادات عن هذا القرآن الكريم، وقبل أن نبين حقيقة هذه النسبة نشير إلى عقيدة المسلمين

في صيانة الكتاب العزيز.

اتفق المسلمون بكلمة واحدة على أنه لا زيادة في القرآن، ما عدا فرقة صغيرة شاذة من فرق الخوارج، فإنها أنكرت أن تكون سورة يوسف من القرآن، لأنها قصة غرام يتنزه عن مثلها كلام اللّه سبحانه. ونسب إلى بعض المعتزلة إنكار سورة أبي لهب، لأنها سب وطعن لا يتمشى مع منطق الحكمة والتسامح. ونحن لا نتردد، ولا نتوقف في تكفير من أنكر كلمة واحدة من القرآن، وأن جحود البعض، تماماً كجحود الكل، لأنه طعن صريح فيما ثبت عن النبي بضرورة الدين، واتفاق المسلمين.

أما النقصان بمعنى أن هذا القرآن لا يحتوي على جميع الآيات التي نزلت على محمد، فقد قال به أفراد من السنة والشيعة في العصر البائد، وأنكر عليهم يومذاك المحققون وشيوخ الإسلام من الفريقين، وجزموا بكلمة قاطعة أن ما بين الدفتين هو القرآن المنزل دون زيادة أو نقصان للآية 8 من سورة الحجرات: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». والآية 41 من سورة فصلت: «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد». واليوم أصبح هذا القول ضرورة من ضرورات الدين، وعقيدة لجميع المسلمين، إذ لا قائل بالنقيصة، لا من السنة، ولا من الشيعة. فإثارة هذا الموضوع، والتعرض له - في هذا العصر - لغو وعبث، أو دس وطعن على الإسلام والمسلمين.

وإذا عذرنا محب الدين الخطيب والحفناوي والجبهان وأضرابهم من المأجوردين فإنا لا نعذر أبداً الشيخ أبا زهرة، لأنه في نظرنا أجلّ، وأسمى علماً وخلقاً من ألف خطيب وخطيب من أمثال محب الدين. لذا وقفنا حائرين متسائلين: ماذا أراد فضيلته من إثارة هذا الموضوع في كتاب «الإمام الصادق» مع علمه ويقينه أنه أصبح في خبر كان، وأنه لا قائل به اليوم من الشيعة ولا من السنة؟ ماذا أراد الشيخ أبو زهرة من حملته الشعواء على الشيخ الكليني صاحب

الكافي الذي مضى على وفاته أكثر من ألف سنة؟ هل يريد الشيخ أن يدخلنا في جدل عقيم، ونحن نطلب الوفاق والوئام معه ومع غيره؟ وحيثما أجلت الفكر في سبب هذه الحملة لم أجد لها تفسيراً إلا التأثر بالبيئة والوراثة.

وهل من شيء أدل على ذلك من قوله في ص 36 : «لا نستطيع قبول روايات

الكليني، لأنه الذي ادعى أن الإمام جعفر الصادق قد قال: إن في القرآن نقصاً وزيادة، وقد «كذبه» - كذا - كبار العلماء من الاثني عشرية، كالمرتضى والطوسي وغيرهما، ورووا عن أبي عبد اللّه الصادق نقيض ما ادعاه الكليني» وكرر هذه العبارة وما إليها في صفحات الكتاب مرات ومرات. إن أبا زهرة يصور الكليني، وكأنه قد تفرد بهذا القول دون غيره، وتصويره هذا بالتضليل أشبه، كما يتضح مما يلي:

ولست أدري كيف ذهل الشيخ عن وجه الشبه فيما نقله الكليني في الكافي، وما نقله كل من البخاري ومسلم في صحيحه؟ قال البخاري في ج 8 ص 209 طبعة سنة 1377 هجري:

«جلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن قام، فأثنى على اللّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي؟ فمن عقلها ووعاها فليحدث بها، حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي. إن اللّه بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول اللّه ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه، والرجم في كتاب اللّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه: «أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم». ونقل البخاري أيضاً في ص 86 ج 9 باب «الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء» عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللّه لكتبت آية الرجم بيدي».

هذا ما جاء على لسان الخليفة الثاني في صحيح البخاري، وروى هذا الحديث مسلم في صحيحه ص 107 القسم الأول من الجزء الثاني طبعة سنة 1348 هجري، ولم يذكر فيه «أن لا ترغبوا عن آبائكم» إلخ مع العلم بأن ليس في القران ما يشعر بوجوب الرجم والرغبة عن الآباء. وقال السيوطي في «الإتقان» ج 1 ص 60 مطبعة حجازي بالقاهرة: «أول من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان

الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عد ل، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت، فقال - أي أبو بكر - اكتبوها، فإن رسول اللّه صلى الله عليه وآله جعل بشهادة رجلين، فكتب، وإن عمر أتى بآية الرجم، فلم يكتبها، لأنه كان وحده».

وإذا كان أبو زهرة لا يقبل أحاديث الكليني، لأنه روى حديث التحريف - كما قال - فعليه أن لا يقبل أحاديث البخاري جملة وتفصيلاً، لمكان هذا الحديث الصريح الواضح بالتحريف بشهادة عمر بن الخطاب. وإن ما ذكره الكليني في هذا الباب لا يختلف في النتيجة عما ذكره البخاري ومسلم. فلماذا تحامل الشيخ على الكليني، وسكت عنهما؟ بل قال أبو زهرة في كتاب الإمام زيد ص 245: «والبخاري ذاته، وهو أصح كتب السنة إسناداً قد أخذت عليه أحاديث وما كان ذلك مسوغاً لتكذيب البخاري ولا مسوغاً لنقض الصحيح الذي رواه وعدم الأخذ به.

وأيضاً روى البخاري في الجزء الرابع «باب طفة إبليس وجنوده» عن عائشة أنها قالت: «سحر النبي، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله».

وقد كذبه في ذلك الجصاص أحد أئمة الحنفية، قال ما نصه بالحرف: «وقد أجازوا من فعل الساحر ما هم أطم وأفظع، ذلك أنهم زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله سحر، وأن السحر عمل فيه، حتى قال: إنه يخيل لي أني أقول الشيء، ولا أقوله، وأفعله، ولم أفعله - إلى أن قال الجصاص - : ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين». (الجزء الأول من أحكام القرآن للجصاص ص 55 طبعة سنة 1347 هجري».

وكذب البخاري في ذلك أيضاً الشيخ محمد عبده في تفسيره لسورة الفلق، حيث قال: «وقد رووا أحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله سُحر. حتى كأنه يفعل الشيء، وهو لا يفعله، أو يأتي شيئاً، وهو لا يأتيه. وهذا يصدق قول المشركين فيه. «إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً». وليس المسحور إلا من خولط في عقله، وخيل إليه أن شيئاً يقع، وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه، ولا يوحى إليه».

والآن، وبعد هذه الأرقام بماذا تجيب - أيها الشيخ -؟ قلت: إنك لا تقبل روايات الكليني، لأن الطوسي والمرتضى كذباه في رواية التحريف. ونقول

لك: إن الإمام الجصاص، والإمام عبده كذبا البخاري في رواية سحر النبي. وقال الأول: إن هذا من وضع الملحدين. وقال الثاني إن السحر يستلزم تصديق المشركين وتكذيب الرسول. وعليه فأنت بين أمرين: إما أن لا تقبل روايات البخاري والكليني معاً، وإما أن تقلبهما معاً، ولا أظنك تفعل هذا ولا ذاك. بل تقبل البخاري، دون الكليني، وتناقض نفسك بنفسك. وهذا هو منطق كل من رد وتحامل على علماء الإمامية.

لقد ذهل الشيخ أبو زهرة عن ذلك، وذهل أيضاً عن أن مخالفة المرتضى والطوسي للكليني إنما هي كمخالفة مالك لأبي حنيفة، والشافعي للاثنين، وأحمد للثلاثة في كثير من المسائل. وإذا كان اختلاف علماء الإمامية فيما بينهم يستدعي طرح أقوالهم كلاً أو بعضاً فكذلك الأمر بالنسبة إلى علماء السنة، وأئمة المذاهب. إن اختلاف أنظار العلماء في صحة الحديث وضعفه كاختلافها في الأحكام نفسها لا يستدعي تكذيبهم، وطرح أقوالهم. بل إن أبا زهرة صرح في كتاب «المذاهب الإسلامية» ص 21 بأن الخلاف الذي نتج عن الاستنباط كان محمود العاقبة حسن النتيجة. فهل هذا الحسن يختص بعلماء طائفة دون أخرى؟

وبعد هذه الوقفة القصيرة مع الشيخ أبي زهرة نعود إلى الحديث عن مصحف فاطمة، وقد جاء ذكره في أخبار أهل البيت مع تفسيره، وأنه كان من إملاء رسول اللّه على علي، قال الإمام الصادق: عندنا مصحف فاطمة، أما واللّه، ما فيه حرف من القرآن، ولكنه من إملاء رسول اللّه، وخط علي. قال السيد محسن الأمين في «الأعيان» قسم أول من ج 1 ص 248: إن نفي الإمام الصادق أن يكون فيه شيء من القرآن لكون تسميته بمصحف فاطمة يوهم أنه أحد النسخ الشريفة، فنفى هذا الإيهام.

وفي كتاب الكافي أن المنصور كتب يسأل فقهاء أهل المدينة عن مسألة في الزكاة. فما أجابه عنها إلا الإمام الصادق، ولما سئل من أين أخذ هذا؟ قال: من كتاب فاطمة. إذن مصحف فاطمة كتاب مستقل وليس بقرآن. فنسبة التحريف إلى الإمامية على أساس قولهم بمصحف فاطمة جهل وافتراء.

والأولى نسبة هذا القول إلى الذين زعموا بأن لعائشة قرآنا، فيه زيادات عن هذا القرآن. قال جلال الدين السيوطي في كتاب «الإتقان» ج 2 ص 25 طبعة

حجازي بالقاهرة ما نصه بالحرف: «قالت حميدة بنت أبي يونس: قرأ أبي، وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة «إن اللّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً وعلى الذين يصلون الصفوف الأولى».

أرأيت كيف يتهمون غيرهم بما هم به أولى، تماماً كما فعلوا في مسألة الجفر، ومسألة الإيحاء وغيرهما...

وبالتالي، فإن غرضي من هذا الفصل، وما سبق من الفصول أن أثبت بالأرقام أنه لا شيء عند الإمامية إلا ويوجد له أصل عند السنة تفصيلاً أو إجمالاً، منطوقاً أو مفهوماً، وعليه فلا وجه لطعن أبي زهرة، ومن تقدم، أو تأخر. اللهم إلا التعصب وتأكد الأنقسام والاقتراق1.

_______________________

1 - وقع في يدي كتاب، وأنا أحرر هذا الفصل، وكنت أبحث وأفتش في المكتبات التجارية وغيرها عن المصادر، واسم الكتاب «حركات الشيعة المتطرفين، وأثرهم في الحياة الاجتماعية والأدبية لمدن العراق إبان العصر العباسي الأول» لمحمد جابر عبد العال مدير الشؤون الاجتماعية بجامعة القاهرة، خبط فيه كاتبه خبط عشواء، وشحنه بالكذب والافتراء، شأنه في ذلك شأن أسلافه الكثيرين، ولكن كلمة حق ظهرت على فلتات قلمه، وهو يكتب مقدمة الكتاب من حيث يريد أو لا يريد، قال: «إننا نعلم أن بين أهل السنة من تعصب على الشيعة، وأمعن في ذلك إمعاناً جعله يرميهم دون تثبيت باتهامات يتبين لذي العين البصيرة أنها باطلة، أملاها التعصب والتشاحن المذهبي»..

الشّيعَة والفُرس

قال الدكتور طه حسين في كتاب «علي وبنوه» : إن خصوم الشيعة نسبوا إليهم «ما يعلمون وما لا يعلمون». وكرر ذلك في صفحات الكتاب، لشتى المناسبات. منها قوله في صفحة 187 طبعة دار المعارف بمصر:

لا يكتفي خصوم الشيعة من الشيعة بما يسمعون عنهم، أو بما يرون من سيرتهم، وإنما يضيفون إليهم أكثر مما قالوا، وأكثر مما سمعوا، ثم لا يكتفون بذلك، وإنما يحملون هذا كله على عليّ نفسه، وعلى معاصريه 1 .

وقال في صفحة 189 :

وخصومهم واقفون لهم بالمرصاد يُحصون عليهم كل ما يقولون ويفعلون، ويضيقون إليهم أكثر مما قالوا، وما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال، ثم يتقدم الزمان، وتكثر المقالات، ويذهب أصحاب المقالات في الجدال كل مذهب، فيزداد الأمر تعقيداً وإشكالاً، ثم تختلط الامور بعد أن يبعد عهد الناس بالأحاديث، ويتجاوز الجدال خاصة الناس إلى عامتهم، ويتجاوز الذين يحسنونه إلى الذين لا يحسنونه، ويخوض فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فيبلغ الأمر أقصى ما يمكن أن يبلغ من الإيهام والإظلام، وتصبح الأمة في فتنة عمياء لا يهتدي فيها إلى الحق إلا الأقلون.

وقال في صفحة 98 و 99 :

«إن ابن سبا كان متكلفاً منحولاً2 قد اخترع بآخرة حين كان الجدال بين

_____________________________

1 - وسنرى في الفصل التالي أن أحمد أمين في أيامه الأخيرة نقض أقواله بحق الشيعة التي سطرها في فجر الإسلام وضحاه. وهكذا يشهد قطبان كبيران بأن الشيعة اتهموا بأشياء كذباً وافتراء.

2 - ألف السيد مرتضى العسكري كتاباً في ابن سبا أثبت بالأرقام أنه منحول لا وجود له في الواقع.

الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية. أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب - أي مذهب الشيعة - عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم، والتنكيل بهم. ان ابن سبا شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم، ولم يدخروه للخوارج».

هذي هي الصفات التي تميز خصوم الشيعة اليوم، وقبل اليوم: جدال بدون علم ومعرفة، واختراع أشخاص لا أساس لهم ولا أصل، لغاية الكيد والتنكيل، وافتراء الأعاجيب والأكاذيب، لإشاعة الفتنة والتضليل. أدرك ذلك كله، وشهد به الدكتور طه حسين حين بحث التاريخ موضوعياً وللحقيقة وحدها، مجرداً عن الأهواء والغايات، وأعلن هذه الحقيقة بلسان واضح مبين، وقدم الشواهد والدلائل، وقد أشرنا - فيما تقدم - إلى طرف منها، ونذكر الآن لوناً آخر من الأكاذيب التي تهدف فيما تهدف إلى اخراج الشيعة من الإسلام كلية:

لقد زعم خصوم الشيعة فيما زعموا أن التشيّع دين مستقل ابتدعه الفرس كيداً للإسلام الذي أزال ملكهم، وأباد سلطانهم، فأرادوا الانتقام منه، فلم يستطيعوا، فأدخلوا عليه البدع والضلال متسترين باسم التشيع.

وفند هذا الزعم بالأدلة والأرقام السيد محسن الأمين في الجزء الأول من «أعيان الشيعة»، والشيخ محمد حسين المظفر في «تاريخ الشيعة»، وكثير من المستشرقين، منهم فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» وآدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» وجولد تسهير في كتاب «العقيدة والشريعة»، وغيرهم. ويتلخص ما ذكروه من الردود، وما نضيفه إليها بما يلي:

1 - أثبتنا فيما تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله هو الباعث الأول لفكرة التشيع، وأرجعنا ما تدين به الإمامية إلى نصوص الكتاب والسنة، وذكرنا عدداً وافراً من الصحابة الذين قالوا بوجود النص على علي بالخلافة.

2 - قال السيد الأمين في القسم الأول من الجزء الأول ص 49 طبعة سنة 1960 :

«إن الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلا القليل منهم. وجل علماء السنة وأجلاؤهم من الفرس، كالبخاري والترمذي

والنسائي وابن ماجة، والرازي والبيضاوي وفخر الدين الرازي، وصاحب القاموس والزمخشري والتفتازاني، وأبي القاسم البلخي والقفال والمروزي والشاشي والنيسابوري والبيهقي، والجرجاني والراغب الأصفهاني والخطيب التبريزي، وغيرهم ممن لا يبلغهم الإحصاء.

ومن دخل من الفرس وتشيع فحاله حال من تشيع من سائر الأمم، كالعرب والترك والروم وغيرهم لا باعث له إلا حب الإسلام، وحب آل الرسول، فأسلم وتشيع عن رغبة واعتقاد. وإذا جاز أن يقال: إن الفرس تشيعوا كيداً للإسلام، لأنه قهرهم جاز أن يقال: إن غير الفرس تسننوا كيداً للإسلام ، لأنه غلب وقهر الجميع لا الفرس وحدهم.

والحقيقة أن بعض الفرس دان بالتشيع للسبب الذي دان به غيرهم بالتشيع، وبعضهم دان بالتسنن للسبب الذي دان به غيرهم بالتسنن، سنة اللّه في خلقه. إن الذين نشروا التشيع في قم وأطرافها الأشعريون، وهم عرب صميمون هاجروا إليها من الكوفة في عصر الحجاج، وغلبوا عليها، واستوطنوها، وانتشر التشيع في خراسان بعد خروج إليها وزاد الانتشار واتسع في إيران في عصر الصفوية الذين نصروا التشيع، وهم عرب، لأنهم سادة أشراف من نسل الإمام موسى بن جعفر، لا يمكن بحال أن يتعصبوا للأكاسرة، والذين يجوز في حقهم ذلك هم قدماء الفرس، وهؤلاء جلهم كان على مذهب التسنن».

أثبت السيد الأمين أن الذين نشروا التشيع وناصروه في إيران هم بين عربي أصيل، كالإمام الرضا والأشعريين 1 أو من أصل عربي كالصفوية، وأن الذين دعموا التسنن وناصروه هم فرس أقحاح، كالبخاري والنسائي والرازي وغيرهم. فإن كان للفرس مقاصد وأهداف ضد الإسلام، كما زعم خصوم الشيعة فأولى ثم أولى أن يحاولوا تحقيق غاياتهم عن طريق التسنن لا التشيع، إذ

______________________

1 - في سنة 83 هجري خرج ابن الأشعث على الحجاج، ثم هزم جيشه وتفرق في البلاد، وكان بينهم خمسة إخوة : عبد اللّه والأحوص وعبد الرحمن وإسحق ونعيم أبناء سعد بن مالك بن عامر الأشعري، فاجتمع الخمسة وتغلبوا على بعض القرى القريبة من قم، واجتمع إليهم بنو عمهم، وكان المتقدم من هؤلاء عبد اللّه وكان له ولد يتشيع، فانتقل من تلك القرى إلى قم، ونقل التشيع إلى أهلها (الكنى والألقاب) ترجمة القمي.

المفروض أن سبب التشيع في إيران يرجع إلى عنصر عربي، والتسنن إلى عنصر فارسي صرف. ولكن خصوم الشيعة موهوا وضللوا، وعكسوا الآية، لا لشيء إلا للكيد والتنكيل، كما قال الدكتور طه حسين. وهكذا فعلوا في مسألة الجفر وعلم الغيب.

وقال الشيخ محمد حسين المظفر في «تاريخ الشيعة» ص 8 المطبعة الزهراء بالنجف :

«كان للإمام ثلاثة حروب : الجمل، وصفين والنهروان. وكان جيشه كله عرباً أقحاحاً بين عدنانية وقحطانية. أكانت قريش من الفرس أم الأوس والخزرج، أم مذحج، أم همدان، أم طي، أم كندة، أم تميم، أم مضر، أم أشباهها من القبائل؟ وهل كان زعماء جيشه غير رؤساء هذه القبائل؟ أكان عمار فارسياً، أم هاشم المرقال، أم مالك الأشتر، أم صعصعة بن صوحان، أم أخوه زيد، أم قيس بن سعد، أم ابن عباس، أم محمد بن أبي بكر، أم حجر بن عدي بن حاتم، وأمثال هؤلاء من القواد؟».

أما أصحاب الحسن والحسين فكلهم عرب، وجلهم من أصحاب أبيهما أمير المؤمنين.

وقال المستشرق فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» ص 241 طبعة سنة 1958 يرد على المستشرق دوزي الذي زعم أن التشيع كمذهب ديني إيراني الأصل :

«أما أن آراء الشيعة كانت تلائم الإيرانيين فهذا أمر لا سبيل إلى الشك فيه، أما كون هذه الآراء قد انبعثت من الإيرانيين فليست تلك الملاءمة دليلاً عليه، بل الروايات التاريخية تقول بعكس ذلك، إذ تقول : إن التشيع الواضح الصريح كان قائماً أولاً في الدوائر العربية، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي». وقال في ص 148 : «كان جميع سكان العراق في عهد معاوية خصوصاً أهل الكوفة شيعة، ولم يقتصر هذا على الأفراد، بل شمل القبائل ورؤساء القبائل.

وهذا يعزز ما قاله السيد الأمين في الأعيان من أن التشيع في إيران جاء من أصل عربي لا من أصل فارسي».

وقال المستشرق آدم متز في كتاب «الحضارة الإسلامية» ص 102 وما بعدها

طبعة سنة 1957 ما ملخصه :

«إن مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية، يخالف الإسلام. فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلها عدا المدن الكبرى، مثل مكة وتهامة وصنعاء، وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً، مثل عمان وهجر وصعدة. أما إيران فكانت كلها سنة ما عدا «قم» وكان أهل أصفهان يغالون في معاوية، حتى اعتقد بعض أهلها أنه نبي مرسل، كما نقل المقدسي».

وإذا كان الفرس هم سبب التشيع في إيران وغير إيران، فهل جاء غلو بعض أهالي أصفهان في معاوية، ورفعه إلى منصب النبوة والرسالة، هل جاء هذا الغلو في معاوية نتيجة لتشيع الفرس؟ إنه لغريب حقاً منطق خصوم الشيعة، كما قال الدكتور طه حسين. قالوا : إن الغلو في علي جاء من الفرس. ثم ينقل عالم من علمائهم مثل المقدسي أن بعض الفرس غالى في معاوية، حتى جعلوه نبياً مرسلاً. ثم كيف ومن أين وصل التشيع إلى جزيرة العرب؟ هل جاء إليها من الفرس، والتاريخ يقول : إن الفرس كانوا على التسنن حين كان سكان الجزيرة العربية على التشيع؟ وهكذا يقع في التناقضات من يضفي على التاريخ صفته الذاتية العدائية، ثم يبني عليه آراءه وأحكامه.

وقال المستشرق جولد تسهير في كتاب «العقيدة والشريعة» ص 204 طبعة 1946 :

«إن من الخطأ القول بأن التشيع في منشئه، ومراحل نموه يمثل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام، بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية. فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة1» وما هؤلاء

________________

1 - إن علماء المسلمين العرب هم الذين أدخلوا التشيع إلى فارس، وأرشدوا الفرس إليه. بشهادة الشيخ أبي زهرة، قال في كتاب «الإمام جعفر الصادق» ص 945 : «أما فارس وخراسان، وما وراءهما من بلدان الإسلام فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أولاً، ثم العباسيين ثانياً، وإن التشيع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً، قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها». فالفرس - إذن - تشيعوا على أيدي العرب، ولم يخلقوا التشيع من تلقائهم كيداً للإسلام.

المستشرقون الثلاثة كل من نطق بهذه الحقيقة. فهناك كثيرون غيرهم قالوا هذا القول، دون أن يقصدوا الذب والدفاع عن الشيعة، وعقيدة التشيع، وإنما هدفهم الأول بيان الحقيقة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة. وكنا في غنى عن الاستشهاد بأقوالهم، لو تحرر خصوم الشيعة عن التعصب الأعمى، ونزوات الأهواء والأغراض.

هذا، إلى أن السنة قد أخذوا بعض العادات من غيرهم، كعيد رأس السنة الهجرية الذي أحدثوه في زماننا، وعيد المولد النبوي الشريف تقليداً للمسيحيين الذين يحتفلون بميلاد السيد المسيح، ورأس السنة الميلادية. وكان علماء السنة، في القرن الثامن الهجري يعدون الاحتفال بالمولد النبوي مخالفاً للسنة، لأنه لا عيد في الإسلام إلا عيد الأضحى وعيد رمضان، وصدرت فتاوى من شيوخهم بتحريمه، على اعتبار أنه بدعة وضلالة1. ولو أردنا أن نتعصب لقلنا : إن مذهب التسنن مأخوذ من المسيحيين، لا من الكتاب والسنة.

وبالتالي، فإن الذي اجتذب الفرس وغير الفرس إلى التشيع هو الإسلام الصحيح، وحب الرسول وآله، واستشهاد الأخيار في سبيله، وملاءمته للحياة، ومناصرته للضعفاء والمضطهدين، أجل، كان الفرس منذ عهد الصفويين، حتى اليوم من أقوى الدعائم للشيعة، ومذهب التشيع، وهذا هو السر الذي بعث خصوم الشيعة على أن يصوروا الفرس، وكأنهم أعدى أعداء الإسلام، مع العلم بأنه لولا الفرس لم يكن للمسلمين هذا العدد الضخم من العلماء الذين نفاخر بهم أمم الشرق والغرب، ولا كان للإسلام هذه المكتبة المتخمة بألوف المجلدات في شتى العلوم، ولسنا نعرف أمة خدمت الإسلام، ولغة القرآن كالفرس، ولو أحصيت المكتبة الإسلامية والعربية لكان سهم الفرس منها أوفى من أسهم بقية المسلمين مجتمعين. إن الفرس لم يتستروا باسم التشيع، ليكيدوا للإسلام، بل إن أعداء الإسلام تستروا باسمه، ليكيدوا للتشيع بعامة، والفرس بخاصة، لأنهم كانوا وما زالوا من أقوى أركان الإسلام وأنصاره.

وهل من شيء أدل على عداوة هؤلاء للحق والإسلام من تشنيعهم على الشيعة،

______________________

1 - نقله بعض المؤلفين عن كتاب «بيت الصديق» للبكري ص 404 طبعة 1323 هجري.

وسكوتهم عن الخوارج الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وآله : إنهم يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. بل إن الشاطبي أوصى بالستر عليهم، وعدم التعرض لهم، مع اعترافه بمروقهم من الدين. قال في كتاب «الموافقات» ج 4 ص 178 وما بعدها مطبعة الرحمانية بمصر ما ملخصه :

«قال النبي : إن من ضئضئي هذا - يعني ذا الخويصرة - قوماً يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. وقد بين النبي بهذا الحديث من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين :

أحدهما : اتباع القرآن على غير تدبر، ولا نظر في مقاصده ومعاقده.

ثانيهما : قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان.

وذكر الناس من آرائهم غير ذلك، كتكفيرهم لأكثر الصحابة وغيرهم، ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام، وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم بأنه حلال، أو حرام فليس بمؤمن. وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم، وأن التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الإطلاق والعموم، والقاذف للرجال لا يحد. وأن اللّه سيبعث نبياً من العجم بكتاب ينزله اللّه عليه جملة واحدة، ويترك شريعة محمد. وإنكارهم سورة يوسف من القرآن، وأشباه ذلك، وكلها مخالفات شرعية.

ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها، ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى. ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذي ينبغي أن يلتزم، ليكون ستراً على الأمة. وقد أمرنا بالستر على المذنبين».

وإذا أمرنا بالستر على من خرج من الإسلام، فهل يجب التقبيح والتشنيع على من هم من الإسلام في الصميم؟! وغريب أن يقول عالم كالشاطبي : إن النبي أخرج الخوارج من الإسلام، ثم يزعم أن أمرهم مرجى إلى اللّه، ويوصي بالستر عليهم، والسكوت عنهم. أليس معنى هذا قال النبي، وأقول؟!

 

أحمَد أمين يعَترف في أيَّامه الأخِيرة

هاجم أحمد أمين في كتاب «فجر الإسلام» وضحاه الإمامية هجوماً عنيفاً، ورد عليه يومذاك علماؤهم رداً منطقياً، وأثبتوا بشهادة التاريخ وكتبهم العقائدية أنه أحل العاطفة محل العقل، والتعصب محل العدل، والخيال محل الواقع. ومن الذين تصدوا للرد عليه المرحوم كاشف الغطاء في كتاب «أصل الشيعة وأصولها».

وبعد مضي عشرين عاماً، أو أكثر على مهاجمته تلك أصيب بنظره، وعجز عن القراءة والكتابة، وفي أيامه الأخيرة - سنة 1952 - استعان بغيره، وأملى عليه كتاباً أسماه «يوم الإسلام» اعترف فيه من حيث لا يحس ولا يشعر بما كان قد أنكره على الإمامية، من ذلك :

استنكاره مبدأ النص على خليفة الرسول، وزعمه بأنه بدعة استوردها الشيعة من الخارج، وأن النبي أقر مبدأ الشورى والانتخاب. ثم ناقض نفسه، ورد عليها بنفسه، حيث اعترف في كتاب «يوم الإسلام» بأن النبي صلى الله عليه وآله أراد أن يكتب في مرضه الذي مات فيه كتاباً يعين من يلي الأمر بعده، فحال عمر دون إرادته. وهذا ما قاله صاحب «فجر الإسلام» بالحرف الواحد في كتابه الأخير «يوم الإسلام» ص 41 طبعة 1958 :

«أراد رسول اللّه صلى الله عليه وآله في مرضه الذي مات فيه أن يعين من يلي الأمر بعده، ففي الصحيحين - البخاري ومسلم - أن رسول اللّه لما احتضر قال : «هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده» وكان في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، فقال عمر : إن رسول اللّه قد غلب عليه الوجع1 وعندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه، فاختلف القوم، واختصموا فمنهم من قال : قربوا إليه يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من قال : القول ما قاله عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عنده صلى الله عليه وآله قال لهم قوموا فقاموا، وترك الأمر مفتوحاً لمن شاء جعل المسلمين طوال عصرهم يختلفون على الخلافة، حتى عصرنا هذا بين السعوديين والهاشميين».

وقال في ص 53 : «اختلف الصحابة على من يتولى الأمر بعد الرسول، وكان هذا ضعف لياقة منهم، إذ اختلفوا قبل أن يدفن الرسول» مع العلم أن علياً كان مشغولاً بتجهيز النبي صلى الله عليه وآله .

وقال في ص 52 : «كان مجال الخلاف الأول - أي بين الصحابة - في بيت النبي. والثاني في سقيفة بني ساعدة. وأخيراً تم الأمر لأبي بكر على مضض».

وقال في ص 54 : «بايع عمر أبا بكر، ثم بايعه الناس، وكان في هذا مخالفة لركن الشورى، ولذلك قال عمر : إنها غلطة وقى اللّه المسلمين شرها، وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر».

وقال في ص 58 :

«وكان أهم ما نقم الناس على عثمان :

1 - طلب منه عبد اللّه بن خالد بن أسيد الأموي صلة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم.

2 - أعاد الحكم بن العاص بعد أن نفاه رسول اللّه، وأعطاه مائة ألف درهم.

3 - تصدق رسول اللّه بموضع سوق المدينة على المسلمين، فأعطاه عثمان للحارث الأموي.

4 - أعطى مروان فدكاً، وقد كانت فاطمة طلبتها بعد أبيها، فدفعت عنها.

5 - حمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية.

6 - أعطى عبد اللّه بن أبي السرح جميع ما أفاء اللّه من فتح إفريقيا بالمغرب، من غير أن يشرك فيه أحداً من المسلمين.

________________________

1 - في صحيح البخاري ج 6 ص 9 طبعة 1314 هجري «ما شأنه - أي النبي - أهجر؟».

7 - أعطى أبا سفيان مائتي ألف ومروان مائة ألف من بيت المسلمين في يوم واحد.

8 - أتاه أبو موسى الأشعري بأموال كثيرة من العراق، فقسمها كلها في بني أمية.

9 - تزوج الحارث بن الحكم، فأعطاه مائة ألف من بيت المال.

10 - نفى أبا ذر رحمه اللّه إلى الربذة، لمناهضته معاوية في كنز الذهب والفضة.

11 - ضرب عبد اللّه بن مسعود، حتى كسر أضلاعه.

12 - عطل الحدود، ولم يرد المظالم، ولم يكف الأيدي العادية.

13 - كتب إلى عامله في مصر يأمره بقتل قادة الثورة».

وقال في ص 57 : «وكان من أكبر الشخصيات البارزة في محاربته، وتأليب الناس عليه عائشة بنت أبي بكر».

وقال في ص 61 : «إن قتل عمر وعلي كان حادثة فردية، ومؤامرة جزئية، أما مقتل عثمان فقد كان ثورة شعبية للأقطار الإسلامية» أي أن علياً وعمر لم يقتلهما المسلمون، أما عثمان فقد قتله المسلمون أنفسهم.

وقال في ص 53 : «كره كثير من الصحابة أن يجمع بين النبوة والخلافة، ولعلمهم بشدة علي في الحق وعدم تساهله».

ولو عطفنا هذه الأقوال بعضها على بعض جاءت النتيجة كما يلي :

إن مبدأ النص على الخليفة مصدره الأول رسول اللّه دون سواه، وإن الذين خالفوه، وحالوا بينه وبين أن ينص على من يليه في سجل مكتوب لا يقبل التأويل والتبديل هم بالذات الذين خالفوا تلك النصوص غير المكتوبة. قال الشيخ محمد رضا المظفر في كتاب «السقيفة» : «وإذا كانوا في حياته لا يطيعون أمره في هذه السبيل، فكيف إذن بعد وفاته؟».

وإن ترك النص على الخليفة قد فرّق الأمة، ومزق كلمتها، وأوقعها في التطاحن والتناحر إلى آخر يوم. والسبب في ذلك كله هو الخليفة الثاني، ومن آزره في رأيه، وأعانه على منع الرسول أن يكتب لهم كتاباً لا يضلون بعده أبداً.

وإن بيعة أبي بكر وعمر لم تكن بالنص ولا بالشورى، وإنما كانت مجرد

غلطة، ومعنى غلطة أنها على غير الحق. أما عثمان فخالف الإسلام، ولذا ثارت عليه الأقطار الإسلامية بتحريض السيدة عائشة، فكانت الثورة عليه شعبية إسلامية، لا شعوبية، ولا من الشذاذ وقطاع الطرق - كما قيل -.

وإن الأصحاب الذين حالوا بين علي والخلافة إنما فعلوا ذلك لسببين :

الأول : إنه شديد في الحق، لا يتساهل به أبداً.

الثاني : التعصب على أهل البيت، حيث كرهوا أن تجتمع في بيت واحد، وهو بيت محمد النبوة والخلافة.

وإذا أبى من أبى تعصباً وعناداً أن يعترف لعلي بالخلافة، لا لشيء إلا لأنه على حق، ومن أهل البيت، فإن الشيعة آمنوا بخلافته، لأنهم يؤمنون بالحق، وأحبوه، لأنهم يحبون النبي وأهل بيته الأطهار.

وبالإجمال فإن ما قاله الإمامية في هذا الباب لا يزيد في حقيقته شيئاً عما قاله أحمد أمين في كتاب «يوم الإسلام» الذي ألفه في أيامه الأخيرة، وبعد أن أقام الدنيا، ولم يقعدها على الإمامية في فجر الإسلام وضحاه. وسبق أن أثبتنا بالأرقام أن من أنكر التقية يقول بها، وأن التهمة بالجفر بمعنى علوم الغيب، وبتحريف القرآن، وما إلى ذاك هي أليق وألصق بمن اتهم وتهجم.

ومن الخير أن نذكر بهذه المناسبة ما قاله الشيخ محمد رضا المظفر في كتاب «السقيفة» ص 66 وما بعدها طبعة 1953، قال :

«ما بال عمر بن الخطاب لم يعتقد بهجر أبي بكر حين أوصى له بالخلافة من بعده، مع أن أبا بكر كان مريضاً حين الوصية، حتى أغمي عليه من شدة الوجع، وأثناء تحرير الاستخلاف الذي كان يتولاه عثمان بن عفان، فأتم عثمان النص على عمر دون أن يعلم أبو بكر، خشية أن يدركه الموت قبل الوصية. وحين استفاق أمضى ما كتب عثمان.

لقد علم عمر أن النبي سينص في الكتاب على علي لا محالة، ذلك أنه قال : أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً، وكان أن سبق وعبّر مثل هذا التعبير في حديث الثقلين، حيث قال : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي. لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما أبداً. ففهم عمر ماذا يريد الرسول، ولذا قال : إنه يهجر، أو وجع».

وبالتالي نكرر القول إن ما من شيء تدين به الإمامية إلا وله أساس عند السنة، ولم ينكر هذه الحقيقة إلا جاهل، أو متجاهل يبغي الدس وإيقاظ الفتنة. وقد اعترف أحمد أمين نفسه بذلك، قال في ص 187:

« هل للمسلمين أن يشتد وعيهم الديني، ويفهموا طول التجارب أنه لم يعد هناك وجه للخلاف بين سني وشيعي وزيدي، وغير ذلك من المذاهب، لأنهم لو رجعوا إلى أصل دينهم ما وجدوا لهذا الخلاف محلاً، ولوجدوا أنه خلاف مصطنع لا خلاف أصيل، وأن الامم الإسلامية في موقفها الحاضر أحوج ما تكون إلى لمّ شعثها، وإصلاح ذات بينها، وتوحيد كلمتها، وهي ترى كيف تهاجم من كل جانب، وكيف يتخذ إسلامها وسيلة من وسائل الكيد لها، وإذا اتحد أهل الباطل على باطلهم، فأولى أن يتحد أهل الحق على حقهم».

وهذا اعتراف صريح من أحمد أمين بأنه كان مخطئاً في فجر الإسلام وضحاه، وأنه اصطنع الخلاف بين السنة والشيعة، دون أن يكون لهذا الخلاف أصل ولا أساس، وأن الجميع على حق، ويجب عليهم أن يتحدوا على حقهم، كما اتحد أهل الباطل على باطلهم.

 

بَينَ السُّنّة وَالشِّيعَة

كثيراً ما يدور على الألسن هذا السؤال : ما الفرق بين السنة والشيعة، مع العلم بأن الإسلام يجمع الفريقين ؟

الجواب :

يتفق السنة والشيعة على أن الدين عند اللّه الإسلام، وأن الطريق إليه كتاب اللّه، وسنة نبيه، وأن الكتاب هو هذا الذي بين الدفتين دون زيادة أو نقصان، وإن اختلفوا في شيء ففي بعض أسباب النزول، أو في فهم بعض الآيات. واتفقوا أيضاً على وجوب العمل بالسنة النبوية واختلفوا في طريق ثبوتها، وبكلمة لم يختلفوا في النبي، بل عنه كما قال الإمام علي، وهذا الاختلاف في فهم بعض الآيات وفي السبيل التي تثبت بها السنة النبوية انتج الخلاف في بعض الفروق في الأصول والفروع، وحاصلها أن القضايا الدينية تنقسم إلى أصول عقائدية أساسية، ومسائل فرعية تشريعية، وسنبين فيما يلي ما اتفقا عليه، وما اختلفا فيه مما يتصل بالعقائد، أما المسائل التشريعية فنتعرض لمداركها، وللمبادئ التي تستخرج منها، كالكتاب والسنة، وما إليهما، أما المسائل نفسها فلا حصر لها، وقد تعرضنا إلى كثير منها في كتاب «الفقه على المذاهب الخمسة». و«الزواج والطلاق على المذاهب الخمسة». و«الوصايا والمواريث على المذاهب الخمسة».

العقائد :

إن المسلمين جميعاً يؤمنون باللّه، ونبوة محمد، وبالبعث والحساب، واتفقوا بكلمة واحدة على أن من جحد أصلاً من هذه الأصول الثلاثة فليس من الإسلام في شيء، وأيضاً اتفقوا على أن من أنكر وجوب الصوم والصلاة والحج والزكاة، واستحل شيئاً من المحرمات الضرورية، كالخمر والزنا والسرقة والقمار والكذب وقتل النفس المحرمة، وما إلى ذاك مما ثبت بضرورة الدين، واتفقت عليه كلمة المسلمين فليس بمسلم، حتى ولو قال : «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه»، لأن إنكار شيء من هذا النوع يستدعي إنكار نبوة محمد وشريعته، وهذه هي المبادئ التي تجمع فرق المسلمين على كثرتهم وتنوع آرائهم.

ثم اختلف السنة(1) والشيعة في أمور، منها ما يتصل بالعقيدة، ومنها يتصل بمبادئ التشريع، فمن الأولى :

معرفة اللّه :

1 - بعد أن اتفق الإمامية والسنة على أن معرفة اللّه واجبة على كل إنسان، بمعنى أن عليه أن يبحث، وينظر إلى الدلائل التي تؤدي به إلى الجزم واليقين بوجود الخالق اختلفوا في مصدر هذا الوجوب : هل هو العقل أو الشرع ؟

قال الإمامية : إن معرفة اللّه تجب بالعقل، لا بالشرع، أي إن العقل هو الذي أوجب على الإنسان أن يعرف خالقه، أما ما جاء في الشرع من هذا الباب كقوله تعالى «فاعلم أنه لا إله إلا هو» فهو بيان وتأكيد لحكم العقل، وليس تأسيساً جديداً من الشارع.

وقال السنة : بل تجب المعرفة بالشرع لا بالعقل، أي أن اللّه وحده هو الذي أوجب على الناس أن يعرفوه.

رؤية اللّه :

2 - قال بعض السنة : رؤية اللّه ممكنة في الدنيا والآخرة، والبعض قال بإمكانها في الآخرة فقط، بل قال الحنابلة : إنه جسم، ولكن لا كالأجسام.

وقال الإمامية : إن رؤية اللّه محال وغير ممكنة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

صفات الباري :

3 - قال السنة : إن صفات اللّه غير ذاته.

وقال الإمامية : بل هي عينها.

_____________________

(1) نريد من السنة الأشاعرة، لأن السنة الموجودين الآن كلهم أتباع حسن الأشعري.

وقال السنة : إن أفعال اللّه لا تعلل بالأغراض والمقاصد، أي إنه تعالى لا يفعل شيئاً لغاية خاصة، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

وقال الإمامية : إن جميع أفعاله معللة بمصالح تعود على الناس، أو تتعلق بنظام الكون «سبحانك ما خلقت هذا باطلاً».

وقال السنة : كلام اللّه قديم وغير مخلوق.

وقال الإمامية : بل هو حادث ومخلوق.

وقال الإمامية : إن أمر اللّه بالشيء يدل على إرادته له، وإن نهيه عنه يدل على كراهيته للمنهي عنه، ومحال أن يأمر بما يكره، وينهى عما يحب.

وقال السنة : إن اللّه يأمر بما لا يريد، بل ربما أمر بما يكره، وإنه ينهى عما لا يكره، وربما نهى عما يحب.

وقال السنة : الخير والشر من اللّه، وإنه هو الذي فعل ويفعل الظلم والشرك، وجميع القبائح، لأنه خالق كل شيء.

وقال الإمامية : الخير من اللّه، بمعنى أنه أراده وأمر به، ومن العبد أيضاً، لأنه صدر منه باختياره ومشيئته، أما الشر فمن العبد فقط، لأنه فاعله، وليس من اللّه، لأنه نهى عنه، والقبائح يستحيل فعلها على اللّه عز وجل.

وقال السنة : يجوز أن يكلف اللّه الناس بما لا يطيقون، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

وقال الإمامية : التكليف بغير المقدور ممتنع عقلاً وشرعاً.

وقال الإمامية : الإنسان مخير لا مسير.

وقال السنة : إنه مسير لا مخير.

وقال السنة : إن العقل لا يدرك حسناً ولا قبحاً، وإنما الحسن ما أمر به الشرع، والقبيح ما نهى عنه، ولو أمر بما نهى عنه لصار حسناً، بعد أن كان قبيحاً، أو نهى عما أمر به لصار قبيحاً، بعد أن كان حسناً. ولذا يقولون : هذا حسن، لأن اللّه أمر به، وهذا قبيح، لأنه نهى عنه.

وقال الإمامية : إن العقل يدرك الحسن والقبح مستقلاً عن الشرع، ويقولون : أمر اللّه بهذا، لأنه حسن، ونهى عنه، لأنه قبيح.

وقال الشيعة : إن جميع المسببات ترتبط بأسبابها، فالماء هو الذي يروي والطعام هو الذي يشبع، والنار هي التي تحرق.

وقال السنة : لا سبب إلا اللّه فهو الذي يحدث الري عند الشرب وهو الذي يحدث الشبع عند الأكل، والإحراق عند النار، وقال بعضهم : بتكفير من اعتقد أن اللّه أودع قوة الري في الماء، والإحراق في النار، وما إلى ذاك.

بعثة الأنبياء وعصمتهم :

قال السنة : لا يجب على اللّه أن يبعث أنبياء يبينون للناس موارد الخير والشر، ويجوز أن يتركهم بلا هادٍ ولا مرشد، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

وقال الإمامية : بل تجب بعثة الأنبياء، لأنهم يقربون الناس إلى الطاعة، ويبتعدون بهم عن المعصية.

وقال السنة : تجوز الذنوب على الأنبياء الكبائر منها والصغائر قبل أن يصبحوا أنبياء، أما بعد النبوة فلا يجوز عليهم الكفر ولا تعمد الكذب، وتجوز عليهم الصغائر عمداً وسهواً، والكبائر سهواً لا عمداً.

وقال الإمامية : الأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها، قبل النبوة وبعدها، ولا يصدر عنهم ما يشين لا عمداً ولا سهواً، وإنهم منزهون عن دناءة الآباء، وعهر الأمهات.

الإمامة :

قال السنة : إن الإمام يتعين بالانتخاب، ويكفي أن يبايعه شخص واحد، حتى تتم له البيعة، والعصمة ليست بشرط عندهم في الإمام. وأوجب المالكية والشافعية والحنابلة الصبر على جور الحاكم وظلمه، ومنعوا من الخروج عليه.

وقال الإمامية : يتعين الإمام بنص النبي، أو بنص إمام معصوم، وإن النبي قد نص بالخلافة على علي بعده بلا فاصل وأوجبوا له العصمة، كما أوجبوا الخروج على الحاكم الجائر بقيادة الإمام المعصوم، أو بفتوى المجتهد العادل.

وقال السنة : يجوز أن يتقدم المفضول على الفاضل، وغير الأعلم والأكمل على الأعلم والأكمل.

وقال الإمامية : يجب تقديم الأعلم والأكمل. وقد أبى عمر بن الخطاب أن يساوي في العطاء بين الفاضل والمفضول، علاوة على تقديم الثاني على الأول.

هذي هي مجمل الفروق بين السنة والشيعة فيما يتصل بالعقيدة(1) أما الفروق التي ترجع إلى مدارك الأحكام فتتلخص بما يلي :

الكتاب :

اتفقوا جميعاً على أن الكتاب أحد مصادر التشريع، بل هو المصدر الأول، وأيضاً اتفقوا على أن عموماته تخصص بالخبر المتواتر الذي يفيد العلم، وبالخبر المشهور والمفيد للاطمئنان، ومثال ذلك آيات المواريث بين الأقارب، فإنها تخصص بحديث «لا يرث القاتل» لأنه من الأحاديث المتواترة عند السنة والشيعة، واختلفوا في تخصيص عمومات الكتاب بالخبر الواحد الذي لم يصل إلى حد التواتر أو الشهرة.

قال الحنفية : يطرح الخبر الواحد، ويبقى الكتاب على عمومه.

وقال الإمامية والمالكية والشافعية والحنابلة : الخبر يخصص عمومات الكتاب(2).

وفي كتاب «أصول الفقه» للخضري أن الشافعي قال : إن الكتاب ينسخ بالكتاب، ولا ينسخ بالسنة، وقال الجمهور - أي بقية المذاهب - : لا مانع من نسخ الكتاب بالسنة.

وعند الإمامية : أن الكتاب ينسخ بالخبر المتواتر، ولا ينسخ بالخبر الواحد.

وعلى أية حال، فقد اتفق الجميع على عدم العمل بظواهر الكتاب إلا بعد

_____________________

(1) ما نقلناه عن السنة مصدره الجزء الثامن من كتاب المواقف للايجي وشرحه للجرجاني، وشرح التجريد للقوشجي، والمذاهب الإسلامية لأبي زهرة، أما مصادر الإمامية فالتجريد وشرحه، وكشف الفوائد في شرح العقائد، المتن للطوسي، والشرح للعلامة الحلي.

(2) قال أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق : «إن الإمامية مختلفون فيما بينهم في تخصيص الكتاب بالخبر» وقال الميرزا النائيني الإمامي في تقريراته : إن هذه المسألة متفق عليها، وذكرها في كتب الأصول لا تدل على أنها خلافية، وقال الشيخ الخراساني في كفاية الأصول : إن سيرة العلماء والأصحاب على ذلك خلفاً عن سلف.

الفحص والرجوع إلى السنة النبوية، ومقابلة الآية المبينة للحكم مع الأحاديث التي وردت في بابه، لأن السنة بيان وتفسير للقرآن.

السنة النبوية :

أجمع المسلمون بكلمة واحدة على أن ما ثبت عن الرسول بطريق اليقين فهو حجة متبعة، تماماً كالقرآن، لقوله تعالى : «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».

ولكن أبا حنيفة لم يثبت عنده من أحاديث الرسول إلا سبعة عشر حديثاً، لأنه لا يقبل الحديث إلا إذا رواه جماعة عن جماعة، أو اتفق فقهاء الأمصار على العمل به، أو رواه صحابي، ولم يخالفه فيه أحد. وهذا التشدد في الحديث أدى به إلى تضييق العمل بالسنة، أو طرحها بالنتيجة، والتوسع في العمل بالرأي، سواء أكان الرأي قياساً أم استحساناً أم مصالح مرسلة. «والأمور الظاهرة في فقه أبي حنيفة الحيل الشرعية، وقد أصبحت فيما بعد باباً واسعاً من أبواب الفقه في مذهب أبي حنيفة وغيره من المذاهب، وإن كانت في مذهب أبي حنيفة أظهر»(1).

ومعنى اقتصار أبي حنيفة على العمل ب17 حديثاً فقط أنه في النتيجة لا يعتمد على السنة كمصدر للتشريع، وأن صحيح البخاري ومسلم، وبقية الصحاح المحتوية على مئات الأحاديث ليست بشيء، مع أن الحنفية يعتبرونها، ويعملون بها خلافاً لمبدأ إمامهم أبي حنيفة.

أما ابن حنبل فيأخذ بالحديث الصحيح إن وجده، وإلا فبما أفتى به الصحابة، وإن اختلفوا تخير، وإلا فبالحديث المرسل والضعيف، وإن فقد كل هؤلاء التجأ إلى الرأي من قياس واستصلاح. ولا يعمل به إلا عند الضرورة.

وبهذا يتبين الفرق بين مسلك ابن حنبل، ومسلك أبي حنيفة، فالأول يوسع دائرة الأخبار، ويضيق دائرة الرأي، والثاني على العكس يوسع دائرة الرأي، ويضيق دائرة الأخبار، ومن هنا كان المدى بعيداً بين فقه المذهبين.

أما مالك فوسط بين الاثنين، فهو لا يشترط في الحديث الشهرة كأبي

_____________________

(1) ضحى الإسلام لأحمد أمين ج 2، والمدخل إلى علم أصول الفقه للدواليبي.

حنيفة، ولا يأخذ بالضعيف كما هي الحال عند ابن حنبل، ويعمل بالخبر الواحد بشرط عدالة الراوي، أو أمانته، ولكنه يقدم عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح، ويرى أن الناس لهم تبع، وإذا أعوزه عمل أهل المدينة، والحديث الصحيح لجأ إلى الرأي بجميع أقسامه من قياس واستحسان واستصلاح.

أما الشافعي فيأخذ بالحديث إذا رواه ثقة عن ثقة مشهوراً كان أو غير مشهور، وإذا لم يجده عمل بالقياس فقط دون الاستحسان والاستصلاح.

أما الإمامية فيأخذون بكل حديث يرويه الثقات عن رسول اللّه، أو عن أحد أئمتهم الأطهار(1) ويعتقدون أن أقوال الإمام في الشريعة هي عين أقوال جدهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله ، سواء أأسندها إليه، أم أرسلها بدون إسناد، وأن الكذب والخطأ محال في حقه، وبهذا كان عندهم من الأحاديث ما يغنيهم عن الرأي بشتى أقسامه، قال الشيخ جعفر في كتابه «كشف الغطاء» المسألة السادسة والأربعون : «إن الفقيه - أي الإمامي - لا يحتاج إلى الأدلة الظنية، لأنه في غنى - غالباً - بالآيات القرآنية، والأخبار المتواترة المعنوية والسيرة القطعية المتلقاة خلفاً بعد سلف من زمان الحضرة النبوية والإمامية».

ومن هنا كان الاختلاف بين فقهاء الإمامية أقل وأضيق من الاختلاف بين أئمة المذاهب الأربعة، لأن العمل بالحديث وبالرأي عند الأربعة يختلف سعة وضيقاً، أما الإمامية فهم متفقون على مصادر التشريع ومدارك الفقه.

ورب قائل : إن الإمامية يعدون العقل من الأدلة الفقهية، ويلجأون إليه، حيث يعوزهم النص، وهذا عين العمل بالرأي، أو قريب منه.

الجواب :

إن الفرق بين الرأي الذي يعتمده السنة، وبين العقل الذي يعتمده الإمامية تماماً كالفرق بين الذات والموضوع. فالسني حين يعتمد على الرأي يتخذ من نفسه مشرعاً للأحكام، ويصرف النظر عن المشرع الحق، أما الإمامي حين

_____________________

(1) لا يشترط الإمامية في الراوي أن يكون إمامياً، ويكتفون بصدقه وأمانته سنياً كان أو شيعياً، وقد صرحوا بذلك في جميع كتب الرجال، منها كتاب «تنقيح المقال» للمامقاني قال في ج 1 ص 206 : «ورد النص عن الإمام أن نأخذ برواية من خالفنا دون ما رآه، وقد لزمنا بذلك العمل بالخبر الموثوق الذي هو في اصطلاح العلماء من كان ثقة غير إمامي».

يعتمد العقل فإنه يعتمده كطريق كاشف عن حكم الشرع - مثلاً - السني يحكم بنجاسة النبيذ لمجرد ظنه وحدسه بأن سبب النجاسة هو السكر، دون أن يعتمد في ذلك على نص من الكتاب أو السنة. أما الإمامي فيقول : لا يسوغ لنا أن نستخرج من عند أنفسنا علة النجاسة ما دام الذي حرم الخمر وأوجب نجاستها لم ينص على العلة، أما إذا نص عليها، وقال : الخمرة نجسة، لأنها مسكرة ساغ لنا، والحال هذه، أن نعمم الحكم لكل مسكر، وبدون هذا النص لا يجوز لنا بحال أن نتأول ونتمحل، وإلا اتخذنا لأنفسنا صفة التشريع ووضع الأحكام.

وقد مثل الإمامية لحكم العقل بقضايا عقلية بحتة، كحكمه بقبح الظلم، والإعانة على الاثم، وقبح الكذب الضار، وحسن الصدق النافع، ورد الوديعة، والبراءة الأصلية فيما لا نص فيه، لقبح العقاب بلا بيان، وكتقديم الأهم على المهم، وما إلى ذاك مما يعلم فيه حكم الشرع بالضرورة والبداهة، على أن أكثر القضايا التي استقل العقل بإدراكها قد ورد فيها نص صريح من الشرع مؤكداً لحكم العقل.

الصحابة :

قال السنة : إن الصحابة جميعهم عدول، ولا تطلب تزكيتهم (مسلم الثبوت وشرحه وأصول الفقه للخضري).

وقال الإمامية : إن الصحابة كغيرهم، فيهم الطيب والخبيث، والعادل والفاسق.

واتفق السنة على أن فتوى الصحابي ليست حجة على صحابي مثله، واختلفوا هل هي حجة على غير الصحابي.

قال مالك والشافعي في القديم وابن حنبل في رواية : إن قول الصحابي حجة على غير الصحابي، تماماً كسنة رسول اللّه (مسلم الثبوت وشرحه).

وقال الامامية : إن فتوى الصحابي ليست بحجة على أحد، وإنه من هذه الجهة لا يمتاز في شيء عن غيره.

الاجتهاد :

أقفل السنة باب الاجتهاد مقتصرين على المذاهب الأربعة منذ القرن الرابع الهجري، وما زال مقفلاً عندهم، حتى اليوم، وفي الأيام الأخيرة دعا أفراد من علمائهم إلى فتحه، كالشيخ محمد عبده والشيخ المراغي وشيخ الأزهر فضيلة الشيخ شلتوت.

وباب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه عند الإمامية لكل من له الأهلية والكفاءة.

وأجاز السنة أن يقلد الجاهل في الأحكام الشرعية العالم الميت. وأكثر الإمامية على عدم الجواز.

قال السيد محسن الأمين في الجزء الأول من «أعيان الشيعة» : «إن سد باب الاجتهاد عند السنة أقرب إلى المصلحة ما داموا عاملين بالرأي، لأن العمل به يستدعي تعدد الأقوال، وإشاعة الخلافات والمنازعات، أما فتحه عند الشيعة فلا يستدعي شيئاً من ذلك، لأن مدارك الأحكام عندهم ترتكز على أساس معين ومحدد. وفات السيد رحمه اللّه أن فتحه عند الشيعة جرّأ الكثير من جهالهم على انتحاله كذباً وافتراءً.

وبالمناسبة نذكر محاورة طريفة جرت بين السيد الأمين، وعالم سني بدمشق، قال هذا العالم للسيد : أنا لو علمت مذهب الإمام جعفر الصادق لما عدوته، ولكن لا سبيل إلى العلم به، لأن الشيعة يكذبون في نسبة مذهبهم إليه.

قال له السيد : إن مذهب كل إنسان يعلم من أتباعه، ويؤخذ منهم، فقد علمنا مذهب رسول اللّه صلى الله عليه وآله من المسلمين، وعلمنا مذهب أبي حنيفة مما نقله عنه أتباعه الأحناف، وكذلك مذهب الشافعي وأحمد ومالك، فيجب أن يكون الأمر كذلك بالنسبة لمذهب الإمام الصادق.

فقال العالم السني : لا بد من حكَم خارج عن الفريقين.

فقال السيد : إذن نحكّم اليهود والنصارى.

قال السني : كيف تقول هذا ؟

قال السيد : أنت قلته، لا أنا. فبهت وسكت.

التصويت والتخطئة :

قال الإمامية : إن للّه في كل واقعة حكماً معيناً، فمن ظفر به فهو المصيب، وله أجران، أو أكثر. ومن أخطأه فهو المجتهد المخطئ، وله أجر واحد على بحثه واجتهاده.

واختلف السنة فيما بينهم، فقال الشافعي بمقالة الإمامية (اللمع لأبي إسحق الشيرازي الشافعي).

وقال الغزالي في المستصفى ج 2 ص 361 سنة 1324 هجري : «ذهب بسر المريسي إلى أن الإثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع. فمن أخطأ فهو آثم. وتابعه على هذا ابن علية وأبو بكر الأصم، ووافقه جميع نفاة القياس، ومنهم الإمامية».

وغريب هذا الخطأ الفاضح المشين من عالم كالغزالي، فقد ذكر الإمامية في كتب الحديث والفقه والأصول أن المجتهد المخطئ معذور، وفي كتاب «كشف الغطاء» للشيخ جعفر البحث السابع والأربعين ص 39 ما نصه بالحرف «اشتهر على لسان الفريقين - أي السنة والشيعة - رواية أن الفقيه إذا أخطأ كان له حسنة، وإذا أصاب فله عشر».

وقال الغزالي ومالك وأبو حنيفة : ان كل مجتهد مصيب، لأن الحكم الواقعي يتبع ظن المجتهد، ويقال لهؤلاء مصوبة. (المستصفى واللمع والخضري).

وعلى أية حال، فمن نسب إلى جميع السنة القول بالتصويب فقد اشتبه، كما اشتبه الغزالي في نسبته إلى الإمامية القول بأن المجتهد المخطئ آثم.

رائحة التشيع :

قال لي أحد الإخوان : أصحيح أن السنة يشترطون في الراوي أن لا تكون فيه رائحة التشيع ؟ وهل وجدت في كتبهم مصدراً لهذا القول ؟

قلت له : هذا قول المتعصبين منهم، وليس مبدأ عاماً عند علمائهم.

إن المحققين والمنصفين يشترطون فيما يشترطون للأخذ برواية الراوي أن لا يستحل الكذب في دينه، وكفى. نقل الغزالي في كتاب «المستصفى» عن الشافعي أنه قال : «تقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لمن وافقهم بالمذهب».

وقال الخضري في كتاب «أصول الفقه» ص 213 سنة 1938 : «أما المبتدعون ببدع غير مكفرة فأكثرهم على القول بقبول رواياتهم. وهو المعقول ما داموا لا يدينون بالكذب، ولا نظن هذا معتقداً لأي طائفة من المسلمين، وإن نسب إلى الخطابية أنهم يدينون بالشهادة لمن يوافقهم في الاعتقاد»(1).

وروى أصحاب الصحاح الستة عن رجال من الشيعة كإبان بن تغلب، وجابر الجعفي، ومحمد بن حازم وعبيد اللّه بن موسى وغيرهم.

وعلى سبيل التفكهة ننقل ما ذكره نظام الدين الأنصاري في كتاب «فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت» المطبوع مع المستصفى سنة 1324 هجري. ص 140 ج 2، قال :

«أما المبيحون للكذب فلا تقبل روايتهم البتة، لأنهم لما جاز في دينهم على زعمهم الكذب لا يبالون بالارتكاب عليه، ومنهم الروافض الغلاة والإمامية، فإن الكذب فيهم أظهر وأشهر، حتى صاروا مضرب المثل في الكذب، وجوزوا ارتكاب جميع المعاصي. فلا أمان لهم أن يكذبوا على رسول اللّه، ولا هم يبالون بالكذب على رسول اللّه وأصحابه، ومن نظر في كتبهم لم يجد أكثر المرويات إلا موضوعة مفتراة».

وإذا كان أكثر روايات الإمامية كذباً وافتراء، فمعنى ذلك أن التوحيد ونبوة محمد والبعث والنشر سخف وهراء، ووجوب الصوم والصلاة والحج والزكاة سراب وهباء، وتحريم الزنا والكذب والسرقة جهل وعماء، لأن روايات الإمامية جلها في ذلك. تعالى اللّه ورسوله علواً كبيراً.

ولا نعرف فرقة من المسلمين تشددت في تحريم الكذب بعامة، وعلى اللّه والرسول بخاصة كالإمامية. فإنهم حكموا بخروج مستحله من الإسلام، وأخذوا الصدق في تحديد الإيمان، فلقد رووا عن أئمتهم أخباراً تجاوزت حد التواتر «إن الإيمان أن تؤثر الصدق، وإن ضرك على الكذب، وإن نفعك». واختصوا دون سائر الفرق بالقول إن تعمد الكذب على اللّه أو رسوله من المفطرات، وإن على هذا الكاذب القضاء والكفارة، وبالغ جماعة منهم، حيث أوجبوا عليه

_____________________

(1) اختلف السنة في الأخذ برواية الجن فمنهم من أجاز، ومنهم من منع، وأجاز السيوطي للجن أن يرووا عن الإنس، ولم يجز للإنس أن يرووا عن الجن لعدم الثقة بعدالتهم. (انظر كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي ص 214 مطبعة مصطفى محمد بمصر).

أن يكفر بالجمع بين عتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين، وإطعام ستين مسكيناً.

هذا ما جاء في كتب الإمامية. فمن يكون الكذاب الكفار الإمامية، أو الذي يفتري على الأبرياء الأصفياء ؟!

وغريب أن ينسب إلى الإمامية هذا المتقول استحلال الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وآله ، مع أنه جاء في كتب السنة أنفسهم أن جماعة منهم تعمدوا وضع الأحاديث على لسان رسول اللّه، واحتجوا بأنهم يكذبون تأييداً لدينه، وانتصاراً لشريعته، فكذبهم كان للنبي لا عليه. (أضواء على السنة المحمدية لأبي رية ص 102 طبعة سنة 1958).

وهكذا يستحلون الكذب على رسول اللّه، ثم ينسبونه إلى غيرهم، ويقولون بالتقية، ثم يشنعون على من قال بها، تماماً كما فعلوا في مسألة الجفر وعلم الغيب.

المهدِي المنتَظر

الدين والعقل :

أشاد الإسلام بالعقل وأحكامه، ودعا إلى تحرره من التقاليد والأوهام، ونعى على العرب وغير العرب الذين لا يفقهون ولا يعقلون، ويؤمنون بالسخافات والخرافات، وقد أنزل اللّه في ذلك عشرات الآيات، وتواترت به عن الرسول الأعظم الأحاديث والروايات، وأفرد له علماء المسلمين أبواباً خاصة في كتب الحديث والكلام والأصول.

سؤال :

وتسأل - أيها القارئ - هل معنى إشادة الإسلام بالعقل أنه يدرك صحة كل أصل من أصول الإسلام، وكل حكم من أحكام الشريعة، بحيث إذا حققنا ومحصنا أية قضية دينية في ضوء العقل لصدقها وآمن بها إيمانه بأن الإثنين أكثر من الواحد ؟

الجواب :

كلا. ولو أراد الإسلام هذا من تأييده للعقل لقضى على نفسه بنفسه، ولكان وجوده كعدمه. ولوجب أن يؤخذ الدين من العلماء والفلاسفة، لا من الأنبياء وكتب الوحي. إن للعقل دائرة، وللدين أخرى، وكل منهما يترك للآخر الحكم في دائرته واختصاصه، والإنسان بحاجة إلى الاثنين، حيث لا تتم له السعادة والنجاح إلا بهما معاً.

إن الغرض الأول الذي يهدف إليه الإسلام من الإشادة بالعقل هو أن يؤمن بالإنسان بما يستقل به من أحكام، ولا يصدق شيئاً يكذبه العقل ويأباه. إن العقل لا يدرك كل شيء، وإنما يدرك شيئاً، ولا يدرك شيئاً، والذي يعلم كل شيء هو اللّه وحده. فوجود اللّه وعلمه وحكمته، وإعجاز القرآن الدال على صدق محمد في دعوته، وما إلى ذاك يدركه العقل مستقلاً، ويقدم عليه البرهان القاطع. أما وجود الملائكة والجن، والسير غداً على صراط أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف، وشهادة الأيدي، والأرجل على أصحابها، وتطاير الكتب، وسؤال منكر ونكير، ونحو ذلك مما لا يبلغه الإحصاء، وثبت بضرورة الدين، أما هذه فلا تفسر بالعلم، وليس فيه للعقل حكم بالنفي أو الإثبات. إن الدين غير محصور ولا مقصور فيما يدركه العقل، بل يتعداه إلى أمور غيبية يؤمن بوجودها كل من آمن باللّه والرسول واليوم الآخر. ولكن الدين في جميع أحكامه وتعاليمه لا يعلم الناس ما يراه العقل محالاً، أو مضراً،

وبالتالي، فليس كل ما هو حق يجب أن يثبت بطريق العقل، ولا كل ما لم يثبت بالعقل يكون باطلاً - مثلاً - إن مسألة المهدي المنتظر لا يمكن إثباتها بالأدلة العقلية، لا لأنها غير صحيحة، وباطلة من الأساس، بل لأنها ليست من شؤون العقل واختصاصه، إن عجز العقل عن إدراك قضية من القضايا شيء، وكونها حقاً أو باطلاً شيء آخر.

العادة والعقل :

فرق بين ما هو ممتنع الوقوع في نفسه، بحيث لا يمكن أن يقع بحال، حتى على أيدي الأنبياء والأولياء، كاجتماع النقيضين، وجعل الواحد أكثر من اثنين، وبين ما هو ممكن الوقوع في نفسه، ولكن العادة لم تجر بوقوعه، كالأمثلة الآتية، وما كان من النوع الأول يسمى بالمحال العقلي، وما كان من النوع الثاني يسمى بالمحال العادي، وكثير من الناس يخلطون بين النوعين، ويتعذر عليهم التمييز بينهما، فيظنون أن كل ما هو محال عادة هو محال عقلاً.

وإليك الأمثلة : لقد اعتدنا أن لا نرى عودة الأموات إلى هذه الدنيا، وأن يولد الصبي، ولا يكلم الناس ساعة ولادته، وإذا جاع أحدنا لا تنزل عليه مائدة من السماء، وإذا أصابه العمى والبرص لا يشفى بدون علاج، وإذا سبح اللّه وحمده لا تردد الجبال والطير معه التسبيح والتحميد، وإذا أخذ الحديد بيده لا يلين له كالشمع، وإذا سمع منطق الطير لا يفهم منه شيئاً، كما يخفى عليه حديث النمل، ويعجز عن تسخير الجن في عمل المحاريب والتماثيل. ولم يشاهد إنساناً حياً منذ قرون، ولا انقلاب العصا إلى ثعبان، ولا وقوف مياه البحر كالجبال، ولا جلوس الإنسان في النار دون أن يناله أي أذى. فكل هذه، وما إليها لم تجر العادة بوقوعها، ولم يألف الناس مشاهدتها، لذا ظن من ظن أنها مستحيلة في حكم العقل، مع أنها ممكنة عقلاً، بعيدة عادة. بل وقعت بالفعل.

فلقد أخبر القرآن الكريم بصراحة لا تقبل التأويل أن السيد المسيح كلم الناس، وهو في المهد، وأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنزل مائدة من السماء وأنه ما زال حياً، وسيبقى حياً إلى يوم يبعثون، وأن النار كانت برداً وسلاماً على إبراهيم، وأن عصا موسى صارت ثعباناً، وأن الحديد لان لداود، وسبح معه الطير والجبال، وأن سليمان استخدم الجان، وعرف لغة الطيور والنمل. إن هذه الخوارق محال بحسب العادة، جائزة في نظر العقل، ولو كانت محالاً في نفسها لامتنع وقوعها للأنبياء وغير الأنبياء. فكذلك بقاء المهدي حياً ألف سنة أو ألوف السنين واختفاؤه عن الأنظار - كما يقول الإمامية - بعيد عبادة، جائز عقلاً، واقع ديناً بشهادة الأحاديث الثابتة عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله ، فمن أنكر إمكان وجود المهدي محتجاً بأنه محال في نظر العقل يلزمه أن ينكر هذه الخوارق التي ذكرها القرآن، وآمن بها كل مسلم، ومن اعترف بها يلزمه الاعتراف بإمكان وجود المهدي، والتفكيك تحكم وعناد، إذ لا فرق في نظر العقل بين بقاء المهدي حياً ألوف السنين، وهذه الخوارق من حيث الإمكان وجواز الوقوع، ما دام الجميع من سنخ واحد.

أحاديث المهدي :

ألف علماء الإمامية كتباً خاصة في المهدي، منهم محمد بن إبراهيم النعماني، والصدوق، والشيخ الطوسي، والمجلسي الذي خصص له المجلد الثالث عشر من بحاره، وذكر هؤلاء العلماء وغيرهم كل ما يتصل بالمهدي من الأحاديث النبوية، بخاصة ما جاء في كتب السنة، وبصورة أخص الصحاح الستة، وقد استقصاها السيد محسن الأمين في القسم الثالث من الجزء الرابع من «أعيان الشيعة» طبعة سنة 1954، ورغم ثقتي بهؤلاء الأعلام، ويقيني بصدقهم عما ينقلونه عن غيرهم فإني تتبعت بنفسي ما تيسر لي مراجعته من كتب السنة، خشية الاشتباه بالنقل، أو في فهم الحديث وقبوله للتأويل، ولأن القدامى وأكثر الجدد من علمائنا ينقلون عن الكتاب الذي يبلغ المجلدات دون أن يشيروا إلى رقم الصفحة، ولا تاريخ الطبع، حتى ولا اسم المجلد، وربما اكتفوا بالقول «جاء في كتب السنة أو قال السنة».

وأكتفي هنا بنقل ما جاء في ثلاثة كتب من الصحاح الستة(1) لأن لفظ أحاديثها هو بالذات لفظ الأحاديث المروية في كتب الإمامية. قال ابن ماجة في سننه ج 2 طبعة سنة 1953 الحديث رقم 4082 :

«قال رسول اللّه : إنا أهل بيت اختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً شديداً، وتطريداً، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينتصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه، حتى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها قسطاً، كما ملئت جوراً».

والحديث رقم 4083 :

«قال رسول اللّه : يكون في أمتي المهدي، إن قصر فسبع، وإلا فتسع، تنعم فيه أمتي نعمة لم تنعم مثلها قط، تأتي أكلها، ولا تدخر منه شيئاً، والمال يومئذ كدوس، فيقوم الرجل يقول :

يا مهدي أعطني. فيقول : خذ».

والحديث رقم 4085 : «المهدي منا أهل البيت».

والحديث رقم 4086 : «المهدي من ولد فاطمة».

والحديث رقم 4087 : «نحن بني عبد المطلب سادة أهل الجنة : أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي».

وقال أبو داود السجستاني في سننه ج 2 طبعة سنة 1952 ص 422 وما بعدها :

«قال رسول اللّه : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول اللّه ذلك اليوم، حتى

_____________________

(1) كتب الحديث الصحيحة عند السنة : البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.

يبعث رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً».

وفي حديث آخر : «المهدي مني. يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، ويملك سبع سنين».

وجاء في صحيح الترمذي ج 9 طبعة سنة 1934 ص 74 :

«قال رسول اللّه : لا تذهب الدنيا، حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي».

وفي ص 75 : «قال رسول اللّه : يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول اللّه ذلك اليوم، حتى يلي».

وجاء في كتاب «كنور الحقائق» للإمام المناوي المطبوع مع كتاب «الفتح المبين» سنة 1317 هجري ص 3 : «ابشري يا فاطمة المهدي منك».

هذا المهدي الذي أثبته الإمام المناوي وصحاح السنة، وكثير من مؤلفاتهم هو بالذات المهدي المنتظر الذي قالت به الإمامية، فإذا كان المهدي خرافة وأسطورة فالسبب الأول والأخير لهذه الأسطورة هو رسول اللّه. تعالى اللّه ورسوله علوّاً كبيراً، حتى لفظ «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً»، حتى هذه الجملة التي عابوها على الإمامية، وسخروا منها ومنهم هي بحروفها للرسول الأعظم، لا للإمامية، فإن يك من ذنب فالنبي هو المسؤول.

حاشا اللّه والرسول.

إن الذين يسخرون من فكرة المهدي إنما يسخرون من الإسلام، ونبي الإسلام، من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وينطبق عليهم الحديث الذي نقله صاحب الأعيان في الجزء الرابع عن «فوائد السمطين» لمحمد بن إبراهيم الحموني الشافعي عن النبي «من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أنزل على محمد».

قال بعض المؤلفين : «اخترع الشيعة فكرة المهدي لكثرة ما لاقوه وعانوه من العسف والجور، فسلوا أنفسهم، ومنوها بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، وينصفهم من الظالمين والمجرمين».

ولو كان هذا القائل على شيء من العلم بسنة الرسول لما قال هذا، لقد تخيل أشياء لا أصل لها ولا أساس، ثم أعلنها على أنها عين الحق والواقع، ولست أعرف أحداً أجهل وأجرأ على الباطل ممن يكتب في موضوع ديني، ويعطي أحكاماً قاطعة، قبل أن يرجع إلى كتاب اللّه وسنة الرسول، وقبل أن يبحث وينقب عن أقوال العلماء وآرائهم. إن العلم هو معرفة الشيء عن دليله، أما القول بالظن والتخرص، كما فعل الذين أنكروا وجود المهدي فجهالة وضلالة.

وبالتالي، فإن الإمامية لولا هذه الأحاديث التي أوردها أصحاب الصحاح لكانوا في غنى عن القول بالمهدي، وبكل ما يتصل به من قريب أو بعيد، ولكن ما العمل، وهم يتلون قوله تعالى «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».

وبكلمة لقد أخبر النبي بالمهدي فوجب التصديق به، تماماً كما وجب التصديق بمن سبق من الأنبياء، لأن القرآن الكريم أخبر عنهم.

ورب قائل : إن الأحاديث النبوية التي نقلتها عن صحاح السنة إنما دلت على خروج المهدي في آخر الزمان، دون أن تتعرض من قريب أو بعيد إلى وقت ولادته. إذن فمن الجائز أنه يولد في القرن الذي يخرج فيه، لا أنه قد ولد بالفعل وقبل خروجه بقرون، كما قال الإمامية.

الجواب :

إن القول بخروج المهدي وولادته، وكل ما يتصل به لا مستند له إلا الأحاديث النبوية، غاية الأمر أن خروجه في آخر الزمان ثبت بطريق السنة والإمامية، أما ولادته فقد ثبتت بطريق الإمامية فقط، وليس من الضروري لأن يؤمن المسلم بشيء أن يثبت بطريق الفريقين، وإنما الواجب أن يؤمن بما يثبت عنده، على شريطة أن لا يناهض إيمانه حكم العقل ويصادمه، وقد بينّا أن بقاء المهدي حياً تماماً كالخوارق التي حدثت لإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، لا تتنافى وشيئاً مع حكم العقل بالإمكان، لأنها قد حدثت بالفعل، والدالّ على الوقوع دالّ على الإمكان بالضرورة.

هذا، وإن جماعة من كبار علماء السنة قالوا بمقالة الإمامية، وآمنوا بأن المهدي قد ولد، وأنه ما زال حياً، وقد ذكر السيد الأمين أسماءهم في الجزء الرابع من الأعيان، ونقل الثناء على علمهم والثقة بدينهم عن كثير من المصادر المعتبرة عند السنة، وهم :

1 - كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في كتابه «مطالب السؤول في مناقب آل الرسول».

2 - محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، في كتابيه «البيان في أخبار صاحب الزمان». و«كفاية الطالب في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب».

3- علي بن محمد الصباغ المالكي في كتابه «الفصول المهمة».

4 - أبو المظفر يوسف البغدادي الحنفي المعروف بسبط ابن الجوزي في كتابه «تذكرة الخواص».

5 - محيي الدين بن العربي الشهير في كتابه «الفتوحات المكية».

6 - عبد الرحمن بن أحمد الدشني الحنفي.

7 - عبد الوهاب الشعراني في كتابه «عقائد الأكابر».

8 - عطاء اللّه بن غياث الدين في كتابه «روضة الأحباب في سيرة النبي والآل والأصحاب».

9 - محمد بن محمد البخاري المعروف بخواجة بارسا الحنفي في كتابه «فصل الخطاب».

10 - العارف عبد الرحمن في كتابه «مرآة الأسرار».

11 - الشيخ حسن العراقي.

12 - أحمد بن إبراهيم البلاذري في «الحديث المتسلسل».

13 - عبد اللّه بن أحمد المعروف بابن الخشاب في كتابه «تواريخ مواليد الأئمة ووفياتهم».

هذي هي مسألة المهدي المنتظر عرضناها على العقل فلم ينكرها، وعلى القرآن الكريم فوجدنا لها اشباهاً ونظائر، وعلى سنة الرسول فكانت هي المصدر الأول، وعلى علماء السنة فألفيناهم مجمعين عليها، ومنهم هؤلاء الذين قالوا : إنه ولد، وإنه حي إلى أن يأذن اللّه، فأين مكان الغرابة والخرافة في قول الإمامية ؟!

وكأني بقائل : ما لك ولهذي الموضوعات التي أكل الدهر عليها وشرب ؟ أليس من الأجدر والأليق بك، وبالصالح العام أن تعرض عن هذه إلى أوضاعنا وضياعنا، إلى الحديث عن الحلول لما نعانيه من مشاكل وآلام.

قلت : أجل، واللّه. نحن في أشد الحاجة إلى الأفعال لا إلى الأقوال. إلى السكوت عما مضى وكان، والاهتمام بما هو كائن ويكون. ولكن ماذا نصنع ؟ ونحن نقرأ بين الحين والحين كتاباً أو مقالاً يكفر الملايين، ويطعنها في أقدس مقدساتها، وينعتها بالجهل والسخف، وأنها لا تصلح للحياة ولا لشيء إلا للسخرية والاستهزاء، وأن التشيع الذي تتمذهب به لا يعد من المذاهب الإسلامية في شيء وإنما هو دين ابتدعه أعداء الإسلام، وخصوم الإنسانية ؟!

ماذا نصنع ؟ هل يجب أن نسكت ونتغاضى عن هذه الهجمات والحملات ؟ هل يحرم علينا الدفاع عن النفس، وبيان الحقيقة، وإبطال التهم الكاذبة التي تزاداد وتتفاقم بالتجاهل والإغضاء ؟! ثم هل يجتمع شمل المسلمين، وتتحد كلمتهم بهذه النزوات والضلالات، أو بإثبات أن ما قاله الإمامية في المهدي وغير المهدي هو من الإسلام في الصميم. وهذي هي المهمة التي يضطلع بها هذا الكتاب.

الإسلام والإيمان :

الإسلام في اللغة هو التسليم والانقياد ظاهراً، سواء أطابق الواقع أم خالفه، والإيمان هو التصديق في القلب، سواء أأعلنه المؤمن أم أسره.

أما في الشرع فالإسلام هو الإقرار بالشهادتين، أما الايمان فلا بد من إضافة أمور أخرى إلى الإقرار، وهي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج إلى بيت اللّه الحرام، وفي بعض الأحاديث الإيمان إقرار باللسان، وتصديق في الجنان، وعمل بالأركان، وفي بعضها الآخر الإيمان عمل كله(1) - إذن - الإسلام أعم، والإيمان أخص، فكل مؤمن مسلم، ولا عكس، فقد يكون الإنسان مسلماً حكماً، ولا يكون مؤمناً واقعاً، وهذا ما قاله فخر الدين الرازي عند تفسير قوله تعالى : «وقالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم - 14 الحجرات» وقوله تعالى : «فما وجدنا فيها

_____________________

(1) العمل أثر للإيمان، ومسبب عنه، فاطلاق العمل عليه فيه ضرب من التجوز، ولست اتصور بحال ان من لا يعمل يكون مؤمناً، وان خيل إليه، وإلى الفقهاء بأنه مؤمن متهاون.

غير بيت من المسلمين - 36 الذاريات».

وبهذا يتبين أن قول النبي بني الإسلام على خمس أراد به الإسلام الخاص المتحد مع الإيمان المستلزم للعمل، والعام كثيراً ما يطلق، ويراد به الخاص.

 

التشيّع في ثَلاث مَراحِل

قدمنا في الصفحات السابقة أن قول النبي صلى الله عليه وآله : «من كنت مولاه فعلي مولاه» هو السبب الأول لقول من قال بأحقية علي بالخلافة، وأن قوله «علي مع الحق والحق مع علي» سبب للقول بعصمته، وأن قوله «يخرج المهدي ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً» سبب للقول بالمهدي المنتظر، حيث لا يسع المسلم بما هو مسلم أن يتجاهل أقوال نبيه الكريم التي رواها الثقات، وأثبتها أصحاب الصحاح في صحاحهم.

ولكن هذه الأحاديث، وما إليها لا تؤتي ثمارها، ولا تعمل عملها بدون دعاة وحماة يبينونها للناس، ويعملون على بثها ونشرها. فمن هم الذين دعوا إلى التشيع؟ وما هي الأساليب التي استعملوها لبثه ونشره؟

والجواب عن هذا السؤال يستوعب كتاباً ضخماً، لأن رواد التشيع والذابين عنه لا يبلغهم الإحصاء، ولكن نستطيع أن نقسم الدعوة إلى التشيع باعتبار الأدلة التي كان يعتمدها الدعاة إلى ثلاثة أدوار : ويبدأ الدور الأول بوفاة الرسول صلى الله عليه وآله ، وينتهي بانتهاء العصر الأموي. ويبدأ الثاني بعهد الإمام الصادق، أي بأول العهد العباسي. ويمتد إلى عصر الشيخ المفيد المتوفى سنة 413 هجري، وينتهي هذا الدور بالعلامة الحلي (ت 726هجري) الذي وضع أجوبة الشبهات ونقضها بشتى أنواعها في وضعها النهائي، ولم يدع فيها زيادة لمن جاء بعده، ونذكر من كل دور أفراداً - على سبيل المثال لا الحصر - كان لهم الأثر البالغ في بث التشيع ونشره.

الدور الأول :

إن انتشار الإسلام وامتداده إلى شرق الأرض وغربها لا يستند إلى الفتوحات

الإسلامية، وقوة المسلمين فحسب1 وإنما يستند أولاً وقبل كل شيء إلى مبادئه الإنسانية، وشريعته السهلة السمحة، ولولاها لم يكتب له النجاح والبقاء، حتى اليوم، وإلى آخر يوم، وكذلك مبدأ التشيع فإنه مدين في نجاحه واستمراره إلى كتاب اللّه وسنة الرسول، لا إلى هيئة من الهيئات، أو فرد من الأفراد، فمن دعا إليه تسلح بكتاب اللّه وسنة نبيه، ومن اعتنقه اعتنقه طاعة للّه ورسوله. ومن هنا اعتمد دعاة التشيع أول ما اعتمدوا على ما جاء في كتاب اللّه سبحانه بحق علي خاصة، كقوله تعالى «إنما وليّكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - 55 المائدة» وغيرها من الآيات التي بحق علي خاصة، كقوله تعالى «إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - 58 المائدة» وغيرها من الآيات التي ذكرناها في كتاب «علي والقرآن»، واعتمدوا على ما نزل في أهل البيت عامة، كآية التطهير، وآية المودة، وآية المباهلة، وعلى الأحاديث النبوية، كحديث الغدير، وحديث المنزلة، وحديث مدينة العلم، وحديث المؤاخاة، وما إليه وإذا تعدوا الآيات والأحاديث فإلى فضائل الإمام، كزهده، وعلمه، وشجاعته، وسبقه إلى الإسلام، وجهاده، وتصلبه في جانب اللّه.

وكانت مظاهر التشيع في هذا الدور غاية في الوضوح، غاية في البساطة، فلا عيد غدير، ولا شهادة أن علياً ولي اللّه في الأذان، لا شيء سوى الإيمان بأن الخلافة بعد الرسول حق إلهي لعلي بن أبي طالب، وكان أول من أعلن هذا الحق ودعا إليه السيدة فاطمة أم الحسنين أعلنته في خطبتها الأولى بالمسجد الجامع، وفي خطبتها الثانية ببيتها على نساء المهاجرين والأنصار، وقد أبنا ذلك في كتاب مع «بطلة» كربلاء وقلنا: إن الغاية الأولى من كلتا الخطبتين أن تعلن للأجيال حق بعلها في خلافة أبيها، وإن المطالبة بفدك كانت وسيلة لهذه الغاية.

______________________

1 - لم تكن الغاية من تلك الفتوحات التبشير بالإسلام، والدعوة إلى اللّه - فيما نعتقد - وإنما كانت من أجل سيطرة المسلمين، وامتداد سلطانهم وايجاد أرض يعيشون فيها أغنى من أرضهم، وتربة أخصب من تربتهم. ولكن عظمة الإسلام بشرت بنفسها لنفسها في جميع أدوار التاريخ، بخاصة في هذا العصر الذي ينهش المسلمون بعضهم بعضاً، وبصورة أخص حكامهم الذين أعانوا قوى الشر والعدوان عليهم وعلى دينهم وبلادهم، ولولا ما في الإسلام من قوة ومناعة لكان المنتمون إليه من أقوى عوامل القضاء عليه.

أجل، منذ اليوم الأول لفاجعة كربلاء، والشيعة يتوافدون إلى زيارة قبر الحسين، ويقيمون المآتم الحسينية، وإن لم تكن على الشكل الذي عليه الآن، وأول من زار الضريح المقدس الصحابي المعروف جابر بن عبد اللّه الأنصاري، مع جماعة من الشيعة، وأول من رثاه أبو باهل الجمحي، قال كرد علي في الجزء السادس من كتاب «خطط الشام» ص 256 طبعة 1928 :

«تجتمع الشيعة في أيام عاشوراء، فتقيم المآتم على الحسين بن علي شهيد كربلاء عليه السلام، وعهدهم بذلك بعيد يتصل بعصر الفاجعة، وأول من رثاه أبو باهل الجمحي بقصيدة يقول فيها:

تبيت النشاوى من أمية نوماً*** وبالطف قتلى ما ينام حميمها

والظاهر من سيرة ديك الجن الحمصي في كتاب «الأغاني» أن هذه الاجتماعات للمآتم كانت معروفة في زمانه. ثم أن بني بويه أيام دولتهم عنوا بها مزيد العناية، ولا تزال إلى اليوم تقام في جميع أقطار الشيعة، وليست هي من الفروض، كما يتوهم، بل يستحبونها، لأنها تصدر عن ولاء ومحبة. وقد تطرف بعض العجم، فأبدعوا فيها بدعاً يمقتها اللّه والناس، من ضرب أنفسهم بالمدى، وإسالة الدماء على أثوابهم، وعمل ما يسمونه الشبيه، وقد مقته العلماء من الشيعة، ولم تذعن لهم به العامة في كثير من البلدان التي استحكمت فيها هذه العادة».

ومن الدعاة الأول للتشيع جميع بني هاشم، وعلى رأسهم العباس عم الرسول، وكثير من الأصحاب، وقد ذكرنا أسماءهم فيما سبق، وكان أشهرهم وأكثرهم حماساً أربعة: سلمان، وأبو ذر، وعمار، والمقداد، فقد أولوا الدعاء لعلي اهتماماً بالغاً، وعناية خاصة، ونظروا إلى خلافته كركن من أركان الإسلام، وشرط لقوة المسلمين واجتماع شملهم، وتوحيد كلمتهم، ولم يشكوا لحظة في أن انصرافها عن علي إلى غيره مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة، ومعصية اللّه ورسوله.

سلمان الفارسي:

وكان سلمان من رؤوس أصحاب رسول اللّه، وأثنى عليه النبي بأحاديث

رواها السنة والشيعة، منها «سلمان منا أهل البيت» وقد نظم هذا الحديث أبو فراس الهمداني بقوله:

كانت مودة سلمان لهم رحما*** ولم تكن بين نوح وابنه رحم

وهو الذي أشار على النبي بحفر الخندق في وقعة الأحزاب، وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين في المدائن، وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها، ويجعل البعض الآخر غطاء. وكان لا يأكل إلا من عمل يده، وإذا خرج عطاؤه، وهو خمسة آلاف، فرقه بكامله، وقال حين توفي الرسول: «أيها الناس قدموا من هو أقرب إلى رسول اللّه، وأعلم بكتاب اللّه، وسنة نبيه، ومن قدمه النبي في حياته، وأوصاكم به عند وفاته. ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا، وإن عند علي بن أبي طالب علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب». توفي سلمان بالمدائن سنة 36 هجري. وكتبت له ترجمة مطولة في كتاب «مع علماء النجف».

أبو ذر:

أبو ذر الصحابي الجليل الذي قال فيه النبي: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويدخل الجنة وحده» وكان رابع المسلمين أو خامسهم، وقد نفي وشرد ونكل به، لإيمانه وإخلاصه، وقال حين بويع أبو بكر: «يا معشر قريش: تركتم قرابة رسول اللّه، واللّه ليرتد جماعة من العرب، ولتشكن في هذا الدين، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيكم ما اختلف عليكم سيفان، واللّه لقد صارت لمن غلب، ولتطمحن إليها عين من ليس من أهلها، وليسفكن في طلبها دماء كثيرة. إن علياً هو الصديق الأكبر، وهو الفاروق بعد رسول اللّه يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب الدين، والمال يعسوب الظلمة». مات أبو ذر طريداً منفياً سنة 32 هجري. وتكلمت عنه مطولاً في كتاب «مع علماء النجف».

عمار بن ياسر:

من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين: إلى الحبشة والمدينة، وصلى القبلتين، وشهد بدراً وأحداً، وبيعة الرضوان، وجميع المشاهد مع رسول اللّه، وأسلم

عمار وأخوه عبد اللّه، وأبوه ياسر، وأمه سمية حين كان المسلمون مستضعفين في مكة، فكانت قريش تأخذ ياسراً وزوجته سمية، وولديهما عماراً وعبد اللّه، وتلبسهم أدراع الحديد، وتلقيهم في الشمس، حتى يبلغ منهم الجهد كل مبلغ، وربطت قريش سمية بين بعيرين، وطعنها أبو جهل في قلبها، فقتلها، وهي تأبى إلا الإسلام، وقتلوا زوجها ياسراً، فكانا أول شهيدين في الإسلام.

وجاءت في مدح عمار أحاديث كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وآله عمار جلدة بين عيني، ومنها: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار، ومنها: كم ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على اللّه لأبر قسمه، منهم عمار، إلى غير ذلك، وقال يوم البيعة لأبي بكر: «يا معشر قريش ويا معشر المسلمين إن أهل بيت نبيكم أولى به - أي بالنبي - وأحق بأثره، وأقوم بأمور الدين، وأحفظ لملته، وأنصح لأمته، فردوا الحق إلى أهله قبل أن يضرب حبلكم، ويضعف أمركم، ويظهر شتاتكم، وتعظم الفتنة بكم، ويطمع فيكم عدوكم، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم، وعلي أقرب إلى نبيكم، وهو من بينكم وليكم بعهد اللّه ورسوله».

وحضر عمار مع الإمام حرب الجمل وصفين، وفيها استشهد وكانت سنة 37 هجري، ومن أقواله يوم صفين:

سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي*** سيروا فخير الناس أتباع علي

هذا أوان طاب سل المشرقي*** وقودنا الخيل وهز السمهري

المقداد:

كان من السابقين إلى الإسلام، وحضر بدراً مع رسول اللّه، وسائر المشاهد، وحين شاور النبي صلى الله عليه وآله أصحابه في وقعة بدر قال له المقداد: لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى «فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون» بل نقول: لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضى وشوك الهراس لخضناه معك». وقال الإمام الصادق: لم يتغير المقداد منذ قبض رسول اللّه، حتى فارق الدنيا طرفة عين. وقال لعلي يوم السقيفة: إن أمرتني لأضربن بسيفي، وإن أمرتني كففت. فقال له: أكفف.

وقال يوم بويع عثمان: «وا عجباً من قريش، واستئثارهم هذا الأمر من أهل البيت معدن الفضيلة، ونجوم الأرض، ونور البلاد، وأن منهم رجلاً - أي علياً - ما رأيت بعد رسول اللّه أولى بالحق ولا أقضى بالعدل والأمر بالمعروف منه». مات في خلافة عثمان بن عفان،وحضر جنازته، وأثنى عليه، فأنشد الزبير:

لا ألفينك بعد الموت تندبني*** وفي حياتي ما زودتني زادا

فقال عثمان: يا زبير تقول هذا؟! أتراني أحب أن يموت مثل هذا من أصحاب رسول اللّه، وهو علي ساخط؟!

ومن رؤوس الدعاة في هذا الدور حجر بن عدي، وميثم التمار، وكميل بن زياد، وعمر بن الحمق، ورشيد الهجري، وجويرية بن مسعد العبدي، وجمعيهم قتلوا على التشيع، ومنهم أيضاً سليمان بن صرد الخزاعي الذي استشهد في ثورته على قتلة الإمام سيد الشهداء، ومنهم مالك الأشتر، ومحمد بن أبي بكر، وقيس بن سعد، والمسيب بن نجية، وغيرهم كثير، وقد ازدادوا وكثروا بعد وقعة الطف.

وبديهة أن قوة الدعوة وضعفها يدوران على الظروف والمناسبات، ومن هنا كانت الدعوة بطيئة جداً في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر، وسريعة في عهد الخليفة الثالث، لأن سيرة عثمان أعانت على نجاح الدعوة إلى التشيع، ومكنت لها في النفوس، ومضى التشيع قدماً في خلافة الإمام علي، وفي حكم معاوية، ولم تعقه المذابح والفظائع عن التقدم، بل على العكس زادته قوة وانتشاراً بخاصة حادثة كربلاء، قال الدكتور طه حسين في كتاب «علي وبنوه»: «عظم أمر الشيعة في الأعوام الأخيرة من حكم معاوية، وانتشرت دعوتهم أي انتشار في شرق البلاد الإسلامية، وفي جنوب بلاد العرب، ومات معاوية حين مات، وكثير من الناس، وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني أمية، وحب أهل البيت لأنفسهم ديناً».

وقال المستشرق فلهوزن يصف جيش التوابين الذي تجمع للأخذ بثارات الحسين، قال: «وكانوا مدفوعين بدافع الضمير الديني لا العواطف»1 .

_________________________

1 - كتاب «الخوارج والشيعة» ص 189 طبعة سنة 1958 .

ويظهر من كلام السيد محسن الأمين أن الشيعة في هذا الدور كان يطلق عليهم اسم الشيعة، واسم العلويين معاً، ثم اختفى اسم العلويين في عهد العباسيين، وبقى اسم الشيعة، قال في القسم الأول من الجزء الأول ص 12 سنة 1960:

«وعن كتاب الزينة تأليف أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني المتوفى سنة 205 هجري. أن لفظ الشيعة على عهد رسول اللّه كان لقب أربعة من الصحابة: سلمان الفارسي، وأبي ذر، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر «1هجري» ثم بعد مقتل عثمان وقيام معاوية وأتباعه في وجه علي، وإظهار الطلب بدم عثمان، واستمالته عدداً عظيماً إلى ذلك صار أتباعه يعرفون بالعثمانية، وهم من يوالون عثمان، ويبرؤون من علي. وصار أتباع علي يعرفون بالعلوية، مع بقاء إطلاق اسم الشيعة عليهم، واستمر ذلك مدة ملك بني أمية، وفي دولة بني العباس نسخ اسم العلوية والعثمانية، وصار في المسلمين اسم الشيعة، واسم السنة إلى يومنا هذا».

وبالتالي فإن دعاة التشيع الذين عملوا وناضلوا لبثه ونشره في هذا الدور اعتمدوا أول ما اعتمدوا على عظمة الإمام، وفضائله، وعلى ما نزل في مدحه والثناء عليه من الآيات القرآنية، وما ثبت من الأحاديث النبوية، وكانت خصائص الإمام وسجاياه والميزات التي يتمتع بها أداة فعالة لانتشار المذهب، فلقد مهدت الطريق للمبشرين، وفتحت الباب واسعاً أمامهم ولم يكونوا بحاجة الى الكذب ووضع الأخبار والأحاديث على لسان النبي صلى الله عليه وآله ، كما فعل غيرهم حين أراد أن يقاتل كل فضيلة ثبتت لعلي بفضيلة مفتعلة لأبي بكر وعمر وعثمان. كقول من قال: إن حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها» لا يعرفه على التمام إلا من كان في صدر الإسلام، لأن النبي قال: «أنا مدينة العلم، وأبو بكر أساسها، وعمر حيطانها، وعثمان سقفها، وعلي بابها»1.

المختار:

ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي في هذا الدور، لأنه ولد في السنة الأولى من هجرة النبي صلى الله عليه وآله ، وكان فطناً ذكياً. قتل أبوه في إحدى المعارك، وهو ابن

_______________________________

1 - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي ج 1 ص 336 .

ثلاثة عشر عاماً، فانضم إلى عمه سعد بن مسعود، وكان عمه هذا من أصحاب الإمام علي بن أبي طالب، وحضر معه وقعة الجمل وصفين، وولاه الإمام على المدائن.

ولا يحدثنا التاريخ بشيء عن حياة المختار في خلافة الإمام، ولا في عهد معاوية بن أبي سفيان، سوى ما قيل : إن معاوية حين ولى المغيرة بن شعبة على الكوفة تركها المختار، حتى أتى المدينة المنورة. وحين هلك معاوية، وقام ولده يزيد كان المختار في الكوفة، ولما دخلها مسلم بن عقيل سفيراً للحسين نزل في بيت المختار، واختلفت الشيعة إليه في هذا البيت، فقبض ابن زياد على المختار، وضرب وجهه بالسوط، حتى أدماه، وأصاب عينه فقشرها، ثم ألقي به في السجن، وبقي فيه، حتى انتهت كارثة كربلاء، فاستشفع به صهره زوج أخته عبد اللّه بن عمر عند يزيد، فأطلق سراحه، وترك الكوفة متوجهاً إلى الحجاز.

وبعد أن هلك يزيد، ودعا ابن الزبير إلى نفسه بايعه المختار، مع علمه بأنه عثماني العقيدة. وعاد المختار بعد هذه البيعة إلى الكوفة. «وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم، والحنين والجزع، ويحث على أخذ الثأر لهم، والمطالبة بدمائهم، فمالت إليه الشيعة، وسار إلى قصر الإمارة، وأخرج الوالي ابن مطيع، وغلب على الكوفة، وابتنى لنفسه داراً، واتخذ بستاناً أنفق عليه أموالاً عظيمة، أخرجها من بيت المال. وكتب إلى ابن الزبير أن يحسب له بما أنفقه من بيت المال، فأبى ابن الزبير، فخلع المختار طاعته، وجحد بيعته.

وكتب كتاباً إلى علي بن الحسين يريده على أن يبايع له، ويقول بإمامته، ويظهر دعوته، وأنفذ إليه مالاً كثيراً، فأبى علي أن يقبل ذلك، أو يجيبه على كتابه، وسبه على رؤوس الملأ في مسجد رسول اللّه، وأظهر كذبه وفجوره، ودخوله على الناس بإظهار الميل إلى أبي طالب، ولما يئس المختار منه كتب إلى محمد بن الحنفية يريده على مثل ذلك، فأشار عليه علي بن الحسين أن لا يجيبه إلى شيء. (المسعودي ج 3 ص 83 سنة 1948).

وبعد أن استقل المختار بالكوفة أخذ يطارد قتلة الحسين، ويقتلهم الواحد تلو الآخر تلبية لرغبات الشيعة الذين صمموا على الأخذ بالثأر، والانتقام من

كل من اشترك في موقعة كربلاء، بخاصة الأشراف، والرؤوس الكبار، وقد هرب جماعة من هؤلاء إلى البصرة خوفاً من نقمة الجماهير، منهم شبث بن ربعي، ومحمد بن الأشعث، أما عمر بن سعد فبقي بالكوفة بأمان من المختار.

وفي سنة 66 هجري أرسل عبد الملك بن مروان جيشاً للاستيلاء على العراق بقيادة عبيد اللّه بن زياد، فأرسل له المختار جيشاً بقيادة إبراهيم بن الأشتر، فالتقيا بالموصل، فدارت الدائرة على جيش الأمويين، وقتل ابن زياد، والحصين بن نمير، وجماعة من أشراف أهل الشام، فقويت شوكة المختار في الكوفة، واشتد أمره، وفي مستهل سنة 67 أنفذ عبد اللّه بن الزبير أخاه مصعباً والياً على البصرة، فحرضه أشراف الكوفة الذين هربوا من المختار على حربه وانتزاع الكوفة منه، فأجابهم، وكان أصحاب المختار قد انقسموا على أنفسهم، وأصبحوا فئتين متباغضتين عرباً وموالي، فأوقع بهم مصعب شر إيقاع، وقتل المختار، «وكان من جملة من أدركه الإحصاء ممن قتله مصعب مع المختار سبعة آلاف رجل، كل هؤلاء طالبون بدم الحسين، وقتلة أعدائه. وتتبع مصعب الشيعة بالقتل بالكوفة وغيرها». (المسعودي ج 3 ص 107).

وبعد مقتل المختار كثرت عليه الأقاويل، وحيكت حوله الأساطير، ونسب إليه ادعاء النبوة ونزول الوحي، وأنه كان يطلق الحمامات البيض حين تقوم المعركة بينه وبين خصومه يوهم أنصاره أنها ملائكة أرسلها اللّه لنصرته، وأنه ابتدع القول بالبداء، إلى غير ذلك. ونحن نستبعد هذه النسب، ونظنها من وضع الأمويين والزبيريين الذين جرت بينهم وبين المختار حروب طاحنة، قال المستشرق فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» ص 234 سنة 1958:

«لما مني المختار بالهزيمة أدبرت عنه الدنيا، وراحت الروايات تطلق سهامها على ذكراه بعد مقتله، في البدء كانت تذمه دون تشوه صورته، ولكنها راحت بعد ذلك في مرحلة متأخرة تنعته بنعوت أملاها الحقد، وهذه النعوت نفسها هي تسود الصورة التي كونتها عنه الأجيال التالية». وقال الأهواني في كتاب «في عالم الفلسفة» ص 78 : «إن كثيراً مما نسب إلى المختار موضوع للتشنيع عليه».

واختلف علماء الإمامية في أمر المختار، فمنهم من لم يثق بدينه وإخلاصه، لأن الإمام السجاد ذمه وتبرأ منه، ومنهم من مدحه وأثنى عليه - وهم الأكثر الأشهر - لأن اللّه سبحانه استجاب دعوة الإمام، وقتل قتلة الحسين على يده، ومنهم من توقف، ولم يحكم عليه بشيء.

وقبل أن أكتب هذه الكلمات راجعت سيرته فيما لدي من المصادر، وبقيت معه ثلاثة أيام بلياليها، وانتهى بي البحث إلى الميل إلى أن الرجل كان من طلاب الحكم، وعشاق الإمارات، وأنه بايع ابن الزبير طمعاً أن يوليه الكوفة، ولما يئس منه انتقض عليه، وحين اجتمع حوله الناس أخذ البيعة لنفسه، أما طلبه لثأر الحسين (ع) فكان لمجرد الدعاية، لأن الجماهير كانت تريد ذلك، ولولاها لسكت وأحجم، وعلى الأقل لم يفعل ما فعل، بدليل أنه أعطى الأمان لعمر بن سعد بطل المأساة في كربلاء، ولم يبطش به - فيما أعتقد - إلا بضغط الجماهير، ومضايقتهم له، فقد تجاوز الحماس للأخذ بالثأر كل حد، والتهبت المشاعر حقداً وغيظاً على قتلة الحسين، حتى أن النسوة كانت توشي بأزواجهن الذين اشتركوا في مأساة كربلاء، ولم يستطع المختار كبح الجماح، حتى ولو حاول ذلك، هذا، إلى أنه كان في أشد الحاجة إلى مؤازرتهم ومناصرتهم بعد أن أحاطت به قوى الزبيريين والأمويين من كل جانب. إذن لم يستطع المختار إلا أن يفعل ما فعل. والذي طالب بدم الحسين حقاً، وبدافع من دينه وإخلاصه هو سليمان بن صرد الخزاعي ومن كان معه، ولذا انضم إليه كثير من القراء وأهل المعرفة، أما الغوغاء فكانت مع المختار.

ورغم ذلك كله فإني أقول مع العلامة المجلسي صاحب البحار : «إنه - أي المختار - وإن لم يكن كاملاً في الإيمان واليقين، ولا مأذوناً فيما فعله صريحاً من أئمة الدين، لكن كما جرى على يده الخيرات الكثيرة، وشفى بها صدور قوم مؤمنين كانت عاقبة أمره إلى النجاة».

وكفاه شفيعاً قول الإمام السجاد حين رأى رأس ابن سعد : «الحمد للّه الذي أدرك لي ثأري من أعدائي، وجزى اللّه المختار خيراً». وقول الإمام الصادق : «ما امتشطت فينا هاشمية، ولا اختضبت، حتى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين».

وصدق اللّه العظيم «قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللّه على من يشاء واللّه عليم حكيم - 15 التوبة».

والخلاصة أنه بعد وفاة النبي اجتمع الأنصار في سقيفتهم يتداولون فيما بينهم. لتكون الخلافة فيهم ولهم دون قريش، فقصدهم أبو بكر وعمر وأَبو عبيدة الجراح، وتمكنوا من صرف الخلافة عن الأنصار إلى أبي بكر. وكان بنو هاشم في شغل بمصيبتهم وتجهيز الرسول، وعارض قوم من الأصحاب العارفين لحق علي، وأصروا على أن تكون الخلافة له، ولكن القوة كانت ضدهم، فكفوا عن المعارضة وأمسكوا وأظهروا التسليم، ولكنهم بثوا الدعوة لعلي بين الناس، ونقلوا إلى الأجيال ما سمعوه من نص النبي على علي. فالدعوة إلى التشيع في هذا القرن كانت بسيطة ساذجة، تماماً كالدعوة الإسلامية في هذا العهد لا فلسفية فيها، ولا شيء سوى حجج القرآن والسنة النبوية التي قبلها المسلمون الأولون، وآمنوا بها بدون جدال وتعليل وتأويل، ولا تعمق في الشروح والتفاصيل، ولم يكن في هذا الدور فقه يعرف بفقه الشيعة، وآخر يعرف بفقه السنة ولذا لم يظهر أي فرق بين الشيعة وغيرهم إلا في مسألة الخلافة، وإمارة المؤمنين، وكان الشيعة في هذا الدور يعرفون بالتقوى والزهد، ومناهضة الظلم والظالمين، ومن هنا لاقوا من حكام الجور ألواناً من التقتيل والتنكيل.

الدور الثاني :

يبدأ الدور الثاني بعصر الإمام جعفر الصادق، ونعني به آخر الدولة الأموية، حيث دب فيها الضعف، وأول دولة العباسيين، حيث تنفس الشيعة الصعداء، بعد الأيام السود التي عاشوها مع الأمويين، وأصبحوا على شيء من الحرية والأمن على أرواحهم وأموالهم، وأتيح لأئمة أهل البيت أن ينشروا تعاليمهم في هذه الفرصة والفرجة. فرواها الألوف. وتقبلها الملايين إلى أن قام المنصور، فوضع في طريقها العراقيل، وعاد الأمر أشد وأسوأ مما كان في عهد الأمويين إبان قوتهم وعظمتهم.

ازدحم الرواة والعلماء - في هذه الفترة - حول الإمام الصادق، وقصده

الناس من كل قطر ينهلون من معينه، ويأخذون عنه شتى العلوم والمعارف، قال السيد محسن الأمين في ترجمته «أعيان الشيعة» ج 4 :

«ولد الإمام الصادق سنة 80 هجري، وتوفي سنة 148، فمدة حياته 68 سنة، أدرك فيها هشام بن عبد الملك إلى آخر دولة بني أمية، وأدرك من دولة بني العباس السفاح وعشر سنين من ملك المنصور.

ومن مميزات هذا العصر انتشار العلوم الإسلامية فيه من التفسير والفقه والحديث وعلم الكلام والجدل والأنساب، والشعر والأدب والكتابة والتاريخ والنجوم وغيرها.

وكان الإمام الصادق أشهر أهل زمانه علماً وفضلاً، قال مالك بن أنس إمام المذهب المالكي:

ما رأت عين ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد علماً وعبادة وورعاً، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، جم الفوائد.

وقال الحسن بن زياد : سمعت أبا حنيفة، وقد سئل عن أفقه من رأى، فقال : جعفر بن محمد.

وقال ابن أبي ليلى : ما كنت تاركاً قولاً قلته، أو قضاء قضيته لقول أحد إلا رجلاً واحداً، هو جعفر بن محمد.

ولم يقل أحد سلوني قبل أن تفقدوني إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وحفيده جعفر بن محمد.

وروى الجنابذي في معالم العترة الطاهرة عن صالح بن الأسود : سمعت جعفر الصادق يقول : سلوني قبل أن تفقدوني، فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي، فكان يقول : حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب، وحديث علي حديث رسول اللّه.

وقد انتشر عنه من العلوم الجمة ما بهر العقول، ولم ينقل العلماء عن أحد ما نقل عنه، ولا لقي أحد، ونقل عنه من الأخبار ما نقل عنه، فقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلاف الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل، ذكرهم الحافظ بن عقدة الزيدي في كتاب رجاله، وذكر مصنفاتهم فضلاً عن غيرهم، واستدرك ابن الغضائري على ابن عقدة،

فزاد عليهم.

وروى عنه راوٍ واحد، وهو إبان بن تغلب ثلاثين ألف حديث، وقال الحسن بن علي ألوشا : «أدركت في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ، كل يقول : حدثني جعفر بن محمد، وبرز بتعليمه من الفقهاء والأفاضل جم غفير».

وقال الشيخ محمد الحسين المظفر في كتاب «تاريخ الشيعة» :

«أحسن أيام مرت على الشيعة هي الفترة التي امتزجت من أخريات دولة بني مروان، وأوليات دولة بني العباس، في اشتغال الأمويين بقتل بعضهم البعض، وفي انتقاض البلاد عليهم، وفي اشتغال بني العباس بالحروب مع المروانيين تارة، واستتباب الأمن أخرى. فانتهز الشيعة هذه الفرصة للارتواء من مناهل علم الإمام الصادق، فشدوا الرحال إليه، لأخذ أحكام الدين والمعارف عنه.

ولقد روي عنه في كل علم وفن، كما تشهد به كتب الشيعة، ولم تقتصر الرواية عنه على الشيعة فحسب، بل روت عنه سائر الفرق، كما تفصح بذلك كتب الحديث والرجال، وقد أحصى ابن عقدة والشيخ الطوسي، والمحقق في المعتبر وغيرهم من روى عنه من الشيعة وغيرهم، فكانوا أربعة آلاف.

وصارت الشيعة في غضون هذه الفترة تنشر الحديث، وتجهر بولاء أهل البيت، وربا عددهم في مختلف الجهات. ولما قامت دعائم السلطان للمنصور ضيق على الإمام الصادق، وأراد أن يقطع الأصل ليكون به جفاف الفرع».

لقد وافق عصر الإمام الصادق حركة فكرية بلغت الغاية في نشاطها وانتشارها، وظهرت مقالات غريبة، وتيارات أجنبية عن الإسلام تفشت بين المسلمين، بخاصة بين شبابهم، بالنظر لاتساع رقعة الإسلام، وكثرة الفتوحات التي فتحها العرب، واندماجهم بالأمم العديدة المتباينة في ثقافاتها وأديانها. فكان الملحدون يلقون الشبهات، والمرجئة يساندون حكام الجور، والمغالون يدعون مع اللّه إلهاً آخر، والخوارج يكفرون المسلمين، والمتصوفة يضللون ويراؤون، والمحدثون يضعون الأحاديث على رسول اللّه، والمؤمنون يريدون إيماناً واعياً، فكان الشغل الشاغل لقادة الدين أن يدفعوا عنه، ويثبتوا صحة العقيدة، ويفندوا مزاعم المبطلين، ويزيفوا أقوالهم.

وكانت مدرسة الإمام الصادق أول من شعر بهذا الخطر، وأسبق من عمل لدرئه ومناهضته، فأخذت على نفسها الذب عن الحق وأهله، وحملت لواء الشريعة الإسلامية أصولها وفروعها، وقصدت لكل مهاجم ومناعد، وأعلنت حرباً لا هوادة معها على الغلاة1، وناضلت ضد المعتزلة والمتصوفة والمرجئة والخوارج والأشاعرة، وصححت لعلماء الكلام الذين حاولوا إثبات الدين كثيراً مما وقعوا فيه من الأخطاء، وجرت بين هؤلاء من جهة، وبين الإمام الصادق وتلاميذه من جهة مناظرات ومجادلات كان الفوز والنصر فيها لمدرسة الإمام، فأثبت بالبرهان أن أقوالهم تبتعد عن الحق بمقدار صدودها عن الإسلام وتعاليمه2. لذا اتجهت الأنظار إلى المعلم الأكبر، وتشيع له المفكرون، وحفظوا أقواله، ودونوها، واعتبروها الفصل بين الحق والباطل، وبين الأصيل والدخيل، تماماً كأقوال جده الرسول صلى الله عليه وآله .

وكان من نتيجة هذه الفترة، ومرافقتها لتلك الحركات الفكرية أن عرف المذهب صافياً على حقيقته في العقائد والتفسير، والأخلاق والفقه وأصوله، وأخذ التشيع معناه ومجراه في إطاره العلمي أصولاً وفروعاً. وقد كان المذهب في أشد الحاجة إلى هذا المتنفَّس والمنطلَق الذي صادف وجود الإمام، إذ لو أمكنت الفرصة ولم يوجد الإمام، أو وجد ولم تكن الفرصة ممكنة، أو تحقق الأمران ولم تكن تلك الحركات الفكرية لم يكن لنا هذا التراث الضخم في شتى العلوم الإسلامية، خصوصاً الفقه، بل لم يكن هذا التقارب بين الشيعة والسنة في أصول الدين ومبادئ التشريع. فالفضل في استقلال المذهب وتركيزه، كما هو الآن يعود للإمام الصادق بعد أن أسعفته الظروف، ومهدت له السبيل، ومن هنا أطلق على الشيعة لفظ الجعفريين، وعلى فقههم الفقه الجعفري.

نحن نؤمن وندين بأن كل إمام من الأئمة الاثني عشر عنده علم الكتاب وسنة الرسول بكاملهما، وأنه أعلم أهل زمانه على الإطلاق، ولكن العلم ليس بالسبب الكافي لبثه ونشره ما لم تواكبه عوامل أخرى، وقد ساعد الإمام الصادق

__________________________

1 - ولا أجافي الصواب إذا قلت : إن الإمام الصادق قرب مسافة الخلف بين السنة والشيعة في محاربته الغلاة، وإبطال الكثير من أقوال المعتزلة.

2 - تجد الكثير من هذه المناظرات في كتاب «الاحتجاج» للطبرسي، والبحار للمجلسي وسائر كتب المناقب والفضائل.

على بث علومه ومعارفه العامل الحضاري من جهة، وفترة انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين من جهة ثانية، ووجود رواة ثقات كثيرين يؤمنون بالصادق، ويحسنون الأخذ عنه من جهة ثالثة، حتى ذهب بعض علماء الإمامية إلى القول بتوثيق الأربعة آلاف راوٍ بدون استثناء. وقد يكون هناك عوامل أخرى خفيت علينا إلى جانب هذه العوامل التي استبانت لنا.

وعلي أية حال، فإن هذه الأسباب مجتمعة لم تتوفر لأحد من الأئمة غير الإمام الصادق، فقد كان للإمام علي حواريون وأصحاب خلص، كميثم التمار، وكميل بن زياد، وحجر بن عدي، ومحمد بن أبي بكر وغيرهم، ولكنه مني في خلافته بالحروب والفتن الداخلية، ولما انتقل إلى جوار ربه عمل معاوية على طمس آثاره، وقتل رجاله، والقضاء على كل ما يمت إليه بسبب، أما عهد الحسنين والإمام السجاد فهو عهد معاوية وولده يزيد، وزياد وابنه عبيد اللّه، وعبد الملك وشيطانه الحجاج، عهد مذابح الشيعة ومجازرهم، واستشهاد أئمتهم، عهد سم الحسن، ومذبحة مرج عذراء، ومأساة كربلاء، ووقعة الحرة، وما إليها.

أما الإمام الباقر فهو المؤسس الأول لمدرسة ولده الصادق، فقد كان له أصحاب وتلاميذ من كبار التابعين وأعيان الفقهاء والمحدثين يتحلقون حوله للدرس في مسجد جدة الرسول، ولكن اللّه سبحانه قد اختاره إليه قبل أن تبلغ هذه المدرسة الغاية في النمو والاذهار، فقبض في خلافة هشام بن عبد الملك، وهو ابن 57 سنة، فخلفه ولده الإمام الصادق، وتوالت على مدرسته خطوظ وتوفيقات شتى، حيث ربا عدد تلاميذها على ما كانوا أيام أبيه، وأصبح الذين يفدون إليها، ويهتدون بهديها يعدون بالألوف.

وبعد الإمام الصادق عادت الظروف إلى قسوتها، والحوادث إلى شدتها على الأئمة وشيعتهم، ولكن المذهب كان قد انتشر في كل قطر، وعرفت معالمه، وتركزت أسسه، وحفظ ودوّن، وعمل الناس به منذ أيام الصادق، حتى اليوم، وإلى آخر يوم.

وبالتالي، فإن مذهب أهل البيت تبلور واتخذ صورته واضحة جلية، وثبتت أركانه ودعائمه في عهد الإمام الصادق، وأصبح للشيعة فقههم المستقل،

وعلماؤهم ورواتهم المعروفون، وآراؤهم الخاصة بالتوحيد والعدل وعصمة الأنبياء وشفاعتهم، وبالجبر والاختيار، وما إلى ذلك. وتميز مذهب التشيع عن بقية المذاهب تميزاً تاماً كما تميز مذهب المعتزلة عن مذهب الأشاعرة. أما أقوال بقية الأئمة الأطهار منذ الإمام الكاظم إلى نهاية الغيبة الصغرى فهي إما تأكيد لأقوال الصادق، وإما متممة لبعض أصول المذهب أو فروعه، أما رجالات الشيعة في عهد الإمام الصادق وبعده فكان همهم واهتمامهم حفظ تعاليمه، وتدوينها والدفاع عنها.

الدور الثالث:

ظهر مما قدمنا أن دعاة التشيع ورواده في الدور الأول اهتموا قبل كل شيء بالدعوة إلى الولاء لأهل البيت، والإيمان بأنهم أحق الناس جميعاً في خلافة النبي وميراثه في الحكم والسلطان، وان الدعاة اعتمدوا على نصوص الكتاب والسنة، ولم يتجاوزوا حرفيتها وهكذا كان الإسلام في الصدر الأول يستمد من الكتاب والسنة، وأخلاق الرسول الأعظم، والتشيع منذ يومه الأول إلى آخر يوم يسير مع الإسلام جنباً إلى جنب.

أما الدور الثاني، وهو دور الحضارة والحركة الفكرية فقد ظهر فيه مذهب التشيع، وتميز عن غيره أصولاً وفروعاً، وأصبح للشيعة فقههم المستقل وآراءهم الواضحة في كل ما يتصل بالعقيدة من قريب أو بعيد1 .

أما الدور الثالث فهو دور الدفاع ورد العاديات، ويبتدئ بالشيخ المفيد وتلميذه الشريف المرتضى، وينتهي بالعلامة الحلي، وليس من شك أن الأئمة الأطهار، وأصحابهم كهشام بن الحكم وغيره قد ذبوا ودافعوا ولكن قصدهم الأول كان إلى تحديد المذهب، وإطهاره على حقيقته، وتمييزه عن غيره، يدعمه بالحجج والبراهين.

ويجب أن نكون على علم اليقين بأن هذا التقسيم لا يمس التشيع في حقيقته

____________________________

1 - قال الشيخ مصطفى عبد الرازق أحد شيوخ الأزهر في كتاب « تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» ص 302 طبعة 1959 : «إن النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة من سائر المسلمين».

وجوهره، لأنه هو هو في جميع المراحل والأدوار لا تبديل فيه ولا تعديل، وإنما هو - أي التقسيم - باعتبار خصائص العصر الذي مر به التشيع، وعناية الدعاة والرواد بهذه الخصائص، تماماً كما هو الشأن بالقياس إلى موقف علماء الفرق السلامية من التيارات الأجنبية، والعلوم الدخيلة حينذاك.

لقد سبق الشيخ المفيد علماء أعلام كان لهم أحسن الأثر في خدمة المذهب، كالكليني صاحب الكافي، والصدوق صاحب من لا يحضره الفقيه، ولكن هذين العظيمين ومن إليهما كانوا امتداداً لرواة الحديث عن الأئمة الأطهار، ووعاة لأخبارهم وآثارهم يحفظونها من الضياع، أما الشيخ المفيد فكان المدافع الأكبر عن هذه الأخبار والآثار.

لقد تكاثرت في عصر المفيد المدارس وحلقات الدرس، وبلغ علم الكلام والجدل الغاية، ونبغ عدد كبير من العلماء والمتكلمين، وكان من أبرز خصائصهم المناقشات والمناظرات حول قضايا الدين والمذهب، وكانت المنافسة حامية وعلى أشدها بين مذهب الأشاعرة، ومذهب الاعتزال، وقد وضع علماء كل طائفة كتباً في الطعن والرد على مذهب الأخرى، ولكنهم تظاهروا جميعاً على الشيعة والتشيع، غير أن الشيخ المفيد كان لهم بالمرصاد.

فكان يجيب عن شبهاتهم وطعونهم بنظر دقيق، وبصر ثاقب، واستخراج عجيب، ثم يورد عليهم ما لم يستطيعوا معه إلا الإذعان والتسليم. كان يشرح عقيدة التشيع، ويدعمها بالدليل القاطع، ويرد عنها شبهات الخصوم، ثم يكر على عقيدتهم ومبادئهم ينقدها ويفندها، وينثر الفلسفة في شرحه وتأييده وتفنيده. وكان له فضل السبق إلى الاعتماد على منطق العقل والتفكير الحر، فقبل الشيخ المفيد كان المؤمنون لا يتجاوزون حرفية النصوص إلى العقل، وبعده أصبح العقل حليفاً للنصوص الدينية، وأساساً للعقيدة، وإذا قال أغسطين: «آمن كي تتعقل» فقد قال الشيخ المفيد: «تعقل كي تؤمن».

قال الشيخ عبد اللّه نعمة، وهو يترجم له في كتاب «فلاسفة الشيعة»: «كانت الشيعة القوة الثالثة بين مذهب المعتزلة ومذهب الأشاعرة. وقد تزعم هذه القوة في هذا العهد أبو عبد اللّه المفيد، وكان عليه، وهو دماغ الشيعة المفكر أن يشترك في هذا الصراع العنيف، ويجالد على عدة جبهات، ويناظر

أهل كل عقيدة، كما يقول ابن كثير الشامي. ونعرف حيوية المفيد في تفكيره وآرائه حين نأخذ باعتبارنا تأثير طبيعة العصر الذي عاش فيه يوم كانت الأخبار والأحاديث هي السند الوحيد لعلماء الشيعة فيما كتبوه حول عقائدهم ومذاهبهم. دون محاكمة أو تمحيص. أما المفيد فقد كان يحاكم ويفكر بحرية وتجرد».

وقال السيد الأمين في الجزء السادس والأربعين من كتاب «الأعيان»: «قال اليافعي في تاريخه مرآة الجنان: عالم الشيعة وصاحب التآليف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد البارع في الكلام والفقه والجدل، كان يناظر كل عقيدة بالجلال والعظمة.

وقال ابن النديم في الفهرست: ابن المعلم أبو عبد اللّه دقيق الفطنة ماضي الخاطر، شاهدته فرأيته بارعاً».

وقال صاحب «روضات الجنات»:

«نقل عن ابن كثير أنه قال: كان المفيد شيخ الروافض محامياً عنهم، متعصباً في حقهم. وكان يحضر مجلسه خلق كثير من العلماء من جميع الطوائف والملل. ولما بلغ نعيه إلى الشيخ أبي القاسم الخفاف المعروف بابن النقيب فرح بموته كثيراً، وأمر بتزيين داره، وجلس فيها للتهنئة، وقال: الآن طاب لي الموت».

نقلنا هذه الجملة، لأنها أبلغ صورة، وأصدق شاهد على عظمة المفيد التي تضاءل أمامها العلماء وتصاغروا، حتى شعروا بأنهم ليسوا بشيء يذكر ما دام المفيد حياً.

أما قول ابن كثير بأنه كان متعصباً فهو التعصب بالذات، لأن من يؤمن بالحق، ويجادل بالعقل والكتاب المبين، ويستقي أقواله من أصدق مصدر، وأنقى معين لا يكون متعصباً ولا متحيزاً، بل مؤمناً مخلصاً، إن المتعصب هو الذي يكابر، ويجادل بالباطل، ويبخس الناس أشياءهم بالكذب والافتراء.

إن الذين جاءوا بعد العلامة، ودافعوا عن المذهب كما دافع، السيد الأمين، وكاشف الغطاء، وشرف الدين، والشيوخ المظفرون1 ، إن هؤلاء وغيرهم لهم

_________________________

1 - هم الاخوة والأقطاب الثلاثة: الشيخ محمد الحسن صاحب «دلائل الصدق» والشيخ محمد الحسين صاحب «تاريخ الشيعة» والشيخ محمد الرضا صاحب «السقيفة».

أكبر الفضل على جهودهم وإخلاصهم، ولولاهم لطمع فينا السفهاء، وآمن المغفلون والبسطاء بافتراءات صاحب المنار، وخليفته محب الدين الخطيب، وأحمد أمين، وموسى جار الله، ومن إليهم، ولكن علماءنا المتأخرين - زمناً - على عظمتهم ، وتمكنهم من العلوم ومعرفة الحق بدليله لم يزيدوا شيئاً عن أقوال المفيد والمرتضى والطوسي والعلامة ... ذلك أن الاعتراض واحد لم يتغير منذ زمان وزمان، فجوابه أيضاً واحد، تماماً كجواب من أنكر اللّه سبحانه بالأمس، ومن أنكره اليوم.

ولو تجاوزنا أقوال أولئك العظماء لتجاوزنا الحق والواقع، لأن الحق لا يتغير، فهو هو في كل زمان ومكان، وكذلك دليله ومدركه. إن هذه الكتب والنشرات التي تصدر - اليوم - تباعاً في سب الشيعة وتكفيرهم لهي أكثر ضرراً، وأعظم خطراً من تلك الشبهات والافتراءات التي قيلت على الشيعة والتشيع في عهد المفيد والعلامة. فإذا لم تتصد الأقلام الواعية لإبطالها، وفضح أربابها لجعلنا من لا علم له في عداد المشركين، وطليعة المغالين.

ودفعاً لكل التباس نختم هذا الفصل بالتأكيد مرة أخرى أن تقسيم التشيع إلى أدوار ثلاثة لا يمس كنهه وحقيقته، وإنما هو باعتبار الأساليب والوسائل التي اعتمدها الدعاة والحماة من الاستناد إلى النصوص والفضائل، ثم إلى حيث المذهب ونشره بحرية تامة، وتدوينه أصولاً وفروعاً، ثم النقاش والمناظرة مع المذاهب الأخرى.

الإسلام وَالوَلاء

سؤال :

هل يعتقد الإمامية أن الولاء ركن من أركان الإسلام، بحيث لا يكون مسلماً - عندهم - إلا إذا كان موالياً لأهل البيت(ع)؟

الجواب :

لقد نسب أكثر من واحد هذا القول إلى الإمامية، ولكن النسبة هذه لا تبتنى على أساس. فلقد اتفقت كلمتهم على أن كل من نطق بالشهادتين يكون حكمه حكم المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وبذلك صرحوا في كتب العقائد والتفسير والفقه، وعملوا به منذ أقدم العصور، فعن الإمام الرضا عن آبائه عن جده النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : أُمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإن قالوها حرم علي دماؤهم وأموالهم. وقال صاحب الجواهر ج 6 باب الإرث:

«المسلمون يتوارثون، وإن اختلفوا في المذاهب والأصول والعقائد، كما هو المشهور، لعموم ما دل على التوريث بالنسب والسبب من الكتاب والسنة والإجماع لابتناء المواريث على الإسلام، دون الإيمان، وفي تلك الأدلة أن الإسلام هو ما عليه جماعة الناس من الفرق كلها، وبه حقنت الدماء، وجرت المناكح والمواريث. مضافاً إلى شهادة تتبع أحوال السلف من توريث المسلمين بعضهم من بعض في جميع الأعصار، مع الفتوى الظاهرة، والشهرة المعلومة. أما الغلاة والخوارج والنواصب، وغيرهم ممن علم منهم الإنكار لضرورة من ضرورات الدين فلا يرثون المسلمين قولاً واحداً».

بل قال صاحب «مصباح الفقيه» الآغا رضا الهمداني في الجزء الثالث من كتاب الطهارة ص 49 : من أقر بالشهادتين يعامل معاملة المسلمين من جواز المخالطة والمناكحة والتوارث، حتى ولو علم نفاقه وعدم اعتقاده.

أنكر النواصب والخوارج ضرورة دينية، وهي مودة الآل التي ثبت وجوبها بصريح القرآن، والسنة المتواترة فخرجوا بذلك عن الإسلام عند الإمامية، أما الغلاة فإن اعتقدوا أن هذا الشخص بالذات هو اللّه، وأنكروا وجود خالق سواه فهم كافرون، وإن اعترفوا بوجود خالق مثله فهم مشركون، وإن اعتقدوا بأن اللّه حل أو اتحد فيه فهم منكرون لما ثبت بضرورة الدين من أن اللّه أجل وأعظم من أن يصير بشراً يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق. وبكلمة إن الغلاة والخوارج والنواصب ليسوا عند الإمامية من الإسلام في شيء، إما لأنهم يجحدون الإسلام من الأساس، كالغلاة، وإما لأنهم ينكرون ما ثبت بضرورة الدين، كالنواصب والخوارج.

لقد وقف الإمامية موقفاً وسطاً بين هؤلاء بالنسبة إلى أهل البيت، فهم لا يعادون، ولا يغالون، بل يوالون ويودون، كما أمر اللّه والرسول، وكما قال امير المؤمنين : هلك فيّ صنفان : محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيّ حالاً النمط الأوسط.

هذي عقيدة الشيعة، وهذه أقوالهم يوجبون التوارث والتزاوج، وسائر الأحكام الإسلامية بين أهل القبلة جميعاً، ولا يستثنون إلا من استثناه القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومع ذلك نقرأ بين الحين والحين، لبعض الأقلام الجاهلة، أو المأجورة، أن الإمامية يكفرون جميع المسلمين، وأن الشيعة بعامة يغالون في أئمتهم، ويجعلونهم آلهة أو شبه آلهة.

الخوارج والنواصب :

اتفق السنة والإمامية بكلمة واحدة على أن الغلاة الذين ألهوا علياً، أو غيره ليسوا مسلمين، أما الذين نصبوا العداء لأهل البيت، ومنهم الخوارج الذين كفروا علياً فهم تماماً كالغلاة عند الإمامية، لا يجري عليهم حكم الإسلام.

وقال جمهور من علماء السنة : لا يكفر أحد من أهل القبلة، فقد جاء في كتاب «المواقف» وشرحه ج 8 ص 339 ما نصه بالحرف :

«جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، فإن الشيخ أبا الحسن قال في أول كتاب «مقالات الإسلاميين» : اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلل بعضهم بعضاً، وتبرأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقاً متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم. فهذا مذهبه، وعليه أكثر أصحابنا أي السنة».

وفي ص 344 رد على من قال بكفر الروافض والخوارج، لأنهم قدحوا في الصحابة، وقال بكل صراحة ووضوح إن ذلك لا يستدعي كفرهم.

ونتساءل : إذا كان هذا قول أبي الحسن الأشعري، وهو إمام السنة، ومنه يأخذون عقائدهم، وهذا حكمه على الخوارج والروافض الذين قدحوا في الصحابة، فكيف ساغ لبعض شيوخ السنة الذين يزعمون أنهم على مذهب أبي الحسن الأشعري، كيف ساغ لهم أن يكفروا الشيعة لا لشيء إلا لمجرد التهمة بأنهم يسبون الصحابة ؟!

الإيمان والولاء :

قلنا إن الإيمان بمعناه الخاص لا يتحقق بمجرد النطق بالشهادتين، بل لا بد أن يضاف إليه التصديق في القلب، والعمل بالأركان من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. وقد زاد الإمامية ركناً آخر على هذه الأركان، وهو الولاء لآل الرسول مستندين إلى ما رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، قال كرد علي في كتاب «خطط الشام» ج 6 ص 251 طبعة 1928 :

«قال أبو سعيد الخدري : أمر الناس بخمس، فعملوا بأربع، وتركوا واحدة. ولما سئل عن الأربع ؟ قال : الصلاة والزكاة وصوم رمضان والحج. قيل : فما الواحدة التي تركوها ؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب. قيل له : وإنها المفروضة معهن ؟ قال : نعم هي مفروضة معهن».

وقال الإمام الصادق : الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، والإيمان هو معرفة هذا الأمر. وقال : بني الإسلام على خمس : الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية. أي بعد الإقرار بالشهادتين، حيث لا يقبل أي عمل بدونه.

وبهذا يتبين أن الولاء - عند الإمامية - ركن من أركان الإيمان، لا من أركان الإسلام، فغير الموالي مسلم، ولكنه غير شيعي، وبكلمة إن الولاء عندهم من أصول المذهب، لا من أصول الدين.

وبهذه المناسبة نشير إلى أن الإمامية حين يقولون في كتب الفقه : تعطى الزكاة للمؤمن، ويصلى خلف المؤمن فإنهم يريدون به خصوص الإمامي الاثني عشري، وقد أجازوا الوقف والوصية، وإعطاء الصدقات غير الواجبة، أجازوا إعطاءها للمسلمين وغير المسلمين، الفقراء منهم والأغنياء على السواء. وقد روي عن أهل البيت جواز الصدقة على اليهودي والنصراني والمجوسي.

الأئمة الاثنا عشر :

قال الشهيد الثاني في رسالة «حقائق الإيمان» :

«إن التصديق بإمامة الاثني عشر إماماً أصل من أصول الإيمان عند الطائفة المحقة الإمامية، حتى أنه من ضرورات مذهبهم، دون غيرهم، فإنه عندهم من الفروع، ثم إنه لا ريب أنه يشرط التصديق بكونهم أئمة يهدون بالحق، وبوجوب الانقياد إليهم في أوامرهم ونواهيهم، إذ الغرض من الحكم بإمامتهم ذلك، فلو لم يتحقق التصديق بذلك لم يتحقق التصديق بكونهم أئمة معصومين مطهرين عن الرجس، كما دلت عليه الأدلة العقلية والنقلية، والتصديق بكونهم منصوصاً عليهم من اللّه تعالى ورسوله.

وإنه لا يصح خلو العصر عن إمام منهم، وإن خاتمتهم المهدي صاحب الزمان، وإنه حي إلى أن يأذن اللّه».

ويكتفي الشهيد الثاني أن يعتقد الشخص بإمامة من مضى من الأئمة إلى إمام زمانه، فمن كان في عهد أمير المؤمنين يكفيه الإيمان بإمامته وحده، ومن كان في زمن الحسن يكفيه الإيمان بإمامة الاثنين، وهكذا يعتقد الإنسان بإمامة من تقدم، وإن لم يعتقد بإمامة الباقين الذين وجدوا، وانتهت إليهم الإمامة بعد انقراض زمن السابق.

ثم قال : «اعلم أن من مشاهير الأحاديث بين السنة والشيعة أن من مات، ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية، ونحن بحمد اللّه نعرف إمام زماننا في كل وقت، فلم يمت أحد من الإمامية ميتة جاهلية، بخلاف غيرنا، فإنهم لو سئلوا عن إمام زمانهم لسكتوا، ولم يجدوا إلى الجواب سبيلاً.

أما قول بعضهم : إن إمامهم القرآن العزيز، فلا يلتفت إليه، لأن القرآن قد نطق بأن الإمام غيره، قال عز من قائل : «أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» على أنه لو سلم ذلك للزم اجتماع إمامين في زمان واحد، وهو باطل بالإجماع منا ومنهم، كما صرحوا به في كتب أصولهم. ذلك أنهم قالوا بأئمة الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في وقت وجود القرآن فيلزم ما ذكرناه من اجتماع إمامين في وقت واحد».

 

الإمامَة بَين شَيْخ الشِّيعَة وَشَيْخ المُعتَزلة

ألف القاضي عبد الجبار شيخ المعتزلة كتاباً أسماه «المغني» بذل فيه نشاطاً بالغاً لتفنيد أقوال الإمامية في الإمامة، وأورد فيه من الشبهات ما أسعفه الفكر والخيال، وقد انطوى الكتاب على أخطاء، وتمويهات تخدع البسطاء والمغفلين، فتصدى لنقضه الشريف المرتضى في كتاب ضخم أسماه «الشافي»، وقد جاء فريداً في بابه، وصورة صادقة لمعارف المرتضى ومقدرته، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه - على الأصح -. عالج المرتضى مسألة الإمامة من جميع جهاتها، كمبدأ ديني، واجتماعي وسياسي.

وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنها ضرورة دينية، واجتماعية، وأن علياً هو الخليفة الحق المنصوص عليه بعد الرسول، وأن من عارض وعاند فقد عارض الحق والصالح العام. ذكر الشريف جميع الشبهات التي قيلت، أو يمكن أن تقال حول الإمامة، وأبطلها بمنطق العقل والحجج الدامغة، كما أشار إلى فضائل الإمام، ومثالب غيره.

ولا أغالي إذا قلت : إن كتاب الشريف هو أول كتاب شافٍ كافٍ في الدراسات الإسلامية الإمامية، بحيث لا يستغني عنه من يريد الكلام في هذا الموضوع، وبحثه بحثاً موضوعياً. وليس من شك أن العلامة الحلي قد عنى كتاب «الشافي» حين قال مقرظاً الشريف : «بكتبه استفاد الإمامية منذ زمنه رحمه اللّه إلى زماننا - بل وإلى آخر زمان - وهو أي الشريف ركنهم ومعلمهم قدس اللّه روحه، وجزاه عن أجداده خيراً».

والشيء الذي يؤسف له هذا الداء الساري في جميع كتبنا نحن الإمامية من رداءة الطباعة، وسوء الإخراج، وعدم الترتيب والتبويب. بخاصة كتاب «الشافي» فإنه على ضخامته - يبلغ ألف صفحة أو أكثر بقطع هذا الكتاب - لا يعرف له أول من آخر لولا الابتداء بالبسملة، والانتهاء بسؤال التوفيق. فقد دمج قول القاضي والشريف، حتى كأنهما حرفان متماثلان قد أدغم أحدهما بالآخر، أو خيوط من نسيج قد حيك منها ثوب واحد.

واليوم نشاهد نشاطاً ملحوظاً لإحياء التراث القديم، ونشره بحلة جديدة(1) وليس من شك أن حركة النشر ستشمل كتاب «الشافي» الكافي، وتخرجه إخراجاً جميلاً، ولو عرف الناشرون والقراء قيمة هذا الكتاب، وما فيه من كنوز وحقائق لاستبقوا إليه، ولم يفضلوا عليه كتاباً أي كتاب.

ومن المفيد أن نذكر أمثلة من فوائده الجمة بعبارة أوضح وأصرح، مع ما يناسب المقام من التنبيه والتعليق.

النبي والإمام :

قال القاضي في كتاب «المغني» : إن العصمة والأفضلية على الناس أجمعين من صفات النبي، فلو أعطيت للإمام لكان نبياً.

قال الشريف المرتضى في كتاب «الشافي» : لم يكن النبي نبياً، لأنه أفضل ومعصوم، وكفى، بل لأنه يؤدي عن اللّه بلا واسطة، أو بواسطة الروح الأمين، والإمام، وان كان معصوماً وأفضل فإنه يؤدي عن النبي، لا عن اللّه فالفرق موجود وظاهر.

الإمام والكون :

قال القاضي : إن من الإمامية من يقول : لولا الإمام لما قامت السماوات والأرضون، ولما قبل من عبدٍ عملاً.

قال الشريف : إن هذا القول لا نعرفه لأحد من الإمامية قديماً وحديثاً.

_____________________

(1) لا أرى رجلاجاً مفيداً لهذه النشرات والهجمات المتوالية على الشيعة والتشيع في أيامنا هذه إلا بنشر تراث المفيد والشريف والحلي والطوسي بحلة جديدة مع شرحها أو التعليق عليها، وأن يتفرغ أيضاً للكتابة في الموضوعات الشيعية عشرون عالماً على الأقل، لهم الكفاءات والمؤهلات للتأليف بلغة العصر وتفكيره، على أن يقفل باب الكتابة والتأليف في وجه المتطفلين والمشوهين.

التشيع والإلحاد :

قال القاضي : إن كثيرين ممن أظهروا التشيع وناصروه كانوا ملحدين، ومن أعدى أعداء الإسلام، غير أنهم تستروا وتسلقوا بالإسلام لغاية الكيد والطعن، إذ لو أظهروا الإلحاد لم يقبل منهم.

نطق القاضي عبد الجبار بهذه الفرية في القرن الرابع الهجري، وهو أعدى أعداء الشيعة والتشيع، قالها بقصد الكيد والتنكيل. وبعد ألف سنة أو أكثر اعتمدها أحمد أمين، وقال في فجره وضحاه : كل من أراد الكيد للإسلام كان يتستر باسم التشيع. استقى أحمد أمين وغيره آراءهم في الشيعة من أعداء الشيعة، دون أن يرجعوا إلى مصادر الشيعة، ودون أن يمحصوا ويحققوا أقوال خصومهم فوقعوا في الأخطاء الفاحشة عن قصد أو غير قصد. وإذا كانت هذي حال مؤلفات أحمد أمين ومن إليه تستقي رأيها في عقيدة الشيعة من خصوم الشيعة، وتقبل الادعاء بلا بينة فهل يجوز أن يعتمدها من يطلب الحقيقة، ويتوخى الصواب ؟

والذي ظهر لي بالتتبع، واعتقدته بالدليل أن الذي حمل عبد الجبار وغيره على هذه الفرية أنهم حين عجزوا عن رد، وإبطال ما قاله الشيعة في الإمامية لجأوا إلى هذا الكذب والاختلاق، شأنهم في ذلك شأن كل مبطل ضعيف يتذرع بالحيل، وسبل التضليل.

ومما رد به الشريف على القاضي بأنه لا يجوز بحال أن نضيف الإلحاد إلى من لم يتظاهر به، ولو جازت نسبة الإلحاد إلى أحد من رجال الشيعة لجازت نسبته إلى القاضي عبد الجبار، وإلى أبي الهذيل والجاحظ الذي اختلطت أقواله، وتضاربت مؤلفاته تضارباً يدل على شك عظيم، وإلحاد شديد، وقلة تفكير واكثراث بالدين.

وأضيف إلى قول الشريف بأن كتب الجاحظ لو كانت لعالم من الشيعة لاتخذ الخصوم منها دليلاً وذريعة إلى ضلال التشيع، وكفر الشيعة إطلاقاً، وجعلوها أعظم وأشهر من قميص عثمان.

النص على أمير المؤمنين :

قسم الشريف النص على أمير المؤمنين علي إلى قسمين : نص بالفعل والقول، ونص بالقول فقط، ثم النص الثاني قسمه إلى قسمين : نص جلي، وآخر خفي، قال :

«ورد النص بالإمامة على أمير المؤمنين بعد النبي، ودل على وجوب طاعته، ولزومها لكل مكلف، وينقسم النص عندنا في الأصل إلى قسمين : أحدهما يرجع إلى الفعل، ويدخل فيه القول، والآخر إلى القول دون الفعل.

فأما النص بالقول والفعل فهو ما دلت عليه أفعاله صلى الله عليه وآله وأقواله المبينة لأمير المؤمنين من بين الأمة الدالة على استحقاقه من التعظيم والإجلال، والاختصاص بما لم يكن حاصلاً لغيره، كمؤاخاته، وإنكاحه سيدة النساء ابنته، وإنه لم يولِّ عليه أحداً من الصحابة، ولا ندبه لأمر، أو بعثه في جيش إلا كان هو الوالي عليه، والمقدم فيه، وإنه لم ينقم عليه مع طول الصحبة، وتراخي المدة شيئاً، ولا أنكر منه فعلاً، ولا استبطأه في صغير ولا كبير من الأمور، مع كثرة ما توجه منه صلى الله عليه وآله إلى جماعة من الأصحاب من العتب تصريحاً، أو تلويحاً، وقوله فيه علي مني وأنا من علي، وعلي مع الحق، والحق مع علي، واللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، إلى غير ذلك من الأقوال والأفعال الظاهرة التي لا يخالف فيها ولي ولا عدو، وذكر جميعها يطول، وكل هذه الأفعال والأقوال تشهد باستحقاقه الإمامة، ونبهت على أنه أولى بمقام الرسول، لأنها كما دلت على التعظيم والاختصاص فقد دلت أيضاً على قوة الأسباب إلى أشرف الولايات، لأن من كان أعظم فضلاً، وأعلى في الدين مكاناً فهو أولى بالتقديم، وأقرب وسيلة إلى التعظيم، ولأن العادة فيمن يرشح لشريف الولايات، ويؤهل لعظيمها أن يصنع به، وينبه عليه ببعض ما ذكرناه.

أما النص بالقول دون الفعل فينقسم إلى قسمين : جلي، كقوله صلى الله عليه وآله سلموا على علي بإمرة المؤمنين، وهذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا(1).

وأما النص الخفي فكقوله صلى الله عليه وآله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، ومن كنت مولاه فعلي مولاه. والفرق بين النص الجلي والنص

_____________________

(1) انظر تاريخ الطبري وتفسيره، والبغوي والثعلبي في تفسيره، والنسائي في خصائصه، وصاحب السيرة الحلبية (أعيان الشيعة ج 3 قسم أول ص 110).

الخفي أن الأول يعلم منه المعنى بالضرورة، وبدون حاجة إلى الاستدلال والمقدمات، كما لو قلت : هذا أخي. فإنه يدل على الأخوة ابتداء وبلا واسطة، والثاني يحتاج إلى الاستدلال وترتيب مقدمات، كما لو قلت : أنا وأنت كالحسنين. والحسنان أخوان فنحن أخوان.

وقال القاضي معترضاً على وجود النص : لو كان النص من النبي على علي موجوداً حقاً لعلم به جميع المسلمين بالضرورة تماماً كما علموا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله التي لم يختص العلم بها بفريق دون فريق من المسلمين، ولا يمكن بحال أن يخفى هذا النص، ولا يظهر للناس كالشمس، لأنه تماماً كالنص على وجوب الصلاة إلى الكعبة، وصوم شهر رمضان، وما إليه من النصوص التي وجدت وعلمت بالضرورة، ولم يقع فيها شك ولا ريب، وبكلمة إن عدم علم الجميع بالنص دليل على عدمه.

وتتجلى عظمة الشريف في الجواب عن هذه الشبهة التي تشدق بها الأولون، وورث الاجترار بها المتأخرون. ويتلخص جوابه رضوان اللّه عليه بما يلي :

1 - لا نسلم أن وجود النص على الإمام يستدعي علم المسلمين جميعاً بالضرورة، فلقد نص النبي على أشياء كثيرة خفيت علينا أحكامها، وكان صلى الله عليه وآله يتوضأ في كل يوم بمرأى من المسلمين، حتى كرر الوضوء أمامهم ألوف المرات، ومع ذلك اختلف السنة والشيعة في كيفية الوضوء، ووجوب غسل الرجلين ومسحهما، فقال الأولون بالأول، والآخرون بالثاني. ولو كان خفاء النص محالاً لما وقع الخلاف. وإذا جاز أن يكون النص موجوداً على الغسل ومتواتراً مع خلاف الشيعة جاز أن يكون النص على الإمام موجوداً ومتواتراً مع خلاف السنة. وكل ما يقال في حق الشيعة من المكابرة، أو دخول الشبهة عليهم يقال ذلك في حق السنة بالنسبة إلى وجود النص على الإمام، والفرق اعتباط وتحكم.

2 - إن أبا حنيفة لم يثبت عنده إلى 17 حديثاً، وإن فرقة من الخوارج أبطلت كل حديث يخالف مذهبها، ولم تسلم بأي حديث إلا عن الوجه الذي تذهب إليه. فهل يدل هذا على أن النبي لم يحدث إلا 17 حديثاً، أو أنه لم يحدث إلا بما يتفق مع مذهب هؤلاء الخوارج ؟

3 - إنه لا غرض لأحد في إخفاء، أو تكذيب النص على الكعبة، وإيجاب الصوم، وما إليه لا في عهد الخلفاء الأولين، ولا في عهد الأمويين والعباسيين، لأن هذا النص لا يتصل بالسياسة والمسوس من قريب أو بعيد.

أما النص على علي بالخلافة فإنه إبطال صريح لرياسة من تقدم وتأخر، والحكم بظلمه وعدوانه، لذا كان راويه معرضاً للتكذيب والتعذيب، كما حدث بالفعل لأبي ذر وعمار وميثم التمار وحجر بن عدي، وعمر بن الحمق وغيرهم. إذن قياس النص على الإمام بالنص على الكعبة ونحوه قياس مع وجود الفارق، لأن دواعي الظهور متوافرة في الثاني، دون الأول، بل قد توافرت فيه دواعي الخفاء بكاملها، كحسد الإمام على عظمته ومنزلته من اللّه والرسول، والحقد عليه لما فعل، ولمن قتل على الشرك من أقارب المنكرين وأرحامهم يوم بدر وأحد والأحزاب وحنين.

ولاية علي :

قال القاضي : إن النصوص التي استدل بها الشيعة كلها خفية لا تدل صراحة على خلافة علي وإمامته، بل تحتمل التأويل والتفسير بخلاف قصدهم. من ذلك قوله تعالى : «إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون»، حيث نزلت بعلي حين تصدق بخاتمه، وهو راكع.

ومن السنة قول النبي يوم الغدير «من كنت مولاه فعلي مولاه»، فمن الجائز أن يريد بالولي في الآية والحديث الحب والمودة دون الحكم والسلطان.

وقد ردد هذا القول شيوخ من بعد عبد الجبار تقليداً وتعصباً لأسلافهم، واتخذوا من أقوالهم حجة ودليلاً.

وقال الشريف : إن عدم ثبوت النص الجلي عند القاضي عبد الجبار وأمثاله من خصوم الشيعة لا يستدعي عدم صدوره عن النبي صلى الله عليه وآله ، ولا عدم ثبوته عند العلماء المنصفين، إذ المعول في ثبوت النص على نقل الثقات الذين تثبت السنة النبوية بنقلهم، وقد نقل لنا وللأجيال من لا يشك بصدقه النصوص الجلية الواضحة، كحديث أيكم يبايعني يكن أخي ووصيي وخليفتي عليكم، وقول علي أنا يا رسول اللّه، وجواب النبي له أنت أخي ووصيي وخليفتي. وذلك حين نزل قوله سبحانه وتعالى «وأنذر عشيرتك الأقربين».

أما الولاية في الآية المتقدمة فيتعين حملها على الطاعة وتدبير الشؤون بدليل أنك إذا قلت : فلان ولي هذه المرأة يفهم من قولك هذا أنه يملك العقد عليها، وإذا قلت : هؤلاء أولياء المقتول فمعناه أنهم الذين يحق لهم المطالبة بدمه، وكذلك إذا قلت : هذا ولي الرعية، وولي عهد المسلمين يفهم أنه يدير أمورهم، ويدبر شؤونهم، وحمل اللفظ على غير هذا المعنى الظاهر يحتاج إلى دليل، وهو منفي في الآية الكريمة، فيتعين تفسير الولاية بالمعنى الظاهر، وهو الحكم والسلطان.

أما حديث الغدير فإن النبي صلى الله عليه وآله قبل أن يقول : من كنت مولاه إلخ... استخرج من أمته الإقرار بفرض الطاعة له، وذلك حيث قال أولاً : ألست أولى بكم من أنفسكم، وهذا القول وإن كان مخرجه الاستفهام فإن المراد به التقرير، تماماً كقوله تعالى : «ألست بربكم» فلما أجابوه بالاعتراف رفع بيد أمير المؤمنين، وقال عطفاً على ما تقدم: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».

فوجب، والحال هذه، أن يريد المعنى المتقدم الذي قررهم به، كما يقتضيه سوق الكلام، واستعمال أهل اللغة وعرفهم في خطاباتهم وأساليبهم، وإذا ثبت أنه أراد ما ذكرناه من كون أمير المؤمنين أولى بالإمامة من أنفسهم، فقد وجبت له الإمامة من فرض طاعته عليهم، ونفوذ أمره ونهيه فيهم.

 

دُول الشِّيعَة

أشرنا في مطاوي ما تقدم إلى أن الفتوح الإسلامية كان القصد الأول منها السيطرة، وامتداد السلطان، وإيجاد أرض للمسلمين يعيشون فيها أغنى من أرضهم، وتربة أخصب من تربتهم، وأن انتشار الإسلام يستند قبل كل شيء إلى تعاليمه ومبادئه الإنسانية، وإذا كان للدولة من تأثير فهو التمهيد والتيسير، حيث لا يعيش معتنقو الدين الجديد في قلق وخوف من أجل دينهم وعقيدتهم. اللهم إلا إذا اعتنقوا مذهب التشيع، وأعلنوا الولاء لعلي وأهل بيته، بخاصة في عهد الأمويين.

حاول الأمويون القضاء على التشيع كلية، وأراد العباسيون أن يحدوا من نموه وانتشاره بعد العجز واليأس عن استئصاله، ولكنه نما وازدهر، رغم هذه العوائق، ثم مضى الزمن، وقامت هنا وهناك دول للشيعة، منها دولة الأدارسة في المغرب ودولة العلويين في الديلم. والبويهيين في العراق وغيرها، والحمدانيين في سورية، والفاطميين في مصر، والصفويين في إيران.

وسنشير فيما يلي إلى كل واحدة من هذه الدول، وما كان لها من تأثير في انتشار التشيع، والموضوع، كما ترى، طويل عريض، يقتضي بحثاً مفصلاً. ولكنا سنكتفي بالقدر الذي يجعل القارئ على علم بمكان هذه الدول في التاريخ.

 

دَولَة الأدَارسَة

كان من ظلم العباسيين، ومطاردتهم لأبناء علي أمير المؤمنين أن خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب، وكان معه جماعة من أهل بيته، منهم إدريس، ويحيى، وسليمان بنو عبد اللّه بن الحسن، فاشتد أمر الحسين في بدء الأمر، وطرد من المدينة عامل الهادي العباسي حفيد المنصور، وبايع الناس الحسين على كتاب اللّه وسنة نبيه، وأقام وأصحابه بالمدينة أياماً يتجهزون، ثم خرجوا إلى مكة للحج، فقابله هناك جيش الحاكم العباسي يوم التروية الثامن من ذي الحجة، فقتل الحسين وجماعة من أهل بيته وأصحابه، وجمعت رؤوسهم فكانت مائة ونيفاً، وكان بينها رأس سليمان بن عبد اللّه بن الحسن المثنى، وكان مقتلهم بموضع يقال له فخ على ثلاثة أميال من مكة سنة 169 هجري، وإلى ذلك يشير دعبل في تائيته الذائعة النائحة، كما قال عبد الرحمن الشرقاوي :

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي*** نجوم سماوات بأرض فلاة

قبور بكوفان وأخرى بطيبة*** وأخرى بفخ نالها صلوات

يحيى :

أما يحيى فإنه فر من الوقعة المذكورة إلى بلاد الديلم(1)، ودعا الناس إلى بيعته فبايعوه، واشتد أمره، وقويت شوكته، فجهز له الرشيد جيشاً ضخماً بقيادة الفضل بن يحيى البرمكي، فكاتبه الفضل، وبذل له الأمان، وكل ما يختار فآثر حقن الدماء، وأجاب الفضل بعد أن أخذ اليمين المغلظة من الرشيد بخطه، وأشهد العلماء والأكابر، وحضر يحيى إلى بغداد، فأكرمه الرشيد،

_____________________

(1) تقع بلاد الديلم على شواطئ بحر قزوين، وتشمل كوكان ومازندران، وطرفاً من رشت.

وأعطاه مالاً كثيراً، ثم غدر به.

إدريس :

وأما إدريس بن عبد اللّه بن الحسن فإنه فر من وقعة فخ إلى مصر، وكان على بريدها يومئذ رجل يتشيع لآل البيت، اسمه واضح، فعلم بإدريس، فأتاه إلى الموضع الذي كان مستخفياً فيه، وعرض عليه خدماته، ولم ير شيئاً أخلص له من أن يحمله على البريد إلى المغرب، ففعل، ولحق إدريس بالمغرب الأقصى(1) فنزل بمدينة تدعى «وليلة»، وكان فيها عامل للعباسيين اسمه إسحاق بن محمد بن عبد الحميد، فأجار إدريس وأكرمه وخلع طاعة العباسيين، وانتهى الخبر إلى الرشيد بما فعله واضح في شأن إدريس، فقتله وصلبه.

واجتمعت عليه القبائل من كل وجه ومكان، وكان أول من بايعه قبيلة أوربة، وهي يومئذ من أعظم قبائل البربر بالمغرب الأقصى، وأكثرها عدداً، ثم تلتها سائر القبائل، فبايعوه ودخلوا في طاعته، وعظموه وقدموه على أنفسهم، فاستتب أمره، وتمكن سلطانه.

الغزو :

ولما تم له الأمر اتخذ جيشاً كثيفاً من وجوه البربر الأشداء، وخرج غازياً بلاد تامسنا، وبلاد تادلا، ففتح المعاقل والحصون، وكان أكثر أهل هذه البلاد على دين اليهودية والنصرانية، فأسلم جميعهم على يده.

ثم رجع إلى عاصمته «وليلة» واستراح برهة، ثم استأنف الغزو على من بقي من قبائل البربر على غير دين الإسلام، وكانوا متحصنين في المعاقل والجبال المنيعة، فلم يزل يجاهدهم، ويستنزلهم من معاقلهم، حتى دخلوا في الإسلام.

وقفل راجعاً إلى مقره ريثما استراح جيشه، ثم كرّ غازياً على تلمسان، فخرج إليه صاحبها مستأمناً ومبايعاً، فأمنه إدريس، وقبل بيعته، ودخل المدينة، وبنى فيها مسجداً متقناً، وأمر بعمل منبر نصبه فيه، وكتب عليه : «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به الإمام إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي

_____________________

(1) المغرب الأقصى مراكش، والمغرب الأوسط الجزائر، أما تونس فتعد من إفريقيا.

ابن أبي طالب، وذلك في صفر سنة 194» قال ابن خلدون : «واسم إدريس مخطوط في صفحة المنبر لهذا العهد».

وبلغت أخبار إدريس هارون الرشيد ببغداد، فخاف عاقبة ذلك، وأيقن أنه إذا لم يتدارك أمره الآن عجز عنه في المستقبل، وغزاه في عقر داره مع ما يعلم من فضل إدريس، ومحبة الناس لأهل البيت عموماً فدس إليه رجلاً يعرف باسم الشماخ، وزوده بالمال والسم، وأوصاه أن يتظاهر بالتشيع للعلويين، ويتقرب إلى إدريس بشتى الطرق، ثم يغتاله بالسم، ورحل الشماخ إلى إدريس مظهراً الهرب إليه فيمن هرب من جور الرشيد، فعطف عليه إدريس ورحمه، وكان الشماخ ممتلئاً من الأدب والظرف والبلاغة، فأنس به إدريس واطمأن إليه، وشكا إدريس ذات يوم من علة في أسنانه، فأعطاه الشماخ دواء مسموماً، ثم اختفى، فسقطت أسنان إدريس، ومات سنة 177 رحمة اللّه عليه، وقيل سنة 175.

وكان فاضلاً في ذاته مالكاً لشهواته، مؤثراً العدل، مقبلاً على أعمال البر(2).

إدريس الثاني :

مات إدريس، ولم يترك ولداً إلا حملاً من جارية بربرية، اسمها كنزة، وكان له مولى يدعى راشداً، وكان كاسمه عاقلاً أميناً، وشجاعاً كريماً، فجمع راشد رؤساء البربر، ووجوه الناس، وقال لهم : إن رأيتم أن تصبروا، حتى تضع هذه الجارية حملها، فإن كان ذكراً أحسنا تربيته، حتى يبلغ مبلغ الرجال، وبايعناه تمسكاً بدعوة آل البيت، وتبركاً بذرية الرسول، وإن كان انثى نظرتم لأنفسكم.

_____________________

(1) هذه الجملة وردت بالحرف في كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، وقال جرجي زيدان في الجزء الرابع من تاريخ التمدن الإسلامي : وتلقى الشيعة في المغرب إدريس وبايعوه. يدل هذا على أن التشيع كان في المغرب منذ وصول الإسلام إليه.

(2) الجزء الأول من كتاب «البيان المُغرب في أخبار المَغرب» لابن عذاري المراكشي، والجزء الأول من «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» لأبي العباس الناصري، وكتاب «مختصر تاريخ العرب» للسيد مير علي.

فقالوا له : ما لنا رأي إلا ما رأيت، وأنت عندنا عوض عن إدريس، حتى تلد الجارية حملها، ويكون ما أشرت، على أنها إن وضعت جارية كنت أحق الناس بهذا الأمر، لفضلك وعلملك ودينك.

وولدت الجارية ذكراً، فسماه راشد إدريس، وقام بأمره أحسن قيام، فأقرأه القرآن، حتى حفظه، وهو ابن ثماني سنوات، ثم علمه الحديث والسنة والفقه والعربية، ورواه الشعر وأمثال العرب، وعرفه أيام الناس والملوك، ودربه على ركوب الخيل والرمي بالسهام، ولم يمض له من العمر 11 سنة إلا وقد اضطلع بما حمل، وترشح للأمر، وبايعه البربر عن طاعة منهم وإخلاص.

ولما استقام أمر المغرب لإدريس الثاني وفدت عليه الوفود من سائر البلدان، وتسامع به العرب، فأقبلوا إلى حضرته من إفريقيا والأندلس ملتفين حوله، حتى اجتمع لديه منهم 500 فارس من قيس والأزد ومذحج وغيرهم، فأكرم وفادتهم، وأجزل صلتهم، وأدنى منزلتهم، وأسند إليهم الكثير من مناصب الدولة.

مدينة فاس :

لما كثرت الوفود على إدريس الثاني من العرب وغيرهم، وضاقت بهم مدينة «وليلة» بنى مدينة فاس، وأنشأ فيها المدارس والجوامع والأسواق، وأمر الناس بالبناء، وقال : من بنى موضعاً أو غرسه فهو له، فبنى الناس كثيراً، وغرسوا كثيراً، ووفد عليه جماعة من الفرس، فأكرمهم وأنزلهم بغيضة هناك بنوا فيها واستوطنوا.

ولما فرغ من بناء المدينة ذهب في الجمعة الأولى إلى الجامع، وصعد المنبر يخطب الناس، ورفع يديه في آخر الخطبة، وقال :

«اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة، ولا رياء، ولا سمعة، ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها، ويتلى بها كتابك، وتقام بها حدودك، وشرائع دينك، وسنة نبيك ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها للخير، وأعنهم عليه، واكفهم مؤونة أعدائهم، وأدرر عليهم الأرزاق، واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق. إنك على كل شيء قدير».

فأمن الناس على دعائه، فكثرت الخيرات بالمدينة، وظهرت البركات.

ومن محاسن فاس أنها كثيرة الأشجار، يشقها نهر نصفين، وتتشعب منه جداول تجري في الدور والحمامات والشوارع والأسواق، وفي أكثر بيوتها تتفجر العيون، وتنبع الينابيع بداخلها، واتخذت فاس عاصمة الملك، وكان ابتداء بنائها سنة 193.

الغزو :

لما فرغ إدريس من بناء مدينة فاس، واتخذها دار ملكه اتجه إلى الغزو، فذهب إلى بلاد المصامدة واستولى عليها، وأبدى إدريس من البسالة والمهارة ما حير الألباب، قال بعض من شهد معه الغزاوات، حاربنا الخوارج الصفرية من البربر، وكانوا ثلاثة أضعافنا، فلما تقارب الجمعان نزل إدريس، فتوضأ، وصلى ركعتين، ودعا اللّه، ثم تقدم للقتال. فأعجبني ما رأيت من ثباته، وقوة جأشه، فالتفت نحوي، وقال : مالي أراك تديم النظر إليّ ؟ قال : أعجبني ما أراه من قلبك، وطلاقة وجهك عند اللقاء. قال إدريس : ذاك ببركة جدنا رسول اللّه، ووراثة من أبينا علي بن أبي طالب.

ومات إدريس الثاني سنة 213 وعمره نحو 36 سنة، وترك 12 ذكراً، وهم : محمد، وعبد اللّه، وعيسى، وإدريس، وأحمد، وجعفر، ويحيى، والقاسم، وعمر، وعلي، وداود، وحمزة(1).

محمد بن إدريس :

واعتلى كرسي الخلافة بعد إدريس الثاني ابنه محمد، وقسم بلاد المغرب بين

_____________________

(1) كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» ومن طريف ما حدث لي مع هذا الكتاب أني بقيت أياماً أبحث في المكتبات وسراديبها عن مصادر لهذا الفصل، وتمنيت لو أجد كتاباً خاصاً بدول المغرب، وكدت أيأس، مع أن عيني كانت تقع في كل يوم على هذا الكتاب الفريد في بابه. ولكني لم أعبأ به، لأنه كتب عليه لفظ «الاستقصاء» بالخط الطويل العريض، وأخبار دول المغرب بالحرف الصغير، وأنا لا أقرأ كل ما على الغلاف، وإنما أكتفي بالاسم الأول، فظننته أجنبياً عن موضوعي، إلى أن رأيت بعض الكتب ينقل عنه، فأسرعت إلى شرائه، وحين قرأته وجدت فيه ضالتي، وللّه الحمد، وآمنت بأن الاسم الأول، والأكبر للكتاب يجب أن يعبر عما فيه.

إخوته، حيث أسند إلى كل واحد من الكبار إمارة من إمارات البلاد، وأبقى الصغار في كفالته، فنجحت سياسته هذه نجاحاً باهراً، إذ ظل جميع إخوانه موالين له إلى النهاية ما عدا عيسى والقاسم اللذين تغلب عليهما محمد، وعزلهما عن الإمارة. وتوفي محمد سنة 221 بعد أن عهد بالأمر لابنه علي.

علي بن محمد :

وسار علي بسيرة أبيه وجده في العدل، وظهرت عليه دلائل الذكاء والفضل، وحسنت في أيامه حال الرعية، وكانوا في أمن ودعة إلى أن توفي سنة 234، وعهد بالأمر لأخيه يحيى بن محمد.

يحيى بن محمد :

وامتد سلطان يحيى بن محمد، وعظمت دولته، وحسنت آثاره، واستبحر عمران فاس، وبنيت فيها الحمامات والفنادق، ودخل إليها الناس من الثغور القاصية وبُني في عهده مسجد القرويين المعروف اليوم بجامعة القرويين، وهي جامعة دينية إسلامية تضم المئات من الطلاب، كجامعة النجف في العراق، والأزهر في مصر، وجامع الزيتونة في تونس، وتوفي يحيى بن محمد سنة 264، وخلفه ابنه المسمى باسمه.

يحيى بن يحيى :

وأساء يحيى السيرة، وكثر عبثه ولهوه، فتغير عليه أهل فاس، ففر إلى الأندلس، حيث لاقى حتفه.

ولما عزل استولى على الحكم ابن عمه علي بن عمر الذي لم تطل أيامه، إذ اضطرته ثورة الخوارج إلى الفرار.

فبايع الناس يحيى حفيد إدريس الثاني، فنجح إلى حين في نشر سلطانه، وفي سنة 305 زحف مصالة قائد عبيد اللّه المهدي الخليفة الفاطمي الأول، زحف إلى فاس وحاصرها، فصالحه يحيى على مال يؤديه إليه، وعلى البيعة لعبد اللّه المهدي، وخرج الملك من يده (الاستقصا ج 1).

وقال السيد مير علي في «مختصر تاريخ العرب» : إن سلطان الأدارسة توزع بين الفاطميين والأمويين بالأندلس، فالقسم الشرقي من مراكش سقط في أيدي الفاطميين، والغربي في أيدي الأمويين.

وللأدارسة في المغرب أعمال جليلة، فبهم انتشر الإسلام هناك، حتى بلغ أقاصي البلاد، وازدهرت العلوم والحضارة، وتحضر أهل البوادي والجبال، فلقد أنشأوا المدن الواسعة، وبنوا المساجد، وأقاموا الجامعات والكليات، وعم في عهدهم العدل والأمن والرخاء، قال المستشرق «سيديو» في كتاب «تاريخ العرب العام» ص 278 طبعة 1948 :

«ظل الأدارسة قابضين على ما ملكوه من سنة 803 إلى سنة 949 م مقيمين في البلاد التي هي مدينة لهم بجليل الأعمال، فأسسوا مدينة فاس التي أضحى مسجدها مقدساً لدى جميع الأهالي المجاورين، ونال شهرة عظيمة في زمن قليل، واشتملت مدينة فاس على مدارس ومكتبات تساوقت هي والحركة العلمية التي حمل لواءها بنو العباس في المشرق، وغدت مستودعاً تجارياً واسعاً بين عرب إسبانيا وعرب إفريقيا».

 

دَولَة العَلويّين

في سنة 250 ظهر في طبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وبايعه الناس، واستمر في الحكم 19 سنة، وبضعة أشهر وقام من بعده أخوه محمد، وبقي في الولاية 17 عاماً وبضعة شهور.

قال السيد الأمين في الجزء الخامس والأربعين من الأعيان ص 141 طبعة سنة 1959:

كان محمد هذا إذا افتتح الخراج نظر إلى بيت المال، وما فيه من خراج السنة الماضية ففرقه في قبائل قريش، ثم في الأنصار، وأهل القرآن والفقهاء، وسائر طبقات الناس، حتى لا يبقى منه درهم.

وفي ذات يوم جلس يوزع الأموال، فقام إليه رجل.

فقال له: من أي قبيلة أنت؟

قال: من بني عبد مناف.

قال محمد: من أي عبد مناف؟

قال الرجل: من بني أمية.

قال محمد: من أي رجل منهم؟ فسكت.

قال محمد: لعلك من ولد معاوية؟

قال الرجل: نعم.

قال محمد: فمن أي ولده؟ فسكت.

قال: لعلك من ولد يزيد؟

قال الرجل: نعم.

فنظر العلويون إليه شزراً. فصاح بهم محمد، وقال: لعلكم تظنون أن في قتله إدراكاً لثأر أبي الحسين؟ إن اللّه سبحانه قد حرم أن تطالب نفس بغير ما كسبت. ثم أن محمداً حدث جلساءه بهذا الحديث:

قال: حدثني أبي عن أبيه ان المنصور كان بمكة في سنة من السنين، فعرضت عليه جواهر كانت عند هشام بن عبد الملك، فقال: بلغني أن عند محمد بن هشام جواهر غير هذه، وكان محمد بن هشام حاجاً في تلك السنة، فانتظر المنصور، حتى اجتمع الناس في الكعبة، فأمر وزيره الربيع أن يغلق جميع الأبواب، ويوكل بها من يطمئن إليه، ويبقي باباً واحداً، يقف عليه الربيع، ولا يدع أحداً يخرج إلا من يعرفه حق المعرفة، إما شخصياً، أو بشهود.

وفعل الربيع ذلك، وكان ابن هشام في الكعبة، فعرف أنه هو المطلوب، فذعر وخاف، واضطرب أيما اضطراب، فرآه محمد بن زيد بن علي بن الحسين على تلك الحالة، وهو لا يعرفه، فسأله عن شأنه، فقال الأموي: ألي الأمان إن أخبرتك؟

قال السيد العلوي: نعم، وأنت في ذمتي، حتى أخلّصك.

فقال الأموي: أنا محمد بن هشام بن عبد الملك، فمن أنت؟

قال العلوي: أنا محمد بن زيد بن علي بن الحسين.

فازداد خوف الأموي، وقال: عند اللّه أحتسب نفسي.

قال السيد العلوي: لا بأس عليك، وسأعمل لخلاصك، على أن تعذرني في مكروه أتناولك به.

قال الأموي: أنت وذاك.

فنزع السيد العلوي رداءه، وطرحه على رأس الأموي ووجهه، وأخذ يجره من خلفه، حتى إذا وصل إلى الباب، جعل العلوي يضرب رأس الأموي، ويقول للربيع: يا أبا الفضل إن هذا الخبيث جمّال من أهل الكوفة، أكراني جماله ذهاباً وإياباً، ولكنه هرب مني، وأكرى جماله لغيري، فأعطني رجلين يحرسانه، حتى يؤدي إليّ حقي. فأعطاه الربيع شرطيين، فمضيا معه، فلما بعد عن المسجد، قال له العلوي: يا خبيث تؤدي إليَّ حقي؟

قال الأموي: نعم يا ابن رسول اللّه. فقال للحارسين: انطلقا عنه. ثم أطلقه، فقبل الأموي رأس العلوي، وقال: بأبي أنت وأمي، اللّه أعلم حيث

يجعل رسالته، ثم أخرج جواهر ودفعها إليه، وقال : أرجو أن تشرفني بقبولها.

قال : نحن أهل بيت لا نقبل على المعروف ثمناً، وقد تركت لك أعظم من هذا، وهو دم أبي زيد الذي قتله أبوك هشام، فانصرف ووارِ شخصك.

ولا بدع إذا عفا حفيد أمير المؤمنين عن ابن قاتل أبيه، فجده من قبل صفح عن ألد أعدائه ابن العاص، وابن أرطأة، وابن الحكم، وصاحبة الجمل، وأوصى بقاتله خيراً.

ولما توفي محمد بن زيد تولى من بعده الحسن بن علي بن الحسن بن عمر بن علي ابن الحسين المعروف بالأطروش، وأقام في الحكم 13 سنة يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يده خلق كثير، وذهبوا مذهب التشيع، وبنى المساجد والمعابد1.

وفي كتاب «الأدب في ظل بني بويه» ص 15 أن أهل الديلم كانوا وثنيين، مع أن بلادهم افتتحت منذ عهد عمر بن الخطاب، وقد استمروا خاضعين للحكم الإسلامي مع بقائهم على وثنيتهم، حتى حل بينهم الحسن بن علي الأطروش، فدخلوا في الإسلام، واعتنقوا مذهب التشيع على يده.

وقال المسعودي في آخر الجزء الرابع من كتابه «مروج الذهب» : أقام الأطروش في الديلم والجبل سنين، وهم جاهلية، ومنهم مجوس، فدعاهم إلى اللّه، فاستجابوا، وأسلموا إلا قليلاً منهم في مواضع من بلاد الجبل، والديلم جبال شاهقة، وقلاع وأودية، ومواضع خشنة، وقد بنى الأطروش في بلادهم المساجد.

وقتل سنة 304 هجري، فقام بعده صهره الحسن بن القاسم العلوي، وقتل سنة 316، وبه انتهت هذه الدولة العلوية التي استمرت 67 سنة، وبسببها أسلمت وتشيعت بلاد الديلم.

_______________________

1 - تاريخ الشيعة للشيخ محمد الحسين المظفر.

دَولَة البويهيّين

من هم بنو بويه :

إن قصة بني بويه تشبه الخرافات والأساطير، وأي إنسان يقرأ أن رجلاً فقيراً لا يملك، ولا يقدر على شيء وينقل الحطب على رأسه من الجبال إلى البيوت ليحصل على الرغيف يقفز من حاله هذه إلى الملك الطويل العريض، والسيطرة على بلاد العرب والعجم، أي إنسان يقرأ هذا، ولا يراه أسطورة وخرافة؟ ولكن هذا ما حصل بالفعل لآل بويه.

كان في أوائل القرن الرابع الهجري في بلاد الديلم رجل فقير يدعى «أبو شجاع بويه» ماتت زوجته، وخلفت له ثلاثة بنين، وهم أبو الحسن علي، وأبو علي الحسن، وأبو الحسن أحمد، فاشتد حزنه، وضاقت به الأرض، فقال له أحد أصحابه يعزيه ويسليه : ارفق بنفسك، وأولادك هؤلاء المساكين، ثم أخذه مع أولاده إلى منزله، وهيأ لهم الطعام، وشغل أبا شجاع عن مصابه وآلامه.

قال ابن الأثير في حوادث سنة 321 :

فبينما هم كذلك إذ مر رجل يصيح ويقول عن نفسه : منجم، ومفسر للمنامات، ويكتب الرقى والطلسمات.

فدعاه أبو شجاع، وقال له : رأيت في منامي كأنني أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة استطالت وعلت، حتى كادت تبلغ السماء، ثم صارت ثلاث شعب، وتفرع عن كل شعبة عدة شعب، فاضاءت الدنيا بتلك النيران، ورأيت البلاد والعباد خاضعين لها.

فقال المنجم : هذا منام عظيم لا أفسره إلا بخلعة.

فقال له أبو شجاع : واللّه لا أملك إلا الثياب التي على جسدي، فإن اخذتها

بقيت عرياناً.

قال المنجم : فعشرة دنانير.

قال أبو شجاع : واللّه لا أملك ديناراً واحداً.

قال المنجم : اعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها، ويعلو ذكرهم في الآفاق، كما علت تلك النار، ويولد لهم ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعَب.

فقال أبو شجاع : أما تستحي تسخر منا؟ أنا رجل فقير، وأولادي هؤلاء فقراء مساكين، فكيف يصيرون ملوكاً؟

قال المنجم : أخبرني بوقت ميلادهم، فلما أخبره جعل يحسب، ثم قبض على يد أبي الحسن علي فقبلها، وقال : هذا واللّه الذي يملك البلاد، ثم هذا من بعده، وقبض على يد أخيه أبي علي الحسن. فاغتاظ منه أبو شجاع، وقال لأولاده اصفعوه، فقد أفرط في السخرية بنا، فصفعوه، وهو يستغيث.

ثم قال لهم المنجم : اذكروا لي هذا إذا قصدتكم، وأنتم ملوك، فضحكوا منه، واستخفوا به. ولم تمض الأيام، حتى تحققت نبوءة المنجم بكاملها، وذلك أن أبا شجاع اضطر لفقره أن يُدخل أولاده الثلاثة في الخدمة العسكرية جنوداً مرتزقة، ولكن سرعان ما ارتقوا بدهائهم ومهارتهم إلى مرتبة القواد وأمراء الجيش، وأخذوا يستميلون الناس بحسن المعاملة، ويكسبون محبة الضباط بالمال، فقويت شوكتهم، وانتشر صيتهم، ولما اطمأنوا إلى قوتهم خرجوا عن طاعة الحاكم الذي يعملون بأمره، وكان اسمه «مرداويج» واستقلوا عنه.

علي بن بويه عماد الدولة

وأول من ملك من البويهيين علي بن بويه، أكبر أولاد أبي شجاع، وكان يلقب بعماد الدولة، وكان ابتداء سلطانه في شيراز عام 321 هجري، ثم امتد إلى إيران والعراق، وغيرها من بلاد بني العباس.

قال آدم متز في الجزء الأول من «الحضارة الإسلامية» ص 35 وما بعدها طبعة ثالثة :

كان سبب ارتفاع علي بن بويه سماحته وشجاعته، وسعة صدره، وحسن سياسته، فمن ذلك انه استمال الحسين بن محمد الملقب بالعميد. ولاطف قواد مرداويج، وأفضل عليهم، حتى أوجبوا طاعته، وكان ذا فضل يتسامع به الناس، فيميلون إليه، فلا عجب إذن أن يسهل عليه الانتصار، على جيش الخليفة، حتى استولى على جنوب إيران، وكان بنو بويه إلى جانب هذا يحسنون معاملة الأسرى، ويعفون عنهم، ويؤمنونهم من جميع ما يكرهون، حتى يطمئنوا إليهم، على حين كان اعداؤهم يعدون للأسرى قيوداً وبرانس ليشهروهم بها، ولقد ظفر علي بن بويه بأعداء له، معهم هذه الآلات، فعدل عن العقاب إلى العفو، وابتعد عن الطغيان. وهو الذي يرجع إليه الفضل فيما بلغه بيت بني بويه من قوة وعزة.

وقال ابن الأثير في حوادث 322 : حين استولى علي على شيراز نادى في الناس الأمان، وبث العدل. وقد ساعده الحظ في أمور، منها أن الجند طلبوا أرزاقهم منه، ولم يكن عنده ما يعطيهم، فكاد ينحل أمره، فقعد في غرفة دار الإمارة بشيراز، يفكر في أمره، وأصابه غم شديد، فبينما هو مستلقٍ على ظهره، وقد خلا للفكر والتدبير إذ رأى حية، قد خرجت من موضع في سقف الغرفة، ودخلت في ثقب، فخاف أن تسقط عليه، فدعا الفراشين، ففتحوا الموضع، فرأوا وراءه باباً، فدخلوه إلى غرفة أخرى، فوجدوا فيها عشرة صناديق مملوءة مالاً ومصاغاً، فانفقه في رجاله، وثبت ملكه بعد أن أشرف أمره على الانحلال.

وأراد ذات يوم أن يفصل ثياباً، فدلوه على خياط لياقوت حاكم شيراز الأسبق، فحضر الخياط خائفاً، وكان أصم، فقال له عماد الدولة : لا تخف إنما احضرناك، لتفصل لنا ثياباً، فلم يفهم ما قال، وحلف الخياط بالطلاق، والبراءة من دين الإسلام أن الصناديق التي أودعها عنده ياقوت ما فتحها، وما أخذ شيئاً منها، فتعجب عماد الدولة من ذلك، وأمره بإحضار الصناديق، فأحضرها، وكانت ثمانية صناديق، فيها مال وثياب.

وفي هامش ابن الأثير ج 6 ص 333 طبعة 1353 هجري «توفي بشيراز عن سبع وخمسين سنة، ولم يكن له ولد ذكر، وكانت مدة ملكه ست عشرة سنة، وكان من خيار الملوك في زمانه، وممن حاز قصب السبق دون أقرانه».

ركن الدولة ومعز الدولة :

قال ابن الأثير : كان عماد الدولة أمير الأمراء، فلما مات صار أخوه ركن الدولة أمير الأمراء.

أما أخوهما الأصغر أحمد الملقب بمعز الدولة فقد كان أمير العراق منذ عهد أخيه علي عماد الدولة، وكان هو المستولي على الخلافة، قال السيد مير علي في «مختصر تاريخ العرب» ص 260 طبعة سنة 1938 :

«لم يلبث معز الدولة أن اضطر الخليفة إلى أن يقلده السلطة، كما نقش اسمه على العملة، وذكر اسمه مقروناً باسم الخليفة في خطبة الجمعة، وكان موقفه من الخليفة كموقف تشارل مارتيل من ملوك فرنسا، إذ كان هو الحاكم الحقيقي، وكان الخليفة لا حول له، ولا قوة، مجرداً من كل سلطة، وليس له من الشؤون غير قبض المخصصات، وقدرها خمسة آلاف دينار من خزينة الدولة، وكان معز الدولة محباً للفنون والعلم. وهو الذي جعل اليوم العاشر من المحرم يوم حزن لذكرى موقعة كربلاء1.

وفي حاشية ابن الأثير ج 2 ص 315 طبعة 1353 هجري «أن معز الدولة عزم على عزل الخليفة العباسي، ومبايعة محمد بن يحيى الزيدي العلوي، فمنعه الصيمري من ذلك».

وتوفي معز الدولة في ملك أخيه ركن الدولة سنة 356، قال ابن الأثير : «وفي هذه السنة ابتدأ معز الدولة في بناء المارستان، وأرصد له أوقافاً جزيلة، وأظهر التوبة، وتصدق بأكثر أمواله، وأعتق مماليكه، ورد شيئاً كثيراً على أصحابه، وكانت إمارته 21 سنة و11 شهراً ويومين، وكان حليماً كريماً عاقلاً».

أما اخوة ركن الدولة الحسن بن بويه فدامت إمارته أربعاً وأربعين سنة، وزاد عمره على السبعين، وقال آدم متز في «الحضارة الإسلامية» ج 1 ص 38 :

أما ركن الدولة فقد كان حليماً واسع الكرم، حسن السياسة لرعاياه وجنده،

_____________________

1 - أي جعله يوم حزن بصفة رسمية، تعطل فيه الدوائر الحكومية، وتقفل الأسواق، وإلا فإن هذا اليوم هو يوم حزن عند الشيعة قبل المعز، ومنذ اليوم الأول الذي استشهد فيه سيد الشهداء.

رؤوفاً بهم، بعيد الهمة، يتحرج من الظلم، ويمنع أصحابه منه، وقد أثنى المؤرخون على عدله وكرمه.

وقال ابن الأثير : كان ركن الدولة حليماً كثير البذل، بعيد الهمة، متحرجاً من الظلم، عفيفاً عن الدماء يرى حقنها واجباً إلا فيما لا بد منه، وكان يجري الأرزاق على أهل البيوتات، ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعة، ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة، ويتصدق بالأموال الجليلة، ويلين جانبه للخاص والعام. رضي اللّه عنه وأرضاه، وكان له حسن عهد، ومودة وإقبال، توفي سنة 366 هجري. واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة.

عضد الدولة :

كان عضد الدولة يمثل السيد الحاكم تمثيلاً حقيقياً، وقد خضعت لسلطانه البلاد الممتدة من الخزر إلى كرمان وعمان، فلا بدع أن يلقب بشاهنشاه (ملك الملوك) لأول مرة في الإسلام، وقد ظل هذا اللقب لمن جاء بعده من ملوك الفرس.

وكان يعنى بمعرفة الأخبار وسرعة وصولها، شأن كل من يريد أن يحكم دولة كبيرة حكماً صحيحاً، فكان يسأل عن الأخبار الواردة، فإن تأخرت عن وقتها قامت قيامته، وكانت الأخبار تصل من شيراز إلى بغداد في سبعة أيام، أي أنها تقطع في كل يوم ما يزيد على مائة وخمسين كيلومتراً.

وقد أحكم نظام الجاسوسية، فكان يبحث عن أشراف الملوك، وينقب عن سرائرهم، وكانت أخبار الدنيا عنده، حتى لو تكلم إنسان بمصر وصل إليه الخبر، وأن رجلاً بمصر ذكره بكلمة، فاحتال، حتى جاء به، ووبخه عليها، ثم رده إلى مكانه، فكان الناس يحترزون في كلامهم وأفعالهم من نسائهم وغلمانهم.

وقد طهر السبل من اللصوص، ومحا أثر قطاع الطريق، وقد دس على اللصوص في إحدى القوافل بغلاً يحمل حلوى مسمومة، فأكلوا منها فهلكوا، وكانت هذه أعظم مكيدة، وأعاد النظام إلى صحراء جزيرة العرب، وصحراء كرمان، وكانت مخيفة، وكان سكانها يضعون الضرائب على قوافل الحج،

فارتفعت، وتحقق الأمن، وأقام للحجاج السواقي في الطريق، واحتفر لهم الآبار، واستفاض الينابيع، وأدار السور على مدينة الرسول، وأمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها.

وابتدأ بالمساجد الجامعة، وكانت في نهاية الخراب، وهدم ما كان مستهدماً بنيانها وأعادها جديدة قوية، والزم أرباب العقارات بالعمارة، فمن قصرت يده أقرضه من بيت المال (بنك التسليف للإنشاء والتعمير). وفي عهده امتلأت الخرابات بالزهر والخضر والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب، ومطارح الجيف والأقذار، وجُلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.

وكانت الأنهار ببغداد قد دفنت مجاريها، وعفيت رسومها، فأمر بحفرها من جديد، وأقام القناطر والجسور، وعُملت عملاً محكماً، وحضّر كثيراً من أهل البادية، فزرعوا وعمروا البرية، ومع هذا لم تكن العراق مركز الدولة، بل كان مركزها في فارس، وبنى سوقاً للبزازين (تجار الأقمشة) وكان ينقل إلى بلاده ما لا يوجد فيها من الأصناف، وشيد مارستاناً كبيراً ببغداد، وأمر بإدرار الأرزاق على قوّام المساجد والمؤذنين وأئمةالصلاة، والقراء، وإقامة الجرايات لمن يأوي إليها من الغرباء والضعفاء، وتجاوزت صدقاته أهل الإسلام إلى أهل الذمة، وأذن للوزير في عمارة البيع لليهود، والأديرة للنصارى، وإعطاء الأموال لكل محتاج، وإن لم يكن مسلماً.

وكان يتصدق كل جمعة بعشرة آلاف درهم على الضعفاء والأرامل، ويصرف كل سنة ثلاثة آلاف دينار ثمن أحذية للحفاة من الحجاج، وعشرين ألف درهم كل شهر لتكفين الموتى، واستحدث ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء، ولم يمر بماء جار إلا بنى عنده قرية، وكان ينفق على أهل مكة والمدينة وطرقهما ومصالحهما مائة ألف دينار كل سنة، وكان يبذل مالاً كثيراً على عمارة المصانع، وتنقية الآبار، ويعطي سكان المنازل التي في الطرقات، ليقدموا العلف لدواب المسافرين.

وكان يحب العلم والعلماء، ويجري الأرزاق على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، والمفسرين والنحاة والشعراء، والنسابين والأطباء، والحساب والمهندسين، وأفرد لأهل الاختصاص من العلماء والحكماء موضعاً يقرب من مجلسه، وأنشأ

مكتبة تحتوي على كل كتاب صنف إلى وقته من جميع أنواع العلوم1.

وقال الشيخ القمي في كتاب «الكنى والألقاب» :

كان عضد الدولة يعظم الشيخ المفيد، وقد ألف له العلماء العديد من الكتب، وقصده فحول الشعراء، ومدحوه بأحسن المدائح، منهم أبو الطيب المتنبي الذي قال فيه :

وقد رأيت ملوك الأرض قاطبة*** وسرت حتى رأيت مولاها

أبا شجاع بفارس عضد الدو*** لة فناخسرو وشاهنشاها

أسامياً لم تزده معرفة*** وإنما لذة ذكرناها

ومن آثاره تجديد عمارة مشهد أمير المؤمنين، وكان أوصى بدفنه فيه، فدفن بجواره (ع)، وكتب على لوح قبره : «هذا قبر عضد الدولة، وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة، أحب مجاورة هذا الإمام المعصوم لطمعه في الخلاص يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وصلاته على محمد وعترته الطاهرة».

ولد عضد الدولة سنة 324، وتولى الملك سنة 366، وتوفي سنة 372 هجري. وكان عازماً على القيام بمشروعات كثيرة غير ما تقدم، فعاجلته المنية.

صمصام الدولة وشرف الدولة :

وتولى بعد عضد الدولة ولده أبو كاليجار الملقب بصمصام الدولة، ونازعه الملك أخوه شرف الدولة أبو الفوارس، ودارت بينهما حروب طاحنة دامت أربع سنوات، وفي النهاية تغلب شرف الدولة على أخيه الصمصام، وقبض عليه، وأبقاه تحت الاعتقال، واستولى على المملكة بكاملها، وفي سنة 379 توفي شرف الدولة، وكان عمره 28 سنة وخمسة شهور، وقام بعده ولده أبو نصر الملقب ببهاء الدولة.

بهاء الدولة :

ولما ولي بهاء الدولة نازعه عمه فخر الدولة بن عضد الدولة، ثم عمه صمصام

_______________________

1 - هذا الحديث عن أعمال عضد الدولة نقلناه بالحرف من كتاب «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» لآدم متز، تعريب الأستاذ محمد عبد الهادي أبي ريدة.

الدولة، ووقعت بينهما حروب دامية، وتوزعت المملكة بين الجميع، وقتل صمصام الدولة سنة 388. ومات بهاء الدولة سنة 403، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين، فدفن هناك، وكان عمره 42 سنة، وبضعة شهور، ودام ملكه 24 سنة، وولي بعده ولده أبو شجاع سلطان الدولة.

سلطان الدولة :

ولما ملك سلطان الدولة ولى أخاه أبا طاهر الملقب بجلال الدولة البصرة، وأخاه الثاني أبا الفوارس بلاد كرمان، وأخاه الثالث مشرف الدولة العراق، وأقام هو في شيراز.

وبعد أمد خرج عليه أخوه أبو الفوارس، وأراد انتزاع الملك منه، ولكن سلطان الدولة تغلب عليه، وعفا عنه، وأيضاً خلعه أخوه مشرف الدولة، وأزال ملكه عن العراق، وخاطبه الناس بشاهنشاه، وانضم إليه أخوه جلال الدولة، وكان ذلك سنة 411، وفي سنة 413 اتفقا، وحلف كل منهما للآخر على أن تكون العراق لمشرف الدولة، وفارس لسلطان الدولة.

وفي سنة 415 مات سلطان الدولة، فتولى بعده ابنه أبو كاليجار، ودارت حروب بينه وبين عمه أبي الفوارس انتهت بالصلح ببقاء العراق بيد مشرف الدولة دون منازع، وفارس لأبي كاليجار.

وفي سنة 416 مات مشرف الدولة وتولى بعده على العراق أخوه جلال الدولة. قال ابن الأثير : كان مشرف الدولة كثير الخير، قليل الشر، عادلاً، حسن السيرة.

جلال الدولة :

قال صاحب «النجوم الزاهرة» في الجزء الخامس : كان جلال الدولة ملكاً محباً للرعية حسن السيرة، وكان يحب الصالحين، ولقي من الأتراك في سلطنته شدائد.

وقال ابن الأثير في حوادث 429 :

في هذه السنة سأل جلال الدولة القائم بأمر اللّه أن يخاطبه الناس بملك الملوك، فقال له : نستفتي بذلك الفقهاء، فأفتى بالجواز أبو الطيب الطبري، والصيمري،

وابن البيضاوي، والكرخي، وامتنع أبو الحسن الماوردي، ولقب جلال الدولة بملك الملوك، وقد جرى بين الماوردي وبين الفقهاء الذين أفتوا بالجواز نقاش وجدال، هذا، وإن الماوردي أخص الناس بجلال الدولة وأقربهم منزلة منه، ولكنه آثر دينه على هوى الملوك، ولما أفتى بالتحريم وعدم الجواز انقطع عن جلال الدولة، ولزم بيته خائفاً، وفي ذات يوم استدعاه جلال الدولة، فلبى، وهو موقن بالذبح، ولما دخل عليه أكرمه وعظمه، وقال له فيما قال : إني أعلم بأنك ما قلت وما فعلت إلا لمرضاة اللّه والحق، وقد بان لي موضعك من الدين، ومكانك من العلم، وإنك أعز لدي من الجميع.

وهذا شاهد صدق على عدل جلال الدولة وإنصافه، وتواضعه للحق.

ومات جلال الدولة سنة 435 . قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة:

«كان مولده سنة 383 ، وملكه ببغداد 16 سنة و 11 شهراً . ومن علم سيرته، وضعفه، واستيلاء الجند والنواب عليه، ودوام ملكه إلى هذه الغاية علم أن اللّه على كل شيء قدير، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، وكان يزور الصالحين، وزار مرة مشهد علي وولده الحسين (ع)، وكان يمشي حافياً قبل أن يصل إلى كل مشهد منهما نحو فرسخ، يفعل ذلك تديناً».

أبو كاليجار:

وتولى بعد جلال الدولة أبو كاليجار بن سلطان الدولة، ووقعت الحرب بينه وبين طغرلبك السلجوقي، ثم تم الصلح بينهما، واستقرت الحال، وتزوج طغرلبك ابنة أبي كاليجار، وتزوج ابن أبي كاليجار بابنة أخ طغرلبك.

وفي سنة 446 مات أبو كاليجار، وكان عمره 40 سنة وشهوراً، ودام ملكه على العراق 4 سنوات وشهرين ونيفاً وعشرين يوماً.

الملك الرحيم:

وتولى بعد أبي كاليجار ولده أبو نصر الملقب بالملك الرحيم، ولكن لم تطل أيامه، فقد دخل طغرلبك بغداد سنة 447 واستولى عليها، وقبض على الملك الرحيم، وسجنه في إحدى القلاع، وانتهى به ملك البويهيين الذي امتد من سنة

321 هجري إلى سنة 447 . والسبب الأول لانهيار دولتهم وزوالها على أيدي السلجوقيين شغلهم بالحروب الخارجية والداخلية، بخاصة بين أمراء البيت البويهي بعضهم مع بعض حول الملك.

هذا ملخص تاريخ ملوك بني نويه، وقد أشرنا في مطاوي الحديث عنهم إلى اهتمامهم بالعلوم والآداب، ونعطف على ما قدمناه ما جاء في كتاب «مختصر تاريخ العرب» للسيد مير علي ص 262 طبعة 1938:

«لقد شجع البويهيون الروح الأدبية في البلاد، وعضدوا مدرسة بغداد التي كان قد اضمحل شأنها في أثناء تدهور الخلافة. وحفروا الجداول وهيأوها إلى الملاحة، حتى مدينة شيراز، فأزالوا بذلك خطر الفيضانات الدورية التي كانت تغمر المناطق، كما شيد عز الدولة مستشفى فخماً، وفتح عدة كليات في بغداد».

وجاء في كتاب «الأدب في ظل بني بويه» للغناوي ص 127 طبعة 949: «امتاز عهد آل بويه بالخصب العلمي والأدبي بتأثيرهم الخاص، أو بتأثير وزرائهم، ذلك أنهم استوزروا أبرع الكتاب وأبرزهم، واعتمدوا عليهم في تدبير شؤون الحرب وأمور السياسة والإدارة والمال جميعاً، فلمعت اسماؤهم، وعظمت هيبتهم، وطار صيتهم في الآفاق، فقصدهم أهل العلم والأدب، فأفادوا منهم كثيراً، وأنتجوا كثيراً في ميدان الأدب والفلسفة والعلم، فكان أثرهم في الحياة الفكرية قوياً جداً ربما فاق أثر أسيادهم، أي الخلفاء العباسيين».

أما مناصرتهم لمذهب التشيع فقد ذهبوا فيه إلى أقصى حد، وكان الغالب في بغداد عاصمة الدولة مذهب التسنن قبل البويهيين، وبعدهم نما فيها مذهب التشيع، وانتشر. قال ابن الأثير في حوادث سنة 352:

«في هذه السنة أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم في عاشر المحرم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، ويظهروا النياحة على الحسين، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنة قدرة على المنع منة لكثرة الشيعة، ولأن السلطان منهم. وفي ثامن عشر ذي الحجة أمر معز الدولة بإطهار الزينة بالبلد، وأشعلت النيران بمجلس الشرطة، وفتحت الأسواق ليلاً، كما يفعل في ليالي الأعياد كل ذلك فرحاً بعيد الغدير».

وقال في حوادث سنة 389:

إن أهل السنة عملوا يوم 26 من ذي الحجة زينة عظيمة، وفرحاً شديداً، وقالوا : هذا يوم دخول النبي وأبي بكر إلى الغار، فعملوا ذلك مقابل يوم الغدير. وكذلك عملوا في 18 المحرم مثل ما يعمل الشيعة يوم عاشوراء، وقالوا : هو يوم قتل فيه مصعب بن الزبير.

وما اقتصر آل بويه في خدمة التشيع على مظاهر الفرح يوم الغدير، وشعائر الحزن يوم عاشوراء، بل كانوا يبذلون جهدهم في خدمة أهل البيت بشتى الوسائل، وكانوا يحترمون علماء الشيعة بجميع طرق الاحترام من التبجيل والعناية، وبذل الأموال الكثيرة، وقد كان عضد الدولة يركب في موكبه العظيم، لزيارة الشيخ المفيد.

كما أن آل بويه أسكنوا الشيعة في المشاهد المقدسة، وخصصوا لهم الرواتب. وأقاموا الأبنية الضخمة، وعليها القباب الرفيعة لتلك الأضرحة الكريمة، حتى أن عضد الدولة أقام في المشهد العلوي هو وجنده قريباً من سنة، ليشرف على تعمير القبر الشريف بنفسه، وبنى حوله الدور والرباطات، وأجزل للعلويين العطاء، وللمجاورين، والخدمة، وأوجد القناة المعروفة بقناة آل بويه، وفعل مثل ذلك في المشهد الحسيني بكربلاء، ومن المؤرخين من اعتراف بانتشار التشيع في عهد البويهيين، وتكثر الشيعة في دولتهم1.

______________________

1 - تاريخ الشيعة للشيخ محمد الحسين المظفر.

 

دَولَة الفَاطِميّين *

الخلفاء الفاطميون، نسبهم ومذهبهم:

لمن ينتسب الخلفاء الفاطميون؟ وما هو مذهبهم؟

ينتسب هؤلاء إلى جدهم الملقب بالمهدي، أول خلفائهم ببلاد المغرب، وهو عبيد اللّه بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق.

وهم من فرقة الإسماعيلية، احدى فرق الشيعة، والإسماعيلية يوافقون الإمامية الاثني عشرية في سوق الإمامة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى الإمام جعفر الصادق، ثم يعدلون بها عن الإمام موسى الكاظم إلى أخيه إسماعيل، ثم إلى ابنه محمد، ثم إلى ابنه جعفر، ثم إلى ابنه محمد الملقب بالحبيب، ثم إلى عبيد اللّه الملقب بالمهدي أول خلفاء الفاطميين، ثم الى ابنه العزيز، ثم ابنه الظاهر، إلى ابنه المستنصر باللّه أبي تميم خامس خلفائهم بمصر، وهنا يفترق الإسماعيلة إلى فرقتين: إحداهما تقول: إن الإمامة انتقلت من المستنصر إلى ابنه المستعلي، وأخرى تقول: إنها انتقلت إلى ابنه نزار.

الفرق بين الإسماعيلية والاثني عشرية:

تفترق الإسماعيلة عن الإمامية في جهات:

«منها»: هذا الاختلاف بينهما في عدد الأئمة، واشخاصهم بعد الإمام الصادق.

و «منها»: إغراق الإسماعيلية في تأويل آيات القرآن، وسنن النبي على موافقة أساسهم بما لا يتحمله اللفظ، ولا يشهد عليه شاهد من عقل أو نقل أو

_______________________

*- وتسمى الدولة العبيدية نسبة إلى عبيد اللّه المهدي أول خلفائهم.

إجماع. أما الاثنا عشرية فيتركون بعض الآيات التي يشتبه معناها على العقول، كفواتح السور وما إليها، يتركونها بدون تأويل، ولا يؤولون آية أو حديثاً إلا بشروط:

1 - أن يتنافى المعنى الظاهر مع ما يقطع به العقل، أو يقوم الإجماع على خلافه.

2 - أن يحمل اللفظ على معنى صحيح.

3 - أن يتحمل اللفظ المعنى المؤول به، وبكلمة أن التأويل عند الاثني عشرية لا يعدو صرف اللفظ عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، مع وجود القرينة.

و «منها»: أن الدعوة الإسماعيلية تغمرها أمواج من السرية والتخفي، حتى التبست عقيدتها على أكثر الباحثين، أو الكثير منهم، أما تعاليم الاثني عشرية فظاهرة لا خفاء فيها، ولا غموض، هذا، إلى أن الإسماعيلية تجاوزوا الحد في التستر واستعمال التقية دون مبرر من العقل أو النقل، «فكانوا سنّيين مع أهل السنة، وشيعيين مع الشيعة، ومسيحيين مع المسيحية»1. أما الاثنا عشرية فلا يستعملون التقية إلا لضرورة قاهرة، كالخوف على النفس أو المال أو العرض. وفصلنا ذلك فيما تقدم.

و «منها»: أن الإسماعيلية ينشرون تعاليم عقيدتهم، ومبادئ مذهبهم على خطوات، ولهم دعاة يتدرجون في مراتب العقيدة من المعلومات البسيطة، حتى يصلوا بالمستجيب إلى مبادئ فلسفية عميقة لا يفهمها إلا القليلون2 . ولا درجات ومراتب عند الاثني عشرية.

وقد خلط كثير من الكتاب والمؤرخين بين الإسماعيلية، والاثني عشرية، ولم يميزوا بين الفرقتين، ونسبوا جهلاً أو افتراء الكثير من عقائد تلك إلى هذه.

ومهما يكن، فلسنا في شيء من بيان عقائد الإسماعيلية، وفلسفتهم، وإنما غرضنا الأول أن نعرّف القراء بالدولة الفاطمية، وخلفائها في المغرب ومصر، ومكانها

_______________________

1 - عارف تامر في مقدمة كتاب «عبقرية الفاطميين» للأعظمي.

2 - المصدر السابق نفسه.

من التاريخ وتأثيرها في نشر التشيع.

عبيد اللّه المهدي:

كان في عهد العباسيين رجل يدعى أبو عبد اللّه الشيعي، وكان قد ولي الحسبة في بعض أعمال بغداد، وكان في أول الأمر يعتنق عقائد الاثني عشرية، واتصل بمحمد المعروف بالحبيب والد عبيد اللّه المهدي، فأقنعه بالعدول عن مذهب الاثني عشرية، واعتناق الإسماعيلية، فاعتنقها، وأخلص لها، وأصبح من أعظم دعاتها.

وذهب أبو عبد اللّه الشيعي إلى بلاد المغرب يبشر بالإسماعيلية، ويمهد لخلافة المهدي، فاتبعه بعض أهلها، وترأس عليهم رئاسة دينية، وقرر لهم مذهب الإسماعيلية، فاتبعوه وتمسكوا به، ولما اطمأن إلى طاعتهم ألف منهم جيشاً، وثار به على الحاكم، وهو ابراهيم بن الأغلب، وانتزع منه الحكم، وسلمه إلى المهدي لقمة سائغة، وذلك سنة 296 هجري، وتلقب المهدي بأمير المؤمنين، ولم يلبث أن دوّن الدواوين، وجبى الأموال، واستقر قدمه بالبلاد.

واصطدم المهدي بدولة الأدارسة، وساهم إلى حد كبير في إزالتها، كما اصطدم مع الأمويين في الأندلس، وأزال دولة الأغالبة كلية، وخضع له المغرب الأقصى، وتونس، ودخلت القبائل بكاملها في طاعته، وبعد أن استقر له الملك، فتك بأبي عبد اللّه الشيعي، لثقة الناس به، ومكانته بين أهالي المغرب مما أثار حنق المهدي عليه.

ورأى المهدي أن يبني حاضرة في مكان متوسط يتخذها حصناً يعتصم به عند الحاجة، ويوجه منه هجماته إلى الخارجين عليه، فبنى مدينة أسماها المهدية تقع على بعد ستين ميلاً جنوبي القيروان، يحيط بها البحر من ثلاث جهات، وبعد أن انتهى من بنائها أنشأ مدينة أخرى بجوارها أسماها زويلة، نسبة إلى أحدى قبائل بلاد المغرب، ومات سنة 322، وقام بالأمر بعده ابنه أبو القاسم محمد الملقب بالقائم بأمر اللّه.

القائم بأمر اللّه:

وما آلت الخلافة إلى القائم بأمر اللّه، حتى اندلعت نار الثورة في أجزاء المملكة، وانحاز بعض الزعماء إلى عبد الرحمن الناصر الأموي بالأندلس، وثار على القائم خارجي يدعى أبا يزيد عرف بعدائه للإسماعيلية، وقد اجتمعت عليه سائر الخوارج، وقويت به شوكته، وأخذ عليهم البيعة لنفسه على قتال الإسماعيلية، واستباحة الغنائم والسبي. وحاصر أبو يزيد المهدية عاصمة الخلافة، وعظم البلاء على أهلها، حتى أكلوا الدواب والميتة، وخرج أهلها مهاجرين إلى مصر وطرابلس وبلاد الروم، وكانت أصحاب أبي يزيد يأخذون من يخرج من المدينة، ويشقون بطنه طلباً للذهب، وكان الغوغاء تتوافد على أبي يزيد من كل ناحية ينهبون ويقتلون، حتى افنوا ما كان في أفريقيا1 ، ولما لم يبق ما ينهب تركوه في قلة استطاع القائم بأمر اللّه أن يتغلب عليها.

مات القائم سنة 333 ، وتولى بعده ولده إسماعيل الملقب بالمنصور.

المنصور:

وكان المنصور من أهل الشجاعة والفصاحة والتدبير، فعمل على تقوية جيوشه عدة وعدداً، وطارد الخارجي أبا يزيد الذي أوشك أن يودي بدولة الفاطميين من قبل، وأوقع الهزيمة بجيشه، حتى انتهت فتنته بالقبض عليه، ومات متأثراً بجراحه، وساءت حال البلاد من جراء هذه الثورة، وأثرت في موارد الدولة، فشرع المنصور بالعمل على انعاش البلاد، وإعادتها إلى ما كانت عليه، وأنشأ أسطولاً كبيراً، وأسس مدينة المنصورية، واتخذها عاصمة لدولته.

مات المنصور سنة 341، وآلت الخلافة إلى ولده المعز لدين اللّه.

المعز:

كان المعز لدين اللّه مثقفاً، ومولعاً بالعلوم والآداب، كما عرف بحسن التدبير، واحكام الأمور، لذا دانت له قبائل البربر، وأطاعته على ما بينها من اختلاف، وقد رأى بعد أن استتب الأمن في ربوع المغرب، واطمأنت به الحال أن يعد العدة لغزو مصر، لثروتها وموقعها الجغرافي الذي يمهد السبيل لامتداد النفوذ

_____________________

1 - ابن الأثير، حوادث سنة 333 .

والسيطرة على كثير من الأقطار، بخاصة الشام والحجاز، وكان هذان القطران خاضعين للأخشيديين حكام مصر في ذلك الحين.

وفي سنة 356 أمر المعز بإنشاء الطرق، وحفر الآبار في طريق مصر، وأقام المنازل على رأس كل مرحلة، ولما وصلته الأخبار بوفاة كافور سنة 357 أخذ في إعداد الجيش والمال، وبعث إلى دعاته في مصر يعلمهم بعزمه، ليمهدوا سبل الغزو، وعهد إلى قائده جوهر الصقلي بقيادة الحملة، فسار جوهر بجيشه سنة 358، حتى وصل برقة، فقدم له صاحبها الطاعة، ثم مضى إلى الإسكندرية، فدخلها من غير مقاومة.

ولما وردت أخبار جوهر إلى الفسطاط تألف وفد من الأكابر، وفاوضه في تسليم المدينة، وانتهت المفاوضة بكتاب الأمان، ولكن فئة من الجنود المصريين الذين كانوا في خدمة كافور لم يرضوا عن عقد الصلح، وأعلنوا الحرب، ودار القتال بينهم وبين جيش جوهر، فقتل منهم عدد كبير، وطلب الباقون منهم الأمان من جديد، فأجابهم جوهر، وأعاد الأمان.

وهكذا زال سلطان الأخشيديين والعباسيين عن مصر، وأصبحت هذه البلاد ولاية تابعة للدولة الفاطمية التي امتدت من المحيط الاطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً، ونافست الدولة الفاطمية الشيعية بغداد حاضرة الدولة العباسية السنية المتداعية، وكان لتلك المنافسة أبعد الأثر في الحضارة الإسلامية. (تاريخ الدولة الفاطمية لحسن إبراهيم ص 147 طبعه سنة 1958).

الجامع الأزهر ومذهب التشيع:

وفي سنة 358 وضع جوهر أساس مدينة القاهرة التي لا تزال إلى اليوم، وبعد إكمالها اتخذها عاصمة للدولة الجديدة. ورأى جوهر أن لا يفاجئ السنيين في مساجدهم بشعائر المذهب الشيعي، خشية أن يثير حفيظتهم، فبنى الجامع الأزهر، وعقدت فيه حلقات الدرس، وكانت تركز اهتمامها على نشر المذهب الشيعي بين الناس.

ومنع جوهر من لبس السواد شعار العباسيين، وزاد في الخطبة: «اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضي، وفاطمة البتول، والحسن والحسين

سبطي الرسول» كما أمر أن يؤذن في جميع المساجد بحي على خير العمل، واستمرت شعائر التشيع، والتدريس في الأزهر على المذهب الشيعي، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي، فقضى على الخلافة الفاطمية، ومذهب التشيع، وكل ما يمت إليه بصلة، وقد ذكرنا ذلك في كتاب «الشيعة والحاكمون».

توجه المعز إلى مصر:

ولما أيقن المعز أن دعائم ملكه توطدت في مصر والشام سار إليها من إفريقيا بأهله وأمواله في ركب هائل، فوصل الإسكندرية سنة 362، فخف أكابر المصريين إلى لقائه وتحيته، وانتقل منها إلى القاهرة عاصمته الجديدة، واستقرت الخلافة الفاطمية بمصر، وامتد سلطانها من أواسط المغرب إلى شمال الشام، ولكن لم يمض إلا القليل حتى زحف القرامطة إلى الشام، وانتزعوها من يد نائب الخليفة الفاطمي، ثم توجهوا إلى مصر بقيادة زعيمهم الحسن الأصم، والتقت جيوش المعز بالغزاة على مقربة من بلبيس في أواخر سنة 363، وأوقعت بهم هزيمة فادحة.

ومات المعز سنة 365 بيد أنه لم يغادر هذه الحياة، حتى كانت الخلافة الفاطمية تبسط سلطانها وإمامتها على المغرب ومصر والشام، حتى حلب والحرمين. وقال ابن الأثير: «كان المعز عالماً فاضلاً، جواداً شجاعاً، جارياً على منهاج أبيه من حسن السيرة، وإنصاف الرعية». (الحاكم بأمر اللّه لمحمد عبد اللّه عنان ص 79 طبعة ثانية).

وخلف المعز ولده أبو منصور نزار الملقب بالعزيز باللّه.

العزيز باللّه:

وفي أوائل عهد العزيز استولى القرامطة على الشام، وزحفوا على مصر مرة أخرى، فسار إليهم العزيز بنفسه، وقاتلهم قتالاً شديداً، وهزمهم. وعني العزيز عناية خاصة بالشام وشؤونها، واختار لولايتها غلامه بنجوتكين التركي، وبعد أن نظم أمورها أمره بالمسير إلى حلب، فسار إليها، وأميرها يومئذ أبو الفضل بن حمدان حفيد سيف الدولة، وكان بنو حمدان حيثما رأوا توغل

الفاطميين في الشام تحالفوا مع باسيل الثاني إمبراطور قسطنطينية، ولما زحف الجيش الفاطمي إلى حلب أمدهم باسيل بالجيوش ونشبت معركة بين الجيشين هزم فيها البيزنطيون، واُسر قائدهم، وعندها سار باسيل بنفسه في جيش تقدره الرواة بمائة الف، لزم الفاطميون خطة الدفاع.

وفي عهد العزيز اشتدت حركة الإنشاء والتعمير، فأنشئت وجددت في أيامه صروح ومنشآت عديدة، منها قصر الذهب بالقاهرة، وجامع القرافة، وجامع القاهره الذي أتمه ولده الحاكم، وبستان سردوس، وقصور عين شمس، ودار الصناعة، وقنطرة الخليج. (الحاكم بأمر اللّه لعنان).

وعني العزيز كأبيه المعز بنشر المذهب الشيعي، وحتّم على القضاء أن يصدروا أحكامهم وفق هذا المذهب، كما قصر المناصب الهامة على الشيعيين، وأصبح لزاماً على الموظفين السنّيين الذين تقلدوا بعض المناصب الصغيرة أن يسيروا طبقاً لأحكام المذهب الإسماعيلي1 .

وكان العزير جواداً ومدبراً، فقد أذن لصاحب بيت المال أن يقدم القروض للموظفين الصغار من مال العزيز الخاص على أن لا يطالب من عجز عن الوفاء ولا يعاقب من يستطيع الوفاء ولا يفعل. وفي عهده اتسع نطاق الدعوة الفاطمية اتساعاً عظيماً، ودعي للخليفة الفاطمي في الموصل واليمن. وانكمشت الدعوة العباسية في حدود ضيقة، وتضاءل سلطانها الروحي، كما تضاءل سلطانها السياسي.

الحاكم بأمر اللّه:

حين بويع الحاكم بالخلافة كان له من العمر 11 سنة. فتولى الوصاية عليه مربيه وأستاذه برجوان الخادم، وبعد أن أتم الخامسة عشرة من عمره استقل بالحكم، وقتل برجوان، لأنه كان يضايقه ويسيء معاملته حين الوصاية عليه.

______________________

1 - مصر في عصر الدولة الفاطمية لسرور نقلاً عن اتعاظ الحنفاء للمقريزي ص 197 .

وقسم الدكتور حسن إبراهيم في كتاب «تاريخ الدولة الفاطمية» أدوار خلافة الحاكم إلى أربعة:

1 - من سنة 386 إلى سنة 390 ، وكان في هذه المدة لا يملك من أمر السلطان شيئاً لصغره.

2 - من سنة 390 إلى سنة 395 ، وفيها كان للحاكم على حداثة سنه سلطة كبيرة، أظهر فيها تعصباً شديداً للمذهب الفاطمي.

3 - من سنة 396 إلى سنة 401 ، وفي هذه المدة، ترك سياسة التعصب، وتبع سياسة التسامح مع جميع الطوائف.

4 - من سنة 401 إلى سنة 411 ، ظهرت سياسته في هذه الفترة بمظهر القلق والتذبذب، ورغم ذلك، فقد ساعدت سياسته على إقرار الأمن، وقضت على الفوضى التي كانت سائدة في أوائل عهده، وأنشأ الحاكم دار الحكمة التي كان يشتغل بها كثير من القراء والفقهاء والمنجمين والنحاة واللغويين، وألحق بها مكتبة، أطلق عليها اسم دار العلم، حوت كثيراً من أمهات الكتب ونفائسها.

وقال عنان في كتاب «الحاكم بأمر اللّه» ص 103 طبعة ثانية :

«كان الحاكم بأمر اللّه حاكماً حقيقياً، يقبض على السلطة بيديه القويتين، ويشرف بنفسه على مصاير هذه الدولة العظيمة، ويبدي في تدبير شؤونها نشاطاً مدهشاً، فيباشر الأمور في معظم الأحيان بنفسه، ويتولى النظر والتدبير مع وزرائه، وهكذا كان الأمير اليافع يؤثر العمل المضني على مجالي اللهو واللعب التي يغمر تيارها من كان في سنه، وفي مركزه وظروفه.

وقد لزم الحاكم هذا النشاط المضني طوال حياته، وكان ذا بنية قوية متينة، مبسوط الجسم، مهيب الطلعة، له عينان كبيرتان سوداوان، تمازجهما زرقة، ونظرات حادة مروعة، كنظرات الأسد، لا يستطيع الإنسان صبراً عليها، وله صوت قوي مرعب، يحمل الروع إلى سامعيه، ويقول الإنطاكي : ولكن كان جماعة يقصدونه لأمور تضطرهم إلى ذلك، فإذا أشرف عليهم سقطوا وجلاً منه، وفحموا عن خطابه»1.

وقتل الحاكم سنة 411، وتولى بعده الخلافة ابنه أبو هاشم الملقب بالظاهر، واختلف في سبب قتله، فمن قائل : إن أخته ست الملك دبرت اغتياله، ومن قائل : إنه خرج في بعض الليالي كعادته راكباً حماراً، ولم يعد. ويعتقد الدروز أن الحاكم اختفى، وأنه سيعود إذا زالت المفاسد المنتشرة في العالم، فهو الإمام المنتظر عند هذه الطائفة. (تاريخ الدولة القاطمية لحسن إبراهيم حسن ص 168 طبعة ثانية).

وبالتالي، فقد كان عصر الحاكم مليئاً بالأعمال والمآثر الجليلة فقد جدد الأزهر، وأجرى عليه وعلى دار الحكمة الأوقاف الجزيلة، وأنشأ جامعاً في القاهرة، وآخر بالاسكندرية، وأحصى المساجد، ورتب للمؤذنين والأئمة الأرزاق، وأغدق العطايا والمنح للعلماء والأساتذة.

وفي سنة 404 أعتق كل ما يملك من الرقيق، وكانوا جمعاً غفيراً، ووهبهم الأموال والأملاك ليعتاشوا بها، وكان نصير العلم والآداب، فقد أخرج كل ما في القصر من خزائن الكتب، ووضعها في متناول العلماء والطلاب، لينتفعوا بها، وكان يعقد في قصره مجالس للعلماء يتدارسون ويتناقشون في حضرته، ويجزل لهم الجوائز والصلات، ونال العلماء الكبار وأهل الاختصاص لديه حظوة كبيرة، وألف له أبو الحسن الفلكي معجماً ضخماً في الفلك يعرف بالزيج الكبير، كما استدعى المهندس الشهير ابن الهيثم، لما بلغه من براعته وتفننه، وعهد إليه بفحص أحوال النيل، وما يمكن أن يعمل للانتفاع بمائه.

وكان يميل إلى تخفيف الضرائب عن كاهل الشعب، وحدد الأسعار، وضرب كثيراً من الباعة، وشهر بهم لمخالفتهم التعريفة الرسمية، وأصلح المكاييل والموازين وضبطها، وأجمع المؤرخون على تقشفه وزهده في المظاهر العامة في حياته، واحتقاره للرسوم والألقاب والمواكب الفخمة التي امتاز بها الخلفاء

__________________________

1 - وأكثر أهل التاريخ يصورون الحاكم كشخصية عجيبة مدهشة، تغرق في المتناقضات، فهو فوضوي ومنظم، وكريم وبخيل، وشجاع وجبان، وعاقل ومجنون، وسفاك للدماء ورحيم، ومحلل للحرام، ومحرم للحلال، وصاعد ونازل ومشرق ومغرب. كل ذلك وما إليه يعرض له في لحظات وثوانٍ، انظر الجزء الرابع من النجوم الزاهرة لأبي المحاسن، والحاكم بأمر اللّه لعنان.

الفاطميون، إلى غير ذلك.

الظاهر :

في سنة 411 هجري خلف الظاهر لإعزاز دين اللّه أباه، وكان في السادسة عشرة من عمره، ودانت له ممالك أبيه كلها الشام والثغور وإفريقيا، وقامت عمته ست الملك بالوصاية عليه في الفترة الأولى من حكمه، فأظهرت كفاءة في تدبير المملكة وسياسة الناس.

وكان الظاهر عاقلاً سمحاً ذا دين وعفة وحلم مع تواضع، وعدل في الرعية، ومن ثم استقام له الأمر مدة من الزمن، وقد استطاع أن يكسب عطف أهل الذمة ومحبتهم، حيث تمتعوا في عهده بالحرية الدينية، ووجه عنايته إلى شؤون الدولة وتحسين الزراعة، وأصدر قانوناً منع فيه من ذبح البقر، وذلك على أثر وباء أصاب الحيوانات التي تستخدم في فلاحة الأرض.

ومات الظاهر بمرض الاستسقاء سنة 427، وقام بعده ابنه أبو تميم الذي تلقب بالمستنصر. (النجوم الزاهرة ج 4).

المستنصر :

جاء في أول الجزء الخامس من كتاب «النجوم الزاهرة» ما يلي :

ولي المستنصر باللّه الخلافة بعد أبيه سنة 427، وكان عمره سبع سنين وسبعة وعشرين يوماً، وبقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر. وهو الذي خطب له بإمرة المؤمنين على منابر العراق سنة 451، ولا نعلم أحداً في الإسلام لا خليفة ولا سلطاناً طالت مدته في الحكم مثل المستنصر.

وحدث في أيامه بمصر الغلاء الذي ما عرف مثله منذ زمان يوسف، ودام سبع سنين، حتى بلغ ثمن الرغيف الواحد خمسين ديناراً، وقيل : إنه كان يموت بمصر كل يوم عشرة آلاف نفس، ثم عدمت الأقوات كلية، فأكل الناس الكلاب والقطط، ثم أكل بعضهم بعضاً، وقد دون المؤرخون عن هذه المجاعة قصصاً مروعة.

وخرجت بعض البلاد عن سلطان الفاطميين في عهد المستنصر، فقد زالت

سلطتهم من بلاد المغرب الأقصى سنة 475، وخلع أمير مكة والمدينة طاعتهم سنة 462.

ومات المستنصر سنة 487، وقام بعده ابنه أحمد المستعلي باللّه.

المستعلي :

وفي عهد المستعلي وهنت الدولة الفاطمية، وقامت الحروب الداخلية والخارجية، فقد نازع المستعلي أخوه نزار على الملك، ودارت بينهما حروب وفتن، كما بدأ الصليبيون يغيرون على سواحل بلاد الشام، فاستولوا على إنطاكية وتوابعها، ثم تابعوا سيرهم، حتى وصلوا إلى بيت المقدس، ودارت بينهم وبين جيوش الفاطميين معارك حامية، ولكن الصليبيين استولوا بالنهاية على فلسطين والمدن الساحلية ببلاد الشام.

وتوفي المستعلي سنة 495، وقام بعده ابنه الآمر بأحكام اللّه.

الآمر :

استخلف الآمر، وله من العمر 5 سنين، وكان الوصي ومدبر شؤون البلاد الوزير الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش. ونقل صاحب «النجوم الزاهرة» في الجزء الخامس ص 170 طبعة سنة 1935 عن الحافظ الذهبي :

إن الآمر كان رافضياً كآبائه، ولي الأمر، وهو صبي، فلما كبر قتل الأفضل وعين في الوزارة المأمون البطائحي، فظلم وأساء السيرة، فقتله الآمر وصادر أمواله، وفي أيام الآمر أخذ الصليبيون عكا سنة 497، وأخذوا طرابلس سنة 502، وقتلوا وسبوا، وجاءت نجدة المصريين بعد فوات الأوان، وسنة 511 أخذوا تبنين، وتسلموا صور سنة 518، وأخذوا بيروت سنة 503، وصيدا سنة 504، ثم قصد الملك بردويل مصر ليأخذها، فهلك قبل أن يصل العريش، وهكذا تضعضع ملك الفاطميين في عهد الآمر المشؤوم الطلعة.

وفي سنة 524 تعاهد تسعة رجال على اغتيال الآمر، وانتظروا الفرصة، حتى مر في بعض الطرق فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، وضربوه بالسكاكين، حتى أن واحداً منهم ركب وراءه، وضربه عدة ضربات، وأدركهم الناس، وقتلوا

التسعة. (النجوم الزاهرة ج 5).

وقام بعده ابن عمه الحافظ لدين اللّه عبد المجيد بن محمد بن المستنصر.

الحافظ :

ولي الحافظ الخلافة بعد قتل ابن عمه الآمر الذي لم يترك ولداً ذكراً، ووزر للحافظ أبو علي أحمد بن الفضل، وقويت شوكة هذا الوزير، وصار صاحب الأمر كله، قال أبو المحاسن في الجزء الخامس من النجوم الزاهرة :

ضيق الوزير على الحافظ، وحجر عليه، ومنعه من الظهور، وأودعه في خزانة لا يدخل إليه أحد إلا بأمر الوزير، ثم أهمل الوزير خلفاء بني عبيد - أي الفاطميين - والدعاء لهم، لأنه كان سنياً كأبيه. وغير قواعد الشيعة، فأبغضه الأمراء والدعاة، لأن غالبهم كانوا من الشيعة، بل الجميع، فلما كرهه الشيعة المصريون صمموا على قتله، فكمن له جماعة، وقتلوه، وأخرجوا الحافظ، وبايعوه ثانية.

وهذا الحافظ كان كثير المرض بعلة القولنج، فعمل له شير ماه الديلمي طبل القولنج الذي كان في خزائن الفاطميين، ومن خاصته أنه إذا ضربه أحد خرج الريح من مخرجه، ولهذه الخاصية كان ينفع الطبل من القولنج، ولما ملك صلاح الدين الأيوبي كسر هذا الطبل، لا لشيء إلا لأنه من آثار الفاطميين.

ومات الحافظ سنة 544، وخلفه ولده إسماعيل الملقب بالظافر باللّه.

الظافر :

وكان الظافر حين ولي الخلافة ابن سبع عشرة سنة وأشهر، وكانت أيامه مضطربة، لحداثة سنه، واشتغاله باللهو، فقد ترك كل شيء، وانصرف إلى شاب مثله، وهو نصر ابن وزيره عباس الصنهاجي، حتى انتهى الأمر بالخليفة أنه كان يخرج من قصره لزيارة ابن عباس في داره، واغتنم الوزير مخالطة الخليفة لولده، وأوعز إليه باغتياله ففعل. واتهم عباس الوزير الذي دبر اغتيال الخليفة، اتهم اخوة الخليفة بقتله، وقتلهم، وكان للخليفة ابن اسمه عيسى، وله من العمر خمس سنين، فبايعه الوزير، ولقبه بالفائز بنصر اللّه، وأقام نفسه

وصياً عليه، وذلك سنة 549 ومات الفائز سنة 555، وهو ابن عشر سنين أو نحوها، وقام بعده العاضد لدين اللّه، وكان ابن 11 سنة، وخلعه صلاح الدين الأيوبي سنة 567، وخطب للخليفة العباسي ببغداد، وبالعاضد زالت الدولة الفاطمية التي استمرت من سنة 296 إلى سنة 567، وقد استعمل الأيوبي سياسة الإفناء والاستئصال مع الفاطميين.

الفاطميون والحضارة :

بلغت الحضارة في عهد الفاطميين اقصى الغايات، فبنوا المدن، واقاموا المساجد، وأنشأوا دور الكتب والجامعات، واتسعت في أيامهم التجارة، وتحسنت الزراعة، وانتشرت الآداب، وفنون الحكمة وأنواع العلوم.

قال الأستاذ عنان في «الحاكم بأمر اللّه» إن العصر الفاطمي من أسطع عصور مصر الإسلامية، إن لم يكن أسطعها جميعاً.

وقال المستشرق «سيديو» في تاريخ العرب العام ص 244 طبعة 1948 :

أخذ العرب يلقون أسطع الأنوار من القاهرة لا من بغداد، حيث ازدهرت التجارة والصناعة والزراعة والآداب والفنون والعلوم في عهد الفاطميين بمصر، كما ازدهرت في عهد خلفاء بني العباس الأولين، وكانت عاصمة الفاطميين تنافس أجمل مدن آسيا، وسلك ابن يونس المصري سبيل فلكيي العراق، فكان له مرصد، ولم يقصر الفاطميون في صنع ما ينسى الناس به بغداد. ولم يلبثوا أن صار لهم مثل دخل هارون الرشيد تقريباً.

وقال المستشرق «بروكلمان» في «تاريخ الشعوب الإسلامية» ص 108 ج 2 طبعة 954 :

إن آثار الفاطميين العظيمة مثل جامع الحاكم والجامع الأزهر الذي لا يزال مزدهراً إلى يومنا هذا كأعظم المؤسسات المدرسية في الإسلام لتشهد للهمم العالية التي ابتدعتها.

وقال السيد مير علي في «مختصر تاريخ العرب» ص 510 طبعة 1938 :

كان الفاطميون في أول عهدهم كالبطالسة الأولين يشجعون العلم، ويكرمون العلماء، فشيدوا الكليات والمكاتب العامة ودار الحكمة، وحملوا إليها مجموعات

عظيمة من الكتب في سائر العلوم والفنون والآلات الرياضية، لتكون رهن البحث والمراجعة، وعينوا لها أشهر الأساتذة، وكان التعليم فيها حراً على نفقة الدولة، كما كان الطلاب يمنحون جميع الأدوات الكتابية مجاناً، وكان الخلفاء يعقدون المناظرات في شتى فروع العلم، كالمنطق والرياضة والفقه والطب، وكان الأساتذة يتشحون بلباس خاص عرف بالخلعة، أو العباءة الجامعية - كما هي الحال اليوم - وارصدت للانفاق على تلك المؤسسات، وعلى أساتذتها، وطلابها وموظفيها املاك بلغ ايرادها السنوي 43 مليون درهم، ودعي الأساتذة من آسيا والأندلس لإلقاء المحاضرات في دار الحكمة، فازدادت بهم روعة وبهاء.

الفاطميون والتشيع :

اتفق المؤرخون على أن الدولة الفاطمية قامت على أساس الدعوة الشيعية، وأنها قد حرصت جد الحرص على نشرها بمختلف الوسائل، وأن الفاطميين اتخذوا بناء المساجد ومعاهد العلوم سبيلاً لغزو عقائد المجتمعات «وقد وجدت العقائد الشيعية في مصر مرعى أكثر خصباً ونماء منه في شمال إفريقيا، وسرعان ما ترعرعت وعم أثرها»1.

فالمؤذنون ينادون على المآذن «حيّ على خير العمل» والخطباء في المساجد يفتتحون كلامهم بالصلاة على محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة البتول، والحسن والحسين سبطي الرسول، وحلقات الدروس في الأزهر وغيره ترتكز على مذهب الشيعة، وأحكام القضاة تصدر وفقاً لهذا المذهب.

وكتب المعز على الأماكن خير الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وجعلوا اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو يوم غدير خم يوم عيد، «وأصبح الاحتفال به في كل سنة من أهم الاحتفالات الدينية التي كانت تهتز لها جوانب القاهرة فرحاً وسروراً»2.

وعن خطط المقريزي «إن شعائر الحزن يوم العاشر من المحرم كان أيام

_______________

1 - حسن إبراهيم في تاريخ الدولة الفاطمية ص 376 طبعة ثانية.

2 - المصدر السابق ص 652.

الأخشيديين، واتسع نطاقه في أيام الفاطميين، فكانت مصر في عهدهم توقف البيع والشراء، وتعطل الأسواق، ويجتمع أهل النوح والنشيد يطوفون بالأزقة والأسواق، ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة، وهم نائحون باكون»1. وقال السيد مير علي في مختصر تاريخ العرب : «وكان من أهم عمارة القاهرة في عهد الفاطميين الحسينية، وهي بناء فسيح الأرجاء تقام فيه ذكرى. مقتل الحسين في موقعة كربلاء». وأمعن الفاطميون في إحياء هذه الشعائر وما إليها من شعائر الشيعة، حتى أصبحت جزءاً من حياة الناس.

ولولا سياسة الضغط والتنكيل التي اتبعها صلاح الدين الأيوبي مع الشيعة لكان لمذهب التشيع في مصر اليوم وبعد اليوم شأن أي شأن.

وإذا لم يكن الفاطميون على مذهب الاثني عشرية فإن هذا المذهب قد اشتد أزره، ووجد منطلقاً في عهدهم، فقد عظم نفوذه، ونشطت دعاته وعملوا على نشره وتوطيده، وأقبل الناس عليه آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم ... ذلك أن الاثني عشرية والإسماعيلية وإن اختلفوا من جهات فإنهم يلتقون في هذه الشعائر، بخاصة في تدريس علوم آل البيت، والتفقه بها، وحمل الناس عليها.

___________________

1 - تاريخ الشيعة للشيخ المظفر.

الدَولَة الحَمْدَانيَّة

الحمدانيون نسبهم ومذهبهم:

من هم الحمدانيون؟ وما هو مذهبهم؟

ينتسب الحمدانيون إلى قبيلة تغلب، وكان بنو تغلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، وكانوا من نصارى العرب في الجاهلية، لهم محل في الكثرة والعدد. ثم كان منهم في الإسلام ثلاثة بيوت: آل عمر بن الخطاب العدوي، وآل هارون المغمر، وال حمدان بن حمدون.

وحمدان هذا هو جد الأمراء الحمدانيين، وكان على جانب من الثراء، ورب قبيلة، تنظر إليه بقية القبائل بالتجلة والاحترام، وكان أميراً على قلعة ماردين القريبة من الموصل من قبل العباسيين، ثم أعلن الاستقلال عنهم سنة 281 هجري، وكان ذلك في خلافة المعتضد، ودارت بين حمدان والخليفة العباسي معارك كانت الغلبة فيها على حمدان.

وأنجب حمدان سبعة أولاد1 منهم أبو الهيجاء والد ناصر الدولة وسيف الدولة، وأبو العطاف.

أما تشيع الحمدانيين فلا يختلف فيه اثنان، وقد ظهر ذلك جلياً في هجرة علماء الشيعة إليهم، كالشريف أبي ابراهيم جد بني زهرة، وفي مدح الشعراء لهم، كالسري والصنوبري وكشاجم والناشي والزاهي وغيرهم، وفي سنة 354 هجري ضرب سيف الدولة دنانير جديدة كتب عليها «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاطمة الزهراء الحسن والحسين جبريل عليهم السلام».

_____________________

1 - السيد محسن الأمين «أبو فراس».

ويأبى المستشرقون إلا أن يفسروا الأشياء على أهوائهم وبغير حقيقتها.

قال كبيرهم بركلمن في الجزء الثاني من «تاريخ الشعوب الاسلامية» ص 89 طبعة 1954 ترجمة منير بعلبكي: «إن سيف الدولة أظهر الطاعة للفاطميين عندما نشروا سلطانهم على مصر، وبالتالي اتبع المذهب الشيعي» أي إن سيف الدولة تشيع إرضاء للفاطميين مع العلم بأن سيف الدولة توفي قبل دخول الفاطميين مصر1 .

الاثنا عشرية:

بقي أن نعرف إلى أي مذهب شيعي تنتسب اسرة الحمدانيين، إلى الزيدية أو الإسماعيلية أو الاثني عشرية؟

ويجيب عن هذا التساؤل مصطفى الشكعة في كتابه «فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين»، ويتلخص قوله بما يلي:

إن شعر أبي فراس يكشف لنا هذا اللغز الذي ظل غامضاً، حتى الآن، والذي لم يحاول أحد من المؤرخين القدامى، ولا من المحدثين أن يدرسه، وبذلك يكون الشعر قد أسدى إلى علم التاريخ مآثر جليلة، وكشف حقيقة كان الأولى بالتاريخ أن يحتصنها.

يقول أبو فراس من قصيدته الميمية:

يا للرجال أما لله منتصف*** من الطغاة أما للدين منتقم

بنو علي رعايا في ديارهم*** والأمر تملكه النسوان والخدم

محلئون فأقصى شربهم وشل*** عن الورود وأوفى ودهم لمم

فالأرض إلا على ملاكها سعة*** والمال إلا على أربابه ديم

وبعد هذه المقدمة المشحونة بالعطف على آل البيت ينتقل الأمير الشاعر إلى هجاء العباسيين، لأنهم نالوا الخلافة بالرسول، ثم لم يراعوا حرمة آل بيته، ويعقد مقارنة بين بني علي، وبني العباس، ويقول:

لا يطغين بني العباس ملكهم*** بنو علي مواليهم وإن زعموا

______________

1 - مات سيف الدولة سنة 356، ودخل جوهر قائد الفاطميين مصر سنة 358 .

أتفخرون عليهم لا أبا لكم*** حتى كأن رسول الله جدكم

وما توازن فيما بينكم شرف*** ولا تساوت بكم في موطن قدم

ولا لكم مثلهم في المجد متصل*** ولا لجدكم معشار جدهم

قام النبي بها يوم الغدير لهم*** والله يشهد والأملاك والأمم

وصيرت بينهم شورى كأنهم*** لا يعرفون ولاة الحف أيهم

تاللّه ما جهل الأقوام موضعها*** لكنهم ستروا وجه الذي علموا

ثم ادعاها بنو العباس إرثهم*** ولا لهم قَدم فيها ولا قِدم

بئس الجزاء جزيتم في بني حسن*** أبوهم العلم الهادي وأمهم

لا بيعة ردعتكم عن دمائهم*** ولا يمين ولا قربى ولا رحم

وهكذا يرمي بني العباس بالغدر الذي يتضاءل أمامه ما لاقوه على أيدي بني أمية:

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت*** تلك الجرائم إلا دون نيلكم

كم غدرة لكم في الدين واضحة*** وكم دم لرسول اللّه عندكم

أأنتم آله فيما ترون وفي*** أظفاركم من بنيه الطاهرين دم

يا جاهداً في مساويهم يكتمها*** غدر الرشيد بيحيى كيف يكتتم

وبعد هذه الحملة الشعواء على العباسيين يعطينا أبو فراس مفتاحاً لمذهبه الشيعي، حيث يذكر موسى الكاظم وعلي الرضا، وهذان الإمامان ليسا من الأئمة عند الزيدية ولا عند الإسماعيلية ، وإنما هما من أئمة الاثني عشرية. قال:

ليس الرشيد كموسى في القياس ولا*** مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم

خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا*** يوم السؤال وعمالين إن عملوا

لا يغضبون لغير اللّه إن غضبوا*** ولا يضيعون حكم اللّه إن حكموا

تبدو التلاوة من أبياتهم أبداً*** ومن بيوتكم الأوتار والنغم

منكم علية أم منهم وكان لكم*** شيخ المغنين إبراهيم أم لهم

ما في ديارهم للخمر معتصر*** ولا بيوتهم للسوء معتصم

والركن والبيت والأستار منزلهم*** وزمزم والصفا والحجر والحرم

صلى الإله عليهم أينما ذكروا*** لأنهم للورى كهف ومعتصم

وإذا كان الشاعر قد أعطانا في هذه القصيدة إشارة عابرة إلى أنه يعتنق مذهب الاثني عشرية، فإنه ينتقل بنا إلى التصريح والتأكيد في الأبيات التالية التي عدد فيها الأئمة الاثني عشر واحداً بعد واحد:

لست أرجو النجاة من كل ما*** أخشاه إلا بأحمد وعلي

وببنت الرسول فاطمة*** الطهر وسبطيه والإمام علي

والتقي النقي باقر علم*** اللّه فينا محمد بن علي

وابنه جعفر وموسى ومولا*** نا علي أكرم به من علي

وأبي جعفر سمي رسول اللّه*** ثم ابنه الزكي علي

وابنه العسكري والمظهر*** حقي محمد بن علي

فبهم أرتجي بلوغ الأماني*** يوم عرضي على مليك علي

في البيت الأول ذكر علياً، وفي البيت الثاني ذكر الحسن والحسين وعلي بن الحسين، وفي البيت الثالث ذكر محمداً الباقر، وفي البيت الرابع ذكر جعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا، وفي البيت الخامس ذكر أبا جعفر، وهو محمد الجواد وعلي الهادي، وفي البيت السادس ذكر الإمام العسكري والمهدي المنتظر، له أبيات أخرى يتوسل بها ويطلب الشفاعة بمحمد وفاطمة والأئمة الاثني عشر:

شافعي أحمد النبي ومولا*** ي علي والبنت والسبطان

وعلي وباقر العلم والصا*** دق ثم الأمين ذو التبيان

وعلي ومحمد بن علي*** وعلي والعسكري الداني

والإمام المهدي في يوم لا*** ينفع إلا غفران ذي الغفران

وإذا عرفنا أن أبا فراس ربي في حجر سيف الدولة منذ كان طفلاً صغيراً، ونشأ على يديه، وتعلم تحت رعايته، وأنه قد اختار له معلماً ومربياً اثني عشريّاً، إذا عرفنا ذلك عرفنا أن سيف الدولة بخاصة، والحمدانيين بعامة كانوا يعتنقون المذهب الاثني عشري.

ناصر الدولة:

كان لحمدان وأولاده شأن كبير في الدولة العباسية، ثاروا على الخلافة أكثر

من مرة، وسجنوا مرات، وتولوا كثيراً من المناصب الكبرى في داخل بغداد وخارجها، فحمدان نفسه كان أميراً في قلعة ماردين، وابنه الحسين تولى ديار ربيعة، ثم قم وقاشان، واحتل مصر بعد انتصاره على الطوليين، وأخوه العلاء تولى الموصل، ثم تولاها بعده أخوه أبو الهيجاء والد ناصر الدولة وسيف الدولة، وبقي والياً عليها إلى أن قتل سنة 317، وترك عليها ابنه ناصر الدولة.

وكانت الدولة العباسية في هذا الوقت تعاني النزع والانحلال بظهور سلطان المتغلبين في أطراف المملكة والثغور، فقامت في فارس دولة بني بويه، وفي مصر وسورية دولة الأخشيديين، وفي إفريقيا دولة الفاطميين، وفي إسبانيا دولة الأمويين، واستقل بنو سامان في خراسان، والقرامطة بالبحرين، وأعلن البريدي حكمه على البصرة وواسط، وزحف إلى بغداد، يحدث هذا كله، والحمدانيون ينتظرون الفرصة، ويعدون أنفسهم لما هو أهم من الولاية والإمارة، مع أن الحكم في الموصل لهم وحدهم، ولا شيء للخليفة سوى الاسم.

ولم تمض الأيام، حتى يهرب الخليفة المتقي من بغداد خوفاً من البريديين، ويلتجئ إلى ناصر الدولة في الموصل، فألف ناصر الدولة جيشاً من العاصمة، حتى نزح عنها البريدي إلى واسط، فتبعه سيف الدولة، وانتزعها منه، ولما استقرت الحال بالخليفة جعل ناصر الدولة أمير الأمراء، وأخذ ناصر في مزاولة سلطته الجديدة في بغداد، فبدأ بالعمارة، وحال دون عبث التجار والصيارفة وضرب دنانير جديدة، وهدد بإنزال العقاب على كل من لم يقلع عن الربا والغش، إلا أن إمرة الأمراء لم تطل مدتها في الحمدانيين لاضطراب الأمور في بغداد، فترك ناصر الدولة هذه الإمرة، وعاد إلى الموصل ليبسط سلطانه عليها، وعلى الديار المجاورة، وعاد سيف الدولة، ليفتح حلب، ويوطد بها ملكه.

وظل ناصر الدولة يحكم الموصل بيد من حديد في حين يوطد أخوه سيف الدولة ملكه في حلب، ويغزو بلاد الروم إلى سنة 356، وهي السنة التي مات فيها سيف الدولة، فقبض أبو تغلب على أبيه الأمير، واعتقله1 ودارت حروب

________________

1 - توفي ناصر الدولة سنة 358 كما في الجزء ال22 من أعيان الشيعة.

وخلافات بين أبي تغلب وأخيه حمدان، وكان خلاف ابناء ناصر الدولة، وقيام بعضهم ضد بعض مدعاة لأن يتقدم عضد الدولة البويهي إلى الموصل، ويطرد أبا تغلب منها، ويستولي عليها بعد أن دامت في أيدي الحمدانيين من سنة 293 إلى سنة 367 التي استولى فيها عضد الدولة عليها، وكان الحمدانيون يجلون بعض الوقت عن الموصل خلال هذه المدة ثم يعودون إليها.

سيف الدولة:

كانت حلب كالريشة في مهب الريح تخضع تارة للخليفة العباسي في بغداد، وتارة للاخشيديين في مصر ودمشق، وهي إلى ذلك على حدود البيزنطيين، وكان سيف الدولة قد طلب من أخيه ناصر الدولة ولاية، فقال له: دونك الشام فلا أحد يمنعك عنها، وجهزه بألف فارس، فسار إلى حلب، ودخلها سنة 333 بدون مقاومة، ثم سار إلى دمشق وانتزعها من الأخشيديين، ونشبت بينهما حروب كان النصر فيها أولاً حليف سيف الدولة، وأقام بدمشق مدة وجبى خراجها، ثم استردها الأخشيديون منه، وأخيراً تم الصلح بينهما، وتزوج سيف الدولة فاطمة بنت الأخشيد، وتقرر أن تكون حلب وحمص وإنطاكية لسيف الدولة، ودمشق وما وراءها، حتى مصر للأخشيديين.

«وكانت علائق الأخشيديين كصلات الحمدانيين اسمية مع خلفاء بغداد، واشتهر الأخشيديون، وهم عجم، بشحهم، واشتهر الحمدانيون العرب في مغالاتهم بالكرم، وكان الأخشيديون من أهل السنة، والحمدانيون من الشيعة، ولذلك كثر التشيع في شمال الشام على عهدهم1».

وقضى سيف الدولة حياته في حروب داخلية وخارجية، فقبل أن يفتح حلب حارب البريدي في واسط، وانتزعها منه، وفي سنة 326، غزا أرض الروم، فاستقبلوه بمائتي ألف فارس، فأعمل فيهم السيف وهزمهم، وأسر سبعين بطريقاً، وسنة 328 كان انتصاره على الروم أعظم، حيث خرج غازياً مدينة فاليقا، وكان الروم قد بنوا حذاءها مدينة أسموها هفجيج، فلما علموا

_____________

1 - خطط الشام لكرد علي ص 218 ج 1 طبعة 1925 .

بمسيره خربوا المدينة وهربوا، وظل سيف الدولة يتقدم في بلاد الروم - قبل فتحه حلب - حتى وطأ مواطئ لم يصل إليها أحد من المسلمين1 .

وبعد أن فتح حلب، واستقر له الأمر كانت لا تمر سنة دون غزوة أو أكثر، قال كرد علي في الجزء الأول من خطط الشام: «غزا سيف الدولة الروم أربعين غزوة، له وعليه، وقد حفظ بغزواته بيضة العرب والإسلام، ولولاه لتقدم الروم في بلاد الشام، وربما استصفوها كلها بعد أن ضعف العباسيون. وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً، وعمله لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليه في لحده. فنفذت وصيته».

وأما الفتن الداخلية التي واجهها أيام ملكه في حلب فهي ثورة بني كلاب سنة 343 وبني عقيل، وبني قشير، وبني العجلان، ثم الفتنة التي قام بها رشيق النسيمي في إنطاكية سنة 354، وفتنة مروان العقيلي بحمص، وفي سنة 355 ثار دزبر الديلمي بإنطاكية. وهكذا كان سيف الدولة يغزو بلاد الروم، ثم يعود إلى مقره وعاصمته ليقضي على الفتن الداخلية.

وتوفي سيف الدولة سنة 358، وقام بعده ابنه أبو المعالي الملقب بسعد الدولة، ومات سنة 381، وتولى بعده ابنه أبو الفضائل الملقب بسعيد الدولة، ومات سنة 392، وبموته انتهت إمارة الحمدانيين التي استمرت على الموصل وحلب، وما يتبعهما من سنة 293 إلى سنة 392.

عظمة سيف الدولة:

تحدث الناس قديماً وحديثاً عن عظمة سيف الدولة، وتغنى بها الشعراء، وأشاد بها المؤرخون والأدباء في الشرق والغرب، ووضعوا في آثاره وأعماله الكتب والمجلدات، وخير ما قرأت في هذا الباب كتاب «سيف الدولة وعصر الحمدانيين» لسامي الكيالي، وقدم له إسماعيل أحمد أدهم، اقتطف من كلامهما القطعة التالية:

«سيف الدولة أحد أبطال التاريخ، وصاحب شخصية حافلة بالحياة والنشاط،

__________________

1 - فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين ص 75 .

وذو نواح متعددة، تتراقص على جنباتها المغامرة، والشعر والسيف والقلم، والبطولة والأدب، فهو من الشخصيات التي تثير الإعجاب، وتسترعي النظر. مر بتاريخ العرب في فترة كانت الفوضى تقتلها، فنجح في أن يلجم الفوضى، وأخرج منها نظاماً، وخلق من ضعف العرب قوة، وصمد لقوات الروم، وقاد جموع العرب يذود عن دولته بحد سيفه، وهو في هذا كله يذود عن العرب والإسلام.

قال غوستاف سيشلمبرجر: شغل سيف الدولة أذهان المؤرخين والكتاب والشعراء في القرن العاشر الميلادي، فما أن تقرأ صفحة لمؤرخ بيزنطي، أو قطعة لكاتب من كتاب ذلك العصر، أو قصيدة من قصائد شاعر من شعراء العرب أو اليونان، حتى يستهويك الوصف والحديث عنه.

لقد أقسم مؤرخ زار حلب في عصر سيف الدولة أن قصور الخلفاء في بغداد، وقصور ملوك الروم في القسطنطينية كانت أقل بهاء من قصور سيف الدولة، وأن الفنون على تباين أنواعها كانمت مضطهدة في عاصمة المسيحية، ولكنها كانت تنعم بتسامح كبير في عاصمة الحمدانيين، وكان المصورون والمثالون من الروم يهربون من قيصر إلى سيف الدولة، فيستقبلهم، ويكرمهم ويشجعهم، ويستفيد من عبقرياتهم».

وقال بروكلمن في «تاريخ الشعوب الاسلامية» ص 91 ج 2 : «ولئن كان سيف الدولة مديناً بما تم له من شهرة عريضة لنضاله الموفق ضد الروم في المحل الأول فليس من شك في أنه مدين بذلك في المحل الثاني لعطفه على الفنون والعلوم، ورعايته لها».

وبالتالي، فإن مدينة حلب في عهد سيف الدولة جمعت أكابر رجال ذلك العصر على اختلاف بلدانهم وتباين ثقافتهم، كالفارابي والشريف أبي إبراهيم جد بني زهرة، وابن نباتة والمتنبي والصنوبري وابن خالويه وابن جني والبكتمري والنامي وكشاجم وابن أبي الفياض وأبي الفرج العجلي، وكثيرين غيرهم من القضاة والنحويين والأدباء والشعراء والفنانين العرب وغير العرب.

الحمدانيون والتشيع:

انتشر التشيع، وارتفع شأنه في الموصل وحلب، وما إليهما في عهد الحمدانيين، واشتد بهم أزر الشيعة في العراق، قال آدم متز في «الحضارة الإسلامية»: «وكان الحمدانيون أول أسرة تدخل في أمور بغداد».

وقال الشيخ المظفر في «تاريخ الشيعة»:

«ارتفع شأن التشيع في سورية أيام سيف الدولة، وانتشق أهله الهواء الطلق بعد أن حبسه عنهم أرباب السلطات المتعاقبة. فكانت سورية أيام الحمدانيين مكتظة بالشيعة. وإذا دخلت المسجد الأموي الرفيع بناية، والمشيد عمارة، وتوسطته واقفاً تحت قبته، فارفع رأسك لتنظر اسم علي والحسن والحسين في باطن القبة، فأين اسم معاوية ويزيد وملوك آل مروان الذين رفعوا بناء ذلك المسجد؟!».

وقال كرد علي في المجلد السادس من خطط الشام ص 258:

«كان أهل حلب سنة حنفية، حتى قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح - في عهد سيف الدولة - فصار فيها شيعة وشافعية، وأتى صلاح الدين، وخلفاؤه فيها على التشيع، كما أتى عليه في مصر، وكان المؤذن في جوامع الشهباء يؤذن بحي على خير العمل، وحاول السلجوقيون مرات القضاء على التشيع، فلم يوفقوا إلى ذلك، وكان حكم بني حمدان، وهم شيعة من جملة الأسباب الداعية إلى تأصل التشيع في الشمال، ولا يزال على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل جوشن بظاهر حلب ذكر الأئمة الاثني عشر، وقد خرب الآن.

ووصف ابن جبير المذاهب المتغلبة على الشام في القرن السادس، فقال: «للشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، وهم أكثر من السنييّن بها، وقد عموا البلاد بمذاهبهم».

وحين أراد صلاح الدين الأيوبي الاستيلاء على حلب، استنجد الوالي بأهلها، وطلب منهم العون، وأن يعبئوا أنفسهم تعبئة عامة، فاشترط عليه الشيعة إن أجابوه أن يعيد في الأذان حيّ على خير العمل في جميع المساجد، وينادي باسم الأئمة الاثني عشر أمام الجنائز، ويكبر على الميت خمس تكبيرات، ويفوض أمر

العقود والأنكحة لشيخ الشيعة أبي المكارم حمزة بن زهرة، فقبل الوالي ذلك كله.

إن الحمدانيين لم يكرهوا أحداً على التشيع، ولم يغروه بالمال والمناصب، ولم يؤلفوا الهيئات والمنظمات للدعاية، بل تركوا الناس يختارون لأنفسهم ما يشاؤون، ويعتقدون ما يريدون، فانبرى الدعاة المخلصون، وأعلنوا الحق، فآمن به من آمن، حيث لا ضغط ولا إكره، على عكس العباسيين والأمويين، وصلاح الدين.

لقد حمل الأيوبي معه إلى مصر وسورية تياراً هائلاً من التعصب الأعمى - وكل تعصب هو أعمى - كان له أسوأ الأثر في حياة المسلمين، وما زالوا يعانون منه، حتى اليوم أما الحمدانيون فقد كانوا أصحاء في عقولهم، كما كانوا على حق في دينهم، لذا تسامحوا، وتركوا للناس حرية القول والتفكير مما جعلهم ملجأ وملاذاً للعلماء والفلاسفة والأدباء ورجال الفكر من جميع الأديان والمذاهب، حتى أن رجال الفن من الروم كانوا يهربون من مليكهم قيصر إلى سيف الدولة، حيث يجدون عنده ما لم يجدوه في بلادهم وعند أبناء دينهم ولغتهم. من هنا ترك لنا عصر الحمدانيين هذه الآثار والكنوز.

ولو افترض أن صلاح الدين الأيوبي كان على حق في تسننه، وأن الشيعة كانوا على ضلال في تشيعهم فأي مبرر له في قتلهم واستئصالهم؟ إن قوانين الدول المتحضرة تنص على أن لكل إنسان الحق في إعلان آرائه ومعتقداته، بل والترويج لها ما دام لا يتعدى على حق غيره. وهؤلاء المسلمون في كل مكان يعتقدون أن العين بالعين والسن بالسن، وقوانين دولتهم تنص على خلاف ذلك، ولكنها لا تعاقب أحداً منهم، ما دام لم يسمل عين أحد، أو يكسر سن أحد.

لقد أراد صلاح الدين الأيوبي، ومن على شاكلته أن يقضي على الشيعة والتشيع، ويأبى اللّه إلا أن يتم نور آل الرسول المنبثق عن نور اللّه بالذات.

 

الدَّولَة الصّفويَّة

من ينظر إلى الدولة الأموية وتاريخها يعلم إلى أي مدى كانت مكروهة عند الناس، ثقيلة الوطأة عليهم، وكيف قامت الفتن والثورات على عهدهم، وكثر الدعاة ضد حكمهم وسلطانهم. فإذا ما خلا الأستاذ بتلاميذه حدثهم عن استهتار الأمويين بالقبائح والمعاصي، وإذا انتقل المسافر من قطر إلى قطر بث مساوئهم ومظالمهم.

وقد ساعدت السياسة الأموية البغيضة أنصار العلويين، وأمدتهم بأبلغ الحجج وأقواها، حتى أثمرت دعوتهم، وآتت أكلها في الأقطار الإسلامية، بخاصة في إيران التي هي أقرب بلد إلى عاصمة الخلافة، وأهلها أكثر اختلاطاً بالعرب من غيرهم، ولكن الدعوة العلوية استغلها العباسيون لمصلحتهم، كما هو معروف، وكما بيناه في كتاب «الشيعة والحاكمون»، فالتشيع لآل البيت دخل إيران قبل أن يذهب الإمام الرضا إلى خراسان، ولكن العباسيين زعموا أنهم هم الآل دون غيرهم1 وبعد ذهاب الرضا إلى خراسان عرفت الحقيقة، وظهر فيها التشيع الحق.

وقد ذكرنا فيما تقدم أن أفراداً من التابعين ذهبوا سنة 83 هجري إلى قم، ونشروا التشيع بين أهلها، ومن هاتين القاعدتين: قم وخراسان انطلق التشيع إلى كثير من الربوع الإيرانية، حتى جاء الصفوين فعمها جميعاً، وتجاوز إلى ما وراء الحدود.

_______________________

1 - وهكذا زعم الأمويون من قبل، روى المسعودي في مروج الذهب أن العباسيين حين فتحوا الشام، وانتزعوها من الأمويين حلف لهم أشياخ أهل الشام وأرباب النعم والرياسة أنهم ما علموا أن لرسول اللّه قرابة ولا أهل غير بني أمية، حتى ذهب الأمويون، وجاء العباسيون.

الشاه إسماعيل:

هو إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن صفي الدين الذي ينتهي نسبه إلى الإمام موسى الكاظم (ع). وهو أول ملوك الصفوية، ومؤسس دولتهم، وكان آباؤه وأجداده من العرفاء وشيوخ الصوفية، فلقبوا لذلك بلقب سلطان، وما أن أتم إسماعيل العام الرابع عشر من عمره، حتى ألف جيشاً من أتباع أبيه ومريديه، وقاده بنفسه للغزو والفتح، وكانت إيران يومذاك موزعة الأطراف بين عديد من الملوك والأمراء ورؤساء القبائل، فاستخلصها منهم الواحد تلو الآخر، ووحدها تحت سلطانه.

في سنة 905 هجري استولى على شيروان بعد أن قتل حاكمها، وفي سنة 906 فتح تبريز بلا مقاومة، وفي سنة 907 توجه إلى همدان، واستولى عليها بلا كبير عناء، وفي سنة 909 ملك كيلان، وفي سنة 912 أخذ ديار بكر، وفي سنة 914 دخلت بغداد في حكمه.

قال «رونلدس» في كتاب «عقيدة الشيعة» معرب ص 77 طبعة 1946: «مد الشاه إسماعيل سلطانه من خراسان حتى هراة، فضلاً عن ضمه المقاطعات الجنوبية إلى أملاكه، حتى إذا جاء عام 1509 م كانت رقعة مملكته تمتد من نهر جيحون إلى خليج البصرة، ومن بلاد الأفغان إلى الفرات».

وخاف الأتراك على سلطانهم من قوة الشاه إسماعيل، فهاجمه بايزيد بجيش مؤلف من الأتراك والتركمان، ففرق الشاه شمله، وانتصر عليه. ولما خلع بايزيد، وقام مقامه ولده السطان سليم هاجم إيران بمائة وخمسين ألف جندي ومائتي مدفع، وتوغل في إيران، حتى دخل العاصمة تبريز، وكان الشاه غائباً عنها في همدان، وكان الأتراك يحاربون بالمدافع والأسلحة الحديثة، والإيرانيون يدافعون عن أنفسهم بالسلاح القديم، ولكن الأتراك اضطروا للانسحاب حين جاء الشتاء، لشدة البرد، وقلة الزاد، وانتشار الوباء في جيوشهم، وكان السلطان التركي قد قتل عشرات الألوف من الشيعة.

قال «لونكريك» في كتاب «أربعة قرون من تاريخ العراق» ص 17 الطبعة الثانية : «كانت بطولة القضية السنية أول حجة تذرع بها سليم لإعلان الحرب.

وقد خلد الأشهر من حكمه بالذبح المتقن لجميع الشيعة أينما وجدوا». هذا بعد أن استحصل السلطان من شيوخ السوء على فتوى باستباحة دماء الشيعة وحريمهم وأموالهم. وقال السيد الأمين في ج 11 من «الأعيان» ترجمة الشاه اسماعيل : «قتل السلطان سليم أربعة وأربعين ألفاً، وقيل سبعين ألفاً من الشيعة في الأناضول، وفي هذا العصر استولى الاسبانيون على بلاد الأندلس، وأزالوا دولة بني الأحمر العربية، واستنجد بنو الأحمر بالسلطان التركي والد السلطان سليم، فلم ينجدهم، حتى فعل بهم الاسبانيون ما فعلوا، ولكن السلطان التركي قتل الشيعة المسلمين في بلاده، وحارب السلطان الفارسي المسلم... وهكذا كان بأس الملوك المسلمين بينهم».

الشاه إسماعيل والتشيع :

قال المستشرق الكبير «براون» المتخصص بالأدب الإيراني في كتاب «الأدب في إيران» معرب ص 20 طبعة 1954 : «كان الفاطميون في مصر أكبر خصوم العباسيين من الناحية الدينية والسياسية، وكانوا يمثلون فريقاً من الفريقين العظيمين اللذين انقسم إليهما المتشيعون لعلي، فالفريق الأول هم الإسماعيلية الذين ينتسب إليهم الفاطميون، والفريق العظيم الآخر من فرق الشيعة هم الاثنا عشرية، وكان الفرس دائماً يميلون إليه، حتى اتخذوه مذهباً رسمياً لهم عند قيام الدولة الصفوية على يد الشاه عباس سنة 908 هجري».

وأمر الشاه عباس أن يؤذن بحي على خير العمل في جميع بلاد إيران، ونقش على النقود اسم علي وآله، ونشر في الأقطار المجاورة لإيران الدعاة لمذهب التشيع، وحين دخل إلى بغداد، وذلك في 25 جمادى الآخرة سنة 914، فرح الناس بقدومه، والتجأوا إلى عدله، وكانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، وأخذوا يقدمون القرابين والذبائج إكراماً له، وفي اليوم التالي بلا فاصل توجه إلى كربلاء، وأدى مراسم الزيارة، وبات ليلته معتكفاً في الحائر، منكباً على قبر الحسين الشهيد (ع)، وأمر بصنع الصندوق المذهب للقبر الشريف، وعلق بالحضرة 12 قنديلاً من الذهب، وفرشها بأنواع السجاد الثمين، كما أمر بصنع صناديق أخرى للنجف الأشرف والكاظمية وسامراء بدلاً عن صناديقها القديمة.

ثم سافر إلى النجف الأشرف، وتشرف بزيارة المشهد العلوي، وقدم القناديل من الذهب والفضة، والمفروشات الثمينة، وفي هذه السنة شرع ببناء حرم الكاظميين والمسجد الكبير المعروف بمسجد الصفويين. وأمر بحفر النهر الذي كان قد حفره عطا ملك، ثم اندثر بمرور الزمن، فجدده الشاه إسماعيل، ووقف ريعه على خدام المشهدين : العلوي والحسيني، هذا، إلى حبه وتعظيمه العلماء والعلويين، وإنعامه عليهم بالأموال والمناصب، والاستعانة بأهل الكفاءة والمقدرة على نشر المذهب، وإعلان أسماء الأئمة الاثني عشر على المنابر وفي المحافل، وبشتى المناسبات1.

ولده الشاه عباس سنة 892، وتولى السلطنة سنة 905، وتوفي سنة 930 في تبريز، ودفن في مقبرة جده صفي الدين بأردبيل، ومدة ملكه 24 سنة وخلفه ولده الشاه طهماسب.

الشاه طهماسب :

وما أن ملك الشاه طهماسب بعد أبيه، حتى قامت في وجهه القلاقل، والفتن الداخلية، وثار عليه أخوه القاص ميرزا، وكان له أعوان وانصار. وأعلن سليمان القانوني ابن السلطان سليم الحرب على الشاه، واستولى على أذربيجان، ودخل جيشه تبريز، ومكث فيها غير أن البرد القارص، والأمطار الشديدة جرفت قسماً من المدفعية، وأماتت الحيوانات، فاضطر الأتراك إلى الانسحاب، واتجه السلطان إلى بغداد، فاستولى عليها، وأفتى له شيوخ السوء بقتل الشيعة المارقين2، وخرج العراق من أيدي الإيرانيين سنة 941 هجري، وكانوا قد استولوا عليه سنة 914، وبنى السلطان قبر أبي حنيفة، كما زار العتبات المقدسة في الكاظمية وكربلاء

___________________

1 - تاريخ الشيعة للمظفر، وأعيان الشيعة ج 11 للسيد الأمين، وتاريخ إيران لمكاريوس، وتاريخ العراق بين احتلالين للغزاوي، وأربعة قرون من تاريخ العراق للونكريك، وعقيدة الشيعة لرولندس، والأدب في العراق لبراون وغير هذه الكتب.

2 - لونكريك في «أربعة قرون من تاريخ العراق» ص 21 طبعة ثانية.

والنجف1.

وتدلنا هذه الحوادث، وما إليها أن الدولة الإيرانية، والدولة التركية كانتا أقوى دول الشرق على الإطلاق، وأن غيرهما من الدول والإمارات كانت تتذبذب بين الإمبراطوريتين، فتارة تؤثر طاعة هذه، وأخرى تلك، حسب الظروف والمناسبات.

الشاه طهماسب والتشيع :

وترسم الشاه طهماسب خطى أبيه الشاه إسماعيل في تأييد المذهب، وقد بالغ في إكرام العلماء وأهل الدين، حتى جعل أمر المملكة بيد عالم العصر المحقق الثاني الشيخ علي عبد العال، وقال له فيما قال : أنت أولى مني بالملك، لأنك نائب الإمام حقاً، وأنا عامل منفذ، وكتب إلى جميع الولاة، وأرباب المناصب بإطاعة الشيخ، والعمل بأوامره وتعاليمه، فكان الشيخ يطبق الشرع الشريف، ويقيم الحدود، كما عين الأئمة للصلاة، والمدرسين في المدارس، والوعاظ لبث المذهب ونشره.

ومن آثار الشاه طهماسب ترميم الحائر الحسيني، واصلاحه، وتوسيع الصحن، وتجديد المنارة المعروفة بمنارة العبد.

ولد هذا الشاه سنة 919 هجري، وملك سنة 930، ومات سنة 984، وكانت مدة ملكه 54 سنة.

وكان له أولاد كثر، تنازعوا الملك بعده، وتغلب أحدهم على اخوته، وهو إسماعيل الثاني، وبقي في الحكم سنة واحدة وبضعة أشهر، وقام بعده أخوه محمد خدابنده، وكان أعمى، ضعيف الرأي، وقد اضطرب أمر المملكة على عهده، وقامت ثورات وفتن، وانشق عليه ولده عباس، واستقل بالحكم.

______________________

1 - عن كتاب تحفة العالم إن السلطان التركي حين توجه إلى النجف الأشرف، ورأى القبة العلوية من مسافة أربعة فراسخ ترجل عن فرسه، ولما سئل عن السبب قال : اهتزت أعضائي لمرأى القبة، فقيل له : إنك لا تستطيع المشي، فتفأل بالقرآنِ الكريم، فخرجت هذه الآية : «فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى»، فاضطر إلى السير على الأقدام.

الشاه عباس :

استتب له الأمر سنة 996 هجري، وكان معروفاً بأصالة الرأي، وقوة العزم، وحسن التدبير، والعدل في الرعية، وكانت البلاد الإيرانية حين تولى الملك مجزأة الأطراف، موزعة بين الأتراك والتركمان بسوء إدارة أسلافه، فاسترجعها ووحدها تحت سلطانه، وأنشأ لأول مرة في تاريخ إيران، أو الصفويين العلاقات السياسية والعلمية والعسكرية بين إيران، ودول أوروبا، كفرنسا، وانكلترا، وإيطاليا.

وما أن أخضع الثائرين والخارجين عليه، حتى حشد الأتراك على الحدود الإيرانية مائة ألف جندي، فصدهم الشاه عباس، وأرجعهم خاسرين، وقد تبين له من حربه مع الأتراك أن الجيش الإيراني ينقصه التدريب والنظام، فاستقدم الخبراء الأجانب، فنظموا له الجيش على الطرق الحربية الحديثة يومذاك، ولما اطمأن إلى جيشه زحف به على بقية الأقطار التي انتزعها الأتراك من الإمبراطورية الإيرانية، واستردها قطراً بعد قطر، حتى استرجع أذربيجان وشطوط بحر قزوين وبلاد الجراكسة والعراق والموصل وديار بكر وكردستان وما يليها، وكانت جيوشه - بعد أن دربت تدريباً حديثاً - تتغلب على جيش العدو الذي كان يبلغ - أحياناً - ضعفي عدد عساكره.

وقد اتخذ اصفهان قاعدة ملكه، ونظم أحوالها، واحسن تدبيرها، وكانت العاصمة قبله مدينة تبريز، ثم قزوين.

الشاه عباس والعمران :

لا نعرف سلطاناً كان يملك عقلاً عمرانياً، ويفكر ويعمل ليل نهار لراحة الرعية ورفاهيتها أكثر من الشاه عباس، لقد وهب هذا الشاه نفسه وخزينته، وكل ما يملك لصلاح الشعب وإصلاحه، وجعل العمل للخير العام هدفه الأول ومثله الأعلى، وآثاره القائمة إلى اليوم أصدق الشواهد. إن وجود ملك في عصر الظلمات تتسم جميع أعماله بطابع الإنسانية والمصلحة العامة لهو من خوارق العادات، ولنشرع الآن في تقديم الأمثلة :

منها : أنه استقدم العديد من الخبراء بالتجارة والصناعة، مع عائلاتهم من الأرمن وغيرهم، وبنى لهم مدينة خاصة في ضواحي أصفهان عاصمة ملكه، وأنشأ فيها الكنائس والأسواق، وأطلق لهم الحرية الدينية بكامل معانيها، وقد تعلم الإيرانيون من هؤلاء أنواعاً من الفنون والصناعات، وكانوا عاملاً قوياً في حضارة إيران، ورفع مستواها الاقتصادي.

قال شاهين مكاريوس في «تاريخ إيران» : خطت البلاد في أيامه خطوة واسعة إلى العظمة والتقدم، فكثرت التجارة مع الإفرنج، وتردد التجار والسائحون إلى البلاد، وتوطدت العلاقات الطيبة مع دول أوربا وسلطان الهند. وشاد الصروح الفخمة، وزين المدائن، وأمر بالعدل، وترك من الآثار العظيمة ما يخلد الذكر، بخاصة في أصفهان التي ليس لها مثيل في الشرق1 وهو أعظم سلاطين المشرق، وأشهر ملوك إيران، حتى أن الإيرانيين يطلقون عليه عباس شاه الكبير، ويظنون أن كل ما في إيران من الآثار القديمة هي من حسناته».

وقال صادق نشأت، ومصطفى حجازي في «صفحات عن إيران» : «وقد نشط الشاه عباس الكبير في إقامة علاقات سياسية مع دول أوربا مما ساعد على تبادل المعلومات الصحيحة بين إيران وأوروبا، وكان عباس الكبير يبدي روح التسامح الديني نحو غير المسلمين، وكان يهتم بترقية إيران صناعياً، وقد أحضر ثلاثمائة من الصناع الصينيين المهرة في صناعة الخزف، مع عائلاتهم، ليعلموا الصناع الإيرانيين الجودة في هذه الصناعة، ويدربوهم على إتقانها، وأخذت إيران تنتج الخزف بكميات هائلة. أما الصناعات الأخرى فإن صناعة السجاد قد بلغت في عهد الصفويين حدا من الروعة والاتقان كان أساساً لتفوقها الكبير، كذلك ارتفعت صناعة المنسوجات الحريرية ذات الخيوط الفضية والذهبية والنماذج الزخرفية البديعة».

ومنها : اهتمامه البالغ بشق الطرق وتعبيدها، وتسهيل المواصلات بالأساليب المألوفة في عهده، حتى أنه بنى ألف خان، يتسع الواحد منها لمئات المسافرين

_______________________

1 - بعد أن ننتهي من الكلام عن الصفويين ندرج فصلاً عجيباً عن هذه الآثار التي تشبه السحر والأساطير، نقلناه عن جريدة النهار البيروتية.

مع دوابهم وحمولتهم، وكانوا يأوون فيها دون أي مقابل، ومعلوم أن هذه الخانات كانت ضرورية لمواصلة السير والتنقل، ولولاها لاستحال على المسافرين أن يقطعوا المسافات النائية. وما زالت آثار هذه الخانات قائمة، حتى اليوم.

ومنها : عنايته بالرياضيين المعروفين في إيران «بالبهلوان» فقد خصص لهم جناحاً خاصاً في قصره، واعتبرهم من رجال بلاطه.

ومنها : تشييده المساجد والمدارس الفخمة على أحدث طراز.

ومنها : تكريمه العلماء والفقهاء بشتى أنواع التكريم والتعظيم، حتى كثرت في عهده المؤلفات في الفقه والحديث والأصول والأخلاق، وغيرها. قال السيد محسن الأمين في الجزء الثاني من «معادن الجواهر» : «كان سوق العلم في عصره بأصفهان في رواج عظيم، وكان يصدر عن رأي المحقق السيد الداماد، والشيخ بهاء الدين العاملي في خطير الأمور وحقيرها، وألف البهائي كثيراً من الكتب باسمه، كالجامع العباسي وغيره».

إلى غير ذلك من الأعمال الجليلة، هذا، وكان يرفض التفخيم والتعظيم، ويأبى أن يطلق عليه الألقاب، وأن يُدعى بغير وكيل الرعية، لأن هذا هو واقع كل حاكم، ومن حاد عن مفهوم الوكالة وحدودها فهو طاغية مستبد. وكان شديد الاتصال بالناس مهتماً بمعرفة أحوالهم، وما هم عليه من بؤس أو نعيم، وكان يلبس كل ليلة لباس الدراويش ويتنقل في الشوارع يتنسم الأخبار، ويتفقد الفقراء والمعوزين، وكان يفعل ذلك في حروبه أيضاً، ومن طريف ما حدث له أنه دخل ذات ليلة إلى جيش الأتراك حين تجمع على حدود إيران، متنكراً بغير زيه هو وبعض أعوانه، ولما رآهم بعض الضباط دعوهم إلى تناول الطعام، فلبى الشاه الدعوة، وأكل مظهراً الغبطة والسرور، ثم دعا أولئك الضباط إلى زيارة معسكر الإيرانيين، ومناولة الطعام، فقالوا : نتمنى ذلك من صميم الفؤاد، عسى أن يقع نظرنا على الشاه الذي اشتهر هذه الشهرة الكبرى، وهو بعد في مقتبل العمر، وجاء الضباط مع صاحب الدعوة إلى معسكر الإيرانيين، وما أن دخلوا المعسكر، حتى عرفوا الحقيقة، فأكرمهم الشاه وأولم لهم الولائم، ثم أعادهم إلى أماكنهم، فعظمت مكانته في نفوسهم، وظلوا يتحدثون عنه

بالإكبار والإجلال1.

الشاه عباس والتشيع :

أشرنا فيما تقدم إلى عناية الشاه بعلماء المذهب، وصدوره عن رأيهم، وكثرة تآليفهم في عهده، وكان مع كثرة حروبه ومغازيه لا يقعده شيء عن إحياء الشعائر المذهبية، وله آثار باقية، حتى اليوم في مشاهد الأئمة بالعراق وإيران، وهو الذي بنى الحضرة العلوية في النجف وصحنها بهندسة الشيخ البهائي، وحجره بالكاشي على الهيئة التي هي عليها اليوم، وقد أودع في خزانة أمير المؤمنين وحفيده الرضا التحف الثمينة، ومن آثاره النهر المعروف في النجف بنهر الشاه، وقد حفره سنة 1032 هجري بعد أن فتح بغداد، كما أن من آثاره في النجف آباراً واسعة كثيرة، وهي تسمى اليوم «الشاه عباسات»2.

ولد الشاه عباس سنة 979، واستقل بالملك سنة 996، وتوفي سنة 1038.

وتولى الملك بعده أولاده وأحفاده، وليس فيهم من يستأهل الذكر سوى حفيده الشاه عباس الثاني ابن الشاه صفي، قال صاحب «تاريخ إيران» : إنه اظهر سياسة واقتداراً، وإنه عقد صلحاً مع الأتراك، فلم تحدث الحروب في أيامه، كما نمت المتاجر وتقدمت العلوم والصنائع، ورتعت البلاد في بحبوحة الأمن والراحة».

وقال السيد الأمين في «معادن الجواهر» : «كان عارفاً بتدبير شؤون الملك مكرماً العلماء، وقد أمر المولى خليل القزويني بشرح كتاب الكافي للكليني بالفارسية، والمولى محمد تقي المجلسي بشرح كتاب من لا يحضره الفقيه، وأحضر المولى محسن الكاشي، وألزمه بإقامة الجمعة والجماعة، واقتدى به».

واستمر ملك الصفوية من سنة 905 هجري إلى سنة 1148، وهي السنة التي جلس فيها نادر شاه أفشار على أريكة السلطنة.

ومن علماء الدور الصفوي المحقق الكركي، والسيد الداماد، والشيخ حسين

_____________________________

1 - كتاب «تاريخ إيران» لمكاريوس ص 153 طبعة 1898.

2 - معادن الجواهر للسيد الأمين ج 2 وتاريخ الشيعة للشيخ المظفر.

عبد الصمد، وولده الشيخ البهائي، والمجلسي الكبير صاحب البحار، وصدر المتألهين صاحب الأسفار، والمحقق الأردبيلي، والملا عبد اللّه اليزدي، والفيض الكاشي، وغيرهم، وقال بركلمن في الجزء الثالث من «تاريخ الشعوب الإسلامية» : «والحق أن الشاه عباس عني بالفلسفة والعلوم الطبيعية فضلاً عن الفقه، وكذلك ازدهر الشعر والموسيقى في ظل عباس أيضاً».

أصفَهان مَدينَة العجَائِب

في سنة 1961 أرسلت جريدة «النهار» البيروتية أحد محرريها إلى أصفهان، وهو الأستاذ كمال سنو، ليكتب لها عن الآثار العجيبة التي يتوارثها الإيرانيون جيلاً بعد جيل، والتي تحكي عظمة الإيرانيين بعامة، والصفويين بخاصة، فكتب مقالاً مطولاً، نشر في عدد 13 ايلول سنة 1961.

وبالنظر لأهمية المقال، وفائدته من الوجهة العلمية والتاريخية، وخوفاً من ضياعه، وأن يطوى مع الأيام، كما تطوى أعداد الجرائد، رأيت أن أحتفظ به لوقت الحاجة، وهذا وقتها، وأدرجته في كتابي هذا مسروراً مغتبطاً، لأن في ذلك خدمة للدين والعلم معاً. وليس من شك أن القارئ سيخرج منه، وهو على يقين بأن الصفويين قد بلغوا الذروة في المدنيّة والحضارة، وأنهم قدموا للعالم الإسلامي، وللناس أجمع أجل الخدمات وأعظمها في هذا الميدان. وقد أردنا نحن من حديثنا عمن تحدثنا عنهم من دول الشيعة أن نثبت أن الشيعة ساهموا في عمل الحضارة الإسلامية والعربية، تماماً كما ساهم غيرهم من الطوائف، وأنهم ليسوا في ذلك بأقل حظاً من سواهم، إن لم يكونوا أكثر وأوفر.

قال الأستاذ سنو :

 

في مدَينَة العجَائب وَالمسَاجد رأيتُ خَطّ الإمَام عَلي في أصفهَان

وقفت تحت قبة مسجد شاه وصفقت مرة واحدة، فإذا بالصدى يعيد التصفيق 7 مرات.

وقفت على مئذنة منارة جمجم وهززتها، فإذا بها تهتز، ثم تهتز المئذنة المقابلة، ثم يهتز البناء كله.

طفت حول البركة الواسعة في قصر الأربعين عموداً (جهل ستون) لأرى عجائب هندسة العشرين عموداً التي تظهر في المياه في أي زاوية وقفت من زوايا البركة الواسعة.

تأملت الثقب في قبة مسجد جهارباخ، الذي تدخله الشمس في زاوية محددة لا تتغير من الشروق حتى الغروب، وإذا أمطرت الدنيا لا تتسرب نقطة ماء من الثقب إلى داخل باحة المسجد.

صعدت سلالم بناية «علي قابو» التي تبدو من الخارج طابقين، فإذا هي في داخلها سبعة طوابق، وخصص طابقها الأعلى لغرفة الموسيقى عندما كان يدخلها الموسيقيون فيعزفون ساعة أو أكثر ثم يخرجون ويقفلون الباب وراءهم، وعندما يأتي السلطان، يفتح الباب ويدخل مع نسائه فيعود صدى الموسيقى يتردد طوال الليل حتى يقفل الباب.

تجولت في السوق القديمة (البازار) التي تعتبر من أقدم الأسواق في العالم.

زرت مسجد الشيخ لطف اللّه، وكان أول مسجد بني بدون مئذنة، وخصص الطابق تحت الأرض للنساء، والطابق الأعلى للرجال.

قضيت نصف يوم بين أركان مسجد جمعة، الذي يجمع آثار عدة فتوحات فترى فيه منابر الفتح الإسلامي، ومنابر الفتح المغولي، ومنابر السلاطين الفرس.

وسمعت الحديث عن المياه الساخنة الأزلية وكيف حرم منها أهل المدينة بسبب الفضول الإنكليزي.

وسمعت قصصاً عن أركان كثيرة، في نواح عديدة، ينطق كل منها بصفحة من صفحات التاريخ.

كان ذلك في أصفهان، مدينة العجائب.

كل ما عرفته عن أصفهان قبل أن أزورها أنها مدينة صناعة السجاد. وكانت فيما مضى مهداً أدبياً، ومسرحاً حضارياً خلال فترة طويلة من الزمن. وبعد أن زرتها عرفت وجهاً آخر لها.

إنها مدينة السجاد، ومدينة المساجد، ومدينة العلم، ومدينة العجائب، ومدينة الإيمان، ومدينة الصناعة اليدوية، ومدينة من السماء.

وعندما تحلق الطائرة فوق سماء أصفهان، وتجول أكثر من جولة قبل أن تهبط في المطار، تتيح لك فرصة مشاهدة أروع منظر يمكن أن تطل عليه عين من الجو.

مآذن عديدة تعكس الشمس ألوانها الزاهية، وخضرة منتشرة في كل مكان، وميادين رحبة، وتربة صفراء.

وعندما تمشي في شوارعها تشعر بأنك تعيش مع ألفي سنة من التاريخ، أو ثلاثة آلاف سنة، إذ تقول أسطورة فارسية أن أصفهان بناها (تحمورش) الذي هزم ديفس وجيش العمالقة، وتفتش عن بقايا نبوخذ نصر والإسكندر.

ويروون أسماء عديدة لأصفهان : أسبانادا، سافاهان، سياهان، سياهيان، ولكن أصفهان هو الاسم الذي بقي لها من جميع ما أطلق عليها من أسماء. وقد أطلق عليها هذا الاسم سنة 644 مع الفتح الإسلامي. ومنذ ذلك الحين بقي هذا الاسم سائداً، واحتفظت المدينة بطابعها الإسلامي وهندستها الإسلامية، وخلال ألف سنة تعاقب خلالها على حكم إيران العرب والمغول والأتراك والافغان والحكام الفارسيون ترك هؤلاء آثارهم وما يدل عليهم. ولكن الحقيقة الدائمة هي أن أصفهان مدينة الصفويين وعاصمتهم، كانت أبهى أيامها في حكم الشاه عباس الكبير الذي جعل منها عاصمة حكمه في العام 1590. وشهدت أصفهان أياماً بيضاء كثيرة وأياماً سوداء أكثر. كانت عاصمة بعض الحكام المحليين، وكانت عاصمة إمبراطورية السلجوقيين (من أيام ملك شاه 1041 حتى أيام محمد شاه 1117) ولكنها دفعت الثمن أيام فتح جنكيزخان وهولاكو.

ميدان التاريخ :

وعندما تقف في الميدان الكبير، ميدان شاه، قلب أصفهان، تشعر وكأنك مكان الشاه عباس، وفي الميدان نفسه الذي كانت تجري فيه ألعاب الفروسية والبطولة، وكان يشهد استعراض الأسرى أو تعذيب المتآمرين.

وفي أطراف الميدان، روائع الهندسة القديمة وعجائبها، فإذا التفت يميناً وقعت على أثر، وإذا التفت يساراً شمخت وأنت تتأمل مئذنة ترتفع أكثر من خمسين متراً في السماء.

وولد هذا الميدان مع مولد المدينة، وأروع ما قيل فيه تضمنته الشاهنامة التي نظمها الفردوسي في القرن الحادي عشر، ويبلغ طوله أكثر من نصف كيلو متر وعرضه مائة وستين متراً. وفي جنباته، بوابة السوق القديمة، ومسجد الشيخ لطف اللّه الذي أعيد ترميمه سنة 1611 والمبنى المشهور باسم علي قابو، ومسجد شاه.

وفي شرفة مبنى علي قابو كان يجلس الشاه عباس الكبير وحوله ضيوفه لمشاهدة الألعاب الفروسية والرياضية والرقصات الشعبية الفارسية.

أجمل مسجد في العالم :

والحقيقة التي يعترف بها الجميع أن مسجد شاه هو أجمل مسجد في العالم، وتعتبر واجهته التي ترتفع 48 متراً من أروع القطع الفنية، بألوانها الزاهية، وزخرفتها الأنيقة، وهندستها الرائعة وشكلها البديع. كما ترتفع فوقها مئذنتان إلى علو 52 متراً.

وقد استغرق بناء هذا المسجد 18 سنة (من 1612 إلى 1630) وجيء بالمرمر الذي استعمل في بنائه من أردستان التي تبعد مائة ميل عن أصفهان ولا يزال هذا المرمر يحتفظ بلمعانه حتى اليوم، وكأنه قطع من المرايا الصافية.

وفي المسجد ثلاث باحات للصلاة، وهناك باحة في الهواء الطلق، والباحات الثلاث الأخرى داخلية، وجميع الباحات حافلة بالنقوش البديعة، كما كتبت على الجدران الآيات القرآنية الكريمة.

والأعجوبة الهندسية في هذا المسجد تكمن تحت قبته العالية، إذ تقف تحتها فتصفق مرة واحدة، وإذا بالصدى يعيد الصوت سبع مرات.

والكثيرون يقفون تحت القبة ويصرخون «يا اللّه» فإذا بالصدى يكرر «يا اللّه سبع مرات».

أقرب مكان للإيمان :

أما مسجد الشيخ لطف اللّه(1) فإنه يستجلب النظر لسببين : أولاً : لأنه مسجد بدون مئذنة. وثانياً للون العاجي الزاهي الذي يكسو قبته، والنقوش البديعة من حوله، والخطوط الجميلة التي كتبت بها الآيات القرآنية، وقد بنى هذا الجامع الشاه عباس تكريماً للشيخ لطف اللّه، فحمل المسجد اسمه وكان هذا المسجد مخصصاً في البداية للنساء، ولكنه فيما بعد أصبح طابقين : طابق تحت الأرض للنساء وطابق فوق الأرض للرجال.

والشعور الذي ينتاب زائر مسجد الشيخ لطف اللّه هو الشعور الدافق بالإيمان، حتى أن أحد شعراء فارس قال :

«داخل مسجد الشيخ لطف اللّه شعرت بأني قريب جداً من اللّه».

وعلى الرغم من مرور 350 سنة على بنائه فإن ألوانه وبناءه لا تزال الآن كما كانت في الماضي لم يطرأ عليها تبديل أو اهتراء، رغم حرارة الطقس في الصيف وسقوط الثلوج في الشتاء.

موسيقى في الطابق السابع :

وفي وسط ميدان شاه يقف مبنى علي قابو، المكان المفضل عند السلاطين الصفويين، وقد بناه الشاه عباس في القرن السادس عشر لينزل فيه ضيوفه من الأجانب، ثم جعله قصره يستقبل فيه السفراء والعظماء والزوار ويقيم فيه حريمه.

_____________________

(1) من علماء جبل عامل، هاجر من قرية ميس إلى خراسان في عهد الشاه عباس، فقربه ورفع من شأنه، وبنى له مدرسة وجامعاً، توفي سنة 1033 هجري.

وقد زينت جدرانه بلوحات أنيقة جميلة، تعطي صورة صادقة عن فن الرسم الفارسي، ومعظمها يعكس فكرة الحب، وعندما جاء الحكم القاجاري قام بتغطية هذه الرسوم والنقوش. ولكن الحكم البهلوي أعاد النقوش إلى ما كانت عليه.

وهذا المبنى الذي يبدو من الخارج طابقين له ثلاثة مداخل، اثنان للنساء وواحد للرجال وسلمه يتألف من 117 درجة، وهو في الواقع سبعة طوابق وأطراف وأغرب ما فيها الطابق السابع، الذي يبدو سقفه على هيئة آلات موسيقية مجوفة في الجدران والسقف.

وهذا الطابق كان طابق الانشراح والمرح عند الشاه عباس، وكان الموسيقيون يدخلون إلى غرفة خاصة في هذا الطابق ويعزفون الألحان التي يفضلها الشاه، ويخرجون بعد ذلك ويقفلون الباب وراءهم. وعندما يأتي الشاه عباس يفتح الباب ويجلس مع ندمائه ونسائه، فيعيد الصدى ما عزفه الموسيقيون، ويستمر الطرب والانشراح إلى أن يقفل الباب فتسكت الموسيقى.

ولا تزال هندسة غرفة الموسيقى سراً مغلقاً على الكثيرين، إذ كيف كانت تحتفظ هذه الغرفة بالأنغام ثم تعيدها ؟

مسجد عمره ألف سنة :

وفي أصفهان مسجد قديم قديم، يرجع عمره إلى ألف سنة هو مسجد جمعه. وهذا المسجد يضم عدة أقسام، بنى كل واحد منها فاتح أتاح له القدر فرصة الحكم في أصفهان. ويكاد يتميز كل قسم من هذا الجامع بالطابع الخاص الذي يملكه فنانو كل فتح، ويقول البعض إن هذا المسجد إنما هو في الواقع كتاب تاريخ. فلقد بني هذا المسجد سنة 700 ميلادية، ويقال إنه بني في المكان نفسه الذي كان مصدر المياه الساخنة الأزلية. وقد أعيد ترميم هذا المسجد أيام حكم الخليفة العباسي المعتصم في النصف الأخير من القرن التاسع. ولحق به الدمار في العام 1050 خلال حكم السلجوقيين وأعيد ترميمه في العام 1057.

وترك الأتراك والعرب والمغوليون والفرس آثارهم في هذا المسجد، حتى أن هناك أثراً يعود إلى الأيام التي حكم فيها الأفغان مدينة أصفهان.

ولمسجد جمعه ثمانية أبواب، أجملها مدخل الجنوب الذي ترتفع فوقه مئذنتان وله واجهة آية في النقش الجميل والألوان الجذابة.

وعندما فتح المغول أصفهان أنشأوا قسماً خاصاً في المسجد كتبوا على محرابه صلاة خاصة محفورة في الخشب، كما جاؤوا بمنبر من الخشب حفر بكل إبداع، ولا يزال موجوداً حتى الآن ويعود تاريخه إلى القرن السادس عشر.

وفي مسجد جمعة جناحات مختلفة لتلقي دروس الدين، وللصلاة وفيه باحات كبيرة للصلاة.

ويوم الجمعة من كل اسبوع يغص مسجد جمعه بالمصلين، ويقدر عدد الذين يصلون فيه يوم الجمعة بأكثر من ثلاثين الف شخص.

مدرسة واعجوبة هندسية :

وهناك مكان له عدة اسماء : مدرسة جهارباخ، أو المدرسة، أو مسجد جهارباخ، أو المدرسة السلطانية. وهذا المكان آخر ما بناه الحكام الصفويون في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، وقد بنى المكان الشاه سلطان حسين الذي قتل في احدى غرف هذا البناء الذي يضم 134 غرفة. والذي أقيم في الأساس ليكون مدرسة لاهوتية يتخرج فيها علماء الدين، وقد انفق على بناء هذه المدرسة ومسجدها مبلغ طائل، وبنيت على أساس تحمل شتى طوارئ الطبيعة وتقلبات الجو، وجعل باب المدرسة من الفضة، وان كانت تحجب الفضة اليوم قطع خشبية.

وفي مسجد جهارباخ اعجوبة هندسية، ففي قبة المسجد فوهة يدخل منها النور في اتجاه معين منذ شروق الشمس حتى غيابها فلا يتغير. حتى ان هذه الفوهة لا يتسرب منها الماء إلى باحة المسجد اذا امطرت السماء.

وقد روى لي مرافقي خلال زيارتي لمسجد ومدرسة جهارباخ فقال :

لقد وضع الشاه سلطان حسين كل همه في بناء المسجد والمدرسة، ولم يكن يهمه من شؤون الدولة سوى انجاز هذا البناء والتفرغ لعبادة اللّه. وعندما بدأت الهجمات على إيران، كان يقول : ليأخذوا إيران وليتركوا لي أصفهان، وعندما بدأ الهجوم على أصفهان قال : ليأخذوا أصفهان وليتركوا لي هذه المدرسة والمسجد، وعندما هجموا على المدرسة لجأ إلى المسجد وقال : ليأخذوا المدرسة وليتركوا لي المسجد، ولكنه قتل في احدى غرف مدرسته، وحتى الآن لم تعرف الغرفة التي قتل فيها.

قصر الاربعين عموداً :

والمكان العجيب الآخر هو «جهل ستون» أو قصر الأربعين عموداً، وليس في القصر سوى عشرين عموداً، أما الأعمدة العشرون الأخرى فتنعكس صورتها في بركة الماء الفسيحة التي تمتد امام الأعمدة العشرين بحيث ترى ظلها في أي زاوية تقف عندها من زوايا البركة.

وكان هذا المكان عندما أنشئ استراحة خاصة للشاه عباس، ثم جعله مجلس العرش.

أما اليوم فيستعمل دائرة للآثار ومتحفاً.

واغلى ما في المتحف وثيقة تعود إلى أيام الفتح الإسلامي الأولى، وقد وقفت أتأمل هذه الوثيقة أكثر من نصف ساعة.

إنها الوثيقة التي أرسلها الإمام علي بن أبي طالب إلى المسيحيين يؤمنهم فيها على حياتهم. ورأيت توقيع الإمام علي وبعضاً من خط يده.

وإلى جانب ذلك نسخ مخطوطة عديدة للقرآن الكريم، مع أنواع قديمة للعملة التي كانت تستعمل في سالف الزمان، ولوحات فنية رسمت منذ أكثر من ثمانمائة سنة تمثل الحروب والفتوحات.

يضاف إلى هذا الرسوم الأصلية التي وجدت في قصر الأربعين عموداً عند إنشائه، ومعظمها لوحات فنية للحسان والشباب والصيد والخمر.

المآذن الهزازة :

والاعجوبة التي لا تكاد تصدق في إيران هي «منارة جمجم»، وفيها مئذنتان، وعندما قال لي مرافقي ان هذه المآذن تهتز إذا هزها الانسان، ظننته يمزح.

وصعدت إلى المئذنة الأولى، وهززتها، فإذا بالمئذنة المقابلة تهتز أولاً، ثم تهتز المئذنة التي أقف فيها، ثم يهتز البناء كله.

وكدت لا أصدق ما جربت.

ثم صعد مرافقي إلى المئذنة وفعل ما فعلت، ورأيت اهتزاز المئذنتين والبناء. وسر هندسة هذا البناء الهزاز لا يزال مغلقاً حتى اليوم.

المياه الأزلية الساخنة:

ويتحدثون في أصفهان عن المياه الأزلية الساخنة فيقولون أن أصفهان كانت تنعم بالمياه الساخنة دائماً، ولم يستطع أحد أن يعرف سر هذه المياه الساخنة ومن أين تأتي وما الذي يسخنها.

حتى جاءت بعثة من العلماء الإنكليز فاستغربت مصدر المياه الساخنة وأخذت تبحث عنه، حتى وصلت إلى مكان وجدت فيه خزاناً كبيراً يصب فيه الماء، وقد حفر في الصخر، ووضعت تحته شمعة سوداء صغيرة مضاءة، طولها بضعة سنتمترات.

وأطفأ العلماء الإنكليز الشمعة وأخذوها إلى بلادهم ليحللوها، ولكنهم لم يستطيعوا إعادة إشعالها، كما أنهم لم يستطيعوا معرفة المادة التي تتألف منها.

ولا تزال قصة هذه المياه الساخنة لغزاً من الألغاز في تاريخ أصفهان(1).

جسور قديمة.

وفي أصفهان بعد ذلك جسور قديمة ترجع إلى مئات السنين، وكلها رائعة الهندسة جميلة المنظر، وبعض الجسور أقيمت لتكون معبراً ولتكون استراحات للناس، وتضمنت هذه الجسور غرفاً يجلس فيها المتنزهون أو يقضون سحابة نهارهم، يجري الماء من تحتهم وهم يطالعون أو يمرحون.

وفي أصفهان أماكن أثرية عديدة، معظمها يرتدي الطابع الديني.

وعندما نقول الطابع الديني فلا نقصد بذلك الطابع الإسلامي وحده، إذ

_____________________

(1) إن هذه الشمعة، والمئذنة وغيرها من الأعاجيب في أصفهان التي كانت في عهد الشاه عباس هي من فكر الشيخ البهائي العاملي وعمله، فقد اهتدى إلى تحطيم الذرة واستخدمها في كثير من الاختراعات، قبل أن يهتدي إليها علماء هذا العصر.

أن في أصفهان عدداً كبيراً من الكنائس والمجامع لطوائف عديدة، وقد يستغرب البعض أن توجد حتى اليوم في أصفهان طائفة زارادشتية تعيش في مجتمعات صغيرة، ومركزها الرئيسي في نجف آباد وأرداستان.

طابع أصفهان الجديد :

وإلى جانب طابع أصفهان القديم هناك طابعها الجديد كمدينة صناعية، مشهورة بصناعة النسيج، وبشكل خاص السجاد الفاخر، والنقوش الفضية، وصناعة الدقة في تزيين الأواني الخزفية والزجاجية والخشبية.

وعلى الرغم من أن البناء الجديد أخذ يشق طريقه إلى أصفهان، إلا أن الكثيرين من الأثرياء لا يزالون يتبرعون لإقامة مزارات للأولياء يصرون على أن يكون بناؤها مطابقاً للبناء القديم. وأبرز بناء حديث على الطراز القديم، جامع السيدة زينب الذي بني منذ خمسة وعشرين عاماً.

والظاهرة الكبرى في أصفهان هي الدراجات.

إن الطلاب والعمال والموظفين والتجار كلهم يملكون الدراجات ويعتمدون عليها كوسيلة للتنقل، ويندر أن تجد في أصفهان شخصاً لا يملك دراجة.

السوق القديمة :

ولا تكتمل زيارة أصفهان، إذا لم يقم الزائر بجولة في السوق القديمة.

وتستطيع أن تشم رائحة التاريخ وأنت تجتاز السوق القديمة ماراً بدكاكين تبيع كل المنوعات من الزيت إلى السجاد إلى الخشب المنقوش والفضة المزخرفة والقماش المطبوع (كالأمكار) إلى الأشياء الصغيرة التي يحملها الإنسان معه تذكاراً لزيارته.

ومن خلال السوق القديمة تشاهد بنايات أثرية قديمة : سراي ساروتاغي، سراي غولشان، سراي مقصد باغ، سراي مخلص، سراي تالار، ومسجد جرشي ومسجد ذو الفقار.

وفي طريق العودة، لا بد لك من أن تحمل معك أطيب ما في أصفهان :

من السماء الذي امتازت به هذه المدينة.. مدينة العجائب.. مدينة المساجد.

 

عَدَد الشيعَة وَبُلدانهُم

الغرض :

ليس الغرض من هذا الفصل أن نثبت أفضلية الشيعة، أو فضلهم بكثرة عددهم، وانتشارهم في البلدان، وأكثريتهم في بعضها. لأن الكثرة لا تكشف عن الحق، والقلة لا تدل على الضلال، وقديماً قيل «إن الكرام قليل» وقال أمير المؤمنين الذي يدور الحق معه كيفما دار : «لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة». ولو كانت الكثرة تغني عن الحق شيئاً لكانت الطوائف غير الإسلامية أفضل ديناً، وأصح عقيدة من المسلمين، وإنما الغرض الأول أن نثبت أن الشيعة كسائر الفرق والطوائف التي لها كيانها وتأثيرها بغض النظر عن أن عقيدتها صحيحة أو زائفة. وأن الذين يتجاهلون وجودها، وينظرون إليها كفئة قليلة يمكن استئصالها، كالحفناوي ومحب الدين الخطيب، ان هؤلاء بعيدون عن الواقع كل البعد، ولا يعبّرون إلا عن رغباتهم وأحلامهم. إن القضاء على الشيعة لن يكون إلا بالقضاء على جميع المسلمين، ولن يكون ذلك، حتى لا يبقى على وجه الأرض ديار.

الدين والدولة :

كانت الدول فيما مضى - شرقية كانت أم غربية - تقوم على أساس الدين، فتخول لنفسها حق التدخل في شؤون الإنسان الداخلية والخارجية، لأنها نائبة عن اللّه. ومن هنا كانت تعامل الناس على أساس أديانهم ومعتقداتهم، لا على المؤهلات العلمية والخلقية، فتحابي أبناء دينها، وتضطهد الآخرين، او تتجاهل وجودهم كرعايا ومواطنين. ومحال أن تسير مثل هذه الدول على سبيل العدل والمساواة، ويكون لها مبادئ عامة تطبقها على الجميع دون امتيازات واختصاصات إلا إذا انسلخت كلية عن الدين، أو كان من دينها عدم الفرق والتفاوت بين الأديان. وحينئذ لا تكون دينية بالمعنى المألوف المعروف بين الناس.

بل رأينا رؤساء الدول في هذا العصر يحابون أبناء ملتهم، ويرفعونهم فوق الناس والأجناس، وفي الوقت نفسه يدعون بأنهم حكام زمنيون، لا تمت دولاتهم وحكوماتهم بسبب إلى مذهب أو دين. رأينا كيف قامت قيامة الدول المسيحية في أميركا وأوربا، حين قتل مسيحي في أقصى الأرض أو أدناها، حتى ولو كان القتل لسبب مشروع. وكيف حشدت تلك الدول صحفها وإذاعاتها بالاحتجاج والضجيج. وكيف تجاهلت مذبحة العرب في فلسطين على أيدي اليهود، والدماء التي أجرتها فرنسا أنهراً في الجزائر. إن مجرد وصف الدولة، أية دولة بأنها دينية معناه التحيز، وعدم التحرر، وتفضيل بعض الأديان على بعض حتى ولو لم تقم على أساس الدين، وينص دستورها على أنها دينية. أجل، قد تكون بعض الدول أكثر تسامحاً من غيرها، ولكنها لا تتخلى كلية عن المحاباة، فالامتياز موجود في الحالين، وعند الدولتين، وإن اختلف في الشدة والضعف.

عدد الشيعة :

ومن هنا كان التفاوت في عدد الشيعة والسنة قلة وكثرة حسب الدول القائمة الحاكمة ديناً ومذهباً، ففي عهد الأمويين والعباسيين كان السنة أكثر عدداً من الشيعة، وفي عهد البويهيين والفاطميين كانت الكثرة في جانب الشيعة، وفي عهد السلجوقيين والأيوبيين والعثمانيين ازداد عدد السنة، حتى أصبحوا على تعاقب الأجيال والقرون أضعاف عدد الشيعة، قال السيد محسن الأمين في الجزء الأول من أعيان الشيعة :

«ما زال التشيع يفشو ويقل، ويظهر ويختفي، ويوجد ويعدم في بلاد الإسلام على التناوب، وغيره بحسب تعاقب الدول الغاشمة وغيرها، وتشددها وتساهلها، حتى أصبح عدد الشيعة اليوم في انحاء المعمورة يناهز الخمسة والسبعين مليوناً(1) منها نحو اثنين وثلاثين مليوناً في الهند، ونحو خمسة عشر مليوناً في إيران،

_____________________

(1) قال الأستاذ حسن الأمين ابن المؤلف معلقاً على قول أبيه : كان هذا يوم تأليف الكتاب، أي منذ أكثر من ثلاثين سنة، والعدد اليوم أكثر من ذلك بكثير.

ونحو عشرة ملايين في روسيا وتركستان، ونحو خمسة ملايين في اليمن، ونحو مليونين ونصف في العراق، ونحو مليون ونصف في بخارى والأفغان، ونحو مليون في سوريا ومصر والحجاز، ونحو سبعة ملايين في الصين والتبت والصومال وجاوى، ونحو مليون في البانيا وتركيا، ومرادنا بشيعة الهند وسوريا خصوص الإمامية غير الإسماعيلية الآغاخانية، وبشيعة اليمن ما يعم الزيدية والاثني عشرية، وبشيعة الألبان غير البكتاشية».

وغريب حقاً أن يكون للشيعة هذا العدد بعد أن ظلوا هدفاً لاضطهاد الحكومات مئات السنين، وتعرضوا لموجات من تعصب إخوانهم السنة في كثير من البلدان والأزمان، وقد وضعنا كتاباً خاصاً «الشيعة والحاكمون» في معاملة الحكام للشيعة، ونذكر هنا مثلاً واحداً مما جاء في كتب السير والتاريخ(1) لتعصب السنة ضد الشيعة:

نقل ياقوت في معجمه أنه في سنة 617 هجري مرّ على مدينة الري فوجد أكثرها خراباً، ولما سأل بعض عقلائها عن السبب أجاب بأنه كان في المدينة ثلاث طوائف : شيعة وأحناف وشافعية، فتظاهر الأحناف والشافعية على الشيعة، وتطاولت بينهم الحروب، حتى لم يتركوا من الشيعة إلا من نجا بنفسه. ثم وقعت الحرب بين الأحناف والشافعية. فتغلب هؤلاء على أولئك. وهذا الخراب هو في ديار الشيعة والأحناف فقط.

وتدلنا هذه الحادثة على أن التعصب كان بين مذاهب السنة ضد بعضها البعض تماماً، كما كان بين السنة والشيعة، ولكن الجميع يد واحدة على العدو المشترك.

من بلدان الشيعة :

ليس لدي من المصادر لبلدان الشيعة سوى كتاب الأعيان للسيد الأمين، وتاريخ الشيعة للشيخ المظفر، وهما - كما رأيتُ - غير كافيين، ولذا جعلت العنوان «من بلدان الشيعة» :

_____________________

(1) انظر المجلد الثامن من المنتظم لابن الجوزي. وحوادث سنة 401 و406 و408 و443 و444 من الكامل لابن الأثير.

العراق :

قال الشيخ المظفر : إن جنوب العراق شيعة، ولئن وجد الخليط في بعض بلاده فلا يكون إلا أفراداً قلائل، ويشمل الجنوب الكوت، والعمارة، والغراف، وما سواها من بلاد دجلة، وأيضاً يشمل السماوة والديوانية والناصرية، وما سواها من بلاد الفرات.

أما البلاد الشمالية فسكانها على العموم من أهل السنة إلا أن الشيعة فيها ليسوا بالقليل.

أما البلاد الوسطى كالحلة فهي شيعة خالصة سوى أفراد معدودين في نفس القصبة، ولواء بغداد أكثريته من الشيعة، ومثله لواء ديالى، بعكس لواء الديلم، ومع هذا فالشيعة فيه غير قليل، وعليه فالعراق اليوم سبعة من ألويته شيعة، وفيها شعوب من غيرهم، وخمسة سنة، وفيها خليط من الشيعة، ولواءان مختلطان يغلب عليهما التشيع، هذا ما يعرفه المستقرئ لبلاد العراق(1).

إيران :

وهي أسبق البلاد الإسلامية - غير العربية - إلى التشيع، فقد دخلها المذهب في عصر الحجاج سنة 83 هجري كما قدمنا، وعملت على نشره وإعزازه بشتى الوسائل، وشيدت حضرات الأئمة وطلت قبابها بالذهب الإبريز، وملأت خزائنها بالثمين والنفيس من المعادن والجواهر.

الأفغان :

وكانت جزءاً من مملكة إيران في عهد الصفويين، وهي الآن من البلدان المستقلة المحايدة، قال السيد الأمين في الأعيان :

«انتشر التشيع في الأفغان في عهد الملوك الصفوية، وعينوا مدرسين ومشايخ إسلام في مدنها الهامة، مثل هرات وكابل وقندهار وغيرها، وكان الشيخ حسين

_____________________

(1) المؤلف الشيخ محمد الحسين المظفر من علماء النجف، وهو أعرف بهذه الإحصاءات من غيره، وقد ألف كتابه تاريخ الشيعة سنة 1352 هجري، وعلى هذا يكون عدد الشيعة في العراق أكثر بكثير مما قاله السيد الأمين في أعيانه.

ابن عبد الصمد العاملي والد الشيخ البهائي معيناً شيخ الإسلام في هرات، والآن لا يخلو بلد من بلاد الأفغان من الشيعة، ولكن عددهم غير معلوم على التحقيق إلا أن فيهم كثرة لا يستهان بها تقدر بنحو 400 ألف. وفيهم جماعة من أهل العلم يتعلمون في مدرسة النجف الأشرف».

أذربيجان :

ومن مدنها تبريز وخوي وسلماس وأرمية وأردبيل ومرثد، وفي كتاب مراصد الإطلاع أن فيها قلاعاً كثيرة، وخيرات واسعة، قال صاحب الأعيان :

وأهلها اليوم كلهم شيعة ما عدا بعض أهل أرمية، والظاهر أن تشيعهم من عهد الصفويين، وهي داخلة اليوم في مملكة إيران.

الآستانة :

كانت عاصمة العثمانيين الذين انقرض سلطانهم بعد الحرب العالمية الأولى، قال السيد الأمين: فيها عدد كثير من الشيعة هاجروا إليها من إيران، ومن ترك أذربيجان، وهم أهل تجارة وكد وعمل وثروة وتمسك بالدين، يقيمون العزاء لسيد الشهداء، ولا سيما في عشر المحرم، ويعملون الشبيه، ثم يخرجون في الشوارع، وكانت الدولة العثمانية تمنحهم الحرية التامة، وتحافظ عليهم، أما اليوم فيقتصرون على إقامة العزاء فقط.

البحرين والأحساء والقطيف وقطر :

إن تشيع أهل البحرين وقصباتها مثل القطيف والأحساء شائع منذ عهد الصحابة، والسر أن النبي صلى الله عليه وآله بعث والياً عليها إبان بن سعيد بن العاص الأموي، وكان إبان من الموالين لعلي والمتخلفين عن بيعة أبي بكر، ثم صار عاملاً عليها عمر بن أبي سلمة، وأمه أم سلمة، زوجة رسول اللّه، وفي عهد أمير المؤمنين ولى عليها معبد بن العباس بن عبد المطلب، فغرس هؤلاء الولاة التشيع في أهل البحرين، وأول جمعة أقيمت في الإسلام بعد المدينة كانت في البحرين (أعيان الشيعة ج 1).

وقال الشيخ المظفر في «تاريخ الشيعة» : «حاول عبد الملك أن يحمل أهل البحرين على مفارقة التشيع فأبوا، وأراد أن يستعمل القوة فخاف بأسهم، فصالحهم على نزع السلاح، وأن يرفع عنهم الخراج لقاء ذلك، وداموا على التشيع لا يخشون سلطة حاكم، ولا يرهبون من التصريح به سطوة ظالم، وكان فيها كثير من العلماء والأفاضل والشعراء.

أما القطيف فهي شيعة خالصة، وأما الأحساء فالشيعة يشاطرون غيرهم، كما أن في قطر كثير من الشيعة(1) ولا يزال من هذه البلاد في النجف الأشرف مهاجرون، لتحصيل علم أهل البيت (ع)، وفيها اليوم جماعة من أهل الفضل، وكانت هذه البلاد ممتحنة بسلطة آل عثمان، ولما انتزعها منهم ابن سعود كانت محنتهم أشد».

ومن الخير أن نذكر بهذه المناسبة أن المرحوم السيد محسن الأمين العاملي ألف كتاباً قيماً على أثر هدم السعوديين قبور أئمة البقيع، أسماه «كشف الارتياب» استقصى فيه تاريخ الوهابيين منذ نشأتهم، حتى يومه رحمة اللّه عليه.

جبل عامل :

ويسمى جبل الجليل، وجبل الخليل، وأهله أقدم الناس في التشيع لم يسبقهم إليه إلا بعض أهل المدينة. ومن نظر إلى هذا الجبل وتاريخه نظرة تأمل وإمعان أخذته الدهشة لنشاط أهله وجهادهم في سبيل العلم والدين والحياة منذ القديم، حتى اليوم على الرغم من فقرهم، وقلة عددهم، وما توالى عليهم من الظلم والاضطهاد. رحلوا إلى إيران والعراق ومصر والشام لطلب العلم، وهاجروا إلى جميع القارات وأقصاها طلباً للعيش. ويحمل الآن المئات من شبابهم الشهادات العالية، ويتولون أعلى المناصب في الدولة، مع العلم بأن بعضهم ابن حمال، وآخر ابن ماسح أحذية، أو ابن كناس إلخ... وليس لدي أي تعليل مقنع لذلك، وما زلت أتساءل : هل هي التربة، أو شملتهم دعوة صالحة، أو عناية من لدن حكيم خبير ؟ ومهما يكن، فإني أدع الحديث هنا للشيخ المظفر في

_____________________

(1) ترد علي بين الحين والحين رسائل من قطر يطلب أصحابها نسخاً عديدة من كل كتاب من مؤلفاتي وغيرها من كتب الشيعة، فأرسلها لهم بدون تأخير، لوفائهم وحسن معاملاتهم.

تاريخ الشيعة، ولما نقله السيد الأمين عن مجالس المؤمنين، وللدكتور فيليب حتي في كتابه «لبنان في التاريخ»، قال الأمين في الجزء الأول من الأعيان :

«جاء في مجالس المؤمنين أن تجلي أنوار الرحمة الإلهية شامل لأهل جبل عامل، ونور المحبة من نواحي إيمانهم ظاهر، ولا توجد قرية من قراه لم يخرج منها جماعة من الفقهاء والفضلاء الإمامية، وجميع أهله من الخواص والعوام، والوضيع والرفيع يجدون في تعليم وتعلم المسائل الاعتقادية، والأحكام الفرعية على طبق مذهب الإمامية، وفي التقوى والمروءة والفقر والقناعة، يقتدون بطريقة مولاهم المرضية، ومع تسلط الغير عليهم لهم همة في نشر مذهبهم».

أما الشيخ المظفر فقد خص العامليين بعديد من الصفحات نقتطف منها ما يلي :

«جد العامليون في تحصيل علم أهل البيت (ع)، حتى بالهجرة إلى إيران والعراق، فتخرج منهم علماء استفاد الشيعة بمؤلفاتهم إلى اليوم، وطبقوا البلاد شهرة وصيتاً. وقال الشيخ الحر صاحب أمل الآمل : «سمعت من بعض مشائخنا أنه اجتمع في جنازة في قرية من قرى جبل عامل سبعون مجتهداً في عصر الشهيد الثاني وما قاربه. وهذا في ذاك العصر، أما بعده، حتى اليوم فقد انجبت جبل عامل أفاضل وعلماء يعسر استقصاؤهم، ويوجد فيهم اليوم مراجع للتقليد، وفيهم من له الميزة في الدفاع عن مذهب آل محمد صلى الله عليه وآله ».

وقال الدكتور حتي في «لبنان في التاريخ» ص 498 طبعة 1959(1) :

«إن حجباً كثيفة تحجب عنا حياة الشيعة في لبنان، ولكن من وراء هذه الحجب تبرز أمامنا ناحية مشرقة، لها مغزاها البعيد(2) وتدل على أن هذه الجالية لم تقطع أسباب العلم، بل احتفظت به على صعيد عالٍ عند منصرم القرن السادس عشر، عندما جعل الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية في إيران دين الدولة الرسمي المذهب الشيعي، وجد أنه من العسير أن يوفر للناس أئمة يعلمونهم حقيقة المعتقد، ويرسخون مبادئه في نفوسهم. ووجد أيضاً أن الكتب غير متوافرة، فعمد إلى ملء الفراغ باستحضار علماء الشيعة من لبنان - أي من جبل

_____________________

(1) طبع الكتاب بالإنكليزية، وترجم إلى العربية.

(2) المغزى البعيد هو الذي تساءلنا عنه فيما تقدم.

عامل - وقد غادر لبنان جمهور من أولئك العلماء، وذهبوا إلى إيران بدعوة أو بغير دعوة، وقد كان من جملة من ذهب حسين العاملي الذي غادر جبل عامل عندما قتل الأتراك أستاذه زين الدين الذي أصبح يعرف بين قومه بالشهيد الثاني.

وكان الشهيد الأول شمس الدين العاملي الذي قتل في دمشق سنة 1384 م بموجب فتويين أصدرهما القاضي المالكي، والقاضي الشافعي، وكان حسين قد أخذ معه ابنه الأصغر بهاء الدين العاملي - الشيخ البهائي - وقد فاق أباه علماً وشهرة، فإنه كان فقيهاً وفيلسوفاً وعالماً في الرياضيات، وقد رفع إلى رتبة شيخ الإسلام حيث كان من ألمع الشخصيات في بلاط الشاه عباس».

بعلبك :

قال السيد الأمين : لا يعلم مبدأ التشيع في بعلبك، وكان يغلب عليها التسنن، وفي أيام الحرافشة غلب التشيع على أهلها.

وقال الشيخ المظفر : هي اليوم مع سائر قراها وضواحيها تعد من بلاد الشيعة الشهيرة بالتشيع، وشيعتها تناهز الشيعة في جبل عامل كثرة(1) غير أنها لا تضاهيها في المعارف الدينية، فإنه لا يزال في النجف الأشرف من العامليين المهاجرين لطلب العلم ما يناهز الثمانين طالباً. ولا يوجد من البلاد البعلبكية أكثر من اثنين أو ثلاثة».

جبل لبنان :

ويحده شمالاً طرابلس، وجنوباً جبل عامل، وغرباً بيروت والبحر، وشرقاً بعلبك والبقاع، ويدخل فيه كسروان وضواحي بيروت، وهي برج البراجنة، وبرج حمود، والغبيري، والشياح، ويربو عدد الشيعة في بيروت وضواحيها وكسروان على 150 ألفاً، أما عددهم في مجموع لبنان فلا يقل عن نصف مليون، ولشيعة جبل لبنان نائبان في البرلمان ولشيعة بيروت نائب واحد.

_____________________

(1) شيعة جبل عامل ثلاثة أضعاف شيعة بعلبك من حيث العدد، والآن يمثل شيعة بعلبك في البرلمان أربعة نواب، ويمثل شيعة جبل عامل أحد عشر نائباً.

تبت :

قال السيد الأمين : فيها عدد كبير من الشيعة، وفيهم علماء يتعلمون العلوم الدينية في الهند وفي النجف الأشرف، ورأيت بعض حجاجهم بدمشق، فسألتهم عن حال الشيعة عندهم، فقالوا : إن عددهم يزيد آناً فآناً.

حمص :

ومنها الشاعر الشهير ديك الجن، وكان شيعياً، توفي سنة 235 هجري، ويدل هذا على أن التشيع دخلها منذ زمن وقال السيد الأمين : وفي عصرنا هذا تشيع جماعة كثيرون منهم لأنفسهم بأنفسهم، ويوجد حوالي حمص عدة قرى، أهلها شيعة إمامية، منها الغور، والدلبوز، وتل الأغر، وغيرها.

حلب :

قال السيد الأمين : دخلها التشيع قبل عهد الحمدانيين، وانتشر وقوي على عهدهم، ثم توالى حكام الجور على حلب، واشتد ضغطهم وفتكهم بالشيعة، وأغروا بالشيعة السفلة من السنة، حتى فعلوا من المخازي والقبائح ما تسود له وجه الإنسانية، ويخجل القلم عن نقله. وكان ابتداء الضغط أوائل القرن السادس، واشتد في القرن السابع، وتناهى في القرن العاشر، حتى لم يعد أحد يجهر بالتشيع خوفاً على دمه وعرضه، وماله، ولم يزال يوجد في حلب عدة بيوت معلومة يقذفهم بعض الناس بالرفض والتشيع، ويوجد في جهات حلب قرى، أهلها شيعة من قديم الزمان إلى اليوم، وهي الفوعة، ونبل، والنغاولة، وكفريا.

الكويت وعمان ومسقط :

للشيعة بالكويت كلمة مسموعة، وتأثير بالغ، ولهم قاضٍ شرعي خاص بهم يختاره المرجع في النجف الأشرف، وتعينه الحكومة بناء على اختياره، ولهم العديد من الحسينيات، ويقصدهم أهل العلم من العراق وجبل عامل، أما عمان ومسقط ودبي فقال الشيخ المظفر : إن فيها الكثير من الشيعة، ولهم الحرية المذهبية الكاملة، ولا يزال بين ظهرانيهم أفراد من أبناء العلم للإرشاد وتعليم الأحكام، ويفد عليهم كثير من رجال الدين، وأرباب المنابر الحسينية.

الحجاز :

يوجد شيعة في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، حتى الآن، ومن القبائل الشيعية في الحجاز بنو جهم، وبنو علي، وبعض بني عوف، كما يوجد في رساتيقها كالعوالي.

اليمن :

أسلم أهل اليمن في أيام الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وعلى يد علي أمير المؤمنين، وبني أول مسجد في اليمن باسمه، وقال ابن عباس للحسين (ع) حين أراد الخروج إلى العراق : اذهب إلى اليمن، فإن لأبيك بها شيعة، وقال الإمام يمدح قبيلة همدان اليمنية :

ولو كنت بواباً على باب جنة*** لقلت لهمدان ادخلي بسلام

وخرج من العلويين أكثر من واحد في اليمن، وفيها كثير من الاثني عشرية، وأكثر أهلها من الزيود.

روسيا والصين :

قال الشيخ المظفر : يبلغ عدد الشيعة في الصين 11 مليوناً، وفي روسيا 10 ملايين.

الهند :

يرجع الفضل في انتشار التشيع في بلاد الهند إلى الصفويين، وعن بعض المستشرقين أنه لولا الأقدار التي جنت على الصفويين لكانت السلطة في الهند اليوم بيد الشيعة. قال الشيخ المظفر : ليس في الهند بلد إلا وفيه ناس من الشيعة، وهناك بلاد تختص بهم، وأخرى هم الأكثرية فيها، وهذه أسماء بعض تلك البلاد : لكنهور، وهي المرجع الوحيد للاثني عشرية، ولهم فيها مدارس وكليات وجامعات، وجانبور، وأمروها، وبنتا، وإله باد، ومظفر بور، ولاهور، وبنجاب، وبنارس، وفيض آباد، وسهارن بور، وغيرها كثير.

طرابلس وبنو عمار :

بنو عمار شيعة، وأصلهم من المغرب، جاءوا منها إلى مصر مع الفاطميين، وتولوا الإمارة والقضاء في طرابلس الشام من قِبَل الحاكم الفاطمي، وبقيت بأيديهم نحواً من 80 سنة، حتى انتزعها منهم الصليبيون سنة 502 هجري، وكان أهلها في ذلك العصر شيعة اثني عشرية، قال المستشرق آدم متز في الجزء الأول من «الحضارة الإسلامية » : «وإذا كان ناصر خسرو قد وجد أهل طرابلس في عام 428 هجري شيعة فقد جاء ذلك من أن بني عمار كانوا هناك على مذهب التشيع».

أما المؤسس لإمارة بني عمار في طرابلس فهو أبو طالب أمين الدولة بن عمار أعلن نفسه حاكماً على المدينة حين توفي الحاكم الفاطمي، وأنشأ مكتبة تحوي مائة ألف مجلد، واستمال طلاب العلم إلى عاصمته، فكان عمله هذا شبيهاً بما قام به سيف الدولة في حلب، وكان من جملة من قصد مكتبته أبو العلاء المعري، وهكذا بلغت طرابلس أثناء حكم بني عمار الذروة في الشهرة العلمية، وفي الازدهار الاقتصادي.

ومن علماء الشيعة الطرابلسيين القاضي الشيخ عبد العزيز بن البراج، تلميذ السيد المرتضى والشيخ الطوسي، وله مؤلفات جليلة، منها المهذب، والموجز والكامل والجواهر وعماد المحتاج. ثم انعدم التشيع من طرابلس، بسبب الضغط والاضطهاد، ويوجد في نواحيها اليوم بعض القرى الشيعية(1).

أندنوسيا :

وفيها اليوم عدة ملايين من الشيعة الاثني عشرية، ويكاتبون ويستفتون علماء العراق وإيران وجبل عامل، وفي العام الماضي طلبوا من المرجع في النجف الأشرف عالماً يعلمهم الدين وأحكامه، فاختار لهم بعض الفضلاء، وهو

_____________________

(1) أعيان الشيعة ج 22، والكنى والألقاب للقمي، ولبنان في التاريخ لفيليب حتي، والكامل لابن الأثير ج 8، والنجوم الزاهرة ج 7، والحضارة الإسلامية لآدم متز.

اليوم يقيم بين ظهرانيهم، وفقه اللّه وأخذ بيده، وفي سنة 1956 زارني أحدهم، وحدثني مفصلاً عن حياتهم ومحافظتهم على الشعائر المذهبية، وبخاصة إقامة العزاء لسيد الشهداء.

بلدان أخرى :

وهناك بلدان أخرى غير هذه لم يذكرها صاحب الأعيان، وصاحب تاريخ الشيعة، رغم أنهما بحثا وتتبعا المصادر العربية والأجنبية. ذلك أن الطرق الفنية للإحصاء لم تتهيأ لهما، ولا لغيرهما، حتى الآن ولا مستند لهما إلا الكتب الموضوعة منذ القديم في أحوال الأقاليم، أو السماع من عابر. وبديهة أن تلك الكتب لا تتضمن الأخبار عن جميع البلدان وعدد السكان، وأديانها ومذاهبها.

أما الأخذ بقول قائل والسماع من عابر فلا يغني عن الحق فإن الذين يعرفون عدد السكان في بلدهم أقل من القليل - إن صح التعبير - فأنا الآن أقيم في بيروت منذ 15 سنة، ولا أعرف عدد سكانها على التحقيق، وسكنت قبلها بقرية صغيرة 10 سنوات. وبقيت طوال هذه المدة أجهل عدد أهلها إلا على سبيل التقريب.

ولقد قرأت الكثير عن الجزائر، وما رأيت ولا سمعت من أحد أن فيها شيعة، حتى أخبرني من لا أشك بصدقه أن في جبالها، وسائر جبال البربر قبائل من الشيعة، وأنه اجتمع بأحدهم، وتوطدت الصداقة والعلاقة بينه وبينه. وأخبره عن أحوالهم وعاداتهم. وأيضاً أخبرني أكثر من واحد أنه يوجد في السودان شيعة، وفي سنة 1962 مر ببيروت حجاج من السودانيين، ورأيتهم يبحثون في مكاتبها التجارية عن الكتب الشيعية، فساعدتهم وأهديتهم بعضها، فسروا وشكروا.

وفي آخر الجزء الأول من أعيان الشيعة نقلاً عن كتاب حاضر العالم الإسلامي ودائرة المعارف الإسلامية أن بلداً في إفريقيا يدعى هرار كان تابعاً لمصر سنة 1875، ثم تبع الحبشة سنة 1887 جميع أهله شيعة، ويبلغ عددهم 50 ألفاً، وغير بعيد أن يكون هؤلاء من الإسماعيلية المنحرفة، لا من الشيعة الإمامية، قال أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق ص 549 :

«انتشر الشيعة في وسط إفريقيا في البلاد الإسلامية، كنجيريا، وبلاد الصومال، وبلاد السنغال، وغيرها من البلاد الإفريقية، وأكثر هؤلاء من الإسماعيلية المنحرفة، وليسوا من الاثني عشرية، ولا من طائفة الإسماعيلية المعتدلة، كالبهرة الذين يقيمون بالهند وباكستان»(1).

وبالتالي، فإن التشيع قد عم وانتشر في أكثر البلدان الإسلامية، وكانت لهم الغلبة في الكثرة والعدد على سائر الفرق، أو ليسوا بأقل من غيرهم، ثم انحسر التشيع في كثير من الأقاليم بسبب ضغط الحكام ومقاومتهم، وتعصب إخوانهم السنة. ورغم ذلك كله فإنهم اليوم منتشرون في طول الأرض وعرضها، ويعدون من الفرق الكبرى، وقد ظهر ذلك مما تقدم، مع العلم بأن ما ذكرت من بلدانهم إنما هو الأظهر والأشهر، أما استيعاب الأقاليم كاملة، وإحصاء العدد حقيقة فما وجدت إليهما سبيلاً، ولن أجده، حتى مع الحرص والاجتهاد.

ونختم هذا الفصل بتلخيص موجز لما ذكره الشيخ أبو زهرة في آخر كتاب «الإمام الصادق» بعنوان «نمو المذهب الجعفري ومرونته»، قال :

لقد نما هذا المذهب وانتشر لأسباب :

1 - إن باب الاجتهاد مفتوح عند الشيعة، وهذا يفتح باب الدراسة لكل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، والنفسية.

2 - كثرة الأقوال في المذهب - أي في المسائل الفقهية النظرية - واتساع الصدر للاختلاف ما دام كل مجتهد يلتزم المنهاج المسنون، ويطلب الغاية التي يتغياها من يريد محص الشرع الإسلامي خالطاً غير مشوب بأية شائبة من هوى.

3 - إن المذهب الجعفري قد انتشر في أقاليم مختلفة الألوان من الصين إلى بحر الظلمات، حيث أوروبا وما حولها، وتفريق الأقاليم التي تتباين عاداتهم وتفكيرهم وبيئاتهم الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. إن هذا يجعل المذهب كالنهر الجاري في الأرضين المختلفة الألوان، يحمل في سيره ألوانها واشكالها من غير أن تتغير في الجملة عذوبته.

_____________________

(1) زارني اليوم 6 / 4 / 64 رجلان من كينيا أحدهما اسمه أصغر علي محمد جعفر، والثاني اسمه حسين حبيب، وقال لي الأول، وهو يتقن العربية : إن في كينيا ودار السلام وأوغندا عشرين ألف نسمة من الجعفريين، وإنهم يقلدون في أمور دينهم المرجع في النجف الأشرف، ويعملون برسالته، وإن لهم لجنة تجمعهم وتعمل على بث التعاليم الجعفرية واسمها لجنة الاتحاد القومية الوطنية، ومقرها آروشيا في طنجنيقا.

4 - كثرة علماء المذهب الذين يتصدون للبحث والدراسة وعلاج المشاكل المختلفة، وقد آتى اللّه ذلك المذهب من هؤلاء العلماء عدداً وفيراً عكفواً على دراسته، وعلاج المشاكل على مقتضاه.

هذه حقيقة نطق بها الشيخ أبو زهرة، وفي الكتاب أمثلة كثيرة لعلمه وإنصافه، كما أن فيه موارد للنقد والنظر. أشرت إلى بعضها فيما تقدم من هذا الكتاب، وفي كتاب المجالس الحسينية، وإني لاعترف له وللشيخ شلتوت رئيس الأزهر والشيخ المدني عميد كلية الفقه بمزايا حميدة على كثير من شيوخ الأزهر، أمثال الحفناوي صاحب كتاب «أبو سفيان» ومحب الدين الخطيب منفذ «الخطوط العريضة» وغيره من الذين كفروا الشيعة، إطلاقاً، وتحدثوا عنهم بروح الدس والعداء، حتى جعلونا نغض الطرف عن كل خطيئة إلا التكفير والخروج عن دين الإسلام.

إن مواقف الخطيب من الشيعة، ومن إليه لا يمت إلى العلم والدين بسبب، أما موقف الشيخ أبي زهرة فهو موقف مذهبي يشوبه - كما هو المعتاد - شيء من التعصب الذي يباعد بين الأخوين، إلا أنه لا يبلغ مرحلة التكفير، والحمد للّه. هذا، إلى أن الشيخ أبا زهرة لم يرض في كتابه جماعة من السنة، كما أنه لم يرض الكثير من الشيعة.

في سنة 1961 اجتمعت بالشيخ أبي زهرة في دمشق، حيث اشتركنا معاً في مهرجان الغزالي، فقال لي فيما قال : حين ألفت كتاب «الإمام الصادق» كنت على علم اليقين بأنه سيغضب السنة والشيعة معاً، لأني لم أقل ما يريد أولئك، ولا كل ما يريد هؤلاء.

فقلت له : نحن نرحب بكل نقد من أية جهة أتى، على شريطة أن يكون بدافع الإخلاص، متحرراً من رواسب الماضي ومخلفاته. ولا أخفي القارئ أني شعرت بالتقدير لشخصه، رغم أني لا أوافقه على كثير من آرائه، وكنت - قبل أن نلتقي - انتقدته في بعض مؤلفاته، ورددت عليه بمقال مطول ومفصل، وكان حين يقدمني لمعارفه يقول : هذا الذي رد علي وانتقدني.

وبالختام يكفي أن نتذكر ما كتبته الأقلام المأجورة عن الشيعة والتشيع لنكبر ونقدر الشيخ ابا زهرة في كتابه «الإمام الصادق».

النَبيّ وَالزهرَاء وَالأئِمَّة الاثنَا عَشَر .. محَمَّد المصْطفى

- أبوه : عبد اللّه، وجده لأبيه عبد المطلب، وأمه آمنة، وجده لأمه وهب.

- أعمامه تسعة : الحارث، والزبير، وأبو طالب، واسمه عبد مناف، وحمزة، والغيداق، وضرار، والمقوّم، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والعباس، وجميع أعمامه إخوة لأبيه من جهة الأب فقط، ما عدا أبا طالب فإنه أخ لأبيه من جهة الأب والأم.

- عماته ست: أميمة، وأم حكيم، وبرة، وعاتكة، وصفية، وأروى.

- ليس لآمنة بنت وهب أخ أو أخت ليكون للنبي خالاً أو خالة، ولم تلد آمنة غيره، ليكون هو عماً أو خالاً لغيره.

- أبناء عمه : لم يعقب من أعمامه التسعة إلا أربعة : الحارث، وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب، وأبناء أبي طالب أربعة : طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي، وأبناء الحارث خمسة : أبو سفيان، والمغيرة، ونوفل، وربيعة، وعبد شمس، وقد سماه النبي عبد اللّه، وأبناء العباس تسعة : عبد اللّه وعبيد اللّه والفضل وقثم، ومعبد، وعبد الرحمن، وتميم، وكثير، والحارث. وأبناء أبي لهب أربعة : عتيبة، ومعتب، وعتبة، وعقبة، وأمهم أم جميل أخت أبي سفيان، فالمجموع 22 من الذكور.

- ويلتقي نسب النبي مع نسب أبي سفيان عدوّه الألد في عبد مناف، فإنه جد لجد النبي، وفي الوقت نفسه جد لجد أبي سفيان. فالنبي هو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وأبو سفيان هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

- ولد النبي بعد وفاة أبيه بالمدينة، وكانت ولادته يوم الجمعة عند طلوع الشمس في السابع عشر من ربيع الأول، عام الفيل وأيام ملك الفرس أنو شروان(1).

- عاش ثلاثاً وستين سنة، منها 6 سنوات مع أمه، و 8 مع جده عبد المطلب، و42 مع عمه أبي طالب، منها 17 في بيته، وحوالي 25 في بيت خديجة زوجته الأولى، وبقي بعد عمه في مكة 3 سنوات، وفي المدينة 10 سنوات.

- بعث في اليوم السابع والعشرين من رجب، وله من العمر 40 سنة.

- زوجاته : اختاره اللّه، وعنده تسع : عائشة، وحفصة، وام سلمة، وام حبيبة، وزينب بنت جحش، وميمونة، وصفية، وجويرية، وسودة، وكان قد تزوج زينب بنت خزيمة الهلالية، وماتت قبله، وأول زوجاته وسيدتهن السيدة خديجة، تزوجها، وهو ابن 25 سنة، وهي بنت 40، ولم يتزوج غيرها، حتى ماتت، وبقي بعدها سنة بدون نساء، وتزوج غير من ذكرنا، وحصل الفراق بينه وبينهن قبل الدخول، هذا، وكان عنده من السراري غير الزوجات مارية القبطية أم ولده إبراهيم، وميمونة بنت سعد، وأميمة، وريحانة بنت زيد من بني النضير.

- أولاده : جاءه ثلاثة ذكور، وأربع إناث، والذكور هم القاسم، وعبد اللّه من السيدة خديجة، وإبراهيم من مارية القبطية، وماتوا أطفالاً. والإناث زينب، وأم كلثوم، ورقية، وفاطمة، أسلمن وتزوجن، ثم توفين في حياته ما عدا الزهراء سيدة النساء.

غزواته :

كان النبي يبعث إلى أرض العدو بالسرية من ثلاثين فارساً، أو ستين، أو أكثر أو أقل، لتستطلع حال المشركين، وتأتيه بالأخبار، فتذهب السرية لغايتها، وربما حدث بينها وبين العدو مناوشات، وقد تعود دون أن يحدث شيء. وكان يعبئ المسلمين للحرب بقيادته - أحياناً - وبقيادة بعض الأصحاب - حيناً - ويبقى هو في المدينة، كما حدث في غزوة مؤتة، وقد يعود الجيش بدون قتال، أو تقع الحرب بينه وبين المشركين، حسب الظروف والمقتضيات.

_____________________

(1) المشهور عند السّنة أنه ولد في 12 ربيع الأول، ووافقهم بعض علماء الشيعة، والمشهور عند الشيعة أنه ولد في 17 منه، ووافقهم بعض علماء السّنة.

وجميع غزواته 62، منها 36 لم يخرج النبي معها، و26 كان معها، والغزوات التي حدث فيها قتال بقيادته تسع : بدر، وأحد، والخندق، وبنو قريضة، والمصطلق، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف.

كتاباته إلى الملوك :

كتب النبي إلى ملوك زمانه يدعوهم إلى الإسلام، ولما وصل كتابه إلى النجاشي ملك الحبشة وضعه على عينيه، ونزل عن سريره تواضعاً، وأسلم.

أما قيصر ملك الروم فأيقن بالحق. واعتقد أن محمداً رسول من عند اللّه، وأراد أن يسلم، فخاف قومه، وآثر الملك.

أما كسرى ملك الفرس فمزق الكتاب، وطرد رسول النبي، فتمزق ملكه، وطرد منه.

وأما المقوقس ملك القبط في مصر فكتب إلى النبي جواباً قال فيه : قد أكرمت رسولك، وأهديت إليك جاريتين، لهما مكان عظيم في القبط، وكسوة وبغلة تركبها، ولم يسلم، والجاريتان هما مارية القبطية، تزوجها النبي، وولدت له إبراهيم، والثانية سيرين، وهبها النبي لشاعره حسان بن ثابت.

وممن كتب له الحارث الغساني، وكان في سورية تابعاً لملك الروم، فأراد أن يجيّش الجيوش، ويحارب النبي، فنهاه سيده قيصر.

وكتب النبي إلى هوذة صاحب اليمامة، فاشترط لإسلامه أن يجعل له النبي شيئاً، فرفض وبقي هوذة على الكفر.

وكتب إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، وهما أميرا عمان في اليمن، فأسلما.

وكتب إلى المنذر العبدي بالبحرين، فأسلم وحسن إسلامه.

اخباره بالغيب :

تواتر الأحاديث من طرق السنة والشيعة أن النبي أخبر عن أشياء تحدث بعده، فحدثت بكاملها على ما قال، منها اخباره عن عائشة وكلاب الحوأب، ومنها أن الفئة الباغية تقتل عماراً برئاسة معاوية، ومنها اخباره بقتل الحسين وحجر بن عدي، ومنها اخباره أن ابن عباس يفقد بصره في كبره، وكذلك زيد بن أرقم، ومنها قوله سيكون في هذه الأمة الوليد(1) وهو شر لامتي من فرعون لقومه، وقوله إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين اللّه دغلاً، وعباد اللّه خولاً، ومال اللّه دولاً، ومنها أخباره بأن الإرضة أكلت ما كان في الصحيفة التي كتبتها قريش ضد بني هاشم، وعلقتها بالكعبة، ومنها أن العرب ينتصرون على الفرس، ومنها قوله لعلي ستخضب هذه من هذه، إلى غير ذلك.

من أخلاقه :

كان يجلس على الأرض، وينام عليها، ويخصف النعل، ويرقع الثوب بيده، ويحلب الشاة، ويعقل البعير، ويطحن مع الخادم، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويأكل ما يجد، ويلبس ما يجد، ويركب ما أمكنه من فرس، أو بعير، أو بغلة، أو حمار، ويردف خلفه، وربما ركبه عارياً بلا سرج، ويمشي راجلاً، ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، وكان لا يثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربه، ولا يغضب لنفسه، وكان أكثر الناس تبسماً، وربما ضحك من غير قهقهة، ولم يكن شيء أبغض إليه من الكذب إلى غير ذلك من الفضائل، وكريم الشمائل.

وفاته :

اختاره اللّه إليه يوم الإثنين 28 صفر سنة 11 هجري، وتولى غسله وتجهيزه أخوه ووصيه علي أمير المؤمنين.

_____________________

(1) فكان الوليد بن يزيد.

 

الزَّهرَاء

- هي فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين، وأمها خديجة بنت خويلد أم المؤمنين.

- ولدت بمكة يوم الجمعة 20 جمادى الآخرة بعد النبوة بخمس سنين.

- وهي أصغر بنات الرسول، وأحبهن إليه، وانقطع نسله إلا منها.

- صفاتها : كانت كأبيها في خُلقه وخلقه، ومن هنا قال صلى الله عليه وآله : فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني (صحيح البخاري، وصحيح مسلم). وقال : إن اللّه يرضى لرضاها، ويغضب لغضبها (المستدرك للحاكم، والإصابة لابن حجر). ونقلت الماء في القربة، حتى أثرت في صدرها، وطحنت بالرحى، حتى تورمت يداها، وكنست البيت، حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر، حتى اسودت ملابسها.

- زوّجها النبي علياً على خمسمائة درهم، وولدت له الحسن والحسين، وزينت وأم كلثوم.

توفيت في 3 جمادى الآخرة سنة 11 هجري، فعاشت بعد أبيها 95 يوماً، وغسلها وجهزها أمير المؤمنين، وأعانته على غسلها أسماء بنت عميس، وصلى هو عليها، والحسن والحسين، وسلمان وأبو ذر وعمار والمقداد وعقيل، والزبير وبريدة، ونفر من بني هاشم، ودفنها الإمام سراً في جوف الليل بوصية منها.

 

أمِيرُ المؤمنِين

- أبوه أبو طالب كفيل النبي ومربيه وحاميه(1) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت من رسول اللّه بمنزلة الأم، لأنه ربي في حجرها، وهو ابن ثماني سنين، وكانت من سابقات المؤمنات إلى الإيمان، وهاجرت مع رسول اللّه إلى المدينة، وكفنها النبي عند موتها بقميصه ليدرأ به عنها هوام الأرض، وتوسد في قبرها لتأمن من ضغطة القبر، ولقنها حجتها.

- ولد بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة 13 رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة، ولم يولد قط في بيت اللّه مولود سواه، لا قبله ولا بعده، وهذه فضيلة خصه بها اللّه إجلالاً لمحله ومنزلته، وإعلاء لقدره.

- حضر حروب النبي بكاملها ما عدا غزوة تبوك التي لم يلقَ المسلمون فيها كيداً، وقد استخلفه النبي على المدينة، وقال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.

- أزواجه وأولاده : تزوج فاطمة الزهراء، وولدت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم.

وتزوج بعدها بنساء كثيرات، منهن :

1 - إمامة بنت أبي العاص، وأمها زينب بنت رسول اللّه، وولدت له محمداً الأوسط، قتل في كربلاء.

2 - خولة الحنفية، وولدت له محمداً الأكبر المعروف بابن الحنفية.

3 - أم حبيبة بنت ربيعة ولدت له عمر ورقية.

4 - أم البنين الكلابية، ولدت له العباس وجعفراً وعبد اللّه وعثمان، قتلوا

_____________________

(1) تكلمنا عنه وعن إسلامه في كتاب «مع بطلة كربلاء».

في كربلاء.

5 - ليلى الدارمية، ولدت محمداً الأصغر المكنى بأبي بكر، وعبد اللّه، قتلا في كربلاء.

6 - أسماء بنت عميس، ولدت له يحيى وعوناً.

7 - أم مسعود الثقفية، ولدت أم الحسن ورملة.

وتزوج غير هؤلاء، ورزق منهن بناتاً، وهن : نفيسة، وأم هاني، ورقية الصغرى، وأم الكرام، وجمانة، وأمامة، وأم سلمة، وميمونة، وخديجة، وفاطمة.

ومجموع أولاده 27، منهم 14 ذكراً، والباقي إناث. وكان عنده يوم استشهاده اثنتان وعشرون، منهن 4 زوجات، و18 أمهات أولاد.

بعض خصائصه :

1 - السابق إلى الإسلام.

2 - ولد في الكعبة.

3 - تربى منذ صغره في حجر رسول اللّه.

4 - مؤاخاته مع النبي.

5 - إن النبي حمله، حتى طرح الأصنام من الكعبة.

6 - إن ذرية رسول اللّه منه.

7 - إن النبي تفل في عينيه يوم خيبر، ودعا له بأن لا يصيبه حر ولا قر.

8 - إن حبه إيمان، وبغضه نفاق.

9 - إن النبي باهل النصارى به وبزوجته وأولاده دون سائر الأصحاب.

10 - بلغ سورة براءة عن النبي.

11 - إن النبي خصه يوم الغدير بالولاية.

12 - إنه القائل سلوني قبل أن تفقدوني.

13 - خاصف النعل.

14 - إن النبي خصه بتغسيله وتجهيزه والصلاة عليه.

15 - إن الناس جميعاً من أرباب الأديان وغيرهم ينظرون إليه كأعظم رجل عرفه التاريخ.

16 - إن له كتاباً، وهو نهج البلاغة، دون غيره من الأصحاب، إلى غير ذلك مما أتينا على شيء منه في كتاب «علي والقرآن» وكتاب «أهل البيت».

استشهاده :

قبض ليلة الجمعة، لتسع بقين من شهر رمضان المبارك سنة 40 هجري قتيلاً بسيف عبد الرحمن بن ملجم. وكان سنه يوم استشهد 63 سنة، قضى مع رسول اللّه 33، منها 10 قبل النبوة، و13 في مكة قبل الهجرة، و10 في المدينة بعد الهجرة، وعاش بعد النبي 30 سنة إلا خمسة أشهر، وأياماً، ومدة خلافته خمس سنين، وثلاثة أشهر، وسبع ليال، وتولى غسله وتجهيزه الحسن والحسين، وحملاه إلى النجف، ودفناه هناك ليلاً، وعميا موضع قبره بأمر منه، فلم يزل مخفياً، حتى دل عليه الإمام الصادق في الدولة العباسية(1).

_____________________

(1) كتاب أعلام الورى للطبرسي صاحب مجمع البيان.

 

الإمَام الحَسَن

- هو السبط الأول لرسول اللّه صلى الله عليه وآله ، والامام الثاني من أئمة أهل البيت، ورابع أصحاب الكساء، وأحد ريحانتي النبي، وسيدي شباب أهل الجنة.

- ولد بالمدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وجاءت به أمه الزهراء إلى أبيها رسول اللّه، فسماه حسناً، وهو أول من سمي بهذا الاسم.

زوجاته :

منهن خولة بنت الغزارية، وأم إسحق بنت طلحة، وأم بشر الأنصارية، وجعدة بنت الأشعث التي سقته السم، وغيرها.

وروى الرواة أن الامام الحسن كان كثير الزواج، وليس هذا بغريب، فقد عدّ أهل السِير لجده المصطفى أكثر من عشرين امرأة، واستشهد أبوه أمير المؤمنين، وعنده 22، ولكن الغريب أن تحاك حول زواجه الروايات التي لا أساس لها ولا أصل. لا لشيء إلا للنيل من مقامه الشريف، من ذلك أنه كان إذا رأى جمعاً من النسوة يقول لهن : من منكن تأخذ ابن بنت رسول اللّه ؟ فيجبنه بصوت واحد : كلنا مطلقات ابن بنت رسول اللّه.

وأي عاقل يصدق مثل هذا على الإمام الزكي الذي له عقل جده محمد المصطفى، وأبيه علي المرتضى ؟! أي عاقل يصدق أن الإمام الحسن كان يقف على قارعة الطريق، وينادي معلناً عن نفسه ورغبته في الزواج والنكاح ؟ وأغرب من كل ذلك جواب النسوة كلنا مطلقات ابن بنت رسول اللّه. متى تزوج بهذه الكثرة الكثيرة ؟! ومتى طلقهن ؟! وكيف اجتمع مطلقاته كلهن في مجلس واحد ؟! وكيف خفين عليه، ولم يعرف حتى ولا واحدة منهن، وبالأمس كن في بيته، وعلى فراشه ؟! حقاً إن واضع هذه الاكذوبة قد بلغ الغاية من الجهل والرعونة، وأجهل منه من يصدق أمثال هذه الأكاذيب.

- أولاده : كان له 15 ولداً ما بين ذكر وأنثى، وهم : زيد، وأم الحسن، وأم الحسين، وأمهم أم بشير الأنصارية، والحسن، وأمه خولة الفزارية، وعمر، والقاسم، وعبد اللّه، وأمهم أم ولد، والحسين الملقب بالأثرم، وطلحة، وفاطمة، وأمهم أم إسحق بنت طلحة، وأم عبد اللّه، وأم سلمة، ورقية لأمهات شتى، ولم يعقب منهم غير الحسن وزيد.

- بويع بالخلافة سنة 41 هجري، وله من العمر 37 سنة، وأقام في خلافته ستة أشهر، وثلاثة أيام، حيث وقع الصلح بينه وبين معاوية خوفاً على نفسه، بعد أن تبين له أن جماعة من رؤساء أصحابه كتبوا سراً إلى معاوية، وضمنوا له أن يسلموه إليه عند دنو العسكرين.

- وفاته : توفي سنة 50 هجري، وسبب وفاته أن معاوية دس له سماً على يد زوجته جعدة بنت الأشعث، وضمن لها إن قتلته بالسم مائة ألف درهم، وتزويجها من ولده يزيد، فأجابته، ومرض الإمام أربعين يوماً، وانتقل بعدها إلى رضوان ربه. فوفى معاوية لها بالمال، ولم يزوجها من يزيد، وقال لها : أخشى أن تصنعي بابني ما صنعت بابن رسول اللّه(1)، وكان عمره الشريف حين استشهد 47 سنة، أمضى منها 7 سنين وأشهراً مع جده المصطفى، و37 مع أبيه المرتضى، وبقي بعده مع أخيه الحسين الشهيد عشراً.

قال الإمام الصادق : إن الأشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين، وابنته جعدة سمت الحسن، وابنه محمد شرك في دم الحسين.

وجاء في كتاب «الخوارج والشيعة» للمستشرق فلهوزن نقلاً عن المستشرق دوزي ص 12 طبعة 1958 أن الأشعث قد ظل في قلبه مشركاً قديماً، فأراد الانتقام من الإسلام بخيانة الإمام علي. ولم يكن لدى الأشعث في هذا الباب من الدوافع أقل مما كان لغيره من أهل الردة - لأن الأشعث كان ممن ارتد عن

_____________________

(1) ابن عبد البر في الاستيعاب، وابن الجوزي في تذكرة الخواص، وابن سعد في الطبقات، وغيره.

الإسلام بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله (1).

وخطب الإمام الحسن صبيحة الليلة التي قبض فيها أبوه أمير المؤمنين، وقال بعد الحمد للّه، والثناء عليه، والصلاة على جده محمد :

لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولم يدركه الآخرون، لقد كان يجاهد مع رسول اللّه، فيقيه بنفسه، وكان رسول اللّه يوجهه برأيه، فيكتنفه جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع، حتى يفتح اللّه على يديه.

ولقد توفي في هذه الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم، وفيها قبض يوشع بن نون، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا 700 درهم فضلت عن عطائه - راتبه من بيت المال - أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله..

ثم قال الإمام الحسن : أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى اللّه بإذنه، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن من أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، أنا من أهل بيت فرض اللّه تعالى مودتهم وطاعتهم في كتابه، فقال : «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له حسناً» فالحسنة مودتنا أهل البيت.

_____________________

(1) وهذا الأشعث المرتد يروي عنه البخاري ومسلم، ويعدان حديثه من الصحاح.

 

الإمَام الحُسَين

- السبط الثاني لرسول اللّه صلى الله عليه وآله ، والإمام الثالث من أئمة أهل البيت، وخامس أصحاب العباء، وأحد ريحانتي رسول اللّه، وسيدي شباب أهل الجنة.

- ولد في 15 شعبان سنة أربع من الهجرة، وسماه جده صلى الله عليه وآله حسيناً، وبينه وبين أخيه مقدار الحمل فقط.

- زوجاته وأولاده : كان له من الأولاد ستة ذكور، وثلاث بنات : علي الأكبر شهيد كربلاء، وأمه ليلى بنت أبي مرة الثقفي، وعلي الأوسط، وعلي الأصغر زين العابدين، وأمه شاهزنان بنت كسرى، ومحمد وجعفر مات في حياة أبيه، وأمه قضاعية، وعبد اللّه الرضيع ذبح في حجر أبيه، وسكينة، وأمها وأم عبد اللّه الرضيع الرباب بنت امرئ القيس، وفاطمة، وأمها أم إسحق التميمية، وزينب، ونسل الإمام الحسين من الإمام زين العابدين.

- قتل في عاشر المحرم سنة 61 هجري، وكان عمره الشريف 56 سنة وأشهراً، عاش منها مع جده رسول اللّه ست سنين، ومع أبيه 36، ومع أخيه الحسن 46 وبقي بعد أخيه الحسن 10 سنين.

من هو الحسين :

قال السيد محسن الأمين في الجزء الرابع من «أعيان الشيعة» :

«هو أشرف الناس أباً وأماً، وجداً وجدة، وعماً وعمة وخالاً وخالة، جده رسول اللّه سيد النبيين، وأبوه علي أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وأخوه الحسن المجتبى، وعمه جعفر الطيار مع ملائكة السماء، وعم أبيه حمزة سيد الشهداء، وجدته خديجة بنت خويلد أول نساء الأمة إسلاماً، وعمته أم هاني، وخاله إبراهيم ابن رسول اللّه، وخالته زينت بنت رسول اللّه.

وقد جاهد لأسمى المقاصد، وأنبل الغايات، وقام بما لم يقم بمثله أحد قبله، ولا بعده، فبذل نفسه وماله وآله، لإحياء الدين، وفضح المنافقين، واختار المنية على الدنية، وميتة العز على حياة الذل، ومصارع الكرام على طاعة اللئام، وأظهر من إباء الضيم وعزة النفس، والشجاعة والبسالة، والصبر والثبات ما بهر العقول، وحير الألباب.

وحقيق بمن كذلك أن تقام له الذكرى في كل عام، وتبكي له العيون دماً بدل الدموع. وأي رجل في الكون قام بما قام به الحسين. يقول النصارى : إن السيد المسيح قدم نفسه للصلب، ليخلص الشعب من الخطيئة، وأين ما فعله مما فعله الحسين ؟. عيسى قدم نفسه فقط على قول النصارى. أما الحسين فقدم نفسه، وأبناءه، حتى ولده الرضيع، وقدم إخوته وأبناء أخيه وأبناء عمه، قدمهم جميعاً للقتل، وقدم أمواله للنهب، وعياله للأسر، ليفدي دين جده.

إن الحسين معظم، حتى عند الخوارج أعداء أبيه، فإنهم يقيمون له مراسم الذكرى والحزن يوم عاشوراء في كل عام. ولو أنصف المسلمون ما عدوا طريقة الشيعة في إقامة الذكرى لسيد الشهداء. فهل كان الحسين دون جان دارك التي يقيم لها الفرنسيون الذكرى في كل عام ؟. وهل عملت جان دارك لفرنسا ما عمله الحسين لأمة جده ؟. فلقد سن لهم نهج الحرية والاستقلال، ومقاومة الظلم، ومعاندة الجور، وطلب العز، ونبذ الجور، وعدم المبالاة بالموت في سبيل الغايات السامية.

هذا، إلى ما يرجوه المسلم من الثواب يوم الحساب على الحزن والبكاء لقتل الحسين، فلقد نعاه جده لأصحابه، وبكى لقتله قبل وقوعه، وبكى معه أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر، فيما رواه الماوردي الشافعي في «اعلام النبوة». وقد حث أئمة أهل البيت الطاهر شيعتهم وأتباعهم على البكاء وإقامة الذكرى والعزاء لهذه الفاجعة الأليمة في كل عام، وهم نعم القدوة، وخير من اتبع، وأفضل من اقتفي أثره، وأخذت منه سنة رسول اللّه، لأنهم أحد الثقلين، وباب حطة الذي من دخله كان آمناً، ومفتاح باب مدينة العلم الذي لا يؤتى إلا منه.

ثم قال السيد الأمين قدس اللّه سره : ألف السيد علي جلال المصري كتاباً في الحسين اقتطفنا منه ما يلي :

السيد الإمام أبو عبد اللّه الحسين عليه السلام ابن بنت رسول اللّه، وريحانته، وابن أمير المؤمنين علي عليه السلام، ونشأة بيت النبوة، له أشرف نسب، وأكمل نفس، جمع الفضائل ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال من علو الهمة، ومنتهى الشجاعة، وأقصى غاية الجود، وأسرار العلم، وفصاحة اللسان، ونصرة الحق، والنهي عن المنكر، وجهاد الظلم، والتواضع عن عز، والعدل والصبر والحلم والعفاف والمروءة والورع وغيره، واختص بسلامة الفطرة، وجمال الخلقة، ورجاحة العقل، وقوة الجسم، وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة، وأفعال الخير، كالصلاة والصوم والحج والجهاد والإحسان.

وكان إذا أقام بالمدينة أو غيرها مفيداً بعلمه، مهذباً بكريم أخلاقه، مؤدباً ببليغ بيانه، سخياً بماله، متواضعاً للفقراء، معظماً عند الخلفاء، مواصلاً للصدقة على الأيتام والمساكين، منتصفاً للمظلومين، مشتغلاً بعبادته، مشى من المدينة على قدميه إلى مكة حاجاً خمساً وعشرين مرة. لقد كان الحسين في وقتٍ علم المهتدين، ونور الأرض، فاخبار حياته فيها هدى للمسترشدين بأنوار محاسنه، المقتفين آثار فضله، ولا شك أن الأمة تنفعها ذكرى ما أصابها من الشدائد في زمن بؤسها، كما يفيدها تذكر ما كسبته من المآثر أيام عزها، ومقتل الحسين من الحوادث العظيمة، وذكراه نافعة، وإن كان حديثه يحزن كل مسلم، ويسخط كل عاقل.

إن مصرع الحسين عظة المعتبرين، وقدوة المستبسلين ألم تر كيف اضطره نكد الدنيا إلى إيثار الموت على الحياة، وهو أعظم رجل في وقته لا نظير له في شرق الأرض وغربها. ومع التفاوت الذي بلغ أقصى ما يتصور بين فئته القليلة، وجيش ابن زياد الكبير في العدة والعدد والمدد، فقد كان ثباته ورباطة جأشه، وشجاعته تحير الألباب، لا عهد للبشر بمثلها، كما كانت دناءة أخصامه لا شبيه لها.

وما سمع منذ خلق العالم، ولن يسمع، حتى يفنى، أفظع من ضرب ابن مرجانة بقضيبه ثغر ابن بنت رسول اللّه، ورأسه بين يديه، بعد أن كان سيد الخلق يلثمه.

ومن آثار العدل الإلهي قتل عبيد اللّه بن زياد يوم عاشوراء، كما قتل الحسين يوم عاشوراء، وأن يبعث برأسه إلى علي بن الحسين، كما بعث برأس الحسين إلى ابن زياد. وهل أمهل يزيد بعد الحسين إلى ثلاث سنين، أو أقل ؟!. وأية موعظة أبلغ من أن كل من اشترك في دم الحسين اقتص اللّه منه، فقتل أو نكب ؟!.

وأية عبرة لأولي الأبصار أعظم من أن يكون قبر الحسين حرماً معظماً، وقبر يزيد بن معاوية مزبلة ؟. وتأمل عناية اللّه بالبيت النبوي الكريم يقتل أبناء الحسين، ولا يترك منهم إلا صبي مريض أشرف على الهلاك، فيبارك اللّه في أولاده فيكثر عددهم، ويعظم شأنهم. أما الذين قتلوا مع الحسين فما لهم على وجه الأرض شبيه.

ولو قدرت ولاية الحسين لكانت خيراً للأمة في حكومتها وأخلاقها وجهادها. وشتان ما بين السبط الزكي، والظالم السكير يزيد القرود والطنابير، وهل يستوي الفاسق الفاجر، والإمام العادل ؟. وأين الذهب من الرغام ؟. ولكن اقتضت الحكمة الإلهية سير الحوادث بخلاف ذلك، وإذا أراد اللّه أمراً فلا مرد له، واقتضت أيضاً أن يبقى أثر جهاد الحسين على ممر الدهور كلما أرهق الناس الظلم تذكرة لمن ندب نفسه لخدمة الأمة، فلم يحجم عن بذل حياته، متى كانت فيه مصلحة لها.

 

الإمَام زين العَابدين

- الإمام الرابع من أئمة أهل البيت، أبو محمد، وزين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولد بالمدينة في شهر شعبان سنة 38 هجري.

- أولاده : كان له خمسة عشر ولداً، أحد عشر ذكراً، وأربع بنات، والذكور هم محمد الباقر، وأمه فاطمة بنت عمه الحسن، والحسن والحسين الأكبر، والحسين الأصغر، وزيد، وعمر، وعبد اللّه، وسليمان، وعلي، ومحمد الأصغر، أما الإناث فهن خديجة، وفاطمة، وعلية، وأم كلثوم، من أمهات شتى، وأمهاتهم جميعاً أمهات أولاد، ما عدا أم الإمام الباقر(ع)(1).

علمه :

إن علم زين العابدين هو علم آل الرسول، وعلمهم هو علم جدهم بالذات، يتلقاه الابن عن الأب عن الجد عن جبرائيل عن اللّه عز وجل، وقد روى الشيعة والسنة عنه العلوم والأدعية والمواعظ والتفسير والحلال والحرام والمغازي وغيرها. ولم يسند حديثاً، ولا قولاً إلى صحابي أو تابعي، لأن الناس جميعاً تفتقر إلى أهل البيت في العلوم، ولا يفتقرون إلى أحد.

قال الشيخ أبو زهرة في كتاب «الإمام زيد» ص 31 وما بعدها طبعة أولى : «في بيت الإمام زين العابدين نشأ زيد، وتكونت ميوله، ومنازعه في الحياة، واتجاهاته. وقد كان زين العابدين فقيهاً، كما كان محدثاً، وكان له شبه بجده علي بن أبي طالب في قدرته على الإحاطة بالمسألة الفقهية من كل جوانبها،

_____________________

(1) أم الولد هي العبدة، أو السرية إذا وطأها سيدها، وحملت منه، فتصبح بحكم الحرة لا يجوز بيعها ولا هبتها.

والتفريع عليها».

وكان إذا رأى الشباب الذين يطلبون العلم، أدناهم إليه وقال : مرحباً بكم، أنتم ودائع العلم، ويوشك إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار قوم آخرين. وإذا جاءه طالب علم رحب به، وقال : أنت وصية رسول اللّه. إن طالب العلم لم يضع رجله على رطب ولا يابس من الأرض إلا سبحت له الأرض إلى السابعة.

وبالتالي، فلم يختلف اثنان على أن لدى السيد السجاد العلوم المحمدية والعلوية، ولولا ضغط حكام الجور لانتشر عنه من العلوم ما تضيق به الكتب والمؤلفات.

عبادته وأخلاقه :

كان إذا حضرته الصلاة اقشعر جلده، واصفر لونه، وارتعد كالسعفة، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكانت تسقط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده، لكثرة صلواته، وكان يجمعها، ولما مات دفنت معه، وقد حج على ناقته عشرين حجة لم يضربها بسوط.

وكان يحسن إلى من يسيء إليه، من ذلك أن هشام بن إسماعيل كان أميراً على المدينة، وكان يتعمد الإساءة إلى الإمام وأهل بيته، ولما عزله الوليد، أمر أن يوقف للناس في الطريق العام، ليقتضوا منه، وكان لا يخاف أحداً كخوفه من الإمام السجاد، ولكن الإمام أوصى أهله وأصحابه أن لا يسيئوا إليه، وذهب إليه بنفسه، وقال له : لا بأس عليك منا، وأية حاجة تعرض لك فعلينا قضاؤها.

وكان للإمام ابن عم يؤذيه، وينال منه، فكان يأتيه ليلاً، ويعطيه الدنانير، فيقول : لكن علي بن الحسين لا يصلني بشيء، فلا جزاه اللّه خيراً، فيسمع ويغفر. فلما مات انقطعت الدنانير عنه، فعلم أنه هو الذي كان يصله. وكان يقول لمن يشتمه : إن كنتُ كما قلت، فأسأل اللّه أن يغفر لي، وإن لم أكن كما قلت فأسأل اللّه أن يغفر لك.

ولما طرد أهل المدينة بني أمية في وقعة الحرة أراد مروان بن الحكم أن يستودع أهله، فلم يؤوهم أحد، وتنكر الناس له إلا الإمام زين العابدين رحب بهم، وجعلهم من جملة عياله، وقد عال الإمام في هذه الوقعة أربعمائة امرأة. كما كان يعول بيوتاً كثيرة في المدينة لا يعرفون من أين يأتيهم رزقهم، حتى مات الإمام، فعرفوا أنه كان المعيل. وكان يخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام والحطب، حتى يأتي باباً باباً، فيقرعه، ثم يناول من يخرج إليه، وهو متستر، ولما وضع على المغتسل نظروا إلى ظهره، وعليه مثل ركب الإبل مما كان يحمل إلى منازل الفقراء والمساكين.

وكان يشتري العبيد، وما به إليهم حاجة، وكان يأتي بهم إلى عرفات، فإذا انتهى من مناسكه أعتقهم، وأعطاهم الأموال، وكان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في أثنائها أعتقه ليلة الفطر، وما استخدم خادماً أكثر من حول.

وتعال معي، لنقرأ المثال التالي من سيرة الإمام السجاد، لتعرف بأي الوسائل كان يتقرب إلى اللّه تعالى، ويطلب غفرانه ورضوانه، فلم يكتف بالصوم والصلاة، والحج والصدقات، والإرشاد إلى الخيرات، والعفو عمن أساء إليه، بل تقرب إليه سبحانه بالإحسان إلى المستضعفين، وأعطاء الحرية للمستعبدين.

كان إذا أذنب عبد من عبيده، أو أمة من إمائه، يكتب اسم المذنب ونوع الذنب، والوقت الذي حصل فيه، ولم يعاقب المذنب أو يعاتبه، حتى إذا انتهى شهر رمضان المبارك جمعهم حوله، ونشر الكتاب، وسأل كل واحد منهم عن ذنبه، فيقر ويعترف، فإذا انتهى من عملية الحساب وقف في وسطهم، وقال لهم قولوا معي :

يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كما أحصيت علينا، وان لديه كتاباً ينطق بالحق، كما نطق كتابك هذا، فاعف واصفح، كما تحب أن يعفو عنك المليك ويصفح، واذكر وقوفك بين يدي اللّه ذليلاً، كما نحن وقوف بين يديك.

فينوح الإمام ويبكي، ثم يعفو عنهم ويقول : اللهم إنك امرتنا بالعفو عمن ظلمنا، وقد عفونا كما أمرت، فاعفُ عنا، ثم يقبل على عبيده، ويقول : أنتم احرار لوجه اللّه، ويناجي ربه قائلاً : اللهم إني عفوت عنهم واعتقت رقابهم كما أمرت، فاعف عني وأعتق رقبتي من النار، ويأمر العبيد أن يقولوا : اللهم آمين رب العالمين، فيرفعون أصواتهم بالابتهال والدعاء لسيدهم المحسن، ثم يذهبون إلى سبيلهم بعد أن يجيزهم بما يغنيهم عما في أيدي الناس.

ولو مثلت هذه الرواية، كما هي، على مسرح عام لأحدثت ثورة في العقول، ولفعلت فعل السحر في النفوس، واتجهت بها إلى اللّه وعمل الخير، وكانت أجدى من ألف كتاب وكتاب في المواعظ والأخلاق. ولو أن الذين يهتمون بالأخلاق ومشكلات المجتمع اطلعوا عليها وعلى أمثالها من سيرة الإمام السجاد، وتنبهوا إلى ما تحويه من الأسس والقوانين لبلغوا الغاية المنشودة من أقصر الطرق وأيسرها. لقد حددت هذه الرواية حب الإنسان للّه سبحانه بأنه حب البشرية والحرية، وإن حبيب اللّه هو صديق الإنسان الذي لا يعرف التعصب، ولا العنصرية، ولا القسوة.

وبالتالي، فإن التراث الذي تركه أهل البيت للإنسانية لا نجده في جامعة، ولا في كتاب، ولا عند أمة من الأمم.

ونختم الكلام عن الإمام السجاد بما جاء في كتاب «الإمام زيد» للشيخ أبي زهرة أحد كبار شيوخ الأزهر، فمما قاله في صفحات طوال :

«زين العابدين علي بن الحسين رضي اللّه عنهما هو الابن الذكر الذي بقي من أولاد الحسين، فقد قتل أخ له في المعركة الفاجرة التي شنها يزيد وعماله على الإمام الحسين ابن الطاهرة فاطمة الزهراء.

ولم يحضر المعركة - أي لم يقاتل - لأنه كان مريضاً، وقد كان في الثالثة والعشرين من عمره، أو يزيد على ذلك، ولعل اللّه سبحانه وتعالى أبقاه من هذه السيوف الآثمة، لتبقى ذرية الحسين الصلبة في عقب علي هذا. ولقد هم عمال يزيد أن يقتلوه، ولكن اللّه كف أيديهم عنه. كما حرض بعض الفجار يزيد على قتله، ونجاه اللّه.

وكان علي بن الحسين دائم الحزن شديد البكاء، وكان رحيماً بالناس، كثير الجود والسخاء، فما علم أن على أحد ديناً، وله به مودة إلا أدى عنه دينه. دخل على محمد بن أسامة يعوده فوجده يبكي، فقال : ما يبكيك ؟. قال عليّ دين. قال الإمام : وكم هو ؟. قال : خمسة عشر ألف دينار. فقال الإمام : هي عليّ.

وقد قال محمد بن إسحق : كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون، ومن يعطيهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل المساكين.

وكانت صدقاته كلها ليلاً، وكان يقول : صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنير القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة.

ولم تكن رحمة زين العابدين بالناس، عطاء يعطى، بل كانت مع ذلك سماحة وعفواً، يعفو عن القريب وعن القعيد، وعمن ظلمه وأساء إليه. وتروى الأعاجيب عن رحمته وسماحته، منها أن جارية كانت تحمل الإبريق، وتسكب الماء ليتوضأ، فوقع على وجهه وشجه، فرفع رأسه إليها لائماً، فقالت :

والكاظمين الغيظ.

قال : كتمت غيظي.

قالت : والعافين عن الناس.

قال : عفوت عنك.

قالت : واللّه يحب المحسنين.

قالت : أنت حرة لوجه اللّه.

بهذه الأخلاق السمحة الكريمة، وبالتقوى التي لا تعرف سوى اللّه اشتهر زين العابدين، فأجله الناس، وأحبوه، حتى أنه كان إذا سار في مزدحم أفسح الناس له الطريق. ويروى من عدة طرق أن هشام بن عبد الملك طاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن، وكان أهل الشام حوله، وبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين، فلما دنا من الحجر ليستلم تنحى عنه الناس إجلالاً له، وهيبة واحتراماً، فقال هشام : من هذا ؟! استنقاصاً له. وكان الفرزدق حاضراً، فأنشد الشاعر الفحل تلك القصيدة :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته***والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد اللّه كلهم***هذا التقي النقي الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها***إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت***عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته***ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياء، ويغضى من مهابته***فما يكلم إلا حين يبتسم

بكفه خيزران ريحها عبق***عن كف أروع في عرنينه شمم

مشتقة من رسول اللّه نبعته***طابت عناصرها والخيم والشيم

ينجاب نور الهدى من نور غرته***كالشمس ينجاب من إشراقها الغيم

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا***حلو الشمائل تحلو عنده نعم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله***بجده أنبياء اللّه قد ختموا

من جده دان فضل الأنبياء له***وفضل أمته دانت لها الأمم

عم البرية بالإحسان فانقشعت***عنها الغواية والاملاق والظلم

كلتا يديه غياث عم نفعهما***يستوكفان ولا يعروهما العدم

سهل الخليقة لا تخشى بوادره***يزينه إثنتان الحلم والكرم

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته***رحب الفناء أريب حين يعتزم

من معشر حبهم دين وبغضهم***كفر وقربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبهم***ويستزاد به الإحسان والنعم

مقدم بعد ذكر اللّه ذكرهم***في كل حكم ومختوم به الكلم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم***أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم***ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت***والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم***خيم كرام وأيد بالندى هضم

لا ينقص العدم بسطاً من أكفهم***سيان ذلك إن أثروا وان عدموا

أين الخلائق ليست في رقابهم***لأولية هذا أوله نعم

فليس قولك من هذا بضائره***العرب تعرف من أنكرت والعجم

من يعرف اللّه يعرف أولية ذا***فالدين من بيت هذا ناله الأمم

ثم قال فضيلة الشيخ أبي زهرة : لقد روت كتب التاريخ والسير والأدب هذه القصيدة منسوبة إلى الفرزدق الشاعر، ولم يتشكك الرواة والمؤرخون في نسبتها اليه، وأكثر كتب الأدب لم تثر عجاجة شك حولها.

- توفي بالمدينة سنة 95 هجري عن 57 سنة، عاش منها مع جده أمير المؤمنين سنتين، ومع عمه الحسن 10 سنين، ومع أبيه الحسين 23، وبقي بعده 34 سنة.

 

الإمَام محمَّد البَاقِر

- هو الإمام الخامس من أئمة أهل البيت، ولد بالمدينة سنة 57 هجري، وأمه فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، قال الإمام الصادق : كانت صِديقة لم يدرك في آل الحسن مثلها.

- ولقب بالباقر، لأنه بقر العلم بقراً، أي أظهر مخبآته وأسراره، ورث علم النبوة عن آبائه وأجداده، وكان مقصد العلماء من كل البلاد الإسلامية، سواء منهم الشيعة والسنة، وكان ممن يقصده سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة محدث مكة، وأبو حنيفة(1).

- أولاده : كان له سبعة أولاد، الإمام الصادق، وعبد اللّه وأمهما أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وإبراهيم، وعبيد اللّه، وأمهما أم حكيم بنت أسد الثقفية، وعلي، وزينب، وأمهما أم ولد، وأم سلمة، وأمها أم ولد.

- قال الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الأنصاري : قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وآله : يوشك أن تبقى حياً، إلى أن تلقى ولداً لي من الحسين، يقال له محمد يبقر العلم، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، فبقيت حياً، حتى لقيت الإمام الباقر، كما قال رسول اللّه، فقبلت يد الإمام، وأبلغته الرسالة، فقال : وعلى رسول اللّه السلام ورحمة اللّه وبركاته.

وفي ذات يوم كان الإمام الباقر في بيته، وعنده جماعة من أصحابه، واذا بشيخ وقف على الباب، وقال : السلام عليك يا ابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.

وبعد أن رد الإمام عليه السلام، قال الشيخ : جعلني اللّه فداك يا ابن رسول

_____________________

(1) الشيخ أبو زهرة «الإمام الصادق» ص 22 طبعة أولى.

اللّه، واللّه إني لأحبكم، وأحب من يحبكم للّه لا للدنيا، وإني لأبغض عدوكم وأبرأ منه لا لشيء بيني وبينه، وإني لأحلل حلالكم، وأحرم حرامكم، وانتظر أمركم، فهل ترجو لي الخير جعلني اللّه فداك ؟

قال الإمام : أتى أبي رجل، وسأله مثل الذي سألت. فقال له : إن تمت ترد على رسول اللّه، وعلي، والحسن والحسين، ويثلج قلبك وتقر عينك، وتستقبل بالروح والريحان. وإنك معنا في السنام الأعلى.

فقال الشيخ : اللّه أكبر. أنا معكم في السنام الأعلى، وبكى فرحاً، وأخذ يد الإمام، وقبلها، ثم وضعها على عينيه، ومسح بها وجهه وصدره، ثم قام وودع وخرج، فقال الإمام : من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.

هذا هو التحديد الصحيح لشيعة أهل البيت (ع)، يحللون حلالهم، ويحرمون حرامهم، ويحبون من يحبهم، ويبغضون عدوهم في اللّه، وللّه. أما من يحلل اليوم ما حرمه بالأمس، تبعاً لشهواته وميوله، أما من يزعم أنه من الشيعة الموالين، وفي الوقت نفسه ينصب العداء للمحبين، ويكيد لهم فليس من الإسلام ولا التشيع في شيء، بل هو عدو اللّه ورسوله وأهل بيته. قال الإمام الرضا : من عادى شيعتنا فقد عادانا، ومن والاهم فقد والانا، لأنهم خلقوا من طينتنا، من أحبهم فهو منا، ومن أبغضهم فليس منا.

ومحال أن نفهم هذا الكلام، ونعمل به ما لم نتجرد عن الأنانية وحب الذات. إن الشرط الأول للتشيع أن نحب الموالي، ونخلص له، ونضحي من أجله، لا لشيء إلا لأنه محب للرسول وآله، وإذا محصنا الشيعة على هذا الأساس لا يبقى واحد من كل مائة، بخاصة المعممين الذين أصبح التحاسد بينهم من العلامات الفارقة والمميزة لهم عن سائر الفئات والهيئات.

وبالتالي، فإن التشيع لا ينفك أبداً عن الألفة والأخوة، لأنه من أمهات الفضائل وأعظمها، كما أن التحاسد من أمهات الرذائل وأقبحها.

توفي الإمام الباقر بالمدينة سنة 114، عاش مع جده الحسين 4 سنين، ومع أبيه 39، وبعده 18 سنة.

الإمَام جَعفَر الصَّادق

- هو الإمام السادس من الأئمة الأطهار، ولد بالمدينة سنة 80 من الهجرة، وتوفي سنة 148، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا معنى قول الصادق ولدني أبو بكر مرتين.

- أولاده : كان له عشرة أولاد، سبعة ذكور، وثلاث إناث، إسماعيل، وعبد اللّه، وأسماء، وتكنى بأم فروة، وأمهم فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين، والإمام موسى الكاظم، ومحمد المعروف بالديباج، وإسحق، وفاطمة الكبرى، وأمهم حميدة البربرية، والعباس، وعلي، وفاطمة الصغرى، لأمهات شتى.

أقوال العلماء :

أشرت فيما تقدم من هذا الكتاب إلى علوم الصادق ومدرسته، وكثرة الرواية عنه في شتى العلوم، وأذكر هنا طرفاً من أقوال العلماء فيه، قال الشيخ أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق :

«نشأ جعفر في مهد العلم ومعدنه، نشأ ببيت النبوة الذي توارث علمها كابراً عن كابر، وعاش في مدينة جده رسول اللّه صلى الله عليه وآله فتغذى من ذلك الغرس الطاهر وأشرق في قلبه نور الحكمة بما درس، وما تلقى، وبما فحص ومحص.

وكان قوة فكرية في عصره، فلم يكتف بالدراسات الإسلامية وعلوم القرآن والسنة والعقيدة، بل اتجه إلى دراسة الكون وأسراره، ثم حلق بعقله الجبار في سماء الأفلاك، ومدار الشمس والقمر والنجوم، كما عنى عناية كبرى بدراسة النفس الإنسانية، وإذا كان التاريخ يقرر أن سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الإنسان فإن الإمام الصادق قد درس السماء والأرض والإنسان وشرائع الأديان.

وكان في علم الإسلام كله الإمام الذي يرجع إليه. فهو أعلم الناس باختلاف الفقهاء، وقوله الفصل والعدل، وقد اعتبره أبو حنيفة أستاذه في الفقه.

أما صفاته النفسية والعقلية فقد علا بها على أهل الأرض، وأنّى لأهل الأرض أن يسامتوا أهل السماء ؟!. سمو في الغاية، وتجرد في الحق، ورياضة في النفس، وانصراف إلى العلم والعبادة، وابتعاد عن الدنيا ومآربها، وبصيرة تبدد الظلمات، وإخلاص لا يفوقه إخلاص، لأنه من معدنه، من شجرة النبوة، وإذا لم يكن الإخلاص في عترة النبي، وأحفاد علي سيف اللّه المسلول، وفارس الإسلام ففيمن يكون ؟!. فلقد توارث أحفاد علي الإخلاص خلفاً عن سلف، وفرعاً عن أصل، فكانوا يحبون للّه، ويبغضون للّه، ويعتبرون ذلك من أصول الإيمان وظواهر اليقين».

وهذا قليل من كثير مما ذكره أبو زهرة في كتاب «الإمام الصادق». وقبل الشيخ أبي زهرة قال الشهرستاني في الملل والنحل :

«هو ذو علم غزير في الدين والأدب، كامل في الحكمة، وزهد بالغ، وورع تام في الشهوات».

وقال صاحب كتاب «مطالب السؤل» فيما قال :

«أما مناقبه وصفاته فتكاد تفوت عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه صارت الأحكام التي لا تدرك عللها، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها تضاف إليه، وتروى عنه».

ولو أردنا أن نجمع الأقوال في الإمام الصادق لجاءت في مجلد ضخم.

من مناقبه :

قال أبو زهرة : «قال كثير من المفسرين في قوله تعالى : «ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً» إنها نزلت في علي بن أبي طالب، ومن المؤكد أن علياً كان من أسخى الصحابة، بل كان من أسخى العرب، وقد كان أحفاده كذلك من بعده».

جاء الإمام جعفراً فقير، فأعطاه أربعمائة درهم، فأخذها وذهب شاكراً، فرده الإمام وقال : إن خير الصدقة ما اغنت، ونحن لم نغنك، فخذ هذا الخاتم، فإني أعطيت به عشرة آلاف درهم. وكان إذا جاء الليل أخذ جراباً فيه الخبز واللحم وصرر الدراهم، فيحمله على عاتقه، ويقسمه على أهل الحاجات وهم لا يعرفونه، تماماً كما كان يفعل أجداده وآباؤه. قال صاحب «حلية الأولياء» : كان جعفر بن محمد يعطي، حتى لا يبقي لعياله شيئاً.

وكان إذا تخاصم اثنان على مال يصلح بينهما من ماله الخاص، وبعث غلاماً له في حاجة، فأبطأ، فخرج يبحث عنه، فوجده نائماً، فجلس عند رأسه، وأخذ يروّح له، حتى انتبه، فقال الإمام : لك الليل، ولنا النهار.

وهم المنصور بقتل الإمام أكثر من مرة، ولكنه كان حين ينظر إليه يهابه، ويتركه ويبالغ في إكرامه، غير أنه منعه من الناس، ومنع الناس أن تستفيد منه في أيامه الأخيرة.

تنبيه مهم :

وهذا التنبيه ذكره السيد الأمين في سيرة الإمام الصادق ج 4 من الأعيان، وهو من عقيدة التشيع في الصميم، قال :

إن ما ذكرناه من مناقب كل إمام قد يختلف عما ذكرناه من مناقب الآخر، وليس معنى هذا أن المنقبة التي يتصف بها أحد الأئمة لا يتصف بها الآخر، فكلهم مشتركون في جميع المناقب والفضائل، وهم نور واحد، وطينة واحدة، وهم أكمل أهل زمانهم في كل صفة فاضلة.

ولكن لما كانت مقتضيات الزمان متفاوتة كان ظهور تلك الصفات متفاوتة أيضاً(1) - مثلاً - ظهور الشجاعة من أمير المؤمنين وولده الحسين ليس كظهورها من بقية الأئمة. ذلك أن شجاعة علي ظهرت بجهاده بين يدي الرسول الأعظم، وبمحاربته الناكثين والمارقين والقاسطين أيام خلافته، والحسين ظهرت شجاعته

_____________________

(1) يريد السيد بهذه القاعدة المتسالم اليوم عليها من أن لكل إنسان ظروفه وبيئته الخاصة، وأن حياته ترتبط بها، بحيث يستحيل أن ينزع نفسه منها بحال.

في وقعة كربلاء، حيث أمر بمقاومة الظالمين.

ولم تظهر آثار الشجاعة من الأئمة الباقين، لأنهم أمروا بالصبر والمداراة، والكل مشتركون في أنهم أشجع أهل زمانهم، والباقر والصادق ظهرت منهما آثار العلم أكثر من بقية الأئمة الأطهار، لعدم الخوف، حيث وجدا في آخر دولة ضعيفة وأول دولة جديدة، والكل مشتركون في أنهم أعلم أهل زمانهم.

وقد تكون آثار الكرم والسخاء، وكثرة الصدقات والعتق أظهر منها في الباقي، لسعة ذات يده، أو لكثرة الفقراء في بلدة دون الباقي، والكل مشتركون في أنهم أكرم أهل زمانهم.

وقد تكون العبادة اظهر منها في غيره، لبعض الموجبات والمقتضيات، لقلة إطلاع الناس على حاله، أو قصر مدته في هذه الحياة، أو غير ذلك، وكلهم أعبد أهل زمانه.

وقد تكون آثار الحلم في بعضهم أظهر منها في غيره، لكثرة ما ابتلي به من أنواع الأذى التي تظهر حلم الحليم، وكلهم أحلم أهل زمانهم، إلى غير ذلك من مقتضيات الأحوال.

 

الإمَام مُوسى الكَاظِم

- هو الإمام السابع من أئمة أهل البيت، ولد بالأبواء، وهو مكان بين مكة والمدينة في شهر صفر سنة 128 من الهجرة، واستشهد في بغداد بالسم في سجن هارون الرشيد سنة 183، ودفن في الجانب الغربي من بغداد، وتعرف اليوم المدينة التي فيها قبره الشريف بالكاظمية نسبة إليه، وأمه حميدة البربرية، وكنيته أبو إبراهيم، وأشهر ألقابه الكاظم، لكظمه الغيظ، وصبره على ظلم الظالمين.

- أولاده : له سبعة وثلاثون ولداً، 18 ذكراً، و19 أنثى، وهم الإمام علي الرضا، وإبراهيم، والعباس، والقاسم، وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسن، وأحمد، ومحمد، وحمزة، وعبد اللّه، وإسحق، وعبيد اللّه، وزيد، والحسن، وسليمان، وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية الكبرى، وحكيمة، وأم أبيها، ورقية الصغرى، وكلثم، وأم جعفر، ولبابة، وزينب، وخديجة، وعلية، وآمنة، وحسنة، وبريهة، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وأم كلثوم من أمهات شتى.

وعاش مع أبيه 20 سنة، وبعده 35.

من مناقبه :

كان أجل أولاد الإمام الصادق قدراً، وأعظمهم محلاً، وأبعدهم في الناس صيتاً، ولم يُر في زمانه أسخى منه، ولا أكرم نفساً، وكان يبلغه عن الرجل أنه ينال منه، فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار، وكان يضرب المثل بصرر الأموال التي يتصدق بها، حتى قيل: عجباً لمن جاءته صرة موسى، فشكا الفقر !. ومر برجل فرآه كئيباً، فسأله عن السبب ؟. قال: لحقتني الديون من أجل حقل زرعته بطيخاً، وقثاء، وقرعاً، فلما استوى الزرع وقرب الخير جاء الجراد فأتى عليه، ولم يبق منه شيئاً، فذهب الزرع، وبقيت الديون. فأعطاه الإمام ما كان يأمله من زرعه، فوفى ديونه، وبقيت معه فضلة، جعل اللّه فيها البركة، كما حدث صاحب الزرع.

وكان كآبائه وأجداده يتفقد الفقراء، ويحمل إليهم في الليل الطعام والمال، وهم لا يعرفونه، وكان يقول في سجوده : اللهم قبح الذنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك، ومن دعائه : اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب.

مع علي بن يقطين :

كان علي بن يقطين مقرباً عند هارون الرشيد، يثق به، وينتدبه إلى ما أهمه من الأمور، وكان ابن يقطين يكتم التشيع والولاء لأهل البيت (ع)، ويظهر الطاعة للرشيد، وفي ذات يوم أهدى الرشيد إلى ابن يقطين ثياباً أكرمه بها، وكان في جملتها درّاعة خز سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب.

فأرسل علي بن يقطين الثياب ومعها الدراعة إلى الإمام الكاظم، ومعها مبلغ من المال، ولما وصلت إلى الإمام، قبل المال والثياب، ورد الدراعة إليه على يد رسول آخر غير الذي جاء بالمال والثياب، وكتب الإمام إلى علي بن يقطين احتفظ بالدراعة، ولا تخرجها من يدك، فإن لها شأناً، فأحتفظ علي بالدراعة، وهو لا يعرف السبب.

وبعد أيام سعى بعض الواشين إلى الرشيد، وقال له : إن ابن يقطين يعتقد بإمامه موسى بن جعفر، ويحمل إليه خمس ماله في كل سنة، وقد حمل إليه الدراعة التي أكرمته بها، فاستشاط الرشيد غضباً، وأحضر علي بن يقطين، وقال له: ما فعلت بتلك الدراعة التي كسوتك بها ؟.

قال : هي عندي في سفط محتوم، وقد احتفظت بها تبركاً، لأنها منك.

قال الرشيد : ائت بها الساعة.

وفي الحال نادى علي بعض غلمانه، وقال له : اذهب إلى البيت، وافتح الصندوق الفلاني تجد فيه سفطاً، صفته كذا، جئني به الآن.

فلم يلبث الغلام، حتى جاء بالسفط، ووضعه بين يدي الرشيد. ففتح الرشيد السفط، ونظر إلى الدراعة كما هي، فسكن غضبه، وقال لعلي : ارددها إلى مكانها، وانصرف راشداً، فلن اصدق عليك بعدها ساعياً، وأمر له بجائزة سنية ثم أمر أن يضرب الساعي ألف سوط، فضرب 500، ومات قبل إكمال الألف.

مع الرشيد :

وللإمام الكاظم مع هارون الرشيد أخبار كثيرة وطويلة ذكرها الشيخ الصدوق في «عيون أخبار الرضا» منها أن الرشيد قال له : كيف جوزتم للناس أن ينسبوكم إلى رسول اللّه، ويقولوا لكم : يا أبناء رسول اللّه، وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، لا إلى أمه ؟!.

فقال له الإمام : لو أن النبي نشر، وخطب إليك كريمتك، هل كنت تجيبه ؟.

قال الرشيد : سبحان اللّه وكيف لا أجيبه ؟.

قال الإمام : ولكنه لا يخطب إليّ ولا أجيبه.

قال الرشيد : ولمَ ؟.

قال الإمام : لأنه ولدني، ولم يلدك.

ولو تدبر هارون الرشيد القرآن الكريم لم يسأل الإمام هذا السؤال، وينكر هذا الإنكار، فإن اللّه سبحانه قد سماهم أبناء الرسول قبل أن يسميهم بذلك أحد من الناس، حيث قال عز من قائل: «فمن حاجك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين» وقد اتفق المسلمون بكلمة واحدة أن النبي دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين، فكان علي نفس النبي، وكانت فاطمة نساءه، وكان الحسن والحسين ابناءه. فإن كان للرشيد وغيره من اعتراض على نسبة آل البيت إلى الرسول الأعظم، فهو اعتراض ورد على اللّه، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

ومنها : أن الرشيد كان ينقله من سجن إلى سجن، حتى دس إليه السم، فسجنه أولاً بالبصرة عند عيسى بن جعفر، ثم سجنه عند الفضل بن الربيع، ثم عند الفضل بن يحيى، ثم عند السندي بن شاهك الذي حصل السم على يده، وأرسل الإمام إلى الرشيد من سجنه هذه الرسالة : «يا هارون ما من يوم ضراء انقضى عني إلا انقضى عنك من السراء مثله، حتى نجتمع أنا وأنت في دار يخسر فيها المبطلون».

أجل، لقد خسر هارون وآباؤه وأبناؤه، كما خسر من قبل يزيد بن معاوية وآباؤه وذووه، وكان الفوز دنيا وآخرة لموسى بن جعفر وآبائه وأبنائه، سلام اللّه وصلواته عليهم أجمعين.

 

الإمَام عَلي الرّضَا

- هو الإمام الثامن من الأئمة الأطهار، ولد بالمدينة سنة 153 من الهجرة، وتوفي سنة 202، ودفن بطوس من أرض خراسان، وأمه أم ولد، وتسمى خيزران.

وكنيته أبو الحسن، وأشهر ألقابه الرضا.

- أولاده : قال المفيد والطبرسي وابن شهرآشوب : لم يترك من الولد إلا محمد الجواد.

من مناقبه :

ما سئل عن شيء إلا أجاب عنه، وما كان أحد أعلم منه في زمانه، وكان يستخرج أجوبته من القرآن الكريم، وكان يختمه في كل ثلاثة أيام مرة، ويقول : لو أردت لختمته بأقل من ذلك، ولكني ما مررت بآية قط إلا فكرت فيها، وفي أي شيء نزلت.

ومن عادته أن لا يقطع على أحد كلامه، ولا يرد أحداً عن حاجة، وكان كثير المعروف والصدقة، بخاصة صدقة السر.

وكان المأمون مولعاً بالسماع إلى العلماء، وجدالهم ونقاشهم، فكان يجمع له العلماء والفقهاء والمتكلمين من جميع الأديان، فيسألونه، ويجيب الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق أحد منهم إلا اعترف له بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور، وقد جاء في أكثر من كتاب أن بعض العلماء، وهو محمد بن عيسى اليقطيني جمع من مسائل الإمام الرضا وأجوبتها 18 ألف مسألة، وفقد هذا الكتاب مع ألوف الكتب التي خسرتها المكتبة الاسلامية والعربية.

وفي كتب الشيعة الكثير من هذه المسائل، «منها» أن قال له : يا ابن رسول اللّه إن الناس يروون عن جدك أنه قال : خلق اللّه آدم على صورته، فما رأيك ؟.

قال الإمام : إنهم حذفوا أول الحديث الذي يدل على آخره، وهذا هو الحديث كاملاً : مر رسول اللّه برجلين يتسابان، ويقول أحدهما للآخر : قبح اللّه وجهك ووجهاً يشبهك. فقال النبي للساب : لا تقل هذا، فإن اللّه خلق آدم على صورته، أي على صورة من تشتمه وعليه يكون شتمك لخصمك هذا شتم لآدم عليه السلام.

ومنها : أنه سئل : أين كان اللّه ؟ وكيف كان ؟ وعلى أيّن شيء يعتمد ؟.

فقال : إن اللّه كيف الكيف فهو بلا كيف، وأيّن الاين فهو بلا أين، وكان اعتماده على قدرته. ومعنى جواب الإمام أن اللّه خلق الزمان وخلق الأحوال، فلا زمان له ولا حال، وغني عن كل شيء فلا يعتمد على شيءٍ غير ذاته بذاته. وسئل عن معنى إرادة اللّه فقال : هو فعله لا غير، ذلك أن يقول للشيء : كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان، ولا همة ولا تفكر، ولا كيف كذلك ولا كمّاً.

ومنها : أنه سأل سائل عن معنى قول الإمام الصادق « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين».

فقال الإمام : من زعم أن الله يفعل أفعالنا ، ثم يعذبنا عليها ، فقد قال بالجبر ، ومن زعم أن الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه - أي الأئمة - فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ، أما معنى الأمر بين الأمرين فهو وجود السبيل إلى اتيان ما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه ، أي ان الله سبحانه أقدره على فعل الشر وتركه ، كما اقدره على فعل الخير وتركه ، وأمره بهذا ونهاه عن ذاك.

ومنها : انه سئل عن الإمامة، فقال : ان اللّه لم يقبض نبيه، حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، حيث قال عز من قائل :

«ما فرطنا في الكتاب من شيء»، وأنزل في حجة الوداع «اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً».

والإمامة من إكمال الدين وإتمام النعمة. وقد أقام لهم علياً علماً وإماماً، ومن زعم أن النبي لم يكمل دينه - ببيان الإمام - فقد رد كتاب اللّه، ومن رد كتاب اللّه فهو كافر. ان الإمامة لا يعرف قدرها إلا اللّه، فهي اجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم.

ان الإمامة خلافة اللّه والرسول، وزمام الدين، ونظام المسلمين، والامام يحلل ما أحل اللّه، ويحرم ما حرم اللّه، ويقيم الحدود، ويذب عن الدين، والإمام أمين اللّه في أرضه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، وهو مطهر من الذنوب، مبرأ من العيوب، لا يدانيه أحد في خلقه، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بديل، ولا له مثيل. فأين للناس أن تستطيع اختيار مثل هذا ؟!.

ونكتفي بهذا المقدار من أجوبته، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى «عيون اخبار الرضا» للشيخ الصدوق. أما اخبار المأمون مع الإمام، واسناد ولاية العهد اليه، ثم اغتياله بالسم فقد ذكرناها في كتاب «الشيعة والحاكمون».

 

الامَام محمَّد الجَوَاد

- هو الإمام التاسع، ولد بالحديثة سنة 195 هجري، وتوفي سنة 220، وهو ابن 25 سنة، عاش مع أبيه 7 سنين، وبقي بعده 18 سنة، وأمه أم ولد، واسمها سكن.

- قال المفيد : كان له أربعة أولاد : ذكران، وهما الإمام علي الهادي، وموسى، وبنتان، وهما فاطمة، وامامة، وكنيته ابو جعفر، ولقبه الجواد.

مع المأمون :

قال الشيخ المفيد في كتاب «الارشاد» :

كان المأمون قد شغف بالإمام ابي جعفر محمد الجواد لما رأى من فضله مع صغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة، والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من أهل زمانه، فزوجه ابنته أم الفضل وحملها معه إلى المدينة، وكان متوفراً على إكرامه وتعظيمه، واجلال قدره.

وانكر العباسيون على المأمون عزمه على تزويج الإمام من ابنته، وقالوا له : ننشدك اللّه ان لا تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه، فنحن نخشى أن يخرج منا امر قد ملكناه، وقد عرفت ما بيننا وبين ابناء آل أبي طالب.

فقال لهم المأمون : أما الذي بينكم وبينهم فأنتم السبب فيه، ولو انصفتم القوم لكانوا أولى منكم، وقد اخترت محمد بن علي لتفوقه على كافة أهل الفضل والعلم مع صغر سنه، وسيظهر لكم، وتعلموا أن الرأي ما رأيت.

قالوا : انه صغير السن، ولا معرفة له ولا فقه.

قال المأمون : ويحكم أنا اعرف به منكم، انه من أهل بيتٍ علمهم من اللّه، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا، وان شئتم فامتحنوه، حتى يتبين لكم ذلك.

قالوا له : قد رضينا، واجتمع رأيهم أن يقابلوا الإمام الجواد بقاضي القضاة يحيى بن أكثم، فأتوا به إلى مجلس المأمون، ومعه الإمام، والناس من حولهما، وسأل ابن أكثم الإمام عن محرمٍ قتل صيداً ؟.

فقال له : هل قتله في حل أو حرم، عالماً كان أو جاهلاً، عمداً أو خطأ، حراً كان المحرم أو عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها، ومن صغار الطير أو من كباره، مصراً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتل الصيد أو في النهار، وفي عمرة كان ذاك أو في حج ؟

فتحير ابن أكثم، وبان عليه العجز والانقطاع، حتى عرف أهل المجلس امره.

فقال المأمون : الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق، ثم التفت إلى أقربائه، وقال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرون ؟!.

فقالوا له : انك أعلم بما رأيت.

قال : ان أهل هذا البيت خصوا من دون الخلق بما ترون من الفضل، وان صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، فقد دعا رسول اللّه علياً إلى الإسلام، وهو ابن عشر سنين، وقبله منه، وحكم له به، ولم يدع أحداً في هذه السن كما دعا عليّاً، وبايع الحسن والحسين، وهما دون ست سنين، ولم يبايع صبياً غيرهما. افلا تعلمون ان اللّه قد خص هؤلاء القوم، وانهم ذرية بعضهم من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم(1).

قالوا : صدقت.

الحاكم الموالي :

جاء رجل إلى الإمام الجواد، وقال له : جعلت فداك يا ابن رسول اللّه، ان

_____________________

(1) ان النبوة تجتمع مع صغر السن بدليل قوله تعالى : «وآتيناه الحكم صبياً» وقوله سبحانه «فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال اني عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبياً» إذن فاجتماع الإمامة مع صغر السن جائز اذ لو كان ذلك محالاً لكان محالاً في كل الناس انبياء كانوا أو أئمة.

والينا رجل يتولاكم أهل البيت، وعليّ في ديوانه خراج، وأنا اعجز عن وفائه، فإن رأيت أن تكتب إليه بالإحسان اليّ.

قال الإمام : اني لا اعرفه.

فقال الرجل : انه كما قلت من محبيكم، وكتابك ينفعني عنده.

فكتب الإمام : بسم اللّه الرحمن الرحيم، ان موصل كتابي هذا اليك ذكر عنك مذهباً جميلاً، وانه ليس لك من عملك إلا ما احسنت، فاحسن إلى اخوانك، واعلم ان اللّه سائلك عن مثاقيل الذر والخردل.

قال الرجل : فاعطيت الكتاب للوالي، وهو الحسين بن عبد اللّه النيسابوري، فقبله ووضعه على عينيه، وقال لي : ما حاجتك ؟

فقلت : خراج عليّ في ديوانك.

فأمر بطرح الخراج عني، وقال : لا تؤد خراجاً بعد اليوم ما دام لي عمل، ثم أمر لي بصلة، وما زال يحسن إليّ، حتى مات.

ونقدم هذا الحديث إلى الذين يزعمون أنهم من شيعة العترة الطاهرة، حتى إذا تولوا منصباً من المناصب تنكروا لكل محب وموالٍ لآل الرسول جاهلين، أو متجاهلين أن مودة الآل تستدعي بطبعها الاخلاص للموالين والمحبين.

مع المعتصم :

مات المأمون، وبويع بالخلافة للمعتصم، فطلب الإمام الجواد، واحضره إلى بغداد، وقيل : أنه أخذ يعمل الحيلة في قتله، حتى دس إليه السم، فانتقل إلى جوار ربه، ودفن في الكاظمية مع جده موسى بن جعفر.

 

الإمَام عَلي الهَادِي

- هو الإمام العاشر، ولد بقرية في ضواحي المدينة سنة 214، وتوفي ودفن في سامراء سنة 254، وأمه أم ولد، واسمها أم الفضل، فيكون عمره الشريف 40 سنة، أقام منها مع أبيه ست سنين وأشهراً وبعده (33) سنة وأشهراً.

- أولاده : كان له أربعة ذكور وبنت واحدة، وهم الإمام الحسن العسكري، والحسين، ومحمد، وجعفر(1) وعلية.

وكنيته أبو الحسن، واشهر ألقابه الهادي والنقي.

مع المتوكل :

كان المتوكل يبغض علياً وذريته، ولما بلغه مقام الإمام الهادي بالمدينة، وميل الناس إليه، خاف منه، ودعا يحيى بن هرثمة، وأمره بالذهاب إلى المدينة، واحضار الإمام.

قال يحيى : لما دخلت المدينة ضج أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على الإمام الهادي، وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم، ملازماً للمسجد، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجعلت اسكنهم، واحلف اني ما أمرت به بسوء، وانه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا المصاحف والأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني، وتوليت خدمته بنفسي، واحسنت عشرته.

وما وصل الإمام إلى سامراء، واستقر به المقام، حتى بعث إليه المتوكل جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلاً، وحملوه إلى المتوكل على الحالة التي كان

_____________________

(1) ويلقب بجعفر الكذاب، لأنه ادعى الإمامة بعد أخيه الحسن العسكري.

عليها، وقالوا له : لم نجد في بيته شيئاً، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبلاً القبلة.

وكان المتوكل حين دخل عليه الإمام في مجلس الشرب حاملاً الكأس بيده، فلما رآه هابه وعظمه، وكان في المجلس علي بن الجهم، فسأله المتوكل : من اشعر الناس ؟. فذكر ابن الجهم الشعراء في الجاهلية والإسلام. فسأل الإمام عن ذلك ؟ فقال : اشعر الناس الحماني حيث يقول :

لقد فاخرتنا من قريش عصابة***بمط خدود وامتداد اصابع

فلما تنازعنا المقال قضى لنا***عليهم بما نهوى نداء الصوامع

ترانا سكوتاً والشهيد بفضلنا***عليهم جهير الصوت في كل جامع

فان رسول اللّه احمد جدنا***ونحن بنوه كالنجوم الطوالع

فقال له المتوكل : وما نداء الصوامع يا أبا الحسن ؟. قال : اشهد ان لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه.

رجل يتشيع :

كان بأصفهان رجل يدعى عبد الرحمن، وكان له لسان وجرأة، وكان شيعياً. فقيل له : ما سبب تشيعك وقولك بامامة الهادي ؟.

قال : اخرجني أهل أصفهان سنة من السنين، وذهبوا بي إلى باب المتوكل شاكين متظلمين، وفي ذات يوم، ونحن وقوف بباب المتوكل ننتظر الاذن بالدخول إذ خرج الأمر باحضار علي الهادي، فقلت لبعض من حضر : من هذا الرجل الذي أمر الخليفة باحضاره ؟.

قال : رجل علوي، تقول الرافضة بامامته، ويريد المتوكل قتله.

فقلت في نفسي : لن أبرح، حتى انظر إليه، ولم يمض أمد من الوقت حتى أقبل راكباً على فرس، وقد قام الناس يمنة الطريق، ويسرتها صفين ينظرون إليه، فلما رأيته وقع حبه في قلبي، ودعوت له في نفسي أن يدفع اللّه شر المتوكل.

واقبل الإمام يسير بين الناس، لا ينظر يمنة ولا يسرة، وأنا أكرر في نفسي الدعاء، فلما صار بأزائي أقبل بوجهه عليّ، وقال لي : قد استجاب اللّه دعاءك، وطول عمرك، وكثر مالك وولدك.

قال عبد الرحمن : فارتعدت من هيبته، ووقعت بين أصحابي، فسألوني :

ما شأنك ؟. فقلت : خيراً، ولم اخبر بذلك مخلوقاً، فانصرفنا بعد ذلك إلى أصفهان، ففتح اللّه علي بدعائه، حتى أنا اليوم أغلق بابي على ألف ألف درهم سوى أموالي التي خارج الدار، ورزقت عشرة من الأولاد، وقد بلغت الآن من العمر نيفاً وسبعين سنة.

 

الإمَام حَسَن العَسكري

- الإمام الحادي عشر، ولد بالمدينة سنة 231 من الهجرة، وتوفي ودفن بسامراء مع أبيه سنة 260، وأمه أم ولد، وتسمى سوسن، وأقام مع أبيه 23 سنة وأشهراً، وبعد أبيه خمس سنين وأشهراً.

- كنيته أبو محمد، ولقبه العسكري، لأنه كان يسكن في سامراء بمحلة تعرف بالعسكر.

- أولاده : ليس له من الولد سوى محمد بن الحسن، وهو الحجة المنتظر.

من مناقبه :

قال الرواة : كانت أخلاقه كأخلاق جده رسول اللّه في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه، وكان على صغر سنه مقدماً على العلماء والرؤساء، معظماً عند سائر الناس. وقدمنا أن ما جرى لأول الأئمة في الفضائل وصفات الكمال يجري لآخرهم، وانهم في ذلك سواء.

وسجنه الخليفة العباسي عند رجل يدعى صالح بن وصيف، فوكل به رجلين من الأشرار بقصد ايذائه والتضييق عليه، فاصبحا بمعاشرة الامام من الصلحاء الابرار، فقال لهما صالح : ويحكما ما شأنكما في هذا الرجل ؟. قالا : ما نقول في رجل يصوم نهاره، ويقوم ليله كله، لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، وإذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا، ودخلنا ما لا نملكه من انفسنا.

اسير لا يملك حولاً ولا قوة، ينظر إلى آسره فيرتعد خوفاً وفزعاً. ولا تفسير لذلك إلا هيبة الإمامة، والا الرياسة الحقة التي تفرض نفسها على الناس اجمعين. وهكذا من ينقطع إلى اللّه سبحانه تهابه الملوك والجبابرة، وقد جاء في الحديث أن المؤمن يخشع له كل شيء، وان من يخاف اللّه يخاف منه كل شيء، حتى هوام الأرض وسباعها وطيور السماء.

من تفسيره :

قال الإمام العسكري في تفسير قوله تعالى : «الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا للّه انداداً وانتم تعلمون» :

ان معنى جعل الأرض فراشاً انها ملائمة لطباعكم، موافقة لاجسادكم، ولم يجعلها شديدة الحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا قوية الريح فتصدع هامكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في الحرث والبناء والحفر، ولكنه جعلها من المتانة ما تنتفعون به، وجعل فيها من اللين ما تنقاد لحرثكم وكثير من منافعكم.

أما معنى جعل السماء بناء فهو حفظها بالشمس والقمر والنجوم، وانتفاع الناس بها :

ثم أنزل المطر من علو ليبلغ الجبال والتلال والهضاب والوهاد، وفرقة رذاذاً ووابلاً وطلاً، لتنتفع الاشجار والزرع والثمار، ثم رتب اللّه سبحانه على ذلك وحدانيته وقدرته، ونفي الانداد والامثال.

وقال في تفسير قوله سبحانه «ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أماني» :

ان الامي هو المنسوب إلى أمه، أي هو لا يعرف شيئاً، تماماً كما خرج من بطن أمه.

جعفر الكذاب :

كان للإمام العسكري أخ يسمى جعفراً، وكان يكيد له ويدس عليه وعلى شيعته الدسائس عند الخلفاء، وقد لحق بالموالين الأذى والحبس والتشريد من وشايته وافتراءاته، وادعى الإمامة بعد أخيه. ولذلك قيل له الكذاب.

وجاء جعفر هذا إلى الوزير ابن خاقان بعد أن قبض أخوه الإمام، وقال له : اجعل لي مرتبة أبي وأخي، وأعطيك في كل سنة عشرين ألف دينار.

فنهره الوزير، وقال له : يا أحمق ان السلطان جرد سيفه وسوطه على الذين والوا أباك وأخاك، ليردهم عن ذلك، فلم يقدر، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ له، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى إمام يرتبك مراتبهم، وإن لم تكن عندهم بهذه المرتبة لم تنلها، وان ساندك السلطان وغيره. ثم أمر الوزير أن يحجب عنه جعفر، ولا يؤذن له عليه بالدخول.

وصدق ابن خاقان، فإن منصب الإمامة والرياسة عند الشيعة لا يناط بارادة الحكام، ولا ينال بالشفاعات والوساطات، كما هو الشأن في تعيين المشيخات والقضاة والمفتين. إن الرياسة عند الإمامية تعود إلى إرادة اللّه سبحانه، وثقة المؤمنين ووجدانهم واطمئنانهم لما يظهر لهم من دلائل الصدق وشواهد العدل، وهذا ميزة اختص بها الشيعة الإمامية عن كثير من الطوائف وأصحاب المذاهب الذين يختار رؤساؤهم بمرسوم الدولة، أقول هذا، مع العلم بأني من هؤلاء القضاة الذين تعينوا بمرسوم. ولكني أحمد اللّه سبحانه على لطفه وعنايته، حيث أوجد لي الظروف - من حيث أريد أو لا أريد - التي سلختني كلية عن القضاء الرسمي، بحيث لم يكن لي من وظائفه وشؤونه سوى قبض الراتب كاملاً، وأنا جالس في بيتي منقطع إلى الكتاب والقلم(1).

_____________________

(1) في سنة 1948 عينت قاضياً، وفي سنة 49 مستشاراً، وفي سنة 51 رئيساً للمحكمة العليا، وبقيت في هذا المنصب إلى سنة 56، فصادف ان اقيمت عندي دعوى تخص كاظم الخليل، وكان يومئذ وزيراً، فصدر الحكم في غير صالحه، فطار صوابه وجن جنونه، كما ان عادل عسيران رغب في تعيين بعض الشيوخ قاضياً فرفضت، وكان يومها رئيساً لمجلس النواب، فتعاون رئيس النواب والوزير على الشيخ لابس العمة، وعملا على تنحيتي من الرياسة إلى المستشارية، وذكرت ذلك مفصلاً مع الشواهد في آخر كتاب «الإسلام مع الحياة» وكان في ذلك الخير كل الخير وللّهِ الحمد، حيث انصرفت إلى التأليف، حتى أخرجت لي المطابع، حتى أول سنة 63 اثنين وعشرين كتاباً.

 

الإمَام الحجَّة محمَّد بن الحَسَن

- هو الإمام الثاني عشر من أئمة آل الرسول، ولد للنصف من شعبان سنة 255 من الهجرة في سامراء أيام الخليفة المعتمد، ولما ولد أمر أبوه أن يفرق عنه عشرة آلاف رطل من الخبز، ومثلها من اللحم، كما عق عنه ثلاثمائة رأس من الغنم.

- وامه أم ولد، واسمها نرجس، وكانت سنه عند وفاة أبيه خمس سنين، وقد آتاه اللّه فيها الحكمة، وفصل الخطاب، وجعله آية للعالمين، كما جعل يحيى إماماً في حال طفولته، وعيسى نبياً، وهو في المهد.

وتكلمنا فيما تقدم بعنوان «المهدي المنتظر» ان السبب الأول لفكرة المهدي في الإسلام، وكل ما يتصل به هو الأحاديث النبوية المدونة في صحاح السنة والشيعة، وقد اتفق المسلمون على ممر العصور أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يسمى المهدي، ويؤيد الدين، ويظهر العدل، ويستولي على البلاد، ويملأها عدلاً.

الغيبة :

وللإمام المهدي غيبتان : صغرى، وكبرى، ومعنى الصغرى أن الإمام كان يحتجب عن الناس إلا عن الخاصة، وان اتصاله بشيعته كان عن طريق السفراء، فكان الشيعة يعطون الاسئلة إلى السفير، وهو بدوره يوصلها إلى الإمام، وبعد الجواب عنها والتوقيع عليها يرجعها إلى السائلين على يد سفيره، ومن هنا سميت الغيبة الصغرى، أي أنها ليست بغيبة كاملة، بحيث انقطع فيها عن جميع الناس، وكانت مدتها 74 سنة.

وكان السفير الأول بين الإمام الغائب وشيعته رجل، يدعى عثمان بن عمر والعمري الأسدي، وكان عثمان هذا وكيلاً للإمام علي الهادي جد الإمام الغائب، ثم وكيلاً لأبيه الإمام حسن العسكري، ثم صار سفيراً للمهدي. ولما توفي عثمان تولى السفارة بعده ولده محمد بأمر المهدي، ثم تولاها بعده الحسين بن روح النوبختي، ثم علي بن محمد السمري، وبعد هؤلاء السفراء الأربعة انتهت الغيبة الصغرى.

أما الغيبة الكبرى فتبتدئ بمنتصف شعبان 328 هجري، وفيها انقطعت الاتصالات والسفارة بين الإمام وشيعته، واللّه سبحانه أعلم بحكمتها، فإنها سر من اسراره عز وجل، والشك في أسرار اللّه جحود، والجهل ليس عذراً يسوغ الانكار، إذ ليس كل ما هو كائن يجب أن نعلمه بالتفصيل، فنحن المسلمين جميعاً نؤمن بالقرآن الكريم كلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، ومع ذلك نجهل بعض معاني ألفاظه، كفواتح السور التي قيل ان علمها عند اللّه وحده، وقال آخرون : ان علمها عند اللّه ونبيه لا غيرهما، وقلنا نحن عندهما وعند الأئمة الآل الأطهار فقط سلام اللّه وصلواته على جدهم وعليهم أجمعين.

 

الأئِمَة الإثنَا عَشَر

قد يتساءل : لماذا كان عدد الأئمة اثني عشر إماماً لا يزيدون ولا ينقصون ؟

الجواب :

إن السبب الأول لهذا الحصر الأحاديث النبوية التي رواها أصحاب الصحاح في صحاحهم كالبخاري ومسلم وغيرهما. فكما دلت الأحاديث الصحيحة على ان صلاة الظهر أربع ركعات، والمغرب ثلاث، والصبح ركعتان كذلك دلت على أن الأئمة 12 دون زيادة أو نقصان، وقد نقلنا الأحاديث فيما تقدم من هذا الكتاب بعنوان «شروط الإمام» فقرة الإمام من أهل البيت، هذا إلى أن الإمامية استدلوا بأدلة أخرى تعزز السنة النبوية، نلخصها بما يلي :

1 - أنواع العلوم التي ظهرت من أئمة آل محمد، فقد روي عن علي أمير المؤمنين من أبواب التوحيد وعلوم الدين، وأحكام الشريعة وتفسير القرآن، وأصول اللغة وقواعدها وآدابها ومن الطب والحكمة والنجوم ما استفاد منه العلماء والفلاسفة والفقهاء وأهل اللغة والأدباء والأطباء وغيرهم.

وحين زال الخوف عن الإمامين الباقر والصادق روي عنهما من أنواع العلوم ما ملأ الأسفار، كذلك الإمام الكاظم فقد أظهر العلوم واشاعها إلى أن حبسه الرشيد، ومنعه من ذلك، وأيضاً انتشر عن الرضا وولده الجواد الشيء الكثير، وكذلك كان سبيل الهادي والعسكري، وانما قلت الرواية عنهما، لانهما كانا محبوسين ممنوعين عن الاتصال بالناس، واتصال الناس بهم.

وإذا عرفنا أنهم لم يأخذوا علومهم عن صحابي ولا تابعي ولا عالم أو فقيه، لانهم لم يرووا عن أحد قط، وإن أكثر ما أخذ عنهم من العلم لا يعرف إلا منهم، إذا عرفنا هذا تبين معنا أنهم أخذوا العلم عن جدهم النبيّ صلى الله عليه وآله دون غيره، وانه قد أفردهم بها ليدل على إمامتهم، وافتقار الناس إليهم، وغناهم عن الناس، ليكونوا مرجعاً لأمته في الدين، وملجأ في الأحكام.

2 - إن حكام الجور قد تتبعوا الأئمة الأطهار واحداً فواحداً، واجتهدوا في النيل من كرامتهم، وتطلبوا لهم العثرات والزلات، ولما اعياهم الطلب نكلوا بهم وبشيعتهم، وما ذاك إلا لأنهم كانوا على أعلى الصفات، كما شاهدنا في هذا العصر، وفي كل عصر من عداوة أهل الرذيلة لأهل الفضيلة.

3 - اعتقاد العلماء والرؤساء في الفقه والحديث والكلام بإمامة الأئمة وعصمتهم، كهشام بن الحكم، وأبي بصير، وزرارة، ومحمد بن النعمان، وإبان بن تغلب، ومحمد بن مسلم، ومعاوية بن عمار وغيرهم ممن بلغوا الجمع الكثير، والجم الغفير من أهل الحجاز والعراق وإيران، فإنهم قد جمعوا أقوال الأئمة من أهل البيت، ودونوها في كتبهم، واعتمدوها كأصل من أصول الدين والشرع، مع العلم بأن كل واحد من هؤلاء الاقطاب كان على جانب كبير من العلم والتقوى، وأن الأئمة الأطهار قد أقروهم على عقيدتهم، ولو كانوا مبطلين لنهوهم وتبرأوا منهم، تماماً كما تبرأوا ولعنوا الغلاة.

4 - ان معاوية وطلحة والزبير وعائشة الذين كانوا أعدى اعداء الامام علي لم يجدوا شيئاً يتذرعون به حين قاوموه وحاربوه إلا الطلب كذباً وافتراءً بدم عثمان. وقد انبأنا التاريخ انه بعد ان خلا الجو لمعاوية كانت الوفود تأتيه، وتجرعه السم الزعاف بذمه، ومدح أمير المؤمنين، وهو يسلم، ولا يجد مجالاً للتكذيب.

ثم كان من أمر ولده يزيد مع الحسين ما كان، ومع ذلك لم يستطع أن يتفوه بكلمة تدين الإمام الشهيد، وكذلك بقية الأئمة من الإمام زين العابدين إلى الإمام العسكري قد فرضوا تعظيمهم على الملوك الذين اجتهدوا كل الاجتهاد في البحث والطلب عن عثرة واحدة لأحد الأئمة، فاعياهم الطلب.

5 - تعظيم قبورهم، وفضل مشاهدهم، حتى ان الألوف تقصدها في كل آن للتبرك والاجر والثواب، وإعلان الخطباء مناقبهم وفضائلهم من على المنابر طوال أيام السنة ومدى الدهر، ووضع العلماء مئات الكتب في شرف منزلتهم وأنواع علومهم، والأدلة العقلية والنقلية على امامتهم.

وبالتالي، فليس لأحد من البشر بعد نبينا صلى الله عليه وآله ما للأئمة من ذريته من الفضل والعظمة، ورحم اللّه السيد المرتضى حيث قال : ان الشيعة والشافعية قالوا : ان الصلاة على النبي وآله فرض واجب، وقالت بقية المذاهب : هي مستحبة، وليست بواجبة، ومهما يكن، فان الصلاة عليهم عبادة، والتعبد بالشيء لا يتم إلا بمعرفته. فمعرفتهم - اذن - اما واجبة، واما مستحبة. وفي هذا الدليل القاطع على انهم أفضل الناس بعد جدهم، اذ لا تجب ولا تستحب معرفة أحد من أجل الصلاة إلا معرفتهم.

لا سُنّة وَلا شِيعَة

ما زلنا نسمع الحين بعد الحين كلمة تدور على لسان أكثر من واحد، وهي «لا سنة ولا شيعة» بل مسلمون، وكفى. حتى أن أحد الشيوخ ألف كتاباً، اسماه بذلك. وليس من شك أن بعض من ردد هذه الكلمة طيب القلب، خالص النية، وانه عبر بها عن امنيته وهي ان يسود الوئام، وتزول الحواجز بين المسلمين. ولكن البعض الآخر أراد بها أن يسكت الشيعة على ما يوجه إلى عقيدتهم من التزييف والطعون، وان يتقبلوا ما يتقوله عليهم الحفناوي والجبهان ومحب الدين الخطيب واخوان السنة في القاهرة، ومجلة التمدن الإسلامي في دمشق، وغيرها. وبكلمة يريد بها أن المسلمين هم السنة دون الشيعة، وان عقيدة التشيع يجب القاؤها في سلة المهملات، لانها بزعمه لا تمت إلى الاسلام بسبب. وقد جهل أو تجاهل ان نفي التشيع هو نفي للقرآن والحديث، وبالتالي، نفي للإسلام من الأساس.

في سنة 1380 هجري احتفلت جمعية البر والإحسان في صور بعيد الغدير، وكان بين المتكلمين شيخ أزهري وأنا، وبعد أن ألقيت كلمتي تكلم هذا الشيخ، وقال فيما قال : ما لنا وليوم الغدير ؟ لقد ذهب بما فيه. والاحتفال به تباعد بين المسلمين، وهم احوج إلى التقريب والوئام.

وبعد ان انتهى من كلامه عدت إلى منصة الخطابة، وعقبت على خطابه بقولي :

مهما نهى الشيخ عن شيء فإنه لن يستطيع هو ولا غيره أن ينهى عن كتاب اللّه وسنة نبيه، ونحن لسنا مع عيد الغدير، ولا مع علي بن أبي طالب لو لم يكن اللّه ورسوله معه، وإذا لم يترك اللّه والرسول علياً فماذا نصنع ؟. هل نتركه نحن ؟.

ثم إذا تركنا علياً - والحال هذه - هل نكون مسلمين حقاً ؟. ان احتفالنا بهذا اليوم هو احتفال بالقرآن الكريم وسنة النبي العظيم بالذات، احتفال بالاسلام ويوم الإسلام. ان النهي عن يوم الغدير تعبير ثانٍ عن النهي بالاخذ بالكتاب والسنة، وتعاليم الاسلام ومبادئه(1).

وتلك كتب الأحاديث والسِّيَر متخمة بالادلة والبراهين القاطعة على أن تعظيم العترة الطاهرة تعظيم للّه وكتابه، وللرسول وسنته.

والآن وفي كتابي هذا أذكر رواية تغني عن ألف دليل ودليل، لأن الذين أوردوها هم الآل والعترة بالذات:

كان من عادة المأمون العباسي أن يعقد المجالس للعلماء على اختلاف مذاهبهم وفرقهم، ويرغب إليهم ان يتدارسوا ويتناقشوا في الفقه والحديث والفلسفة وغيرها، وفي ذات يوم جمعهم في حضور الامام الرضا (ع) والقى عليهم هذا السؤال :

من هم المصطفون المعنيون بقوله تعالى : «ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا - 32 الفرقان» ؟

قال العلماء - غير الإمام - : انهم أمة محمد بكاملها.

قال المأمون للإمام الرضا : ما تقول أنت يا أبا الحسن ؟

قال الإمام : انه أراد العترة الطاهرة دون غيرهم.

قال المأمون : وما الدليل على ذلك ؟

قال الإمام : لو أراد اللّه عز وجل بهذه الآية الكريمة جميع المسلمين كما قال العلماء لحرمت النار على كل مسلم، وان فعل ما فعل، لأنه سبحانه لا يعذب احداً ممن اصطفاه، والثابت بضرورة الدين خلاف ذلك، وان من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، وان من يعمل مثقال ذرة شراً يره، هذا، إلى أن آيات القرآن الكريم يفسر بعضها بعضاً، كما أن الأحاديث النبوية هي تفسير وبيان لكتاب اللّه، وفي الكتاب والحديث دلائل وشواهد على أن المراد بقوله تعالى «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» هم العترة الطاهرة، منها :

_____________________

(1) قال الشيخ عبد اللّه العلايلي في خطبة أذاعتها محطة الاذاعة اللبنانية : ان عيد الغدير جزء من الإسلام، فمن أنكره فقد أنكر الإسلام بالذات. وذلك في 18 ذي الحجة سنة 1380 هجري.

1 - قوله تعالى : «انما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً - 33 الاحزاب» فقد دلت الآية على أن أهل البيت هم المطهرون من الرجس، وبديهة ان المصطفين مطهرون. فأهل البيت - اذن - هم المصطفون دون غيرهم.

2 - قول الرسول الأعظم : «اني مخلف فيكم الثقلين : كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي ألا وانهما لن يفترقا، حتى يردا علي الحوض» وما دام الكتاب ملازماً للعترة، ولم يفترق عنها بحال، اذن، هي التي ترثه، وهي التي خصها اللّه بالقرب والاصطفاء.

3 - قوله تعالى : «فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين - 61 آل عمران». فالذين اختارهم اللّه هنا في هذه الآية واصطفاهم للمباهلة هم بالذات الذين اصطفاهم وعناهم في آية «ثم أورثنا الكتاب» ولا يختلف اثنان ان المراد بانفسنا علي، وابناؤنا الحسن والحسين، ونساؤنا فاطمة، وهذه خاصة لا يتقدمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم به بشر، وشرف لا يسبقهم إليه مخلوق.

4 - ان النبي صلى الله عليه وآله سد ابواب الصحابة جميعاً التي كانت على مسجده الا باب علي، حتى تكلموا، واحتجوا، وقالوا فيما قالوا : يا رسول اللّه ابقيت علياً، واخرجتنا. فقال : ما انا ابقيته، واخرجتكم، ولكن اللّه سبحانه هو الذي ابقاه وأخرجكم. فكما اخرج اللّه الناس هناك، وأبقى علياً، كذلك اخرجهم من آية «ثم أورثنا الكتاب» وابقى العترة الطاهرة.

5 - قوله تعالى : «وآت ذا القربى حقه - 26 الاسراء». فقد نص صراحة على أن لأهل البيت حقاً خاصاً بهم لا يشاركهم فيه أحد، وما ذاك إلا لأن اللّه سبحانه قد اصطفاهم على الأمة جمعاء.

6 - ان اللّه عز وجل لم يبعث نبياً الا أوحى إليه أن لا يسأل قومه اجراً على تبليغ رسالته، لأن اللّه سبحانه هو الذي يوفيه اجر الانبياء الا محمداً، فإن اللّه أمره أن يجعل أجره مودة قرابته، بطاعتهم ومعرفة فضلهم. فقد حكى عن نوح أن قال : «يا قوم لا أسألكم عليه مالاً ان أجري إلا على اللّه - 29 هود»

وحكى عن هود أنه قال لقومه : «قل لا أسألكم عليه أجراً ان اجري إلا على الذي فطرني - 51 هود». أما محمد فقد قال بأمر ربه : «قل لا أسألكم عليه اجراً إلا المودة في القربى - 20 الشورى» وإذا كان وجوب المودة ميزة خاصة بآل الرسول دون غيرهم من آل الانبياء فكذلك ارث الكتاب والاصطفاء ميزة خاصة بهم دون غيرهم.

7 - ان اللّه سبحانه قال : «سلام على نوح في العالمين - 79 الصافات» وقال : «سلام على إبراهيم - 109 الصافات». وقال : «سلام على موسى وهارون - 120 الصافات». ولم يقل سلام على آل نوح، ولا سلام على آل إبراهيم، ولا سلام على آل موسى. ولكنه قال عز من قال : «سلام على آل يس - 130 الصافات». ويس هو محمد بالاتفاق، وإذا خصهم اللّه بالسلام فقد خصهم أيضاً بارث الكتاب والاصطفاء. وجاء في الحديث ان المسلمين سألوا محمداً: كيف نصلي عليك يا رسول اللّه ؟ قال : تقولون اللهم صلِّ على محمد وآل محمد.

8 - قوله تعالى : «واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه وللرسول ولذي القربى - 41 الانفال» فقد جعل اللّه سبحانه الآل في حيز، والناس في حيز دونهم، ورضي لهم ما رضي لنفسه، واصطفاهم على الخلق، فبدأ بنفسه، ثم ثنى برسوله، ثم بذي القربى في كل ما كان من الفيء والغنيمة، وغير ذلك، وهذا فضل للآل دون الأمة.

9 - قوله تعالى : «فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون - 43 النحل» وأهل البيت هم أهل الذكر، لأنهم عدل القرآن الكريم بنص حديث الثقلين.

10 - قوله تعالى : «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها - 132 طه». قال الإمام الرضا (ع) : ان اللّه تبارك وتعالى قد أمرنا مع الناس بإقامة الصلاة في قوله «اقيموا الصلاة»، ثم خصنا من دونهم بهذه الآية الكريمة، فكان رسول اللّه بعد نزولها يأتي إلى باب علي وفاطمة عند حضور كل صلاة خمس مرات، ويقول : الصلاة يرحمكم اللّه. ولم يكرم أحداً من ذراري الانبياء بمثل هذه الكرامة التي اكرمنا بها.

وبعد ان انتهى الإمام من حديثه الطويل(1) قال العلماء والمأمون للإمام : جزاكم اللّه خيراً أهل البيت عند أمة جدكم، فإنا لا نجد بيان ما اشتبه علينا من الحق إلا عندكم. وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين.

_____________________

(1) ذكر الشيخ الصدوق في كتاب «عيون الأخبار» هذه الأدلة القاطعة مع غيرها لاثبات ان المراد من آية «واورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» هم العترة الطاهرة، ورواها عن الإمام الرضا، وقد لخصتها بشيء من التصرف في التعبير، لأجل التوضيح والاختصار، مع المحافظة التامة على المعنى.

 

معَ الشِّيعَة الإمَاميَّة ..

رَاي صَريح في حَقِيقَةِ التَّشيعِ وَأصُولهِ التي تَرتَكِزُ عَليهَا المذاهِبُ الإسلامِيَّة

مقَدّمَة

بسم اللّه، وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه

«الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به،

فإذا تكلمت به صرت في وثاقه»

الإمام علي بن أبي طالب ع.

* * *

جمعت في هذه الأوراق بعض ما كنت أرسله في الصحف الحين بعد الحين من سنة 1937 إلى هذا التاريخ(1).

ومنه ما كان رداً على من نسب إلى الإمامية ما ليس لهم به علم، ومنه ما أردت به بيان عقيدتهم، وما عندهم من كنوز، والتقريب بين مذهبهم ومذاهب السنة، ومنه تلوته يوم العاشر من المحرم في ذكرى سيد الشهداء الحسين بن علي ع، ومنه اذعته من الراديو في شهر رمضان المبارك ويوم العيد إلى غير ذلك من المناسبات.

وأسميت الكتاب «مع الشيعة الإمامية» لأني رأيت هذا الاسم أجمع لشتات تلك الخطب والمقالات، وأقرب إليها من سائر الأسماء التي لاحت لي، وأنا أفكر في اختيار التسمية.

ومعنى التشيع في اللغة، المتابعة على وجه التدين والولاء، ومنه قوله تعالى «وان من شيعته لإبراهيم.. فاستغاثه الذي من شيعته» ولكن لفظ الشيعة صار بسبب كثرة الاستعمال علماً مختصاً بشيعة علي بن أبي طالب الذين يعتقدون بإمامته بعد الرسول، وهم فرق منهم الإمامية والزيدية والجارودية.

وقال الشيخ المفيد في أول كتاب - أوائل المقالات - : ان لفظ الإمامية علم على من دان بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان، وأوجب النص الجلي والعصمة والكمال لكل

_____________________

(1) أهملت ما نشرته قبل هذا التاريخ لأنه الباكورة الاُولى.

إمام، ثم حصر الإمامة في ولد الحسين، وساقها إلى علي بن موسى الرضا.

والشيعة الإمامية هم أكثر فرق الشيعة عدداً وانتشاراً، ومنهم الاثنا عشرية الذين قالوا بإمامة اثني عشر معصوماً، أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وآخرهم محمد بن الحسن المهدي المنتظر، ويبلغ عدد الإمامية ما يقرب من سبعين مليوناً منتشرين في العراق، والأكثرية فيها إمامية، وإيران وليس فيها من غيرهم إلا القليل، ومنهم نحو اثنين وثلاثين مليوناً في الهند بما فيها باكستان، ونحو عشرة ملايين في روسيا وتركستان، وبخارى والافغان ولبنان، وقليل منهم في سوريا والحجاز واليمن، ومنهم في الصين والتيبت والصومال وجاوا والالبان وتركيا والبحرين والكويت والاحساء والقطيف * ولو كنت أعلم بظهر الغيب ان هذه المقالات والخطب ستستوي في يوم من الأيام بكتاب مجموع لحاولت عند انشائها أن تكون خيراً مما هي، على أني لم أعدل فيها إلا قليلاً، لا حفظاً لحق التاريخ عليّ، ولا لأن وقتي لا يتسع للصقل والتسوية، بل، لأني لم أشعر من نفسي الرغبة في التحريف والتعديل، ولا شيء أصعب علي من الكتابة في هذه الحال.

وأبادر إلى الاعتراف بأني لم آت بتمام الغرض، واستوعب كل القصد، وأن أقوالي كأقوال أي إنسان غير معصوم تخضع للنقد والحساب، ويخضع صاحبها للمؤاخذة والعتاب، وعذري أنها عقلي وإيماني أضعهما بين يدي القارئ. ومن اللّه سبحانه استمد العون والهداية.

محمد جواد مغنية

_____________________

* راجع كتاب أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين الجزء الأول ص 46 الطبعة الاُولى.

 

ضرورَات الدين وَالمذهَب *

المسلم من صدّق مقتنعاً بكل ما اعتبره الإسلام من الأصول والفروع، والأصول ثلاثة : التوحيد، والنبوة، والمعاد، فمن شك في أصل منها، أو ذهل عنه قاصراً أو مقصراً فليس بمسلم، ومن آمن بها جميعاً جازماً فهو مسلم، سواء أكان إيمانه عن نظر واجتهاد، أم عن التقليد والعدوى، على شريطة ان يكون وفق الحق والواقع.

أما ما ذكره العلامة الحلي، والشهيد الثاني، وغيرهما، من وجوب الاستدلال والنظر في العقائد، وعدم كفاية التقليد فيها، فإِن المقصود منه التقليد الذي لا يوصل إلى الواقع، أما إذا كان سبيلاً للتصديق بالحق، فلا ريب في إجزائه وكفايته، وإلا لم يبق من المسلمين سوى واحد من كل مائة، ولذا قال العلامة الأنصاري في كتاب الفرائد : (والأقوى كفاية الجزم الحاصل من التقليد).

ويكفي من التوحيد الإيمان بوحدة اللّه تعالى، وقدرته وعلمه وحكمته، ولا تجب معرفة صفاته الثبوتية والسلبية بالتفصيل، ولا انها عين ذاته أو غيرها، ويكفي من النبوة الإيمان بأن محمداً، صلى اللّه عليه وآله وسلم، رسول من اللّه صادق فيما أخبر به، معصوم في تبليغ الأحكام، فإن الرسول قد يخبر عن الشيء بصفته الدينية المحضة أي كونه رسولاً مبلغاً عن اللّه تعالى، وقد يخبر عنه بصفته الشخصية، أي كونه إنساناً من البشر، فما كان من النوع الأول يجب

_____________________

* نشر في رسالة الإسلام المصرية العدد الرابع المجلد الثاني سنة 1950 .

التعبد به، وما كان من النوع الثاني فلا يجب.

أما التصديق والإيمان بأن النبي كان يسمع ويرى وهو نائم، كما يسمع ويرى وهو مستيقظ، وأنه يرى من خلفه كما يرى من أمامه، وانه عالم بجميع اللغات، وأنه أول من تنشق عنه الأرض، فليس من ضرورات الدين ولا المذهب.

ويكفي من المعاد الاعتقاد بأن كل مكلف يحاسب بعد الموت على ما اكتسبه في حياته، وأنه ملاق جزاء عمله، ان خيراً فخير، وان شراً فشر، أما انه كيف يحاسب العبد ؟ وعلى أية صورة بالتحديد يكون ثواب المحسن، وبأي لون يعاقب المسيء ؟ فلا يجب التدين بشيء من ذلك، فالتوحيد، والنبوة، والمعاد، دعائم ضرورية لدين الإسلام، فمن أنكر واحداً منها، أو جهله فلا يعد مسلماً شيعياً، ولا سنياً.

أما الفروع التي هي من ضرورات الدين، فهي كل حكم اتفقت عليه المذاهب الإسلامية كافة من غير فرق بين مذهب ومذهب، كوجوب الصلاة والصوم، والحج، والزكاة، وحرمة زواج الأم والأخت، وما إلى ذلك مما لا يختلف فيه رجلان من المسلمين، فضلاً عن طائفتين منهم، فإنكار حكم من هذه الأحكام إنكار للنبوة، وتكذيب لما ثبت في دين الإسلام بالضرورة.

والفرق بين الأصول والفروع الضرورية، أن الذي لا يدين بأحد الأصول يكون خارجاً عن الإسلام، جاهلاً كان أم غير جاهل، أما الذي لا يدين بفرع ضروري، كالصلاة والزكاة فإن كان ذلك مع العلم بصدوره عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، فهو غير مسلم، لأنه إنكار للنبوة نفسها، وإن كان جاهلاً بصدوره عن الرسالة، كما لو نشأ في بيئة بعيدة عن الإسلام والمسلمين، فلا يضر ذلك بإسلامه إذا كان ملتزماً بكل ما جاء به الرسول، ولو على سبيل الإجمال، فالتدين بالأصول أمر لا بد منه للمسلم، ولا يعذر فيها الجاهل، أما إنكار الاحكام الفرعية الضرورية فضلاً عن الجهل بها، فلا يضر بإسلام المسلم إلا مع العلم بانها من الدين، فالإمامة ليست أصلاً من أصول دين الإسلام، وإنما هي أصل لمذهب التشيع، فمنكرها مسلم إذا اعتقد بالتوحيد والنبوة، والمعاد، ولكنه ليس شيعياً.

ضرورات المذهب :

ضرورات المذهب عند الشيعة على نوعين : النوع الأول يعود إلى الأصول، وهي الإمامة، فيجب على كل شيعي امامي اثني عشري، أن يعتقد بإمامة الاثني عشر إماماً، ومن ترك التدين بإمامتهم عالماً كان أم جاهلاً، واعتقد بالأصول الثلاثة، فهو عند الشيعة مسلم غير شيعي، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، فالإمامة أصل لمذهب التشيع الذي يرجع معناه ودليله إلى حديث الثقلين (مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق).

النوع الثاني من ضرورات مذهب الشيعة يرجع إلى الفروع، كنفي العول، والتعصيب، ووجوب الاشهاد على الطلاق، وفتح باب الاجتهاد، وما إلى ذلك مما اختصوا به دون سائر المذاهب الإسلامية، فمن أنكر فرعاً منها مع علمه بثبوته في مذهب التشيع لم يكن شيعياً.

وأغتنم هذه المناسبة لألفت نظر من يحتج على الشيعة ببعض الأحاديث الموجودة في كتب بعض علمائهم، ألفت نظره إلى أن الشيعة تعتقد ان كتب الحديث الموجودة في مكتباتهم فيها الصحيح والضعيف، وان كتب الفقه التي ألفها علماؤهم فيها الخطأ والصواب، فليس عند الشيعة كتاب يؤمنون بأن كل ما فيه حق وصواب من أوله إلى آخره غير القرآن الكريم، فالأحاديث الموجودة في كتب الشيعة لا تكون حجة على مذهبهم، ولا على أي شيعي بصفته المذهبية الشيعية، وإنما يكون الحديث حجة على الشيعي الذي ثبت عنده الحديث بصفته الشخصية.

وهذه نتيجة طبيعية لفتح باب الاجتهاد لكل من له الاهلية، فإن الاجتهاد يكون في صحة السند وضعفه، كما يكون في استخراج الحكم من أية رواية.

ولا أغالي إذا قلت : أن الاعتقاد بوجود الكذب والدس بين الأحاديث ضرورة من ضرورات دين الإسلام من غير فرق بين مذهب ومذهب، حيث اتفقت على ذلك كلمة جميع المذاهب الإسلامية.

 

مِن أصُول الإماميَّة *

يتساءل البعض : لقد انقطع دابر الساسة الذين فرقوا المسلمين إلى مذاهب، فكيف بقي هذا الانقسام، وقد زالت أسبابه ؟

أجل، إن الانقسام كان في بدئه عرضياً - وما زال - ولكن سرعان ما تحول إلى انقسام جوهري عند الكثير من رجال المذاهب، فظنوا ان الاختلاف في الفروع والاعتبارات اختلاف في الأصل والجوهر، وما زال اثر هذا الظن الخاطئ حتى اليوم، على أن عمل الساسة في كل عصر يرتكز على بث روح العداء والتعصب عن طريق الأديان، وهذا هو السبب لاستمرار الانقسام والشقاق.

والغريب أن هذه الحقيقة يقررها الكثير من حملة الأقلام، ولكنهم يذهلون عنها وعن أنفسهم إذا وقع نظرهم على اختلاف يسير بين فقيهين من مذهبين، فيجعلونه اختلافاً دينياً، لا نظرياً.

وأغرب من ذلك أن ينسبوا لأحد المذاهب قولاً لم يقل به أحد من اتباع ذلك المذهب، أو قال به فرد أو أفراد خالفهم فيه أكثر فقهاء المذهب نفسه، فينسبون إلى أهل السنة أجمعين قولاً للأحناف، أو لفقيه منهم، وينسبون إلى الشيعة كافة، بما فيهم الإمامية، قولاً لغلاة الشيعة، أو لفقيه من الإمامية خالف علماءهم جميعاً، بل قد ينسبون إلى الشيعة قولاً لجاهل لا يفهم عن التشيع شيئاً.

هذا، والمعروف من مذهب الإمامية القول بفتح باب الاجتهاد، ولازم ذلك أن قول مجتهد أو جماعة من المجتهدين، لا يكون حجة على الآخرين،

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام العدد الثاني المجلد الخامس 1953 .

فمن الخطأ أن ينسب إلى مذهب الإمامية قول وجد في كتاب عالم منهم، ومن عرف طريقتهم، وتتبع كلمات علمائهم، تجلت له هذه الحقيقة بأوضح معانيها.

وعند الشيعة الإمامية كتب أربعة للمحمدين الثلاثة : محمد الكليني، ومحمد الصدوق، ومحمد الطوسي، وهي : الاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، والكافي، والتهذيب، وهذه الكتب عند الشيعة تشبه الصحاح عند السنة، ومع ذلك يقول الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه «كشف الغطاء» صفحة 40 «المحمدون الثلاثة رضوان اللّه عليهم كيف يعول في تحصيل العلم عليهم، وبعضهم يكذب رواية بعض بتكذيب بعض الرواة.. وما استندوا إليه مما ذكروا في أوائل الكتب الأربعة من أنهم لا يروون إلا ما هو حجة بينهم وبين اللّه، أو ما يكون من القسم المعلوم دون المظنون، فبناء على ظاهره لا يقتضي حصول العلم بالنسبة إلينا، لأن علمهم لا يؤثر في علمنا...»، وإذا كانت هذه الكتب الأربعة لا يعول عليها إلا بعد نقدها حديثاً حديثاً وفحصها دلالة وسنداً، فكيف ينسب إلى الشيعة ما لم يؤمن به الكل أو الجل ؟!

فإذا أراد الكاتب أن ينسب لأحد المذاهب أصلاً أو فرعاً يجب عليه قبل كل شيء أن يكون على معرفة بأقوال علماء المذهب واصطلاحهم وطريقتهم في تقرير الأصول، واستنباط الفروع، وأن ينقل عمن يعبر عن عقيدة الطائفة دون تعصب لها أو على غيرها من الطوائف.

على هذا الأساس، أساس النقل عن المرجع الذي اتفقت كلمة علماء المذهب على فضله واخلاصه للدين، والتجرد للحق، ننقل جملة من أصول مذهب الإمامية التي كثر حولها القيل والقال، ونسبت إليهم على غير وجهها جهلاً من الناقل أو نقلاً عن جاهل، أو عالم متعصب.

معنى الإسلام :

قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس سره في كتابه : «كشف الغطاء» باب الاجتهاد صفحة 398 : «يتحقق الإسلام بقول أشهد أن لا إله إلا اللّه، محمد رسول اللّه» أو بما يرادفه من أي لغة كانت، وبأي لفظ كان، فمن قاله حكم باسلامه، ولا يسأل عن صفات ثبوتية ولا سلبية، ولا عن دلائل التوحيد، وشواهد الرسالة(1).

أما الإيمان فهو التصديق بالقلب واللسان معاً، ولا يكفي احدهما دون الآخر.

معنى العصمة :

تضاربت الأقوال في تفسير العصمة، فمنهم من قال : ان المعصوم يفعل الطاعة مع عدم قدرته على المعصية، فهو مجبر على فعل الحسن، وترك القبيح، ومنهم من قال : ان للمعصوم غريزة تردعه عن المعصية، كما تردع غريزة الشجاعة عن الفرار، وغريزة الكرم عن الإمساك، وقال نصير الدين الطوسي في كتاب التجريد صفحة 228 طبع العرفان : «المعصوم قادر على فعل المعصية، وإلا لم يستحق المدح على تركها، ولا الثواب، ولبطل الثواب والعقاب في حقه فكان خارجاً عن التكليف وذلك باطل بالاجماع والنقل»(2)، وقال الشيخ المفيد : «ليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح، ولا مضطرة للمعصوم إلى الحسن، ولا ملجئة إليه»(3)، وعلى هذا يكون معنى العصمة عند الإمامية أن المعصوم يفعل الواجب مع قدرته على تركه، ويترك المحرم مع قدرته على فعله، ولكنه مع ذلك لم يترك واجباً، ولم يفعل محرماً.

أما جواز السهو على المعصوم فقال صاحب مجمع البيان(4) في تفسير الآية 68

_____________________

(1) الشيخ جعفر كاشف الغطاء شيخ الشيعة الإمامية، انتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، له كتاب : «بغية الطالب» و«رسالة العقائد الجعفرية» وغير ذلك، توفي سنة 1228 هجرية.

(2) نصير الدين الطوسي الحجة الكبرى لمذهب الإمامية، ومن كبار فلاسفة الإسلام توفي سنة 672 هجرية.

(3) كتاب «شرح عقائد الصدوق» للشيخ المفيد ص 61 طبعة ثانية تبريز، والمفيد شيخ مشايخ الإمامية، واستاذ الشريفين المرتضى والرضى، توفي سنة 413 هجرية.

(4) مجمع البيان من اعظم الكتب في تفسير القرآن للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من كبار علماء الإمامية. توفي سنة 548 هجرية.

من سورة الأنعام : «إن الإمامية لم يجيزوا السهو والنسيان على أئمتهم فيما يؤدونه عن اللّه تعالى، فأما ما سواه فقد جوزوا عليهم ان ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى إخلال العقل، وكيف لا يكون كذلك! وقد جوزوا عليهم النوم والاغماء، وهما من قبيل السهو، ومن نسب غير هذا إلى الإمامية فقد ظن ظناً فاسداً، وان بعض الظن اثم».

الحسن والقبح :

اتفق الإمامية على أن الحسن والقبح أمران عقليان لا شرعيان أي أن الشرع يأمر بالشيء، لأنه حسن، وينهى عنه، لأنه قبيح، وقال الأشاعرة «السنة» : ان الحسن والقبح يستفادان من الشرع، فكل ما أمر به الشرع فهو حسن، وكل ما نهى عنه فهو قبيح، ولولا الشرع لم يكن حسن ولا قبح، ولو أمر اللّه تعالى بما نهى عنه لانقلب القبيح إلى حسن، ولو نهى عما أمر به لانقلب الحسن إلى قبيح(1).

_____________________

(1) كتاب شرح التجريد ص 185 طبعة العرفان.

 

لا جَبر وَلا تَفويض *

ان مسألة الجبر والتفويض لهي من أهم المسائل النظرية وأقدم المعتقدات التي وقعت محلاً لمعركة الآراء وضلت لشدة غموضها العقول والأفكار، وهي من أهم الأسباب لتشعب المذاهب وتعدد الفرق، والموجب لتكفير أمة اختها رغم الروابط الدينية التي تربطها من جهة أخرى، وقد ملأت جانباً عظيماً من كتب التأليف والتصنيف، ونالت حظاً وافراً من البحث والتدريس والجدل عند الفلاسفة والسالكين مسلكهم قبل الإسلام وبعده، فمن رجع إلى كتب الحكمة والكلام والاخلاق، وأصول الفقه يجد الأشعري المعتنق لعقيدة الجبر والمعتزلي الذي يدين بالتفويض قد أتى بالكثير من المقدمات الضرورية والنظرية التي تتألف منها البراهين القطعية بزعم المستدل، والاقيسة العقلية، والأدلة السمعية من الكتاب والسنة، ثم يكر بعد ذلك على طريقة العرف وسيرة العقلاء فيضرب الأمثال من معاملة الموالي مع عبيدهم ويؤولها حسب ما يوافق مطلوبه، هذا، وهو يحسب أنه قد أحسن صنعاً بتمحيص الحق والاهتداء بنوره، ودحض الباطل والخروج من ظلمته، وكشف الأسرار الغامضة الدقيقة بالطرق الصحيحة، والأدلة التي لم يهتد إليها أهل العقول والانظار.

والحقيقة أن ما استند إليه كل من الطائفتين لو توجهت نحوه العقول وأعطته حق الإمعان والتأمل لجعلته هباء وحكمت عليه أنه تطويل بلا طائل، وأنه أدل دليل على ارتباك المستدل وخطئه حيث عد الشبهة دليلاً، والعليل صحيحاً، وجزم ان الهدف الذي يرمي إليه والغاية التي يحاول اثباتها ان هي الا صحة عقيدته التي غرست

_____________________

* - نشر في العرفان عدد آذار سنة 1937.

بذرها في نفسه يد الوراثة، وتأصلت جذورها في أعماق قلبه بتكرار النظر وطول الممارسة لما سطر (الكرام) الكاتبون من أسلافه، وزينها له اساتذته وشيوخه ببركة تلقينهم اياه، وتقليده اياهم، وتشعبت فروعها بمعاشرة قومه، والفة صحبه الذين يقدسون هذه العقيدة، ويرونها أصلاً من أصول دينهم الذي يوجب عليهم رعايتها والتعبد بها، ويتحتم على كل واحد منهم ان يصحح عقيدته بكل طريق ولو كان فاسداً في نفس الأمر والواقع، ويبطل ما ينافيها ولو كان حقاً، فبينما هو يورد الأدلة ويكر على حجة خصمه فيعارضها بالمثل أو يطعن في صغرى قياسه أو كبراه يستشهد بالاخبار النبوية (الراد على أهل هذه الطريقة كالشاهر سيفه في سبيل اللّه، وأهلها مجوس هذه الأمة)، إلى غير ذلك.

ونظراً لضيق المقام أعرضنا عن ذكر كلماتهم وبيان مواضع الخلل فيها، على الاخص استدلالهم بالنصوص السمعية فإن المسألة عقلية وليس للسمع أقل مساس فيها، فلا يصح التمسك بظواهر الكتاب والسنة في مثلها إثباتاً أو نفياً، فإن المتعين أولاً النظر إلى حكم العقل وتشخيصه عما عداه على نحوٍ لا يقع فيه الاشتباه والريب، ثم النظر إلى اللفظ الثابت عن الحكيم، فإن كان موافقاً بظاهره لحكم العقل كان مقرراً له، والا وجب تأويله بما يوافق العقل، كما هو المعروف من دين الإسلام وضروراته، ومن هنا نعرف محل الخطأ في قول القائلين ان الأحكام العقلية ساقطة عن الاعتبار، ان المتعين حصر المدارك، والأدلة بالسمع فقط مستدلين على ذلك بحكم العقل بصحة الجبر والتفويض معاً، مع أن تنافيهما من البديهيات، فمن حكمه بصحة الأمور المتضادة يستكشف سقوطه عن الاعتبار وعدم جواز الاعتماد عليه.

والحق أن أرباب هذه العقيدة هم الساقطون عن الاعتبار لا العقل الذي يكون الإنسان به إنساناً يمتاز عن سائر الحيوانات، فإن الحكم بعدم اجتماع المتنافيين اللذين لا جامع بينهما، ولا وحدة تربطهما من المعلومات البديهية، والمرتكزات الفطرية، وبعد أن كان الجبر والتفويض متعاندين ذاتاً فكيف يمكن صدور الحكم من العقل بصحتهما معاً، وجزمه بتحقيق كل منهما، وهل هو إلا نظير القطع بالوجود والعدم في محل واحد، وهذا أمر لا مرية فيه، وإنما الكلام في أن الجبر والتفويض، هل هما ضدان لا ثالث لهما بمعنى أن الواقع لا يخلو من احدهما، فكما امتنع العقل عن الحكم بصحتهما كذلك لا يحكم ببطلان كل منهما، بل لا محيص عن الأخذ بأحدهما وطرح الآخر، إما الجبر وإما التفويض نظير الحركة والسكون، فإن ارتفاعهما عن الجسم محال كاجتماعهما، أو أن هناك واسطة في البين فلا مانع من قبل العقل بثبوت أمر ثالث، وإنما المستحيل في نظره هو الحكم بصحة الجبر والتفويض معاً لا يبطلانهما، كما هو الحال في السواد والبياض، فانهما لا يشغلان معاً حيزاً واحداً في آن واحد، ولكن لا بأس بارتفاعهما وكون المحل مشغولاً بلون ثالث، وهذه الناحية هي التي تهمنا أكثر من جهة تتعلق بهذا الموضوع.

فنقول : ان أئمة الهدى عليهم السلام قد كشفوا لنا عن وجه الحق واهتدينا بكلامهم إلى الحقيقة التي يستصوبها العقل، وهو حاكم بفساد الجبر والتفويض بالمعنى الذي نذكره لهاتين اللفظتين، وصحة أمر بين الأمرين. أما الجبر الذي ينفيه العقل فهو حمل العبد على الفعل والترك بالقسر والغلبة على وجه لا يكون للعبد قدرة التخليص ولا قوة الامتناع والتحصن فايجاد فعل العبد فيهم كايجاد الثمرة في الشجرة والجريان في الماء، ولازم هذا القول حذف لفظ الطاعة والعصيان والمشيئة، وكل كلمة تشعر بالاختيار أو يتوقف معناها عليه من جميع اللغات فإنه لا طاعة بإكراه ولا مشيئة مع إِلجاء، ومن ذهب هذا المذهب أراد أن يثبت للّه تعالى القدرة فأثبت له الظلم والسفه والكذب (وليس اللّه بظلام للعبيد).

وأما التفويض الباطل فهو أن اللّه تعالى (أوجد العباد وأقدرهم على أعمالهم وفوض إليهم الاختيار فهم مستقلون بايجادها على وفق مشيئتهم وقدرتهم وليس للّه تعالى في أعمالهم صنع) وعلى هذا المسلك ينبغي أن يرضى اللّه تعالى بكل ما يفعله عبده ولا يؤاخذه بشيء مما يفعل، وقد حاول القائل به إِثبات العدل للّه فعزله عن سلسانه وشاركه في خلقه - يد اللّه مغلولة غلت ايديهم - وربما يكون لصحة هذا القول وجه، وهو أن العباد قد اجتمعت بأسرها وتجمهرت واتفقت يداً واحدة وتظاهرت على خالقها واظهرت التمرد والعصيان وطلبوا منه الاستقلال التام ففوض إليهم الأمر وأجراهم على مشيئتهم بعد أن عجز عن تطويعهم.

وإذا كان العقل حاكماً بفساد هذا الإفراط، وذاك التفريط تعين القول الفصل وهو صحة الأمر بين الأمرين، ولا نقصد منه أن فعل العبد مستند إلى قدرته وقدرة اللّه تعالى، وانهما قد تعاونا معاً على إيجاده، فإن ذلك ليس بأقل محذوراً من القول بالجبر، وهل يحسن العقاب من الباري تعالى على معصية كان هو أحد الفاعلين، وأقوى الشريكين، وإنما نعني بالأمر بين الأمرين أن اللّه تعالى أقدر الخلق على أعمالهم ومكنهم من أفعالهم، فهم يملكون الاستطاعة، لكن هو المملك، ثم أمرهم بالخير، ونهاهم عن الشر، ووعدهم بالثواب على الأول، والعقاب على الثاني، فإذا فعل العبد الخير والطاعة فيسند هذا الفعل إلى اللّه تعالى، لأن العبد فعله بالقدرة التي ملكها من خالقه، ولأنه قد رضي اللّه وأمره به، وينسب أيضاً إلى العبد لأنه قد اختار الخير مع قدرته على الشر. وأما إذا اختار فعل الشر وأتى به العبد فإنه وان فعله بالقدرة من اللّه تعالى إِلا أنه مع ذلك لا ينسب الشر إلى اللّه، بل هو مستند إلى العبد وحده وللّه الحجة عليه، حيث أنه لم يرض بفعل الشر، بل نهاه عنه، فالخير من اللّه تعالى لرضاه به وإقدار العبد عليه، حيث اقدره على الخير وللّه الحجة لو فعل العبد الشر، لعدم الرضى.

وإنما أعطاه القدرة على المعصية والشر مع عدم الرضى بهما حذراً من الالجاء، فإن المعصية إذا لم تكن مقدورة للعبد وكانت الطاعة تصدر منه رغماً عنه لما استحق مدحاً ولا ثواباً، فإن الفضل يظهر بالامتحان، فلا جبر على المعصية لأن اللّه كما اقدره عليها فقد أقدره على الطاعة وترك العصيان، ولا تفويض لأنه تعالى لم يترك الأمر إلى مشيئة العبد واختياره، حيث نهاه عن الشر وزجره عنه، هذا هو المقصود من الأمر بين الأمرين الذين عابوا الشيعة به وآخذوهم عليه، والذي يدلك على صوابه وأنه هو المتعين في نظر العقل دون سواه مضافاً إلى ما بيناه أن الإمام الرازي، وهو أحد الأقطاب المنتصرين لمذهب الجبر فإنه رغم ذكره مسألة الجبر في تفسيره ما يقرب عن عشرين مرة، وفي كل منها يقيم الأدلة والبراهين على صحة الجبر وبطلان غيره قد اعترف في أحد المقامات من حيث لا يشعر بفساد الجبر والتفويض. وصحة الأمر بين الأمرين، قال في المجلد الخامس صفحة 355 من تفسيره (إن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محض، والقول بأن العبد مستقل بافعاله قدر محض، وهما مذمومان والعدل أن يقال : إِن العبد يفعل الفعل ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها اللّه فيه) وهذا كلام قريب مما تقوله الإمامية.

 

الخِلاف لا يمنَع مِن الإنصَاف *

لقد اثبتت التجارب أن الأنظمة والقوانين لا يمكن أن تعيش إذا لم تستمد قوتها من إِيمان ديني أو فلسفي، وأن أي نظام لا يستقبله الشعب بالرضا والقبول لا يلبث أن يزول، وإن دعمته قوة النار والحديد. وهذه حقيقة اعترفت بها حتى الفاشية والشيوعية لأنها بديهة لا تقبل الشك والريب.

وقد راعاها الإسلام وأولاها عنايته، حيث لم يفرض أحكامه على غير المسلمين، وإنما ترك أهل الأديان وما يدينون، فما هو صحيح عندهم هو نافذ في حقهم، في نظر الإسلام، فالخمر والخنزير لا يملكهما المسلم، ويصح تملكهما، وتمليكهما لغير المسلمين، ومن أحكام الإسلام جواز أنكحة غير المسلمين، وإن لم تتوافر فيها الشرائط المعتبرة في أنكحة المسلمين.

وقد اتفقت المذاهب الإسلامية على هذا الأصل، ونطقت به كتبهم، فمن كتب السنة كتاب «البدائع والصنائع» ج 2 ص 310 و311 الطبعة الأولى، وكتاب «المغني» ج 6 ص 613 و627 الطبعة الثالثة : ان أنكحة غير المسلمين لها أحكام الصحة، لأنا قد أمرنا بتركهم وما يدينون، وفي المغني ج 6 ص 306 «مجوسي تزوج ابنته، فأولدها بنتاً، ثم مات عنهما فلهما الثلثان».

ومن كتب الشيعة الإمامية كتاب «الجواهر» باب الزواج والطلاق، وكتاب «مقابس الأنوار» أول باب الزواج : إِن ما في أيدي غير المسلمين من النكاح وغيره صحيح. وإن كان فاسداً عندنا، وان كل قوم يفرقون بين النكاح والسفاح فنكاحهم جائز، لحديث «الزموهم بما الزموا به أنفسهم».

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام عدد تشرين الأول سنة 953 .

وهذا مبدأ عام من مبادئ التشريع الإسلامي لا يختص بمذهب دون مذهب. بل أن فقهاء المسلمين قد تسامحوا أكثر من ذلك، قال صاحب المغني ج 8 ص 132 «من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة، ومن بعدهم، واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى اللّه، ومع ذلك لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأولهم».

وإذا كان الفقهاء يقرون ما في أيدي غير المسلمين من أنظمة وقوانين تخالف الشريعة الإسلامية، ولا يحكمون بتكفير الخوارج الذين كفروا الصحابة، واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم، لأن عقيدتهم تبيح ذلك لهم، فكيف يسوغ لمسلم أن يكفر طائفة تؤمن باللّه ورسوله واليوم الآخر، وتستمد أصولها وفروعها من كتاب اللّه وسنة نبيه، وتقول : من قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه حقن ماله ودمه، كيف يكفرها مسلم، لأنها تخالف المذهب الذي ارتضاه لنفسه، أو ورثه عن آبائه، تخالف مذهبه في بعض شرائع الزواج والطلاق، أو بعض مسائل الإرث والرضاع !

ان مذهب الخوارج يخالف جميع المذاهب الإسلامية السنة والشيعة، ومع ذلك فقد عذروهم فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا، اذن، بالاحرى أن تعذر طائفة إسلامية إذا خالفت المذاهب الأربعة في مسألة من مسائل الرضاع أو الإرث، مستندة إلى آية أو رواية.

إن الشيعة الإمامية لم يتقيدوا بمذهب من المذاهب الأربعة، وإنما اتبعوا طريقة الأصحاب والتابعين في استخراج الأحكام من الكتاب والسنة. فكل ما ادى إليه الكتاب والسنة فهو حجة عندهم، ولو خالف جميع المذاهب، لأن قول اللّه ورسوله فوق الأقوال كافة، أي أن الفقيه الإمامي يعمل بما أدى إليه نظره وفهمه لأصول الشريعة، لا بما فهمه فقهاء السنة أو الشيعة.

 

مِن اجتهَادات الإماميَّة *

منذ سنوات، وأنا أنشر بين حين وحين مقالات رجوت فيها شيوخ المسلمين من سنيين وشيعيين أن لا يحصر كل فريق دراسته الفقهية في مذهب آبائه وأجداده.

ولم يكن الباعث لي على تأكيد هذا الرجاء الرغبة في التقريب بين المذاهب الإسلامية فحسب، وان كنت من المتطوعين في هذي السبيل، وإنما غرضي الأول أن يرتكز درس الشريعة الإسلامية على أساس إسلامي صرف، لا مذهبي، كي لا تلون الشريعة بلون يخفي جمالها وحقيقتها، ويجنس بجنسية تقيم الحدود والسدود بين بني الإنسان، بل بين ابناء الدين الواحد.

لقد نشأت المذاهب، وتعددت بعد الإسلام ونبي الإسلام، نشأت في ظروف سياسية، لغاية دنيوية، تهدف إلى التفريق والشتات، ونشأ الإسلام في ظرفه الطبيعي، لغاية إنسانية تهدف إلى الاخاء والمساواة، فالتعصب لفقه مذهب خاص تعصب للسياسة المحترفة التي تمخضت عن ذلك المذهب.

إن الشريعة الإسلامية لم تستخرج من الوهم والخيال، بل لها أصول مقررة لا يختلف عليها مسلمان، مهما كان مذهبهما، وإنما الخلاف والجدال بين المذاهب حصل فيما يتفرع عن تلك الأصول، وما يستخرج منها، فالعلاقة بين أقوال المذاهب الإسلامية هي العلاقة بين الفرعين المنبثقين عن أصل واحد.

ونحن إذا أردنا معرفة أن هذا المذهب على حق في أسلوبه واستخراج الحكم من مصدره دون سائر المذاهب، فعلينا أن نلاحظ جميع الأقوال المتضاربة حول

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام عدد تشرين الأول سنة 1952.

الحكم، وندرسها بطريقة حيادية، بصرف النظر عن كل قائل وعن منزلته العلمية والدينية، ثم نحكم بما يؤدي إليه الأصل والمنطق على نحو لو اطلع عليه أجنبي لاقتنع بأنه نتيجة حتمية للأصل المقرر. وبهذا نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه.

أما من يطلع على قول مذهب من المذاهب، يؤمن به ويتعصب له، لا لشيء إلا لأنه مذهب آبائه، ويحكم على سائر المذاهب بانها بدعة وضلالة فهو مصداق الآية الكريمة : «وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل اللّه قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أوَلو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون».

وأي فرق بين رجل أفنى العمر في حفظ معتقدات أبيه ودرسها، لا يتجاوزها قيد أنملة، ورجل لم يقرأ، ولم يكتب، ولم يدرس شيئاً، ولكن تكونت له من بيته وبيئته عادات ومعتقدات ؟ أي فرق بين الرجلين حتى يقال : ذاك عالم، وهذا جاهل ؟!.

ليس العالم من وثق برأيه ومعتقد آبائه، وكانت له المقدرة التامة على المحاورة والمداورة، وإنما العالم من فصل الواقع عن ذاته وعاطفته، وفكر تفكيراً حراً مطلقاً، لم يتعصب لرأي على رأي، بل يقف من كل قول موقف الشك والتساؤل، وان كثر به القائلون، وآمن به الأقدمون.

إن احترام العالم يقاس باحترامه للحقيقة، فهي ضالته أينما وجدت. لقد اثبتت التجارب ان الاختصاص بعلم من العلوم يحتاج إلى ثقافة عامة، ومعرفة نظريات ومبادئ علوم شتى، فكيف يكون الإنسان متخصصاً بعلم، وهو لا يعرف عنه إلا قول عالم يخالفه فيه كثير من العلماء ؟ واستطيع التأكيد أن من الاجانب من يعرف عن الإسلام وتاريخه وشريعته ورجاله وعقائدهم ما لم يعرفه كثير من متخرجي الأزهر والنجف، وانه لغريب أن تقوم جامعتان، لهما تاريخهما وعظمتهما، احداهما في العراق، والثانية في مصر، يبحثان في موضوع واحد، ويهدفان إلى شيء احد : إلى نشر الشريعة الإسلامية، ثم لا يكون بينهما أي نوع من أنواع التعارف والتعاون.

إن في كتب الشيعة الإمامية اجتهادات لا يعرفها الخواص من علماء السنة، ولو اطلعوا عليها لقويت ثقتهم بالشيعة وتفكيرهم، وكذا الشأن بالقياس إلى كتب السنة وعلماء الشيعة، ان اطلاع كل فريق على ما عند الآخر من أقوى البواعث على تمهيد السبيل للتقريب بين الإخوة، من حيث يريدون أو لا يريدون.

وبعد هذا التمهيد الطويل الممل انتقل بالقارئ الصبور المحتسب إلى بعض الأمثلة من اجتهادات الشيعة الإمامية.

شهادة أهل المذاهب والملل.

قال الشهيد الثاني في كتاب المسالك باب الشهادات(1) : «اتفق أصحابنا على أنه لا تقبل شهادة غير الشيعي الاثني عشري، وإن اتصف بالإسلام، وفيه نظر، لأن الشرط في قبول الشهادة أن لا يكون الشاهد فاسقاً، والفسق إنما يتحقق بفعل المعصية، مع العلم بكونها معصية، أما مع اعتقاد أنها طاعة، بل من أهم الطاعات، فلا يكون عاصياً، ومن خالف الحق في الاعتقاد لا يعتقد المعصية، بل يزعم أن اعتقاده من أهم الطاعات، سواء أكان اعتقاده صادراً عن نظر أم تقليد، وبهذا لا يكون ظالماً، وإنما الظالم من يعاند الحق مع علمه به، وهذا لا يتحقق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم».

وهذا القول يتفق مع أصول الشيعة، حيث يثبتون أحكام الشريعة بحديث من خالفهم في الاعتقاد، إذا اجتنب الكذب، ففي كتاب نهج المقال للبهبهاني (ص 5) وغيره من كتب الرجال «إِن مشايخ الإمامية يوثقون المخطئين في الاعتقاد، كما يوثقون المصيبين من غير فرق، فيقبلون حديثهم، ويسمونه الموثق».

ان هذا الاجتهاد الذي خالف فيه الشهيد الثاني علماء مذهبه اجمعين مع علمه واعترافه بوجود هذا الاجماع لهو خير شاهد على انه باستطاعة الإنسان أن يتحرر من قيود البيت والمدرسة، وتقاليد الآباء والاجداد، وعلى ان سلطان العقل النير

_____________________

(1) هذا الكتاب مجلدان كبيران جمع أبواب الفقه بكاملها، وطبع مرات عديدة في إيران بالطبع الحجري، وهو للشهيد الثاني زين الدين العاملي، استشهد سنة 966 هجري، وله مؤلفات كثيرة، يرجع الشيعة إليها ويعتمدون عليها.

اقوى من كل سلطان.

بهذا الروح الكريم وهذا العقل الخصب، يجب أن تفسر الشريعة السهلة السمحة.

والعدالة التي يشترطها الشيعة في الشاهد القاضي ومرجع التقليد وامام الجماعة في الصلاة هي العدالة في الظاهر، لا في الواقع. قال الإمام الصادق : «لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء والأوصياء، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، ولم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة، وان كان في نفسه مذنباً»(1).

شهادة أرباب الصنائع.

قال بعض الفقهاء من غير الشيعة(2) : ان أرباب الصنائع الدنيئة لا تقبل شهادتهم، وجاء في كتاب الجواهر والمسالك وغيرهما من كتب الفقه للشيعة : ان أرباب الصنائع تقبل شهادتهم : مهما كان نوع الصنعة، لقوله تعالى : «ان أكرمكم عند اللّه أتقاكم» والصنعة لا تتنافى مع التقوى، ولا مع المروءة، خاصة لمن يتخذها مهنة دائمة، وان المجتمع في حاجة إلى الصنائع، ولو تركت لاختل النظام، وعم الضرر. أجل ان الشيعة لا يقبلون شهادة من يسأل الناس، لأن السؤال يتنافى مع المروءة وعزة النفس التي أمر بها الدين، وقال الشهيد الثاني في المسلك : الطفيلي بحكم السائل لا تقبل شهادته.

شركة الأبدان :

إذا اتفق اثنان على أن يقتسما بينهما ما يكتسبانه في أيديهما - وتسمى هذه الشركة شركة الأبدان - قال الإمامية : لا يصح ذلك بحال، من غير فرق بين أن يتفق عملهما بأن يكون كل منهما طبيباً - مثلاً - أو محامياً، وبين أن يختلف العمل بأن يكون أحدهما طبيباً، والآخر محامياً، واستدلوا على عدم الصحة

_____________________

(1) كتاب آيات الأحكام للشيخ أحمد الجزائري ص 309 طبع سنة 1337 هجري.

(2) كتاب المغني لابن قدامة ج 9 ص 169، الطبعة الثالثة.

بان كل واحد مستقل بنفسه، ومنافعه تابعة لعمله، فيختص بها دون سواه، ولو اشتركا لحق الغبن باحدهما، وأخذ ما لا يستحق(1) وهذا يتفق مع مبدأ الاشتراكية القائل «من كل حسب مقدرته، ولكل حسب عمله» وبناء على قول الإمامية لا يجوز أن يعمل طبيبان في عيادة واحدة، أو محاميان في مكتب واحد، أو خياطان، أو نجاران في محل واحد، على أن تكون ايديهما جميعاً في العمل، ثم يقتسمان الأجرة بينهما خوفاً من الغبن والاستغلال.

وفي كتاب المغني لابن قدامة ج 5 الطبعة الثالثة ص 3 «لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة : يصح في الصناعة، ولا يصح في اكتساب المباح كالاحتشاش وقال الشافعي : شركة الأبدان كلها فاسدة، لأنها شركة على غير مال».

التكافل والتضامن :

إذا كان لخليل مبلغ من المال في ذمة سليم، وقد ضمن هذا المبلغ جميل، وتعهد بأدائه لخليل صاحب الحق قال الإمامية : لا يحق لخليل المضمون له أن يطالب بماله من شاء منهما، بل ينحصر حقه بجميل الضامن فحسب، أما سليم المضمون عنه فلا سبيل له عليه، لأن الحق الواحد لا يتعدد ولا يثبت بتمامه في ذمتين، ومتى دفع جميل المال لخليل رجع على سليم، وطالبه بما أداه(2) وبناء على هذا القول لا يجوز أيضاً أن يستدين اثنان مالاً من آخر على أن يرجع صاحب المال بكامل ماله على أي شاء منهما. إذن التكافل والتضامن على هذا النحو فاسد عند الإمامية من أصله.

وفي كتاب المغني ج 4 ص 546 و548 «الحق ثابت في ذمتهما، أي الضامن والمضمون عنه ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما. وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، أي الحنفية والحنابلة أيضاً لأن الكتاب المذكور على فقههم، وعليه فالتكافل والتضامن عند السنة جائز.

_____________________

(1) الجواهر والمسالك باب الشركة.

(2) الجواهر والمسالك وجميع كتب الفقه للإمامية، لأن هذه المسألة مجمع عليها عندهم.

الشيعَة في نظَر الدكتور طهَ حُسين *

الطائفة الشيعية هي أهم الطوائف التي كثر حولها الجدال والنقاش، وتشعبت فيها أقوال الباحثين من شرقيين وغربيين قديماً وحديثاً، وقد صورها الكاتب الشهير الدكتور طه حسين بأنها حزب معارض لسياسة البغي والجور، لهذه الغاية انشئت، وعليها عملت، ولأجلها اضطهدت، وهذا ما دعاني إلى أن انقل للقراء رأي الدكتور في هذه الطائفة.

اخرج الدكتور المجلد الثاني من كتابه الكبير الفتنة الكبرى، وموضوع هذا المجلد «علي وبنوه» ابتدأه بخلافة الإمام علي، وختمه بمقتل ولده الحسين، ذكر ما قاله الرسول وأصحاب الرسول في مدح علي، وانه كان أهلاً لتلك الفضائل، ولأكثر منها، وانه على الرغم من الخطوب والمحن التي توالت عليه من كل جانب كان يمضي على الحق لا يلوي على شيء مهما تكن العاقبة. أما أخصام الإمام كعائشة ومعاوية وابن العاص وطلحة والزبير وغيرهم فقد عارضوه وخاصموه ليصرفوا الأمر عنه إلى أهوائهم وأغراضهم، وهذه الحقيقة اثبتها الدكتور بالوقائع والأرقام، وإليك هذا المثال على أسلوبه في اثبات الحقائق قال : «من الممكن أن يقال : أن معاوية اجتهد للناس فأخطأ أو أصاب، لكنه قاتل علياً على دم عثمان من جهة، وعلى أن يرد الخلافة شورى بين المسلمين من جهة أخرى، فلما استقام له السلطان نسي ما قاتل عليه، أو أعرض عما قاتل عليه» أي بعد أن أصبح معاوية دكتاتوراً لم يتتبع قتلة عثمان، وجعل الخلافة كسروية وقيصرية،

_____________________

* - نشر في العرفان تموز 1953 .

فنقلها إلى ولده الطاغية يزيد بالقهر عن المسلمين.

بهذا المنطق السليم حاكم الدكتور جميع القضايا التي تعرض لها في كتابه، أما النتيجة التي انتهى إليها فهي أن الذين حاربوا علياً، وكادوا له، وعارضوه فيما كان يراه من حق، هم وحدهم السبب في محنة الإسلام من ذلك العهد حتى آخر يوم، وهم وحدهم الذين أورثوا المسلمين عناء وخلافاً لم ينقضيا، ولن ينقضيا إلى أن يشاء اللّه.

وليس من غرضي التعريف بالكتاب من جميع نواحيه، ولو أردت ذلك لم أكتف بمقال أو مقالين، لأن الكتاب كبير جداً كبير بحجمه، كبير بحقائقه، كبير بما يثيره من المشاعر والأحاسيس، كبير بقدرة كاتبه على التعبير، وبراعته في الأداء، وانما غرضي أن أعرف القارئ برأي الدكتور في الشيعة، وبخاصة الشيعة أنفسهم، ليعرفوا أنهم بعيدون كل البعد عن روح عقيدتهم ومبادئهم.

ولم يخصص الدكتور طه فصلاً من كتابه للبحث عن الشيعة، وليته فعل ولكنه أشار إليهم بكلمات متفرقة في صفحات عديدة، لمناسبة ساقه إليها البحث من حيث يريد أو لا يريد وهي بمجموعها تعطينا الصورة التالية :

إن لكلمة الشيعة معنيين الأول : المعنى اللغوي، وهو الفرقة من الاتباع والانصار الذين يوافقون على الرأي والمنهج، فشيعة الرجل في اللغة هم أصحابه الذين اتبعوا رأيه، وهذا المعنى هو المقصود من قوله سبحانه «وان من شيعته لابراهيم - فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته» والشيعة بهذا المعنى كانوا موجودين في عهد الإمام بلا ريب.

الثاني : المعنى الاصطلاحي، وهو هذه الفرقة المتميزة بعقائدها وعوائدها الخاصة، والمعروفة عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخي الفرق، ويقصدونها عندما يطلقون كلمة الشيعة، والشيعة بهذا المعنى لم يكن لهم في عهد الإمام عين ولا أثر «وإنما كان للإمام في حياته أنصار وأتباع، وكانت كثرة المسلمين كلها أنصاراً له وأتباعاً».

ويعتقد الدكتور أن فرقة الشيعة بالمعنى الاصطلاحي المعروف إنما نشأت وتكررت وأصبحت حزباً سياسياً منظماً لعلي وبنيه بعد أن وقع الصلح بين الحسن ومعاوية، وبعد أن نكث هذا بالعهد ولم يف بما اشترطه على نفسه، تألف وفد من أشراف الكوفة برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي، وذهبوا إلى المدينة للقاء الحسن، وطلبوا إليه أن يعيد الحرب خدعة، وأن يأذن لهم في أن يسبقوا إلى الكوفة فيعلنوا فيها خلع معاوية، ويخرجوا منها عامله، فأمرهم الحسن بالكف والانتظار إلى حين، وبهذا الوفد تكونت أول بذرة لفرقة الشيعة «وكان برنامج الحزب في أول انشائه طاعة الإمام من بني علي، والانتظار في سلم ودعة حتى يؤمروا بالحرب فيثيروها، ومضى رجال الشيعة يسجلون على معاوية وولاته ما يتجاوزون به حدود الحق والعدل».

وكانت رئاسة الفرقة للحسن، ومن بعده لأخيه الحسين «وكان الحسين كأبيه صارماً في الحق، لا يرى الرفق، ولا الهوادة.. وأغرى حزبه بالاشتداد في الحق، والانكار على الأمراء الذين اسرفوا في أموال الشعب فأسرف معاوية وولاته في الشدة عليهم، حتى تجاوز كل حد، وعظم أمر الشيعة بسبب الاضطهاد، وانتشرت دعوتهم في شرق الدولة الإسلامية، وفي جنوب بلاد العرب، ومات معاوية حين مات، وكثير من الناس وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني أمية وحب أهل البيت ديناً» اذن كانت الشيعة في آخر عهد معاوية فرقة متميزة عن غيرها، لها عقيدتها وخصائصها.

وكان الشيعة منذ عهد معاوية إلى عهد العباسيين يثورون على الحكام الذين ساروا في حكمهم على سياسة الأرض ومن عليها ملك للسلطان، واكراه الناس على الخضوع والاعتراف بهذا الملك وتثبيته بالقتل والحبس والتشريد، ثار الشيعة وعارضوا الحاكم الذي حكم الناس بالغي واستبدل الجور بالعدل، والباطل بالحق، عارضوا الحاكم الجائر ولم يخضعوا لحكمه وجوره، فأمعن فيهم قتلاً وتعذيباً، فأمعنوا في محاربته غير مسالمين، ولا مهادنين ولا مكترثين بالموت والتعذيب في سبيل الحق، سخط الشيعة على سياسة الجور، فقتل من رجالهم من قتل كحجر بن عدي، والحسين ونسائه وأطفاله وأصحابه. ولم يكن نصيب الشيعة من الحكام بأقل من نصيبهم من المؤرخين والمحدثين، فقد أضاف هؤلاء إلى الشيعة أشياء وأشياء لا يعرفون شيئاً واحداً منها، أضافوا إليهم وافتروا عليهم إمعاناً في النيل، وغلواً في الخصومة والبغض، وارضاء للحكام، كما يفعل اليوم كثير من أرباب الصحف والمتأدبين مع الأحرار إِرضاء للمستعمر واذنابه الرجعيين والأقطاعيين.

والخلاصة أن الشيعة في نظر الدكتور طه هم فرقة انشئت وتكونت بعد الإمام علي بأعوام قليلة، وانها كانت حزباً معارضاً لسياسة الجور، والأوضاع الفاسدة، وأن هذه المعارضة كانت تظهر تارة في قالب الثورة، وحيناً باعلان السخط والتشنيع على الحاكم، وبسبب ذلك نسب إلى الشيعة ما ليس لهم به علم، وقتلوا وعذبوا، كما قتل علي والحسن والحسين.

وإذا كان مذهب التشيع يقوم على أساس الثورة على الظلم والاستبداد، فهل نحن شيعة حقاً ! وهل نحب علياً وبنيه ! ويا ليت اننا آثرنا العافية بالسكوت والانعزال، ولم نسر في ركاب الظالمين ننشد القصائد الطوال والخطب الرنانة في مديحهم والثناء عليهم.

وبعد فهل نحن شيعة ! أجل، نحن من ذرية أولئك السلف الذين ذكرهم الدكتور طه حسين وأكثر منهم عداً.

 

الشِّيعَة في كِتَاب الحضَارة الإسلاميَّة *

في القرن الرابع الهجري

هذا الكتاب ألفه الأستاذ (آدم متز)، وانتشر باللغة الألمانية، ونقل إلى الاسبانية، والانكليزية والعربية، والمؤلف أستاذ اللغات الشرقية بجامعة بازل بسويسرة، وتعد مصادر الكتاب بالمئات عربية وغير عربية، ومن جملتها مخطوطات أربت على الأربعين، موجودة في مكاتب برلين وباريس وليدن وليبتزج ومونيخ وفيينا ولندن، وبعض هذه لم ينشر حتى الآن.

وأفرد المؤلف الفصل الخامس من المجلد الأول للكلام عن الشيعة خاصة، وقد خلط كما فعل سواه عند ذكر عقائد الشيعة بين فرقهم المتعددة المتباينة أصولاً وفروعاً إلا أنه أرجع التشيع إلى أصل صميم في العروبة، كما هو الحق وخطأ القائلين : إنه - رد فعل من جانب العقل الإيراني يخالف الإسلام - والشيء الوحيد الذي يستوقف النظر في هذا الفصل هو انتشار مذهب التشيع قبل القرن الرابع وفيه وبعده في جزيرة العرب كلها، وفلسطين وشرقي الأردن وكثير غيرها من الأقطار الإسلامية، ويشعر كلامه أنه متعجب من هذا الانتشار المدهش، ويقر أنه يجهل الأسباب الباعثة عليه ويعترف بعجزه عن تعيين مبدأ التشيع في بعض ما عدده من البلدان، وهو لا يعزيه في شرقي الأردن وفلسطين إلى الفاطميين، وإنما يكتفي بقوله (لا أدري كيف كان ذلك).

وقد رأينا من الخير لقراء العرفان أن نقتطف لهم من الكتاب العبارات الآتية، ولعل بعض العارفين يجردون أقلامهم لاظهار هذه الجهة الهامة، ويرشدوننا

_____________________

* - نشر في العرفان شباط 1946 .

إلى مبدأ التشيع في تلك البلاد وسبب انتشاره فيها ثم يذكرون الباعث على انقراضه وزواله منها حتى لم يبق في بعضها شيعي واحد بل أهلها أصبحوا أشد الناس بغضاً للشيعة وتعصباً عليهم.

قال المؤلف : «أبانت لنا مباحث فلهوزن بصورة أدنى إلى الصواب أن مذهب التشيع ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب العقل الإيراني يخالف الإسلام، ومما يؤيد أبحاثه التوزيع الجغرافي للشيعة في القرن العشرين، وقد ألمع الخوارزمي إلى أن العراق هو الموطن الأول للتشيع وكانت الكوفة وبها قبر الإمام علي (ع) أكبر مركز للشيعة، وفي غضون القرن الرابع امتد مذهب الشيعة إلى البصرة، وأصبحت شيعية بعد أن كانت عثمانية، في القرن الخامس الهجري كان في البصرة ما لا يقل عن ثلاثة عشر مكاناً يتصل بذكرى علي، وكان يقدسها الشيعة، وكان أهل طبرية ونصف نابلس وقدس وأكثر عمان شيعة، ولا أدري كيف كان ذلك، ورغم قيام الدولة الفاطمية نلاحظ أن حزب الشيعة لم يتقدم إلا قليلاً، وإذا كان ناصر خسرو قد وجد أهل طرابلس عام 428 هجري شيعة فقد جاء ذلك من بني عمار كانوا هناك على مذهب التشيع، وكانت جزيرة العرب شيعة كلها عدا المدن الكبرى مثل مكة وتهامة وصنعاء وقرح، وكان للشيعة غلبة كلها عدا المدن أيضاً مثل عمان وهجر وصعدة، وفي بلاد خوزستان التي تلي العراق كان نصف الأهواز وهي القصبة على مذهب الشيعة. أما في فارس فكان الشيعة كثيرين على السواحل التي تتصل بالعراق وخصوصاً بالقرب من المتشيعين. أما في جميع المشرق فكانت الغلبة لأهل السنة إلا أهل قم، وكانت أصفهان تخالف قم كل المخالفة، ففي عام 345 وقعت بينهما فتنة كبيرة نشأت عن اختلاف المذاهب، وفي أواخر القرن الرابع الهجري لم يكن قد تم لمذهب الشيعة افتتاح البلاد التي يملكها اليوم، ولكنه كان سائراً في أحسن طريق يوصله إلى ذلك، بل كان الاضطهاد مما يساعد هذا المذهب على الانتشار».

من أين جاء مذهب التشيع ومتى ابتدأ في نابلس وطبرية وغيرهما من البلدان التي ليس فيها اليوم شيعي واحد ؟ وما هي الأسباب الباعثة على انقراضه وزواله من تلك الأماكن، وأي فرقة من فرق الشيعة، كان تستوطنها ؟

 

الغلاة في نظَر الإماميَّة *

الغلاة أصناف : منهم السبئية أتباع عبد اللّه بن سبأ، وهو أول من أظهر الغلو، قال هؤلاء : حل في علي جزء إِلهي واتحد بجسده، وبه يعلم الغيب، وأتى في الغمام، والرعد صوته، والبرق تبسمه، وينتقل هذا الجزء الإلهي بنوع من التناسخ من إِمام الى إِمام.

ومنهم الخطابية أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي، قالوا : إن جعفر الصادق هو إِله زمانه، قال الشهرستاني : قد بالغ الصادق في التبري من أبي الخطاب واللعن عليه.

ومنهم المفوضة قالوا : ان اللّه خلق الأئمة، ثم اعتزل تاركاً لهم خلق العالم، وتدبير شؤونه.

ومن الغلاة من يدين بثالوث مكوّن من الأب وهو علي، والابن وهو محمد، وروح القدس وهو سلمان الفارسي. ومن الطريف قول بعضهم : أن يوم الأحد معناه علي، ويوم الاثنين الحسن والحسين.

وقد ذكر الشهرستاني في كتاب الملل والنحل فرقاً عدة للغلاة(1)، ولكن هذه الفرق كلها ترجع إلى أن الأئمة آلهة أو أشباه آلهة أو أنصاف آلهة، وعلى أي الأحوال فإِن للغلاة دينهم الخاص، وهو لا يمت إلى الإسلام بصلة، وما زال كثير من الكتاب ينسب جهلاً أو تنكيلاً عقيدة الغلاة إلى جميع فرق الشيعة حتى الإمامية مع ان الإمامية قد استدلوا في كتب العقائد والأصول على كفر الغلاة ووجوب

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام تشرين الأول 1954.

(1) وهؤلاء الفرق بائدة لا وجود لها الآن إلا في بطون الكتب.

البراءة منهم، ومن كل ما فيه شائبة الغلو. ومن أدلتهم على نفي المغالاة الآية 77 / المائدة «قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل» والآية 15 / الزخرف : «وجعلوا من عباده جزءاً ان الإنسان لكفور مبين» وقول الإمام علي : (هلك فيّ اثنان مبغض قال، ومحب وغال) وقول جعفر الصادق : (وما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، واللّه ما لنا على اللّه حجة، ولا معنا من اللّه براءة، وإنا لميتون وموقوفون ومسؤولون، من أحب الغلاة فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا، الغلاة كفار والمفوضة مشركون، لعن اللّه الغلاة، ألا كانوا نصارى ألا كانوا قدرية ! ألا كانوا مرجئة ! ألا كانوا حرورية(1) أي خوارج، فالإمامية يعتقدون أن الخوارج الذين حاربوا علياً هم أفضل من الغلاة الذين ألهوه وألهوا أبناءه).

وأجمع علماء الإمامية على نجاسة الغلاة، وعدم جواز تغسيل ودفن موتاهم، وعلى تحريم اعطائهم الزكاة، وعلى أنه لا يحل للغالي أن يتزوج المسلمة، ولا للمسلم أن يتزوج الغالية مع أن الإمامية أجازوا الزواج بالكتابية، وأجمعوا أيضاً على أن المسلمين يتوارثون وان اختلفوا بالمذاهب والأصول والعقائد. قالوا : يرث المحق من المسلمين من مبطلهم، ومبطلهم من محقهم ومبطلهم إلا الغلاة يرث منهم المسلمون وهم لا يرثون من المسلمين(2).

أما عقيدة الإمامية بالصحابة، فيدل عليها قول إمامهم الرابع زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام في الصحيفة السجادية من دعاء له في الصلاة على اتباع الرسل. قال :

«اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة، والذين ابلوا البلاء الحسن في نصره وكانفوه واسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث اسمعهم حجة رسالاته وفارقوا الأزواج والأولاد في اظهار كلمته،

_____________________

(1) كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي المجلد الثالث صفحة 51 و52 طبعة 1301 هجرية.

(2) تجد هذه الفتاوى في باب الطهارة وباب الزكاة وباب الزواج وباب الارث من كتاب الجواهر وكتاب المسالك وكتاب العروة الوثقى وكتاب وسيلة النجاة الكبرى للسيد أبي الحسن الأصفهاني وغيرها من كتب الفقه للشيعة الإمامية.

وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر، إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا عليك، وكانوا مع رسولك دعاة لك وإليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثرت في اعزاز دينك من مظلوميهم».

وروى سلام بن أبي مطيع عن أيوب السختياني عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال : لما طعن عمر بن الخطاب بعث إلى حلقة من أهل بدر كانوا يجلسون بين القبر والمنبر، فقال : يقول لكم عمر انشدكم الّله أكان ذلك عن رضا ؟ فتلكأ القوم، فقام علي بن أبي طالب فقال له، وددنا انّا زدنا في عمره من أعمارنا. وروى أبو نعيم الحافظ عن محمد بن حاطب عن علي بن الحسين قال : أتاني نفر من أهل العراق، فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان، فلما فرغوا قال لهم علي ابن الحسين : ألا تخبروني، أنتم المهاجرون الأولون الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً، وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصادقون ؟ قالوا لا، قال : فأنتم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ؟ قالوا لا، قال : أما أنتم فقد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، ثم قال : أشهد أنكم لستم من الذين قال اللّه عز وجل فيهم :

«والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم» اخرجوا فعل اللّه بكم(1).

وقال الشيخ المفيد من كتاب «شرح عقائد الصدوق» ص 63 طبعة ثانية «تبريز» : «الغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين علي بن

_____________________

(1) من مقال للشيخ محمد صالح الحائري المازندراني، وهو من كبار علماء سمنان بإيران نشره بعنوان «إلى اخواننا المسلمين» في رسالة الإسلام التي تصدر عن دار التقريب بمصر العدد الرابع من السنة الثالثة.

أبي طالب، والأئمة من ذريته إلى الألوهية والنبوة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد، وخرجوا عن القصد، فهم ضلال كفار.

يتبين من هذا أن الشيعة الإمامية لا يغالون في أئمتهم «ع»، ولا يكرهون أصحاب الرسول «ص»، فنسبة الغلو إليهم في الحب والبغض كذب وافتراء.

 

الشيعَة في كِتَاب الدّيمقراطيَّة *

للاستاذ خالد محمد خالد

الكاتب الكبير الاستاذ خالد محمد خالد درس في الأزهر، وحاز شهادته العالية، فهو من رجال الدين، ولكنه لا يلبس العمة، ولا يرضى عنه كثير من الشيوخ الأزهريين وغير الأزهريين أما خطيئته الكبرى عندهم فهو كتابه «من هنا نبدأ» وقد تكلمت عنه في عدد شباط سنة 1951 من مجلة العرفان الغراء وليس في الكتاب نفاق ولا رياء، ليس فيه تمجيد لملك أو أمير، ولا ثناء على إقطاعي أو رأسمالي، ليس فيه كلمة واحدة تشعر بأنه يريد أن يجلب لنفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضراً. بل ان كتاب «من هنا نبدأ»، وكتاب «مواطنون لا رعايا»، وكتاب «الديمقراطية تمجيد للحرية والكرامة، وثورة على الاستعمار والاقطاعية والرجعية»، إن هذه الكتب الثلاثة تعبر تعبيراً صادقاً عما يجيش في صدر كل عربي مخلص، وتزيده إيماناً بحقه، وتمسكاً بآماله، وإِخلاصاً لوطنه وحباً بالموت في سبيل الحرية والاستقلال.

تكلم الأستاذ خالد عن الاستعمار والدكتاتورية والاقطاعية، واستمد كلامه عنها من شجاعته وإخلاصه، من علمه وتجرده، من أعماق نفسه، لا من التقاليد والعادات، ولا من قال ويقول، فلم يقلد أحداً في قول أو فعل، ولم يعبأ بأية قوة تعترض مشيئة الشعب، وتقف في طريق حياته وتقدمه، ولهذه الغاية استقبل القراء في البلاد العربية آراءه ودعوته إلى الحرية والتحرر من الاستعمار والإقطاعية استقبالاً عظيماً، ولو أن المؤلف اعتمد على المصادر الصحيحة، على الدرس المجرد، والتمحيص العلمي عندما تكلم عن إخوانه الشيعة في كتابه

_____________________

* - في العرفان عدد تشرين الثاني سنة 1953.

الديمقراطية كما هو شأنه في الكلام عن الإستعمار والإقطاعية لما عتب عليه أحد منهم. أما وقد نقل عنهم ما ليس لهم به علم فيحق لهم أن يعتبوا أو يدافعوا.

تكلم الأستاذ خالد في كتاب الديمقراطية عن الأنظمة التي يجب العمل بها، فدعا إلى سن قوانين تنظم مصالحنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعتمد على العرف والمصلحة والعقل، وتتجه نحو الأغراض الدينية، وبهذا تصبغ القوانين بصبغة القومية تحفظ وحدة الأمة وترعاها، ولا تثير جدالاً ولا ضغناً، ولا يضار الدين بشيء من مبادئه وتعاليمه.

ورد على القائلين بتوحيد التشريع الإسلامي، رد عليهم بأن هذا يتنافى مع الدعوة لاتحاد إِسلامي، لأن بين السنة والشيعة خلافات عميقة في الفقه والتشريع، وضرب على هذا الخلاف العميق السحيق أمثلة من فقه الشيعة. فالمؤلف إِذن لم يكن بصدد الرد على الشيعة، ولا انتقاص مذهبهم ومنهجهم، فليس لأحد أن يتهمه بقصده وحسن نيته، ولكن للقارئ الحق في أن يسأله عن الدليل على أن الشيعة ينكرون رمي الجمار في الحج، والسعي بين الصفا والمروة، ولا يعترفون بغير القرآن.

وللقارئ الحق في أن يسأل أيضاً : لماذا ضرب المؤلف أمثلة من فقه الشيعة فقط، مع أن الخلافات بين مذاهب أئمة السنة أعمق بكثير من الخلافات بين السنة والشيعة، ففي المسألة الواحدة يفتي بعض الأئمة بأن هذا حرام، ويفتي الآخر بأنه حلال، أو يفتي بأن هذا نجس، ويفتي الآخر بطهارته، أو يفتي بصحة معاملة والآخر بفسادها، ومن البديهة أنه ليس بين الحلال والحرام، ولا بين الطهارة والنجاسة، ولا بين الصحة والفساد أية جامعة أو شبه، واللفظ لا يدل على التحريم والحل معاً، ولا على الطهارة والنجاسة، أو الصحة والفساد في دلالة واحدة.

وتجد هذه المسائل الخلافية بين المذاهب الأربعة في كل باب من أبواب الفقه، وقد شغلت الحيز الأكبر من كتب الشريعة، حتى أن ما اتفقوا عليه لا يعد شيئاً بالقياس إلى ما اختلفوا فيه، ومن هنا جاءت اجتهادات الشيعة موافقة لقول إمام من الأربعة ولم تخالفهم مجتمعين إِلا نادراً، وقد اشتهر عن نور الدين المرعشي قاضي قضاة أكبر آباد أنه بقي في منصبه أمداً طويلاً يقضي على مذهب الإمامية بما لا يخالف المذاهب الأربعة. ونقدم بعض الأمثلة للتدليل على أن بين المذاهب الأربعة من الخلاف ما لا يمكن التقريب بينها بحال.

أباح مالك أكل الذئب والدب والهرة، وجميع حشرات الأرض كالفأر والذباب والدود على كراهة، وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بالتحريم(1) وبهذا قال الشيعة.

وقال مالك : بطهارة الكلب مع قول أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل بالنجاسة(2) وبهذا قال الشيعة.

وقال الشافعي وأحمد لا تنعقد صلاة الجمعة إلا باربعين شخصاً، وقال أبو حنيفة تنعقد بأربعة أشخاص(3) واختلف الشيعة، فمنهم من قال : لا تنعقد إلا بسبعة، ومنهم من قال تنعقد بخمسة أحدهم الإمام.

وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد : ان القاتل خطأ لا يرث من مال قريبه المقتول شيئاً، وقال مالك : يرث من المال دون الدية(4) وبهذا قال أكثر الشيعة.

وقال مالك : إن الحامل إذ بلغت ستة أشهر فليس لها أن تتصرف فيما زاد عن ثلث مالها، مع قول الثلاثة بالجواز(5) وبهذا قال الشيعة.

إلى غير ذلك من الخلافات التي وضع لها فقهاء الإسلام مجلدات عديدة لا مجلداً واحداً.

والغرض من هذه الأمثلة التدليل على أن الخلافات، كما هي واقعة بين السنة والشيعة، فهي حاصلة بين السنة بعضهم مع بعض، وبين الشيعة أيضاً بعضهم مع بعض، ولكن قد اتفقت كلمة الجميع بحمد اللّه تعالى، كي لا يكون لعدو الإسلام مغمز عليه وعلى المسلمين، اتفقت كلمتهم على أن هذه الخلافات كلها مرتبطة بالشريعة، لم يخالف واحد منها نصاً من نصوص الإسلام، وانها رحمة لهذه الأمة، وتوسعة عليها، ونفي للإكراه والحرج في الدين وهذي هي الثمرة

_____________________

(1) ميزان الشعراني. باب الأطعمة.

(2) نفس المصدر باب الطهارة.

(3) نفس المصدر باب صلاة الجمعة.

(4) كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة باب الفرائض.

(5) ميزان الشعراني باب الوصايا.

الطيبة لفتح باب الاجتهاد الذي يقول به الشيعة ويؤمنون به إيمانهم بالإسلام وشريعتته.

عندما قرأت كتاب الديمقراطية كتبت لمؤلفه الأستاذ خالد كتاباً مطولاً، شرحت فيه أقوال الشيعة على حقيقتها في المسائل التي نقلها عنهم، ورجوته أن يستدرك، ويصحح النقل على أساس ما في كتبهم، كما يستدعيه المنطق السليم، ولا يعتمد على كتب غيرهم كائناً من كان مؤلفها، لأن خصوم الشيعة قد نسبوا إليهم الكثير مما لا يعرفون إمعاناً في الكيد والتنكيل، فأجابني بكتاب قال فيه :

«أما عن الشيعة فالأمر كما أدركتم فضيلتكم لم أكن معهم على موعد، ولم أقصد مناقشة تفكيرهم ومناهجهم. بل ضربتهم مثلاً لما يمكن أن يعتاق الوحدة السياسية لبلاد الشرق الأوسط المنهوب إذا نحن أصررنا على إغفال الروابط الإنسانية الشاملة، وتشبثنا بالروابط الدينية وحدها. أما الشيعة بالذات فلهم في نفسي تقدير خاص، ولا يمكن أن ننسى من أعلامهم أولئك الذين بذلوا جهداً سخياً واعياً في سبيل تحرير الفقه الإسلامي من اغلاله، وتنقيته من الرواسب والشوائب وأرجو ان نلتقي في يوم قريب».

وكان عزمي أن أقف عند هذا الحد مكتفياً بكتابي وجوابه غير أن الكثير من علماء الشيعة آلمهم قول الأستاذ خالد، وحمله بعضهم على غير واقعه ومحمله الصحيح، وظن الظنون بصاحب الكتاب، وأنه تحدى شعور الملايين من المسلمين بقصد الشقاق وتفرقة الصفوف، وبهذا الحافز حاول الرد عليه أكثر من واحد.

وفي عقيدتي أن الأستاذ خالداً لم يقصد ذم الشيعة من قوله في صفحة 148 «وهم أي الشيعة يخالفون الإسلام في كثير من نصوصه» بدليل ما نقله عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بعد هذا الكلام بلا فاصل. قال في صفحة 150 «ترك عمر بن الخطاب النصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة عندما دعته المصلحة لذلك، فبينما يقسم القرآن للمؤلفة قلوبهم حظاً من الزكاة، ويؤديه الرسول وأبو بكر، يأتي عمر فيقول : لا نعطي على الإسلام شيئاً، وبينما يجيز الرسول وأبو بكر بيع أمهات الأولاد، يأتي عمر فيحرم بيعهن، وبينما كان الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحداً بحكم السنة والإجماع، جاء عمر فترك السنة وحطم الإجماع».

نقل هذا في معرض المدح والثناء على اجتهاد عمر وتحرره، فهل لقائل والحال هذه أن يقول : صاحب كتاب الديمقراطية متعصب ضد الشيعة ! بعد أن ساواهم بالخليفة الثاني ! وعلى أي الأحوال فإن الشيعة مهما اجتهدوا فإنهم يتعبدون بكل ما ثبت من نصوص الإسلام، ويحرمون الاجتهاد ضد النص، فهم متحررون من التقاليد ومن كل قيد ما عدا القيد الذي يفرضه الدين والعقل.

رغب إلي بعض إخواني الفضلاء الذين احترم علمهم وآراءهم أن أعود إلى الموضوع على أن أنشر أقوال الشيعة فتوى ودليلاً لكل مسألة نقلها صاحب كتاب الديمقراطية عنهم، فأجبت راجياً أن تجد كلمتي هذه عندهم الرضا والقبول، كما أرجو أن تعطي المؤلف الفاضل صورة صادقة واضحة عن جهل وتعصب الذين اعتمد عليهم في بعض ما نقله عن الشيعة، وكيف أنهم يضللون رجلاً بريئاً كالاستاذ خالد.

نقل الأستاذ في صفحة 148 من كتاب الديمقراطية أن «الشيعة لا يعترفون بغير القرآن، بل ان لبعض طوائفهم قرآناً غير قرآننا، وهم لا يعترفون بالسنة واحاديث الرسول التي يرويها وينقلها أئمة أهل السنة».

لا أدري إذا كان أحد من الشيعة يعرف هذه الطائفة التي لها قرآن غير قرآننا، أما أنا فلا أعرف عنها شيئاً، ولم أسمع بها من قبل، ولا أريد أن أتعرف إليها أبداً، إن كان لها وجود، لأني أعتقد أنا، ويعتقد كل شيعي معي أن من لا يؤمن بهذا القرآن الذي بين أيدينا فهو كافر ليس من الإسلام في شيء، لا هو مسلم سني، ولا مسلم شيعي، كما إني لا أعرف أحداً من الشيعة يعترف بالقرآن دون السنة وأحاديث الرسول. إن الشيعة يعتقدون بأن القرآن والسنة شيء واحد من حيث وجوب العمل والاتباع، وإن من أنكر سنة الرسول فقد أنكر القرآن نفسه، لقوله تعالى «ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا» وهذه كتبهم في الفقه وأصوله، والحديث ورجاله، وهي تعد بالمئات تعلن بصراحة أن أدلة الشريعة الإسلامية، ومصادر أحكامها أربعة : الكتاب، والسنة، والاجماع، والعقل.

ميراث البنت

وقال في الصفحة نفسها «والشيعة يجعلون المال كله لذي الغرض» يشير إلى مسألة ما إذا توفي إِنسان، وله بنت أو أكثر، وليس له ولد ذكر، وله أخ، أو كانت له أخت أو أخوات، وليس له أخ ذكر، وله عم فإن أهل السنة يشاركون أخا الميت مع ابنته في الميراث، ويشاركون عمه مع أخته، والشيعة يقولون أن التركة بكاملها للبنت أو البنات، وليس لأخ الميت شيء، وإذا لم يكن له أولاد، وكان له أخت أو أخوات، فالمال كله للأخت أو للأخوات، ولا شيء للعم، لأن من كان بينه وبين الميت درجة واحدة فهو بميراثه أولى ممن كان بينه وبينه درجتان أو أكثر، والمذاهب الأربعة تعترف بهذه القاعدة، قاعدة الأقرب فالأقرب في مسألة العصبة، لأنهم قالوا : أن عصبة الأقرب كالأخ تمنع الأبعد كالعم. وآية أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه من المؤمنين والمهاجرين كما دلت على أن القريب أولى من الغريب في الميراث، فقد دلت أيضاً على أن الأقرب أولى ممن هو دونه في القرابة، وليس من شك في أن البنت أقرب إلى الميت من أخيه، كما أن أخته أقرب إليه من عمه.

وآية «للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً» دلت على التساوي بين الذكور والاناث في استحقاق الإرث ومراتبه وكما أن بين الإبن والأب درجة واحدة فبين الأب والبنت درجة واحدة أيضاً، لأن كلاً منهما يصدق عليه لفظ الوالد عرفاً ولغة وشرعاً، قال تعالى «فاستفتهم ألربك البنات، ولهم البنون - وفي آية أخرى - ما كان للّه أن يتخذ ولداً» فإذا كان الإبن يحجب عمه لأنه ولد، فالبنت تحجبه أيضاً لأنها ولد.

ومن هنا يتبين أن قوله تعالى «إن امرؤ هلك وليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن ولد» يتبين أن الأخ والأخت لا يرثان شيئاً إِلا مع عدم وجود الإبن والبنت، لأن كلاً منهما ولد حقيقة.

وقيل : أن اختصاص البنت الواحدة أو البنات بالميراث كله يتعارض مع نص الآية 11 من سورة النساء «فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد» فاللّه سبحانه فرض للبنت الواحدة النصف مع عدم الإبن، وللبنتين فما فوق الثلثين، والشيعة يعطون البنت الواحدة جميع التركة، وكذلك البنات.

والحقيقة أن هذه الآية لا تصلح للاعتراض على الشيعة، لأنها لا تدل على أن ما زاد على الثلثين لا يرد على البنتين، وما زاد على النصف لا يرد على البنت ويؤيد هذا أمور :

1 - ما قاله أبو حنيفة وابن حنبل : إِذا خلف الميت بنتاً أو بناتاً، وليس معهن أحد من أصحاب الفروض والعصبات، فالمال كله للبنت، النصف بالفرض، والباقي بالرد. وكذلك للبنتين الثلثان بالفرض، والباقي بالرد، فإذا كانت الآية لا تدل على نفي الرد على أصحاب الفرض في هذه الصورة كذلك لا تدل على النفي في غيرها، لأن الدلالة الواحدة لا تتجزأ.

وقال مالك والشافعي يعطى الزائد عن الفرض لبيت المال(1).

وقال صاحب كتاب المغني البنت أولى من بيت المال، لقوله تعالى «أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه» وبهذه الآية عينها استدل الشيعة على أولوية الأقرب.

2 - إذا ترك أباً وبنتاً فقد اتفقت كلمة المذاهب السنية كلها(2) على أن السدس للأب بالفرض، والنصف للبنت كذلك والفاضل يرد على الأب وحده فيأخذ هو النصف، والبنت النصف، مع أن اللّه سبحانه قال «ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إِن كان له ولد» فكما أن هذا الفرض في هذه الآية لا ينفي أن يكون للأب ما زاد على السدس، كذلك الفرض في قوله تعالى «فلهن ثلثا ما ترك، ولها النصف» لا ينفي أن يكون للبنات ما زاد على الثلثين، وللبنت ما زاد على النصف، خاصة، وإن فرض البنات والأبوين وارد في آية واحدة، وسياق واحد.

والشيعة ترد الفاضل على البنت والأب معاً، ولا ترده على الأب وحده، فيعطون الربع للأب وثلاثة أرباع للبنت.

3 - قال أبو حنيفة وابن حنبل : إِن للأم المال كله في بعض الحالات، تأخذ

_____________________

(1) كتاب المغني ج 6 صفحة 201 الطبعة الثالثة، وميزان الشعراني باب الفرائض.

(2) كتاب المغني ج 6 صفحة 177 الطبعة الثالثة.

الثلث بالفرض والثلثين بالرد(1) مع أن فرضها في القرآن السدس أو الثلث «فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس».

4 - قال اللّه عز وجل «واستشهدوا شاهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان» نصت هذه الآية الكريمة على أن الدين يثبت بشاهدين، وبشهادة رجل وامرأتين، مع أن بعض المذاهب الأربعة أثبته بشاهد ويمين، بل قال مالك : يثبت بشهادة امرأتين ويمين(2) فكما أن هذه لا تدل على أن الدين لا يثبت بشاهد ويمين، كذلك آية الميراث لا تدل على أنه لا يرد على البنت والبنات، والأخت والأخوات. فالشيعة يوجبون رد ما زاد عن فرض البنت على البنت، وما زاد عن فرض الأخت على الأخت، لأن البنت أقرب من الميت من أخيه، وأخته أقرب إليه من عمه، والأقربون أولى، والشيعة لا يثقون بحديث طاوس «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولي عصبة ذكر» ولو وثقوا به لقالوا بمقالة أهل السنة، كما أن أهل السنة لولا ثقتهم بهذا الحديث لقالوا بمقالة الشيعة.

وقال صاحب كتاب الديمقراطية في صفحة 149 «ومنهم أي من الشيعة من ينكر معظم أركان الحج، فرمي الجمار عندهم ضلالة، والسعي بين الصفا والمروة عبث»

يحج في كل عشرات الألوف من الشيعة إلى بيت اللّه الحرام، ويطوفون مع إخوانهم السنة بين الصفا والمروة كتفاً إلى كتف، ويرمون معهم الجمار جنباً إلى جنب، وهذي كتبهم تنطق بذلك بكل صراحة ووضوح، منها الجواهر والمسالك والحدائق، وسائر كتب الفقه، وجميع مناسك الحج، وهذه توزع في النجف وإيران بلا عوض على كل طالب وراغب.

وقال المؤلف في الصفحة نفسها «كادت تحدث مأساة في موسم الحج هذا العام، لأن زعيماً إسلامياً كبيراً أراد أن يمارس بعض مناسك الحج على طريقة مذهبه الشيعي بما يتعارض تعارضاً مثيراً مع مقتضيات العرف الإسلامي، فأحدث هذا من الهرج ما كاد يفضي إلى شر وسوء.

_____________________

(1) ميزان الشعراني باب الفرائض.

(2) ميزان الشعراني ج 2 صفحة 258 طبعة سنة 1311 هجرية، والمغني ج 9 ص 151 الطبعة الثالثة.

هذا الزعيم الإسلامي الشيعي هو آية اللّه الكاشاني - كما أعلم - وقد اجتمعت به في لبنان بعد أن أدى فريضة الحج عائداً من مكة إلى بلده إِيران، وسمعته يتحدث عن سفره وحجه فلم يشر من قريب ولا من بعيد إلى الهرج المذكور، أو إلى أي شيء حدث بسبب ما أداه من أفعال الحج، ولا شيء من واجبات الحج عند الشيعة يتعارض مع العرف الإسلامي، أو يحدث هرجاً يفضي إلى سوء، وهذه هي واجبات الحج، كما هي مدونة في كل منسك من مناسك الحج، وفي كل كتاب من كتب فقه الشيعة، وكما يؤديها كل مسلم شيعي، بلا زيادة ولا نقصان، وهي الإحرام والوقوف بعرفات، والوقوف بالمشعر، ونزول منى، والرمي والذبح، والحلق والطواف، وركعتاه، والسعي، وطواف النساء وركعتاه.

وهناك أمر يحدث في كثير من مواسم الحج يظن من لا ينتبه إليه أن الشيعة يخالفون إخوانهم السنة في بعض أفعال الحج، مع أنه لا خلاف بينهما في واقع الحال. وهذا الأمر هو ثبوت أول شهر ذي الحجة، فإِن أفعال الحج موقتة بأيام الشهر الهلالي، فلا يجوز أن تتقدم عن وقتها أو تتأخر، ويصادف أن يثبت أول الشهر عند السنة، ولا يثبت عند الشيعة، فيقف - مثلاً - السني في عرفات يوم الاثنين، لأنه يعتقد أن أول الشهر يوم الأحد، بينما يحاول الشيعي جاهداً وحرصاً على أداء الواجب في حينه أن يقف يوم الثلاثاء لاعتقاده بأن أول الشهر الاثنين. وليس هذا خلافاً في حكم الشرع، ولا في موضوعه، وإنما هو خلاف في ظرف العمل الذي يخرج تشخيصه وتطبيقه عن اختصاص الشرع، فالخلاف بين السنة والشيعة في ذلك كالخلاف بين أهل الشام والعراق على ثبوت هلال شوال، وتعيين عيد الفطر(1).

وأراني قد أتعبت القارئ بهذا التطويل والقال والقيل، ولا أظنه رافقني واستطاع معي صبراً إلى هنا، فلعله اكتفى بقراءة العنوان، أو لعله قرأ العنوان وبعض الأسطر، وولى مدبراً لا يلوي على شيء.

_____________________

(1) جاء في جريدة الجمهورية المصرية عدد 27 نيسان سنة 1955 أن عيد الأضحى في مصر كان سنة 939 يوم الاثنين، وفي المملكة العربية السعودية يوم الثلاثاء وفي بومباي يوم الأربعاء.

 

الشّيعَة الإماميَّة * في كِتَاب تاريخ التشريع الإسْلامي ، المقرر للتدريس في الأزهر

هذا الكتاب للأستاذ عبد اللطيف السبكي، ومحمد علي السايس ومحمد يوسف البربري المدرسين في كلية الشريعة بالجامع الأزهر، طبع سنة 1355 هجري - 1936 م، وهو مقرر للتدريس في الأزهر الشريف يقرأه الألوف من الطلاب والشيوخ، وينتشرون في الأقطار الإسلامية يبثون تعاليمه في المساجد والمنتديات، ليصير عقيدة في النفوس يورثها الآباء للأبناء، والجيل الحاضر للمستقبل.

وإذا كان الكتاب بهذه المكانة من الانتشار والتأثير كان على الذين وضعوه، وعملوه أن يتحروا الحقيقة والصدق في النقل، ويتعدوا كل ما يتخذ منه عدو الدين والوطن سبيلاً إلى تمزيق الصفوف، وبث الضغينة والشحناء بين المسلمين، كي لا يقعوا فريسة سائغة بين أنياب الوحش المستعمر.

تكلم المستشرقون عن الإسلام والمسلمين، واهتموا بدراسة القرآن والحديث، والمغازي والسيرة، وبحثوا عن كل فرقة من الفرق الإسلامية، وشرحوا أصولها وفروعها وتاريخها وقادتها وثوراتها ومجادلاتها الدينية، ونقبوا في الزوايا والخبايا عن الاغلاط والهفوات، ولم تغب عنهم صغيرة ولا كبيرة، حتى عرفوا عن كل فرقة ما لم يعرفه الخواص من الفرقة نفسها، وإلى القراء هذ المثل البسيط.

اطلعت في العام الماضي على كتاب ضخم يقع في أربعمائة صفحة، اسمه عقيدة الشيعة، للمستشرق رونلدس يعدد فيه مقامات تزورها الشيعة لم أسمع

_____________________

* - نشر في العرفان عدد كانون الثاني 1953.

بها أنا، وكثير غيري من رجال الدين، وذكر في المصادر ما يقرب من مائة كتاب، منها وضع باللغة الفرنسية، ومنها باللغة الإنكليزية، ومنها بالعربية، وأصحاب هذه الكتب منهم مسلمون من مذاهب شتى، ومنهم غير مسلمين من أديان مختلفة، وفي هذه المصادر كتاب مجهول لا يحمل اسم المؤلف، ولم يعرف من هو، ومتى وضع، ولم تذكر مصادره، واسم الكتاب مفتاح الجنان.

أما الغاية من هذا النشاط، ومن هذا التلفيق، ومن هذا الحشد والتعبئة هو الدس، وإيقاع الفتنة بين المسلمين، ودعم هذا الدس بشتى الأساليب، ليظهروا الإسلام والمسلمين بأبشع المظاهر واشنعها، ويعلنوا للعالم أجمع أن المسلمين همج رعاع، لا يصلحون لشيء غير الاستغلال والاستثمار.

وإذا تشبث هؤلاء الأَبالسة بكتاب لا يحمل اسم إنسان معرفة ولا نكرة، فكم تكون غبطتهم وسرورهم إذا وقفوا على سباب ووخزات طائفية في كتاب يدرس في الأزهر أكبر جامعة إسلامية.

والذي جاء في الكتاب عن الإمامية منه ما لم تقل به الإمامية، ومنه ما يشاركهم في القول به غيرهم من مذاهب السنة، فمن الذي لم يقولوا به ما جاء في صفحة 146 «ان الإيمان بالإمام عند الشيعة الإمامية جزء من الإيمان باللّه، ومن مات على غير هذا الاعتقاد مات مع الكفر... وان أئمتهم يعلمون متى يموتون، بل لا يموتون إلا باختيارهم» إلى غير ذلك من نسبة الغلو، وتأويل القرآن بغير الحق إلى طائفة تعتمد في إِيمانها وعقيدتها على كتاب اللّه، وسنة رسوله.

ونترك الكلام في بيان عقيدة الإمامية بأئمتهم إلى شيخ هذه الطائفة، ومرجعها الأكبر، ودليلها في كل أمر من أمور الدين، إلى الشيخ المفيد محمد بن النعمان قال في كتابه أوائل المقالات طبعة تبريز سنة 1371 هجري ص 38 «القول أن الأئمة يعلمون الغيب منكر بين الفساد، لأن الوصف بذلك إنما يستحقه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، وهذا لا يكون إلا للّه عز وجل، وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلا من شذ عنهم من المفوضة، ومن انتمى إليهم من الغلاة».

وفي صفحة 213 قال السبكي وشركاؤه «وكان من آراء الإمامية التي خالفوا فيها جمهور الفقهاء أنهم يمنعون من تزويج المسلم بالكتابية، ولا يجيزون للمريض أن يطلق، وإن كان له أن يتزوج، فإِن تزوج ولم يدخل بها حتى مات فالنكاح باطل، ولا يترتب عليه مهر، ولا ميراث، وان الطلاق بالثلاث في مجلس واحد يعتبر طلقة واحدة» إلى غير ذلك مما لا يتسع المجال لنقله ورده.

أما تزويج المسلم بالكتابية فقد اتفقت كلمة الإمامية على أنه إذا كان الزوجان كتابيين، ثم أسلم الزوج، وبقيت الزوجة على دينها يبقى الزواج كما هو، واختلفوا فيما إذا أراد المسلم أن يتزوج بالكتابية ابتداء، فبعضهم منع، وبعضهم أجاز، ودليل القائلين بالجواز قوله تعالى «والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» أي أحل لكم زواج المحصنات من أهل الكتاب، وما رواه محمد بن مسلم في الصحيح قال سألت الإمام الباقر عن نكاح اليهودية والنصرانية قال : لا بأس أما علمت أنه كان تحت طلحة يهودية على عهد رسول اللّه(1) أما آية «ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن» فالمراد منها الوثنيات اللاتي لا كتاب لهن، وآية «ولا تمسكوا بعصم الكوافر» ليست صريحة في الزواج، كما قال الشهيد الثاني في كتاب المسالك.

هذا، وفقهاء الشيعة في هذه الأيام يجيزون زواج المسلم بالكتابية، ويجرونه بأنفسهم، وهذه سجلات محاكمهم الشرعية مملوءة بتثبيت هذا الزواج، والحكم بصحته، فالقول : ان الإمامية لا يجيزون زواج المسلم بالكتابية لا نصيب له من الواقع.

أما طلاق المريض فقد اتفقت كلمة الإمامية على أن الرجل إذا طلق زوجته حال مرضه، ثم مات قبل أن تمضي سنة على تاريخ وقوع الطلاق فإنها ترثه بشروط ثلاثة. الأول : أن يكون الموت مستنداً إلى المرض الذي طلقها فيه. الثاني : أن لا تتزوج. الثالث : أن لا يكون الطلاق بطلب منها(2).

وفي كتاب المغني للسنة ج 6 طبعة ثالثة ص 330 و331 أن جماعة منهم الإمام مالك، وابن أبي ليلى، والإمام أحمد في أشهر الروايتين أن المطلقة في مرض الموت ترث المطلق في العدة وبعدها ما لم تتزوج. فمن مذاهب السنة من يشارك الإمامية في هذا القول، ويستدل بنفس الدليل الذي استدل به الإمامية

_____________________

(1) كتاب الجواهر والمسالك باب الزواج اسباب التحريم.

(2) نفس المرجع باب الإرث.

أنفسهم، وهو أن المريض قصد حرمان المطلقة من ميراثه، فعورض بنقيض قصده، كالقاتل يستعجل الميراث، فيعاقب بالحرمان.

أما إذا تزوج المريض، ومات قبل الدخول فلا تستحق الزوجة مهراً، ولا ميراثاً قال به الإمام مالك، كما قال به الإمامية(1).

أما الطلاق ثلاثاً لا يقع إِلا واحدة عند الإمامية فصحيح، ولكن هذه الزيادة في كتاب تاريخ التشريع الإسلامي، وهي أن يكون المجلس واحداً غير صحيحة فليس لذكر المجلس عين، ولا أثر في كتبهم، إِذا لا عبرة عندهم باتحاد المجلس، ولا بتعدده والمعول في تعدد الطلاق على تخلل الرجعة أثناء العدة بين الطلاقين أو الزواج ثانية بعد انتهاء العدة، ثم الطلاق مرة أخرى، وقد خالفوا بذلك الأئمة الأربعة، كما أن علماء مصر خالفوا الأئمة الأربعة جميعاً، وأخذوا بما أخذ به الإمامية «فقد كان العمل في محاكم مصر الشرعية في هذا الموضوع على مذهب الأئمة الأربعة، ثم صدر قانون رقم 25 سنة 1029 فنصت المادة الثالثة منه أن الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إِشارة لا يقع إِلا واحدة»(2).

وإذا جاز لعلماء مصر أن يخالفوا المذاهب الأربعة كافة، وهم من العاملين بها منذ القديم، فلماذا لا يجوز للإمامية أن يخالفوهم، ان الفقيه المسلم هو الذي يعتمد في أقواله على آية ظاهرة، أو حديث صحيح عنده، سواء أوافق المذاهب، أم خالفها.

_____________________

(1) ميزان الشعراني ج 2 آخر باب الوصايا.

(2) كتاب الأحوال الشخصية لمحمد محيي الدين عبد الحميد ص 244 طبعة سنة 1942.

افتِراء عَلى الإمَاميَّة *

قال الدكتور ستيورادت ضود استاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بيروت الأميركية، وفي جامعة واشنطن في كتابه العلاقات الاجتماعية في الشرق العربي صفحة 210 قال «يعتقد الشيعة أن موت الحسين وأتباعه كان بمثابة تضحية لغفران خطايا جميع المسلمين» وليت المؤلف أشار إلى مصدر قوله هذا الذي لم نجد له أثراً في كتاب قديم أو حديث للشيعة الإمامية كيف وهم يتلون مؤمنين بكتاب اللّه المنزل «ولا تزر وازرة وزر أخرى» ! إن عقيدة الفداء والغفران عقيدة نصرانية بحتة لا يعرفها مذهب من المذاهب الإسلامية.

وقال في الصفحة نفسها : «تبدأ الأئمة الإثنا عشر عند الشيعة بعلي، وكلهم ملهمون يتصفون بمميزات إلهية» وهذا مثل سابقه لا نعرف له مصدراً.. يعتقد الإمامية أن من شبه اللّه بشيء من خلقه، أو نسب بعض صفاته القدسية إلى إنسان ما نبياً كان أو إِماماً فهو ومن جحد اللّه وأنكر وجوده سواء «تعالى اللّه عما يقول المشبهون والجاحدون له علواً كبيراً»(1) ان الإمام في عقيدة الشيعة الإمامية إنسان كامل لا يمتاز بشيء عن أفراد البشر إلا «أنه أفضل من كل أحد في زمانه»(2).

_____________________

* - نشر في العرفان عدد حزيران 1951.

(1) من خطب نهج البلاغة.

(2) كتاب شرح التجريد للعلامة الحلي ص 250 طبع العرفان.

 

الأعْوَر الدّجَّال *

قرأت كتاب «المهدية في الإسلام» للشيخ سعد محمد حسن من علماء الأزهر فتذكرت قصة كنت قرأتها منذ أكثر من عشرين عاماً، وبطل القصة رجل يعرف بالأعور الدجال، وشعرت برغبة ملحة في قراءتها من جديد، ولكني لطول العهد نسيت اسم الكتاب الذي قرأت فيه القصة فبحثت عنها في كل كتاب احتملت أن يتعرض لها إلى أن اهتديت إليها في أحد الكتب القديمة، نقل صاحب الكتاب القصة عن رواة عدة اختلفت أقوالهم في الوصف والتصوير، والاختصار والتطويل، ولكنهم اتفقوا على أصل الفكرة، والصورة التالية تعبر عن أقوالهم مجتمعة :

يأتي في آخر الزمن، رجل اسمه صائد، ولقبه الدجال، عينه اليمنى ممسوحة، والأخرى في جبهته، تضيء كأنها كوكب، فيها علقة ممزوجة بالدم، مكتوب على جبينه «كافر» يخوض البحار ويجوب آفاق الأرض، يسير بين يديه جبل أبيض يخاله الناس طعاماً، وما هو بطعام، وخلفه جبل من نار ودخان، ينادي بأعلى صوته: إِلي إِلي أتباعي، أنا الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، أنا ربكم الأعلى. أكثر أتباعه اليهود، تحته حمار مسافة ما بين أذنيه ميل، لا يمر بماء إِلا غار، ولا بزرع إِلا تلف، ولا بشعب إلا أهلكه، ورماه في هوة الفقر والبؤس، وتنتشر في عهده الفتن في كل مكان، وتتراكم كقطع الليل المظلم.

وسواء أكان رواة هذه القصة محل الثقة أو الريب فإنها تنطبق كل الإنطباق على دول الاستعمار وشركات الاحتكار، فهي تدخل الشعوب بقصد الصيد

_____________________

* - نشر في العرفان عدد شباط 1954 .

والقنص، وتتستر بإسم المساعدات الفنية والدفاع عن حقوق الضعفاء. أما العين التي تضيء بالكواكب فهي إشارة إلى ثروة المحتكرين وأموالهم، إلى نفط الحجاز والعراق والكويت والبحرين وقطر وإيران، وعلقة الدم فيها ترمز إلى أن مصدر هذه الأموال دماء الكادحين والمحرومين، وكلمة كافر تشير إلى أن دول الاستعمار تكفر بحقوق الإنسان وخالقه، والجبل الأبيض الذي يظن أنه طعام، هو تصدير رؤوس الأموال إلى البلدان المستعمرة للسيطرة على مواردها ومقدراتها، وجبل الدخان والنار هي الحرب التي تتولد من صراع الشركات على السلب واحتكار الأسواق العالمية، ولا يدخل الاستعمار أرضاً إلا بلي أهلها بالفقر والمرض والجهل، وأحاطت بهم الفتن من كل جانب، والذين يسيطرون على الشركات الاحتكارية أكثرهم من اليهود، كما هو الواقع بالفعل. أما حمار الأعور الدجال فهم الاقطاعيون، حيث يتخذهم الاستعمار والشركات مطية لما يبتغونه من العدوان والسلب، وابتزاز الدماء والأموال.

كانت الدول المستعمِرة، إِذا أرادت أن تستعبد شعباً، ترسل جنودها يحتلونه بالقوة والغلبة، ولما تنبهت الشعوب وتزايدت الحركات الوطنية، والانتفاضات التحررية ضد النفوذ الأجنبي لجأ المستعمرون إلى اكتشاف أسلوب جديد للاستعمار لجأوا إلى المعاهدات، والحصول على صكوك تحمل تواقيع الرجعيين والاقطاعيين، ولكن المستعمرين لم ينتفعوا بهذا الأسلوب ولن ينتفعوا بأي أسلوب يلجأون إليه الآن وفي المستقبل بعد أن شعرت الشعوب الضعيفة بالظلم والحيف، وانتشر الوعي في كل مكان، لن ينتفعوا بشيء حتى بهذا الدس، ومحاولة التفرقة، وبث البغضاء والشقاق بين أبناء البلد الواحد عن طريق بعض رجال الدين.

تذكرت قصة الأعور الدجال، وأنا أقرأ كتاب المهدية في الإسلام، وهو الذي أوحى إلي بتفسير الدجال بالاستعمار، وحماره بالاقطاعيين وبعض رجال الدين، لأن أبحاث الكتاب بعيدة كل البعد عن موكب الحياة، وإنما تنحصر مواضيعه بأمور انتهى زمانها، وعفّى الدهر عليها، ولا تثمر سوى إِثارة الفتن بين المسلمين، وبث روح التعصب الذي يستغله المستعمر لتحقيق أغراضه وأهوائه، وإِلا فبأي شيء نفسر قوله:

«إن الإمامة عند الشيعة تميت العقل، وتشل التفكير.. وانه يستطيع أن يعلل بابحاثها عندهم خضوع الناس واستكانتهم للحكام الظالمين.. لأن ابن هاني الأندلسي الذي خاطب المعز لدين اللّه بقوله :

ما شئت لا ما شاءت الأقدار***فاحكم فانت الواحد القهار

هو شيعي.. وان الشيعة تفسر نصوص القرآن بروح بعيدة عن ظاهره، وعن مادة اللغة نفسها ونقل عن الذهبي أن نهج البلاغة مكذوب على أمير المؤمنين علي وقال : ان الشيعة في فارس إِثنا عشرية، وهم طوائف، منهم اجتهاديون - أي أصوليون - وليس لهم من اسمهم نصيب، لأنهم لا يفكرون مطلقاً في نقد الروايات أو تمحيص أسانيدها، وحتى مجرد إِثارة النزاع والشك فيها».

وما إلى ذلك مما نقله عن خصوم الشيعة، وعن المستشرقين أعداء الإسلام الذين يبعثهم المستعمرون إلى الشرق للدس والكيد للمسلمين، يتعلمون اللغة العربية، ويؤلفون في المذاهب الإسلامية بدافع الشقاق وتفريق الكلمة. أما كتب الشيعة فلم ينقل منها إِلا ما يتفق مع مقاصد المستعمرين ومراميهم من اظهار المسلمين بمظهر الجهل والبداوة المتوحشة.

أهذه هي رسالة الأزهر الشريف وأهدافه ! وبهذا أمر الإسلام، وهكذا كانت سيرة السلف الصالح ! أهذي هي الثقافة الإسلامية، وبهذا يظهر فضل الإسلام على سائر الأديان !

لقد كتبنا وأجبنا على افتراءات المؤلف وافتراءات غيره على الشيعة، ونشرنا في مجلة العرفان ورسالة الإسلام، وصحف بيروت، وكتب علماء الشيعة مئات المجلدات وعشرات المقالات في الأصول والفروع والتفسير والرجال، كتبنا وتقربنا وتوددنا رغبة في التفاهم، ووحدة الكلمة، وجمع القوى ضد العدو المشترك، ولكن أبى غيرنا إلا الشقاق وبث روح التعصب، لأن المستعمر هكذا يريد !

ونحن نسأل المؤلف الذي نقل عن بعض كتب الشيعة ما نقل، هل يؤمن حضرته بكل ما كتب السنة ! بل هل يؤمن بكل ما في الصحاح الست حتى بحديث «استمع لأميرك وأطعه، وان جلد ظهرك وأخذ مالك» ولماذا نقل المؤلف عن أحد علماء الشيعة، وهو المجلسي ما يتفق وأغراض أعداء الدين، ولم ينقل عنه ما ذكره في الجزء الثالث من كتاب البحار صفحة 49 طبعة سنة 1301 هجرية في نفي الغلو.

أعرض المؤلف عن الحسنات، وأشاع ما ظن أنه من السيئات، وهذا ما دعانا أن نفسر الأعور الدجال بالاستعمار، وحماره ببعض رجال الدين، ويعرف كل من قرأ ما كتبته من قبل، ومن بعد، إني لا أجرح أحداً بكلمة نابية، ولكني لم أجد مندوحة عن هذا التفسير، وأنا أقرأ كتاب المهدية في الإسلام، وأرجو القراء الكرام أن لا يحكموا علي بشيءٍ إِلا بعد أن يقرأوا الكتاب، وهذا عذري إليهم.

ولو أن المؤلف كتب عن اللاجئين العرب، وما فعلته إسرائيل، ومن أوجد إسرائيل، أو تكلم عن احتلال الإنكليز لمصر وحرقها القاهرة، أو عن الدماء البريئة التي أراقها الفرنسيون من مراكش لكان أليق بالعالم المخلص، وانفع للدين والإسلام من اثارة النعرات التي تباعد بين الأخوين، وتمزق شمل المسلمين، وتجعلهم أكلة آكل لكل مستعمر ومستثمر، ولكن المؤلف لم يجد جواً ملائماً لعبقريته وعلومه إلا هذا الجو، وسيذكر التاريخ كتابه بما هو أهله، واللّه من وراء القصد.

 

الشيعَة في رَأي الدكتور عَبد الرحمن بدَوي

قال الدكتور عبد الرحمن بدوي في مقدمة كتابه - دراسات إسلامية - : للشيعة أكبر افضل في إِغناء المضمون الروحي للإسلام، وإِشاعة الحياة الخصبة القوية العنيفة التي وهبت هذا الدين البقاء قوياً عنيداً قادراً على اشباع النوازع الروحية للنفوس حتى أشدها تمرداً وقلقاً، ولولاها لتحجر في قوالب جامدة. ليت شعري ماذا كان سيؤول إليه أمره فيها، ومن الغريب أن الباحثين لم يوجهوا عناية كافية إلى هذه الناحية، ناحية الدور الروحي في تشكيل مضمون العقيدة الذي قامت به الشيعة والعلة في هذا أن الجانب السياسي في الشيعة هو الذي لفت الأنظار أكثر من بقية الجوانب مع أنه ليس إلا واحداً منها، وقد يكون من أقلها خطراً من حيث القيمة الذاتية لهذا المذهب، ووجوده بشكل واضح لا يدل مطلقاً على طغيانه على بقية جوانبه، بل كان نتيجة لطبيعة الصلة بين الدين والدولة في الحضارة العربية، وفي الإسلام منها بوجه التخصيص : فهما فيه متزاوجان وينبعان من مصدر واحد. ولهذا نميل هنا إلى اطلاق لفظ الشيعة في المقام الأول من التيار الروحي في الإسلام.

 

القُرآن الكَريم

التمسك بالقرآن

إِن الإمامية أشد الناس تمسكاً بالقرآن، ومحافظة عليه، وتعظيماً له، ومنه يستقون عقيدتهم وأحكامهم، وبه يدفعون شبهات المبطلين، وأقوال المتحذلقين، فهو عندهم المعجزة الكبرى، والمقياس الصحيح للحق والهداية، فقد رووا أن أئمتهم أمروهم أن يعرضوا ما ينقل عنهم على القرآن، فإِن خالفه فهو كذب وافتراء وزخرف وباطل يجب ضربه في عرض الجدار.

لا تحريف في القرآن

ويستحيل أن تناله يد التحريف بالزيادة أو النقصان للآية 9 الحجر «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» والآية 42 فصلت «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد».

ونسب إلى الإمامية افتراء وتنكيلاً نقصان آيات من آي القرآن، مع أن علماءهم المتقدمين والمتأخرين الذين هم الحجة والعمدة قد صرحوا بأن القرآن هو ما في أيدي الناس لا غيره، فمن المتقدمين الشيخ الصدوق في كتاب اعتقاد الشيعة الإمامية، والسيد المرتضى في كتاب المسائل الطرابلسيات، والشيخ الطوسي في كتاب التبيان، ومن المتأخرين الشيخ جعفر النجفي في كتاب كشف الغطاء، والسيد محسن البغدادي في شرح الوافية، والشيخ علي الكركي ألف رسالة خاصة في نفي الزيادة، والسيد محسن الأمين في الجزء الأول من أعيان الشيعة، والشيخ جواد البلاغي في الجزء الأول من آلاء الرحمن. ونقل الأمين والبلاغي في هذين الكتابين أن القائلين بالنقصان هم أفراد من شذاذ الشيعة، والحشوية من السنة لا يعتد بقولهم. اذن نسبة التحريف إلى الشيعة كنسبته إلى السنة، كلتاهما لم تبن على أساس من الصحة.

القرآن محدث

قال السنة : القرآن كلام اللّه، وشأن من شؤونه، واللّه قديم، فالقرآن قديم. وقال الإمامية : انه محدث، وليس بقديم، وان اللّه سبحانه خلق الكلام، كما خلق سائر الأشياء، أي أوجد حروفاً وأصواتاً في أجسام دالة على المراد.

تفسير القرآن

من الآيات ما بلغت الغاية من الوضوح، كقوله تعالى «قل هو اللّه أحد.. وهو على كل شيء قدير» وهذا النوع يجوز أن يفسره العالم والجاهل، ومنها دون ذلك في الظهور كقوله سبحانه «ويقولون حجراً محجوراً.. لا يبغون حولاً» ومثل هذا يجوز أن يفسره من عرف اللغة العربية صناعة وذوقاً دون الجاهل، ومنها المتشابه، وهو ما اشتبهت معانيه، وإنما يقع الاشتباه في أمور الدين - غالباً - كنفي التشبيه والجور عن اللّه جل ثناؤه. وقد بين صاحب مجمع البيان الحكم في المتشابه عند تفسير «وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم» 7 آل عمران قال : ان الراسخين في العلم هم الضابطون له المتقنون فيه... ومما يؤيد هذا أن الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن، ولم يتوقفوا بأن قالوا : هذا متشابه لا يعلمه إلا اللّه، وكان ابن عباس يقول في هذه الآية : انا من الراسخين في العلم.

ولا تجوز الإمامية لأحد أن يستنبط الأحكام الشرعية من القرآن إلا إذا درس مع العلوم العربية العلوم الدينية كالأصول والفقه والحديث، ووقف على أسباب النزول، واجتنب الغلو، لأن في القرآن ناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومجملاً ومبيناً، فمن الآيات لا يعمل بها مطلقاً، كالآية 241 البقرة «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إِخراج» فكان على المرأة إذا مات زوجها أن تعتد سنة كاملة بحكم هذه الآية، ثم نسخت بالآية 235 البقرة «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً» فاستقر حكم عدة الوفاة على المرأة أربعة أشهر وعشرة أيام. ومن الآيات التي لا يؤخذ بعمومها الآية 177 البقرة «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر» قال الفقهاء : إِن الأب لا يقتل إذا قتل ولده ظلماً وعدواناً. ومن الآيات المجملة ما ورد في وجوب الصلاة والصوم والزكاة، وما إليها، إِذن من الآيات يجوز أن يفسرها العالم والجاهل، ومنها ما يفسرها العالم الضابط، ومنها يفسرها المجتهد في الفقه.

وقال الإمامية : إن الحديث يفسر ويخصص آيات القرآن، ولا يجوز أن ينسخ آية من آياته، وإنما تنسخ الآية بآية مثلها. والقرآن هو الدليل الأول من الأدلة الأربعة للشريعة، وهي الكتاب والسنة والاجماع والعقل، وعدد آياته نحو ستة آلاف آية، وآيات الأحكام منها نحو خمسمائة، أكثرها في العبادات والأحوال الشخصية.

كتب التفسير للإمامية

وللإمامية عدة كتب في التفسير منها مجمع البيان للطبرسي طبع مراراً، وكتاب التبيان للشيخ الطوسي مطبوع، وتفسير النعماني لمحمد بن ابراهيم، وخلاصة التفاسير لسعيد بن هبة اللّه الراوندي، وآلاء الرحمن للشيخ جواد البلاغي، طبع منه الجزء الأول، وقلائد العقيان في تفسير آيات الأحكام للشيخ أحمد الجزائري مطبوع، وزبدة البيان في تفسير آيات الأحكام لملا أحمد الأردبيلي، وكنز العرفان في آيات الأحكام أيضاً للمقداد بن عبد اللّه السيوري وغيرها *.

_____________________

* - المصادر : مجمع البيان، وشرح التجريد للعلامة الحلي، وتقريرات النائيني للشيخ محمد علي الخراساني، ورسائل الشيخ الأنصاري، والجزء الأول من أعيان الشيعة، والجزء الأول من آلاء الرحمن، وأوائل المقالات للمفيد.

 

عِلم الحَديث عِندَ الإمَاميَّة *

الف علماء اللغة كتباً جمعوا فيها ألفاظ المفردات مع بيان معانيها، وكتباً دونوا فيها القواعد العربية كالصرف والنحو، والف الإمامية كتباً لجمع الحديث، وكتباً لرواة الحديث، وكتباً لنقد الحديث، ويحوي النوع الأول المعتقدات والانباء، والأوامر والنواهي، وأنواع المعاملات تتصل بالتسلسل إلى المعصوم، والنوع الثاني يشتمل على أسماء الرواة، فيذكر كل راوٍ باسمه وصفاته، ويسمى هذا علم الرجال، وفي النوع الثالث يذكر فيه النظم العامة والقواعد الكلية لمعرفة الأحاديث الصحيحة من غيرها، ويسمى علم الدراية، والغرض من هذه الأنواع الثلاثة واحد، وهو إِثبات السنة النبوية بالطريق الصحيح.

كتب الحديث

ومن كتب الحديث الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني «ت 328 هجري» وفيه 16099 حديثاً وكتاب من لا يحضره الفقيه لمحمد بن بابويه المعروف بالصدوق «ت 381 هجري» وفيه 9044 حديثاً وكتاب التهذيب لمحمد بن الحسين الطوسي «ت 461 هجري» وفيه 13095 حديثاً، وكتاب الاستبصار للشيخ الطوسي المذكور، وفيه 5511 حديثاً، وكتاب الوافي المعروف بمحسن الفيض «ت 1091 هجري» وهو 14 جزءاً، وكتاب الوسائل للحر العاملي «ت 1033 هجري» وهو 6 مجلدات وغير ذلك مما يضيق المقام عن ذكره، وهذه الكتب مبوبة مرتبة، يذكر في كل

_____________________

* - نشر في العرفان كانون الأول 1954.

باب جميع ما يتصل به من الأحاديث، والكتب الستة الآنفة الذكر معروضة للبيع مع غيرها في المكتبات العامة بإِيران والعراق.

كتب الرجال

ومن كتب الرجال المطبوعة : كتاب الرجال لأحمد بن علي النجاشي «ت 450 هجري» وكتاب الرجال للشيخ الطوسي، وكتاب معالم العلماء لمحمد بن علي بن شهر اشوب «ت 588 هجري» وكتاب منهج المقال للميرزا محمد الاسترابادي «1020 هجري» وكتاب إتقان المقال للشيخ محمد طه نجف «1323 هجري» وكتاب الرجال الكبير للشيخ عبد اللّه المقمقاني من علماء هذا القرن، إلى غير ذلك مما كتب علماء الشيعة في هذا الموضوع.

ومن الكتب المطبوعة في نقد الحديث كتاب البداية في علم الدراية للشيخ زين الدين بن علي العاملي «966» وكتاب الوجيزة للشيخ البهائي العاملي «1032» وكتاب شرح الوجيزة للسيد حسن الصدر من علماء هذا القرن، وكتاب مقياس الهداية للشيخ عبد اللّه المقمقاني، إلى غير ذلك من الكتب.

أقسام الحديث

وقسم الشيعة الحديث إلى قسمين متواتر، وآحاد، والمتواتر أن ينقله جماعة بلغوا من الكثرة حداً يمتنع اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب. وهذا النوع من الحديث حجة يجب العمل به. أما حديث الآحاد فهو ما لا ينتهي إلى حد التواتر، سواء أكان الراوي واحداً أم أكثر، وينقسم حديث الآحاد إلى أربعة أقسام :

1 - صحيح، وهو ما إذا كان الراوي إِمامياً ثبتت عدالته بالطريق الصحيح.

2 - الحسن، وهو ما إذا كان الراوي إمامياً ممدوحاً، ولم ينص أحد على ذمه أو عدالته.

3 - الموثق، وهو ما إذا كان الراوي مسلماً غير شيعي، ولكنه ثقة أمين في النقل.

4 - الضعيف وهو غير الأنواع المتقدمة، كما لو كان الراوي غير مسلم أو مسلماً فاسقاً أو مجهول الحال أو لم يذكر في سند الحديث جميع رواته.

العمل بالحديث

وقد أوجبوا العمل بالحديث الصحيح والحسن والموثق لقوة السند، والاعراض عن الضعيف لضعف السند، ولكنهم قالوا : إن الضعيف يصبح قوياً إذا اشتهر العمل به بين الفقهاء القدامى، لأن أخذهم بالضعيف مع علمنا بورعهم وحرصهم على الدين وقربهم من الصدر الأول يكشف عن وجود قرينة في الواقع اطلع أولئك الفقهاء عليها، وخفيت علينا نحن، ومن شأن هذه القرينة أن تجبر هذا الحديث. وتدل على صدقه في نفسه مع قطع النظر عن الراوي، كما أن القوي يصبح ضعيفاً إذا أهمله الفقهاء القدامى، فإن عدم عملهم به مع أنه منهم على مرأى ومسمع يكشف عن وجود قرينة تستدعي الاعراض عن هذا الحديث بالخصوص، وإن كان الراوي له صادقاً.

ومن علامات وضع الحديث عند الشيعة أن يكون مخالفاً لنص القرآن الكريم، أو لما ثبت في السنة النبوية، أو للعقل، أو ركيكاً غير فصيح، أو يكون إِخباراً عن أمر هام تتوافر الدواعي لنقله، ومع ذلك لم ينقله إلا واحد، أو يكون الراوي مناصراً للحاكم الجائر.

تعارض الحديثين

إذا ورد حديثان، وأثبت أحدهما ما نفاه الآخر، فإن كان أحد الحديثين معتبر السند دون الثاني، أخذنا بالمعتبر وطرحنا غيره، ولا يتحقق التعارض في هذه الحال، وإنما يقع التعارض إذا كان معاً معتبرين بحيث يعمل بكل منهما، لو كان بدون معارض.

ومتى تم التعارض يؤخذ بأشهر الحديثين، والمراد بالأشهر أن يكون معروفاً عند الرواة، ومدوناً في كتب الحديث أكثر من الطرف الثاني، وإن تساويا بالشهرة، أخذ بالأعدل والأوثق، وقال المرزا النائيني في تقريرات الخراساني «باب التعارض» : ليس المراد بالأعدل والأوثق من كان أكثر زهداً في الدنيا، بل من كان أعدل في صدق القول وأوثق في النقل، وإذا تساويا في الصدق عرض الحديثان على كتاب اللّه، وأخذ بالحديث الموافق دون المخالف، وإذا كانا معاً لا يتنافيان مع ظاهر الكتاب، وتساويا في سائر الجهات، فالقاعدة المستفادة من الأحاديث الثابتة الصحيحة تستدعي التخيير في العمل بأحدهما، وترك الآخر، وقيل : تعارضا تساقطا كما هو الأصل، أي يترك العمل بهما معاً وتصير الواقعة مما لا نص فيها.

وبالتالي إن الإمامية يعتقدون أن الحديث مصدر من مصادر العقيدة الإسلامية، وأصل من أصول الشريعة المحمدية، وإن إِهماله إهمال للدين ومبادئه. لذا كانوا وما زالوا يجدون ويجتهدون في نقد الحديث وتمحيصه والاحتفاظ به، وبكل ما يمت إلى الإسلام بسبب قريب أو بعيد. *

_____________________

* - المصادر : كتاب تأسيس الشيعة للسيد حسن الصدر، والجزء الأول من أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين. وكتاب منهج المقال للمرزا محمد، وكتاب مقياس الهداية للشيخ عبد اللّه المقمقاني، وتقريرات النائيني للخراساني، ورسائل الشيخ الأنصاري.

 

الإجمَاع *

نشأ الاجماع عند المسلمين في المدينة المنورة، وبعد الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وسلم، وبين الصحابة خاصة، ففي عهد الرسول لا مرجع سواه في الأمور الدينية، وفي عهد الصحابة لا فقه ولا فقهاء إلا في المدينة أو منها، فكان من السهل معرفة آراء المجمعين من ذوي القول، لقلتهم والعلم بمكانهم ومكانتهم، وبعد أن اتسعت البلاد الإسلامية، وصار في كل بلد حلقات للدرس، وأقطاب للشرع أصبح الحصول على الإجماع متعذراً أو متعسراً، خاصة أن التأليف والتدوين لم يكن معروفاً ولا مألوفاً في الصدر الأول.

وللإجماع أقسام عديدة، ولكل قسم فروع، ونخص الكلام - هنا - عن أهم الأقسام التي تصلح أصلاً للشرع، ودليلاً للفقيه، وينقسم الإجماع باعتبار الزمان إلى ثلاثة أقسام.

إجماع الصحابة

1 - إِجماع الصحابة بأن تتفق كلمة الأصحاب جميعاً على حكم شرعي، وقد أوجب السنة والشيعة الأخذ بهذا الإجماع، واعتباره أصلاً من أصول الشريعة، ولكنهم اختلفوا في الدليل الدال على اعتباره ولزوم الأخذ به، فقال الشيعة : هو حجة، لوجود الإمام مع الصحابة، وقال السنة هو حجة لحديث «ما اجتمعت أمتي على ضلالة» وعلى أي الأحوال فإن النتيجة واحدة، وهي العمل بإجماع الأصحاب عند جميع المذاهب.

_____________________

* - نشر في العرفان عدد شباط 1952.

إجماع أحد الصحابة

أجمع المذاهب الأربعة على العمل بقول أحد الصحابة إذا لم يقم على خلافه دليل من الكتاب أو السنة النبوية، لأنه اعلم بمراد النبي صلى اللّه عليه وسلم بفضل رفقته له، ومشاهدته لعصر التنزيل، فاجتهاده يقدم على اجتهاد المتأخر عنه(1).

وذهب الغزالي والآمدي والشوكاني إلى أن قول الصحابي ليس بحجة لأن الصحابة أنفسهم اتفقوا على جواز مخالفة كل واحد منهم للآخر في الاجتهاد، وإذا كان قول الصحابي غير حجة عند الصحابة أنفسهم، فكيف يكون حجة بالقياس إلى غيرهم ! وهذا يتفق مع ما عليه الشيعة فتوى ودليلاً.

اجماع العلماء في عصر الصحابة

2 - اتفاق العلماء في جميع الأمكنة والبلدان الإسلامية في عصر غير عصر الصحابة، والخلفاء الراشدين. أما الإجماع الإقليمي، أي اتفاق خاص، كإِجماع أهل العراق أو أهل الحجاز، فليس موضوعاً للبحث لأنه ليس إِجماعاً في واقع الأمر.

واتفاق علماء عصر واحد أو عصرين في كل مكان هو المراد - في الغالب - من لفظ الإجماع الموجود في كتب الفقه ومحاورة الفقهاء. ويقع الكلام عن هذا الإجماع في جهتين، الأولى في إمكان الاطلاع على فتوى كل عالم بالذات، والجهة الثانية في دليل هذا الاجماع، وحجة اعتباره.

أما الجهة الأولى، وهي الاطلاع على جميع أقوال علماء عصر من العصور في جميع الأمصار فعسير جداً، وخاصة في العصور الأولى، حيث لم يكن التأليف والتصنيف معروفاً، وبعد أن عرف التأليف لم تكن وسائل النشر متوافرة، هذا وليس كل عالم مؤلفاً، على أن التأليف كان مقصوراً على جمع الأحاديث ونقل الروايات من غير فتوى، وابداء رأي المؤلف، ورب فقيه كبير لم يعلم مكانه،

_____________________

(1) كتاب المدخل إلى أصول علم الفقه، للدكتور الدواليبي ص 252 و253 و255.

وفقيه عرف واشتهر، ولكن لم يعرف رأيه في مسألة خاصة.

مدعي الإجماع

ومن ادعى أو يدعي أنه استقصى أقوال جميع فقهاء عصره أو عصر من تقدم عليه، وأنه اطلع على أقوالهم واحداً فواحداً، من ادعى ذلك فإنه لا يستند في دعواه إلا على الحدس والتخمين، رأى قول بعض العلماء فظن أنه قول الجميع قياساً للغائب على الشاهد، والمجهول على المعلوم، وقد رأيت كثيراً من الفقهاء يسألهم السائل عن حكم قضية هي من صميم الحياة تتصل بالدماء والأموال والأعراض، فيرجعون إلى كتاب من كتب فروع الفقه التي ذكرت الفرع من غير أصله «ولم يسنده المؤلف إلى دليله، ثم يحكم بقول صاحب الكتاب، كأنه كتاب اللّه المنزل، أو سنة نبيه المرسل، وإذا سألته عن الدليل اكتفى بدعوى الإجماع، والذي يظهر للمتتبع أن هذه الطريقة مألوفة عند المتقدمين أيضاً، فقد طعن العلماء على إِجماعات ابن إدريس، وابن زهرة، والشيخ الطوسي، وغيرهم، وقد جمع الشهيد الثاني أربعين مسألة «ادعى فيها الشيخ الإجماع، وهي مورد الخلاف، بل الشيخ نفسه خالف في أكثرها في موارد أخرى وقال العلامة المجلسي في كتاب الصلاة من كتاب البحار «ان الفقهاء لما رجعوا إلى الفروع نسوا ما أسسوه في الأصول فادعوا الإجماع في أكثر المسائل، سواء أظهر فيها الخلاف أم لا، وافق الروايات المنقولة أم لا، حتى أن السيد وأضرابه كثيراً ما يدعون الإجماع فيما يتفردون به» وقال الميرزا حسين النائيني في تقريرات الخراساني «إذا كان الحاكي للإجماع من المتقدمين على العلامة والمحقق والشهيد فلا عبرة بحكايته» والخلاصة أن الإجماع المنقول بلسان أحد العلماء لا يكون دليلاً لحكم شرعي، وإن كان الناقل شيخ الأولين والآخرين، لأن دين اللّه لا يصاب بحدس فقيه وبما يختلج في خياله.

دليل الإجماع

الجهة الثانية : وهي دليل الإجماع استدل السنة على أن الإجماع أصل من أصول الشريعة بحديث من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية، وبحديث لا تجتمع أمتي على ضلالة أو على خطأ. فالإجماع عندهم أصل مستقل بنفسه، مثل الكتاب والسنة.

ويلاحظ عليهم أولاً : أن الاطلاع على أقوال جميع علماء العصر متعذر، كما أسلفنا، ثانياً : وفي حالة إِمكان الاطلاع على أقوالهم جميعاً نتساءل : لو اتفق علماء عصر واحد على خلاف من تقدم عليهم ممن يعتد بقوله، فهل يسمى اتفاقهم هذا إِجماعاً لأمة محمد ؟ كلا. إن إِجماع الأمة معناه إجماع العلماء في جميع الأعصار والأمصار، وإِجماع علماء الأمة في كل عصر ومصر لا يرتاب في حجته عاقل، كما يأتي :

أما الشيعة فلم تثق بحديث لا تجتمع أمتي على خطأ، وقالوا : يكون الإجماع حجة إذا كشف عن رأي المعصوم، وعليه لا يكون الإجماع دليلاً مستقلاً، بل يدخل في السنة، أي أن السنة تثبت بالإجماع كما تثبت بقول الثقا من الرواة.

ويلاحظ على قول الشيعة أن الإجماع إِذا حصل في زمن المعصوم يمكن أن يكشف عن قوله، ولكن لا يكون الإجماع هو الدليل، بل الدليل قول المعصوم، وفي زمن غيابه لا يمكن أن يكشف الإجماع عن قول المعصوم بحال، إِذن لا يكون الإجماع دليلاً في كلتا الحالتين، ولذا قال الشيخ الأنصاري في كتابه المعروف بالرسائل «ان السنة هم الأصل للإجماع، وهو الأصل لهم»، ومعنى هذا أن الشيعة لا تعترف بمثل هذا الإجماع.

وحاول بعض العلماء أن يجعل الإجماع أصلاً شرعياً بما قرره من أن اتفاق العلماء، وخاصة المتقدمين القريبين من عصر الأئمة إِذا اتفقوا على حكم ديني مع اختلافهم في كثير من الأحكام وثقتنا بدينهم وعلمهم.. أن اتفاقهم - والحالة هذه - يدل دلالة واضحة أن هناك دليلاً صحيحاً معتبراً قد اطلعوا عليه، وخفي علينا، ويرد هذا القول انه يعتمد على الحدس والتخمين والأحكام الشرعية لا تصاب بالحدس.

وبعد هذا البيان يتضح أن الحكم الديني الذي اتفق عليه أهل عصر واحد أو عصرين هو محل للاجتهاد والجدال والنقاش، سواء أقلنا بقول الشيعة أم السنة، وان من خالف مثل هذا الإجماع لا يكون خارجاً على الأصول الشرعية الإسلامية.

إِجماع العلماء في جميع الأعصار والأمصار

إِذا أجمعت علماء المذاهب الإسلامية في جميع الأعصار والأمصار من عهد الرسول الأعظم إلى يومنا هذا على أمر فلا يسوغ مخالفتهم بحال، حيث يصبح الحكم ضرورة دينية حتمية، ومن يخالفه يخرج عن الأصول الإسلامية. أما إِذا أجمع علماء مذهب يكون الحكم ضرورة مذهبية، ومن يخالفه يخرج عن الأصول المذهبية لا الإسلامية.

العاملون بخلاف الإجماع

خالف بعض العلماء المراجع القسم الثاني من الإجماع، أي اتفاق علماء عصر أو أكثر : منهم السيد كاظم صاحب العروة الوثقى، قال في كتاب الملحقات باب الوقف : ان ظاهر إجماع الإمامية على أن الوقف لا يتم إلا مع الصيغة اللفظية الدالة عليه صراحة، لأن لفظ وقفت، وتصدقت ورد في حديث أهل البيت، ومع اعتراف السيد بصحة النص، ووجود الإجماع افتى بعدم وجوب الصيغة في الوقف، إستناداً إلى سيرة الناس وعاداتهم، فإنهم يوقفون بلا صيغة، بل بالمعاطاة، ويكون ذلك وقفاً عندهم، فيكون وقفاً في الشرع أيضاً.

ومنهم المرزا حسين النائيني وغيره من العلماء المتأخرين خالفوا إجماع المتقدمين على أن العقود لا يجوز أن تكون معلقة على شيء، فالوكالة باطلة، إذا قلت لإنسان : أنت وكيلي يوم الجمعة في بيع داري، قال النائيني في تقريرات الخونساري «ليس هذا الإجماع تعبدياً - أي لا يجب العمل به - لأن العلماء أبطلوا هذه العقود لتوهم اعتبار التنجيز أو مانعية التعليق».

ومنهم السيد أبو الحسن، حيث قال في الوسيلة الكبرى «إذا قال أحد أهالي السواد جوزت بدل زوجت صح» مخالفاً في ذلك إجماع العلماء على أن صيغة الزواج يجب أن تكون على العربية الفصحى، وكذلك خالف علماء هذا العصر إجماع المتقدمين على اشتراط العربية في صيغ البيع، كما خالف من قبلهم الإجماع على منزوحات البئر.

وممن خالف الإجماع السيد المرتضى وابن زهرة قالا : إذا طلقت اليائس، والصبية المدخول بها التي لم تبلغ التاسعة فعليهما العدة(1)، ومنهم الصدوق والشيخ الطوسي والعلامة ونجيب الدين بن سعيد قالوا : إذا مات الزوج، ولم يكن هناك وارث إلا الزوجة ترث الربع بالفرض ويرد الباقي عليها مع غيبة الإمام(2)، ومنهم الشيخ محمد رضا آل يس قال في كتاب بلغة الراغبين «باب الإرث» : لا عدة على المتوفى عنها زوجها إذا جرى العقد في مرضه الذي مات فيه، ولم يدخل، ومنهم ابن أبي عقيل وابن الجنيد والصدوق قالوا : تحل ذبيحة أهل الكتاب(3).

والخلاصة أن إجماع علماء عصر أو عصرين لا يجعل الحكم قطعياً، وضرورة دينية أو مذهبية، بل يكون اجتهادياً ظنياً يقبل الجدال والنقاش، ومن خالفه لا يكون خارجاً عن الأصول الشرعية. والإجماع الذي يجب العمل به، ولا يكون محلاً للاجتهاد هو إجماع الأمة في كل عصر ومصر من عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلّم إلى هذا العهد، وعليه يكون الحكم ضرورة من ضرورات الدين.

_____________________

(1) كتاب المسالك للشهيد الثاني «باب الطلاق».

(2) نفس المصدر «باب الارث».

(3) نفس المصدر «باب الصيدوالذباحة».

 

دَليلُ العَقْل *

على المجتهد أن يستخرج أحكامه - قبل كل شيء - من أحد الأدلة الثلاثة : الكتاب، والسنة، والإجماع، فمع وجود واحد منها لا يبقى مجال لدليل العقل، وإذا فقدت جميعها لجأ الفقيه إلى الدليل الرابع.

وكان هذا الدليل في الصدر الأول «فكرة المصلحة»(1) التي تختلف باختلاف الأنظار والآراء، فلم يكن الأصحاب يعرفون القياس، والبراءة، والاستصحاب، وما إلى ذلك من الأصول التي عرفت بعد عصر الصحابة، فكان الصحابي إذا عرضت له مسألة اجتهد برأيه على أساس المصلحة روح الإسلام غير مقيد بضابط خاص، أو قاعدة معينة، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها هذه الفتوى للخليفة الثاني عمر بن الخطاب :

روى مالك أن الضحاك بن قيس ساق خليجاً له، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى فقال له : تمنعني، وهو لك منفعة ! تسقي منه ولا يضرك، فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فأمر عمر محمداً أن يخلي سبيله، فقال محمد : لا. قال له عمر : لا تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك. فقال محمد : لا. فقال له عمر : واللّه ليمرن به ولو على بطنك(2).

وبعد عصر الصحابة تركز الاجتهاد على أصول خاصة، وقواعد معينة، وقد اختلفت كلمة المذاهب الإسلامية في تعيين الدليل الرابع.

_____________________

* - نشر في العرفان عدد نيسان 1952.

(1) كتاب المدخل إلى علم أصول الفقه ص 83 للدكتور الدواليبي.

(2) المدخل إلى علم أصول الفقه ص 259 للدكتور الدواليبي.

مذاهب السنة والدليل الرابع

قال الحنفية والمالكية : هو القياس، والاستحسان، والاستصلاح(1).

وقال الشافعية : هو القياس فحسب، ولا يعتمد على الاستحسان والاستصلاح(2) وقال الحنبلية هو القياس والاستصلاح(3).

والقياس هو إِلحاق أمر غير منصوص عليه بآخر منصوص عليه، إِلحاقه به في الحكم الشرعي لاتحاد بينهما في العلّة(4) مثلاً نص الشرع على أن الجدة لأم ترث، ولم ينص على الجدة لأب، فنورث الجدة لأب قياساً على الجدة لأم، لأن كلتيهما جدة، وهذا أشبه شيء بقياس المساواة، ومن أدلتهم على اعتبار القياس، قوله تعالى (واعتبروا يا أولي الأبصار)(5) والشيعة الإمامية منعوا العمل بالقياس، ومن المأثور عنهم، والمشهور على ألسنتهم وفي كتبهم «ليس من مذهبنا القياس» واستثنوا من حرمة العمل بالقياس حالتين : العلة المنصوصة، مثل لا تشرب الخمر، لأنه مسكر، ومفهوم الأولوية، مثل لا تقل لهما أف، والحقيقة انهما ليسا من القياس في شيء، لأن النص في المثال الأول أثبت الحرمة لكل مسكر خمراً كان أو غيره، فالحكم لغير الخمر ثبت بالنص، لا بالقياس، وكذا في المثال الثاني، فإن النص أثبت الحرمة لكلي الاهانة الشاملة للشتم والضرب، وعُبِّر عن العام بأضعف أفراده، وهو التأفيف، للتنبيه على أهمية الطاعة والتأدب مع الوالدين.

أما الاستحسان فقد عرّفه أبو الحسن الكرخي من الأحناف أنه العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي العدول، وقال ابن العربي من المالكية أنه العمل بأقوى الدليلين(6) وفسره بعضهم بأنه دليل ينقدح

_____________________

(1) المرجع السابق ص 323 - 326.

(2) نفس المرجع ص 332.

(3) نفس المرجع ص 336.

(4) نفس المرجع ص 279.

(5) شرح جمع الجوامع لابن السبكي المطبوع مع حاشية البناني ج 2 ص 215 وفلسفة التشريع للأستاذ المحمصاني 122 طبعة ثانية.

(6) المدخل إلى علم أصول الفقه ص 271 - 272 للاستاذ الدواليبي.

في نفس المجتهد تقصر عنه عبارته(1).

ولم تستطع هذه التعاريف، ولا غيرها أن تحدد لنا حقيقة الاستحسان، وتبين مراد القائلين به، فهي كما ترى لا نفهم منها معنى معيناً يتميز عن غيره، ويحملنا هذا على الظن أن القائلين بالاستحسان أنفسهم لم يفهموه فهماً صحيحاً يرتكز على أساس معقول.

والأمثلة التي ذكروها للاستحسان مختلفة أشد الاختلاف، فمنها ما تنطبق عليه قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» ومنها تنطبق عليه تقديم الأهم على المهم، ومنها ما يدخل في المصالح المرسلة، وهذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس للاستحسان ضابط معين، وأن اعتماد الفقيه عليه يؤدي إلى الفوضى في الأحكام، ولذا قال الشافعي : من استحسن فقد شرع، أي أحدث شرعاً من قبل نفسه(2).

أما الاستصلاح أو المصالح المرسلة فهو أن يُستخرج الحكم من طبيعة المصلحة على شريطة عدم وجود النص، مثل إنشاء الدواوين، وإِقامة المحاكم للفضل بين الناس، وما إلى ذلك مما تستدعيه المصلحة(3) ولم أَر في أقوال العاملين بالمصالح المرسلة وأمثلتهم ما يتنافى مع شيء من مذهب الشيعة الإمامية، لأنها في الحقيقة تطبيق للقواعد الكلية، والمبادئ الإسلامية عند فقدان النص.

الشيعة الإمامية والدليل الرابع

إِذا أراد الشيعة الإمامية أن يستخرجوا حكماً شرعياً لمسألة تعرض لهم بحثوا - قبل كل شيء - في نصوص الكتاب والسنة وأقوال العلماء باذلين أقصى الجهد في الفحص والتنقيب، فاذا وجدوا نصاً خاصاً أو إجماعاً وقفوا عنده وعملوا وإذا لم يجدوا ذلك لجأوا إلى العمومات والقواعد الكلية التي وردت في نصوص الكتاب والسنة، أو قام عليها الإجماع، مثل أوفوا بالعقود، وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي، والولد للفراش، والحدود تدرأ بالشبهات، وكل شرط جائز

_____________________

(1) شرح جمع الجوامع لابن السبكي المطبوع مع حاشية البناني ص 224.

(2) نفس المرجع والصفحة.

(3) المدخل إلى علوم أصول الفقه ص 273 - 277 وما بعدها للأستاذ الدواليبي.

إلا ما حلل حراماً أو حرم حلالاً، وما إلى ذلك، فإذا جهلوا حكم معاملة وقعت بين اثنين، وانه هل يجب الوفاء بالعقد الذي اتفقا عليه أو لا يجب ؟ حكموا بوجوب الوفاء تمسكاً بعموم أوفوا بالعقود، وإذا حامت الظنون حول مولود ولد من زوجة شرعية، حامت أنه ولد الزوج الشرعي أو غيره حكموا بأنه ابن شرعي للزوج عملاً بعموم الولد للفراش، وإذا ترددوا في جواز قتل مجرم، حقنوا دمه أخذاً بحديث الحدود تدرأ بالشبهات، وإذا تلف مال الغير في يد إنسان، حكموا عليه بدفع البدل من المثل أو القيمة حتى يقوم الدليل على العكس، وإذا اشترط إنسان على نفسه شرطاً محللاً، ألزموه به استناداً إلى حديث كل شرط جائز إلا ما يحلل حراماً أو يحرم حلالاً، ومتى أعوزهم الإجماع والنصوص الخاصة والعامة لجأوا إلى الدليل الرابع، وهو عندهم الاستصحاب، والبراءة، والاحتياط، والتخيير، وهذه الأصول الأربعة تشترك جميعها بأنها وظيفة الجاهل بحكم الواقعة بسبب فقدان النص والإجماع، قالوا : إن المجتهد لو طبق عمله على مؤداها يكون معذوراً عند اللّه والناس غير مستحق للوم ولا عقاب أخطأ أم أصاب.

ومعنى الاستصحاب هو الأخذ بالحالة السابقة إلى أن يثبت العكس - مثلاً - استأجر زيد داراً من عمرو، وسكن فيها عشرات السنين حال حياة عمرو، ثم توفي عمرو، فطالب ورثته زيداً بالاجار، فقال : إني تملكت الدار من أبيكم، وسكنتها أمداً طويلاً في حياته دون أن أدفع له درهماً واحداً، لأنها انتقلت إلي بطريق مشروع، فهذ القول لا يسمع من زيد، وذلك عملاً بالاستصحاب، أي كنا نعلم أن زيداً وضع يده على الدار في بدء الأمر على سبيل الاجار، فنأخذ بالحالة الأولى لليد إلى أن تقوم البينة المعاكسة، فكما علمنا بالاجار السابق يجب أن نعلم بحدوث الملك اللاحق، لأن العلم لا يرفعه إلا العلم، والحجة لا تدفع إلا بالحجة، وهذا معنى قول الإمام الصادق ع «من كان على يقين ثم شك فلا ينقض اليقين بالشك ان اليقين لا ينقضه إلا اليقين».

أما أصل البراءة فمورده الشك بالتكليف مع عدم العلم بالحالة السابقة، كحضور الأفلام السينمائية، وتسجيل الأصوات، وما إلى ذلك من المواضيع التي وجدت بعد عصر التشريع، والتي ستوجد، فنحكم بإِباحتها استناداً إلى ما ثبت شرعاً من أن كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي، وعقلاً من أن العقاب بلا بيان قبيح.

أما الاحتياط فواجب مع العلم بوجود التكليف الملزم، واشتباه الشيء المكلف به مردداً بين أمرين أو أمور محصورة، كما لو علمنا أن شفاء المريض في شيء من شيئين، أحدهما ينفعه، والآخر لا يضره ولا ينفعه، ولم نستطع التمييز بين الاثنين، فيجب - والحالة هذه - الاحتياط بشربهما معاً، أو علمنا أن هناك أمرين، أحدهما يضره، والآخر لا يضره ولا ينفعه، وعليه يجب تركهما معاً، فالاحتياط يكون بالفعل كما يكون بالترك، ومستند الاحتياط حكم العقل بوجوب دفع الضرر والبعد عنه.

اما التخيير فواجب فيما إِذا تردد فعل بين أن يكون إِما واجباً لا يجوز تركه، وإِما محرماً لا يجوز فعله، كما لو علمنا أن إنساناً حلف على شيء، ولكن لم يتذكر أنه حلف على فعله يوم الجمعة مثلاً أو على تركه، فيختار - والحالة هذه - الفعل أو الترك، أو فيما إذا كان هناك واجبان متساويان في الأهمية، ولا يستطيع المكلف الإتيان بهما معاً، فيختار حينئذ فعل أحدهما وترك الآخر، أو فيما إذا علم المكلف بوجوب أحد شيئين، وحرمة الآخر، وعجز عن التمييز بين الواجب والمحرم، فيختار أيضاً فعل أيهما شاء وترك الآخر، لأنه إن تركهما معاً يقع في المخالفة القطعية بترك الواجب، وإن فعلهما معاً يقع فيها بفعل المحرم، وإن فعل أحدهما دون الآخر يحتمل أن الذي أتى به هو الواجب، وبذلك يحصل الفرار من المخالفة القطعية إلى الموافقة الاحتمالية(1) ومعنى المخالفة القطعية أن يعلم الإنسان أنه خالف الحق والواقع يقيناً، خالفه بتركه الواجب، أو بفعله المحرم، ومعنى الموافقة الاحتمالية أن يحصل له هذا العلم.

وقد أخذت مذاهب السنة بالاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير في كثير من الموارد كما أخذت الشيعة بالاستصلاح والعلة المنصوصة ومفهوم الموافقة، ولكن أركان الدليل الرابع وأقسامه الرئيسية عند أولئك هي القياس والاستحسان والاستصلاح، وعند هؤلاء الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير.

_____________________

(1) رسائل الأنصاري المطلب الثالث من باب الشك في المكلف به.

نكتفي بهذه الإشارة إلى أقوال المذاهب تاركين التفصيل في بيان الشروط والأقسام، والمقارنة، لأن المقام لا يتسع للمزيد، فقد وضع علماء الأصول من السنة والشيعة في هذا الدليل كتباً ضخمة مستقلة، على أن غرضنا ينحصر هنا في التعريف بالدليل الرابع فحسب، لنثبت أنه من أبرز مظاهر الاجتهاد، ولهذا سمي بالدليل الاجتهادي.

وقد وجد علماء الشيعة فيه ميداناً فسيحاً لاجتهادهم، فأحدث المتأخرون قواعد فقهية جديدة، وعدلوا كثيراً من القواعد القديمة، فنفوا أحكاماً أثبتها المتقدمون، وأثبتوا أحكاماً لم يعرفها أحد ممن سبقهم، قلّموا وطعَّموا جميع أبواب الفقه من العبادات والمعاملات فمن القواعد التي اكتشفوها من عهد قريب : قاعدة مجهول التاريخ(1) والأصل المثبت وقاعدة اليقين، والشبهة المصداقية(2)، وما إلى ذلك مما يصدق عليه بحق أنه فقه جديد بالقياس إلى فقه المتقدمين، وهذا كتاب رسائل الشيخ الأنصاري، وكفاية الخراساني، وتقريرات النائيني دليل على هذه الحقيقة.

والخلاصة أن الاجتهاد يكون مع وجود الأدلة الأربعة، فمع نصوص القرآن يكون في الفهم والاستنباط، ومع السنة يكون في سند الحديث، وفهم ألفاظه، ويكون في الإجماع في إِمكان تحققه، وفي عدم الأخذ به إذا علم سببه، وإذا حصل في عصر أو عصرين، أما الدليل الرابع فكما قدمنا من أبرز مظاهر الاجتهاد، حيث لا نص ولا إِجماع.

على هذا الأساس، أساس الاجتهاد في فهم الأدلة الأربعة، والعمل بمقتضاها نستخرج أحكاماً شرعية تتلاءم مع طبيعة الحياة، ولا تتنافى مع شيء من نصوص الكتاب والسنة، وإِجماع الأمة ودليل العقل، وبهذا المقياس نقيس جملة من الأحكام الموجودة في كتب الفقه، فننفي منها ما تأباه الضرورة، ولا يدل عليه دليل شرعي، ونقر ما أقرته الحاجة والشريعة الإسلامية.

_____________________

(1) قاعدة مجهول التاريخ نشرت مفصلة بجميع أقسامها وأحكامها في النشرة القضائية لوزارة العدلية اللبنانية عدد آب سنة 1951.

(2) الأصل المثبت، وقاعدة اليقين، والشبهة المصداقية نشرت مفصلة في مجلة رسالة الإسلام المصرية بعنوان أصول الفقه بين القديم والجديد عدد رمضان 1369 هجري.

الإمَامَة عِندَ الشِّيعَة الإماميَّة

الإمامة

تجمع الرئاسة الزمنية والدينية لرجل يتولاهما خلافة عن النبي ص فالسلطات بكاملها تنحصر بالإمام وهو وحده يعين القضاة والولاة وقادة الجيش وأئمة الصلاة، وجباة الأموال وسائر الموظفين، يعينهم بمرسوم خاص أو بقانون أو بواسطة نائب عنه يخول له ذلك.

الأقوال في الإمامة

اختلف المسلمون في وجوب نصب الإمام بعد النبي وعدم وجوبه، وافترقوا في ذلك إلى فرق. قال الشيعة : يجب على اللّه أن ينصب إماماً للناس. وقال السنة : لا يجب ذلك على اللّه، وإنما يجب على الناس. وقال الخوارج : لا يجب نصب الإمام مطلقاً، لا على اللّه ولا على الناس.

قال القوشجي(1) من علماء السنة في كتاب شرح التجريد :

استدل أهل السنة على قولهم بإجماع الصحابة، وهو العمدة، حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات، واشتغلوا به عن دفن الرسول ص وكذا عقيب موت كل إمام، روي لما توفي النبي خطب أبو بكر، فقال : يا أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لا يموت، لا بد لهذا الأمر من يقوم به، فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم اللّه.

_____________________

(1) هو علاء الدين علي بن محمد، وله عدة كتب، وهو الذي أكمل رصد سمرقند المشهور بالزيج الجديد، توفي في قسطنطينية 879 هجري.

فبادروا من كل جانب، وقالوا : صدقت، لكننا ننظر في هذا الأمر، ولم يقل أحد أنه لا حاجة إلى إمام.

واستدل الخوارج على عدم وجوب نصب الإمام بأن نصبه يستدعي إثارة الفتن والحروب، لأن كل حزب يؤيد واحداً منه، واتفاق جميع الأحزاب على رجل معين بعيد جداً، فالأولى سد الباب، على أنه لو أمكن اتفاق الكلمة على تعيين من يستجمع الشروط بكاملها جاز أن ينصبوه إماماً لهم.

واستدل الشيعة الإمامية على أن الاختيار في تنصيب الإمام للّه وحده بوجوه الأول : بأن تنصيبه لطف من اللّه في حق عباده، لأن الإمام يقربهم من الطاعة بإرشادهم إليها وحثهم عليها، ويبعدهم عن المعصية بنهيهم عنها وتخويفهم من عواقبها، واللطف منه واجب، فيكون تعيين الإمام وتنصيبه واجباً عليه.

وقال المحقق الأردبيلي(1) : لطف الإمامة يتم بأمور منها ما يجب على اللّه تعالى، وهو خلق الإمام وتمكينه بالقدرة والعلم، والنص عليه باسمه ونسبه، وهذا قد فعله اللّه، ومنها ما يجب على الإمام، وهو تحمله الإمامة وقبوله لها، وهذا قد فعله الإمام، ومنها ما يجب على الرعية، وهو مساعدته وقبول أوامره، وهذا لم تفعله الرعية، فكان منع اللطف منهم لا من اللّه ولا من الإمام.

الثاني : أن اللّه ورسوله قد بينا جميع الأحكام حقيرها وخطيرها، ولم يهملا شيئاً من أقوال العباد وافعالهم إلا بينا حكمه بلفظ خاص أو عام، فكيف يترك بيان هذا المنصب الهام الذي تتعلق به جميع الشؤون الدنيوية والأخروية.

الثالث : أن اختيار النبي بيد اللّه، لأن النبوة سر لا يطلع عليه سواه، فهو وحده يعلم حيث يجعل رسالته، كذلك اختيار الإمام يرجع إلى اللّه، لأن الإمامة سر أيضاً لا يطلع عليه إلا هو، بالنظر لخطرها ونيابتها عن النبوة.

صفات الإمام

يشترط الشيعة الإمامية أن يكون الإمام معصوماً، لأن الغاية من وجوده ارشاد الناس إلى الحق، وردعهم عن الباطل. فلو جاز عليه الخطأ في الأحكام، أو المعصية

_____________________

(1) هو أحمد بن محمد الأردبيلي من أعظم علماء الإمامية ومراجعهم الدينية، ولأقواله وكتبه عندهم شأن كبير توفي سنة 993 هجري.

لكان كمن يطهر المكروب بمكروب مثله. وأن يكون أفضل من رعيته علماً وخُلقاً، لأنه لو لم يكن أفضل الجميع فلا يخلو اما أن يكون غيره أفضل منه، واما أن يكون مساوياً له في الفضل، والأول يستدعي تقديم المفضول على الفاضل، والتلميذ على الاستاذ، وهو قبيح عقلاً وشرعاً بدليل الآية 35 من سورة يونس «أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى، فما لكم كيف تحكمون». والثاني ترجيح بلا مرجح، وهو عبث تعالى اللّه عنه، فتعين القول بالأفضلية المطلقة.

من هو الإمام بعد النبي

بعد أن أوجب الشيعة الإمامية النص من اللّه على الإمام قالوا : ثبت النص على علي بالخلافة بعد الرسول من القرآن الكريم والسنة النبوية، فمن القرآن الآية 55 من سورة المائدة «إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون» فقد نزلت في حق علي باتفاق المفسرين حين أعطى السائل خاتمه، وهو راكع في صلاته، وللولاية معان عديدة، والمراد منها في هذه الآية ولاية التصرف في أمور المسلمين بقرينة سوق الكلام، وعليه تكون نسبة الولاية إلى علي كنسبتها إلى النبي ص. ومن السنة : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى.. من كنت مولاه فعلي مولاه.. أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعد... إلى غير ذلك من الأحاديث».

بقية الأئمة :

قال الشيعة الإمامية الاثنا عشرية : إن الإمام بعد علي ولده الحسن ثم الحسين ثم ولده علي ثم ولده محمد ثم ولده جعفر ثم ولده الكاظم ثم ولده الرضا ثم ولده الجواد ثم ولده علي ثم ولده الحسن ثم ولده محمد المنتظر سلام اللّه عليهم جميعاً مستدلين بقول النبي للحسين ابني هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم، وبالنص الثابت من كل إمام سابق على ما بعده.

هذه كلمة موجزة أردنا بها الإشارة إلى جهة الموضوع، ولم نرد شرحه وتفصيله في هذا المقام، وما زال الإمامية منذ أكثر من ألف سنة يؤلفون في الإمامة الكتب المطولة والمختصرة، وينشرون الرسائل والمقالات، ويتلون فيها الخطب والمحاضرات في المحافل وعلى المنابر، وينظمون الدواوين والقصائد، وأوسع كتاب في هذا الموضوع - حسب ما أظن - كتاب الشافي للشريف المرتضى، فقد جمع فيه أقوال المؤيدين والمفندين، وما قيل أو يمكن أن يقال حول الإمامة، ومن جاء بعده أخذ عنه.

وهو مطبوع يعرض للبيع في مكاتب إيران والعراق.

 

الإمَام

لأي صفة يتسع هذا المقام إذا حاولت التعبير عن بعض صفات الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ! ألزهده وعدله، أو لعقله وعلمه، أو لشجاعته وكرمه، أو لتواضعه وعفوه، أو لتضحيته وخدماته، أو لفصاحته وبلاغته !.

وهل يحتاج الكاتب عن هذه الشخصية إلى الاستشهاد بقول مستشرق غربي، أو مؤرخ شرقي!. هل يحتاج إلى نقل الرواة ثقة عن ثقة، ويبحث في سند الرواية ونصوصها، ثم يجهد الفكر في الاستنباط والتأويل والتخريج !. كلا، ليس الكاتب بحاجة إلى شيء من هذا، فلا مدعي ومنكر، كي نلجأ إلى طرق الاثبات والاقناع، ولا اجتهاد وتقليد، كي يفحص المجتهد عن الدليل، والمقلد عمن يوثق بقوله.

نشأ الإمام في محيط يعبد الاصنام، وما سجد لصنم، وافتتح حياته بالجهاد ضد الشرك والالحاد، والبغي والاستبداد، بات على فراش النبي صلى الله عليه وآله معرضاً نفسه للقتل فداء للرسول الأعظم، وقتل يوم بدر صناديد قريش، منهم الوليد وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن سعيد، وحقق اللّه على يد الرسول ويده أول عز للإسلام والمسلمين، وقتل يوم اُحد جماعة من الأعداء، منهم طلحة بن طلحة وبني عبد الدار أصحاب الراية، وقتل في وقعة خيبر مرحبا بطل اليهود، ويوم الخندق عمرو بن ود الذي كان يقوم بألف رجل، قاتل وقتل هؤلاء وغيرهم لا لسلطان ولا لمال ولا أخذاً بثأر، قاتلهم بعد أن جحدوا إِله العالمين، واستعلوا على البائسين، واستعبدوا المستضعفين، قاتلهم بعد أن دعاهم إلى الحق فرفضوه، فلم ير لهم دواء إلا السيف فأعمله في رقابهم، وشفى صدور قوم مؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم.

وقد اعتاد الناس أن يقولوا : أنت كريم لمن سرق ألفاً، وبذل منه واحداً، بل اعتادوا أن يلقبوه بالمحسن الكبير. إِذن بأي لفظ نعبر عمن بذل حياته وجميع ما يملك للناس، بقي الإمام هو وزوجته بنت الرسول، وولداه الحسنان ثلاثة أيام لا يذوقون شيئاً، حيث آثروا بطعامهم على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وباع حديقة لا يملك غيرها باثني عشر ألف درهم وزعها على المحتاجين، ولم يبق لأهله درهماً واحداً، وهم أحوج من يكون إلى المال.

واعتاد الناس أن يقولوا للرئيس : أنت عادل، وإن عاش في النعمة والترف، وشعبه في البؤس والشقاء، إذن بأي لفظ نعبر عن الإمام، وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض في الكوفة، وسكن في كوخ مع الفقراء، وهو خليفة المسلمين، وامتنع عن أكل الطيبات، لأن في أطراف مملكته من لا عهد له بالشبع، ولا طمع له بالقرص.

قال له العلاء الحارثي : يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصماً. قال : ماله ؟ قال : لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال : عليّ به، فلما جاء قال : يا عدو نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى اللّه أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها !. أنت أهون على اللّه من ذلك. قال : يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك. قال : ويحك، إِني لست كأنت، إن اللّه فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس.

بهذا القياس، بالشعب بالضعفاء والمساكين والفقراء قاس الإمام، وهو الحاكم المطلق، نفسه وأخاه عقيلاً وولديه حسناً وحسيناً، فلقد شمل عدله القريب والبعيد، والعدو والصديق، كما شمل الغيث المؤمن والملحد، بل شمل عدله الحيوان كما شمل الإنسان، فكان يوصي من في يده إِبل الصدقة أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها، وأن لا يبالغ في حلبها خشية أن يضر ذلك بولدها، وأن لا يركب ناقة ويدع غيرها، بل يعدل بينها في الركوب، وبين صواحباتها، فيا للعدالة المساواة تشمل الأحياء جميعاً، مساواة بين أفراد الحيوان، فضلاً عن أبناء الإنسان.

أما العفو فهو فوق العدل، وعفو الإمام فوق كل عفو، قد يعفو الإنسان عمن يسيء إليه بكلمة نابية، أو يعتدي على بعض ما يملك، أما الإمام فقد ظفر بألد أعدائه مروان بن الحكم وعمرو بن العاص فعفا عنهما، وكل واحد منهما أخطر عليه من جيش بخاصة ابن العاص، وحال جند معاوية بينه وبين الماء في صفين، وقالوا له : لن تذوق الماء حتى تموت عطشاً، فأجلاهم عنه، وسقاهم منه، وأوصى بقاتله ابن ملجم خيراً، وقال لأهله : اعفوا هو أقرب للتقوى.

أما علمه فقد ملأت أقواله كتب اللغة بشتى فروعها، وكتب الفلسفة والأخلاق والفقه بخاصة القضاء، وهو أول رجل في الإسلام، وربما في العالم وضع العلماء كتباً مستقلة في قضائه، وقوله الفصل والحجة القاطعة في ذلك كله، وبكلمة متى ثبت القول عن علي فلا يسأل عن قول سواه، لأنه ينطق بلسان الرسول الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى. وأجمع وأروع كلمة قيلت في وصف الإمام هي كلمة صاحبه ضرار، حيث قال له معاوية : صف لي علياً، فقال : كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحدته، كان واللّه عزيز الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفيه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ونحن واللّه مع تقريبه لنا، ودنوه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، وإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد باللّه لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه، وهو يقول : يا دنيا اليَّ تعرضت، أم إليَّ تشوقت : هيهات هيهات غري غيري، لا حين حينك، فقد طلقتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطبك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق(1).

وبالتالي فلا أريد مما قدمت أن أمهد لذكر فضائل الإمام ومناقبه، وإنما غرضي الوحيد أن أبين أن الولاء للإمام هو ولاء للإنسانية والحق والعدالة، ولا

_____________________

(1) كتاب حديقة الأفراح، لأحمد الشرواني ص 43 طبعة سنة 1298 هجرية.

استدل على ذلك بنص ولا أصل ولا إجماع، وإنما أحيل من يطالبني بالدليل إلى سيرة الإمام وتاريخه، ثم يحكم بما يوحيه عقله وضميره، بل أحيله إلى سيرة الأمويين مع الإمام، وسيعلم من حقدهم عليه، واغراقهم في بغضه مكانته من الحق، لأنهم أعداؤه الألداء، وخصومه الأشداء.

قيل لمعاوية : قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن هذا الرجل، فقال : لا واللّه، حتى يربو عليها الصغير، ويهرم الكبير، هذا قول من وصف بالحلم الذي ورثه عن أمه هند، فكيف بغير الحليم منهم !.

 

المنَاجَاة *

لقد بذل الأئمة الهداة (ع) أقصى ما لديهم من جهد ليُخلّقوا شيعتهم بأخلاقهم، ويقصدوا بهم قصدهم، وسلكوا لذلك كل سبيل، ولم يقتصروا على إلقاء الخطب والمواعظ، والدروس والمحاضرات، وضرب الأمثال والحكم، وإيراد القصص والحكايات، بل أوجدوا لهم آثاراً أخرى من غير هذا النوع، وغير الأساليب المألوفة في فن التربية الحديثة ودور المعلمين والمعلمات وعنوا بها عناية خاصة، لأنها أجدى وأبلغ في التأثير والتهذيب.

وقد اصطلح الشيعة على تسمية تلك الآثار التي لا يقدر قدرها إِلا من فتح اللّه عليه باب علمه وهدايته، اصطلحوا على تسميتها بالأدعية والزيارات، ولكنها في واقع الأمر إِشراق إلهي يكمل ما في النفس البشرية من نقص، ويطهر ما فيها من رجس، ويصلح ما فيها من فساد، هي وحي ما في ذلك شك، ولكنها وحي المحبة والإخلاص، وفيض الضمير والوجدان الحي أراد أئمة الشيعة أن يجردوا من كل نفس رقيباً ملازماً لها في السر والعلانية مسيطراً عليها سيطرة السيد على عبده والقائد على جنده يقربها من الطاعة ويبعدها عن المعصية، فسنوا لأتباعهم أدعية ومناجاة رتبوها على الأيام والأوقات، وأمروهم بتكرارها ومعاودتها حتى تصبح لهم طبيعة ثانية : فدعاء للصباح، وآخر للمساء، وفي كل يوم من أيام الشهر، وفي كل ليلة من ليالي الجمعة دعاء خاص، ولكل من رجب وشعبان ورمضان ولياليه عشية وسحراً وأيامه ظهراً وعصراً أدعية معينة، وأودعوا هذه

_____________________

* - نشر في العرفان أيار 1950 بعنوان قرآن رقم 2 عند الإمامية، وابدلت العنوان هنا، لأن جماعة من الأفاضل انتقدوه.

الأوراد مكارم الأخلاق بكاملها، وعلى الأصح أودعوها أخلاقهم الكريمة بالذات، وهي لا تعد ولا تحصى، وقد جمعها علماء الإمامية في كتب خاصة، منها الصحيفة السجادية، والاقبال لابن طاووس، ومصباح الكفعمي، وجامع الأدعية والزيارات نذكر منها في مقامنا هذا بعض الفقرات على سبيل الشاهد والمثال :

«ما لي كلما قلت قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي... إِلا هي لعلك رأيتني مستخفاً بحقك فأقصيتني، أو لعلك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني، أو لعلك بقلة حيائي منك جازيتني... اللهم ألبسني زينة المتقين في بسط العدل وكظم الغيظ، وحسن السيرة، والسبق إلى الفضيلة، والقول بالحق وإن عز، والصمت عن الباطل وإِن نفع، واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وإن قل من قولي وفعلي... اللهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمني والتظني والحسد ذكراً لعظمتك، وتفكيراً في قدرتك، وما أجرى على لساني من لفظة فحش أو هجر أو شتم عرض أو شهادة باطل أو اغتياب غائب أو سب حاضر نطقاً بالحمد لك، وإغراقاً في الثناء عليك... اللهم الحقني بصالح من مضى، واجعلني من صالح من بقي، وخذ بي سبيل الصالحين... اللهم إني أعوذ بك من الكسل والفشل والهم والحزن والجبن والبخل والغفلة والقسوة والذلة والمسكنة والفقر والفاقة، وأعوذ بك من نفس لا تقنع، وبطن لا يشبع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، وعمل لا ينفع، وصلاة لا ترفع».

فهل ترى وسيلة أيسر من هذه الوسيلة، وأبعدها أثراً وأعمها نفعاً ؟ وهل ترى شيئاً أقرب إلى النفس، وأدنى من القلب والعقل من هذه الخشية والسكينة ؟ وهل ادعى إلى التفكير والتأمل والرجوع بالنفس، إلى بارئها من هذا الشعور الديني الذي يبعث في القلب رغبة ورهبة وحناناً ورحمة.

إن هذا النحو من التأديب لم يكتشفه فن التربية الحديثة بعد ولم تهتد إليه رجاله الاخصائيون، فلم يكتف الإمام بتعداد المساوئ، وإضافة كل سيئة إلى نتيجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها بحال، وإنما علم الإنسان كيف يتصل بخالقه رأساً ومن غير واسطة، وكيف يخلد إلى ضميره ووجدانه، ويعكف على نفسه فيهذبها ويجرد منها وازعاً يقف سداً بينها وبين شهواتها واندفاعاتها، متجهاً بها إلى الخير والكمال، ناهجاً السعادة والفضيلة.

على هذا الأساس، أساس الشعور باللّه وبالخير المطلق، والتجرد من الشهوات والأهواء وتهذيب الأخلاق والطباع، وتثقيف العقول والمواهب. على هذا الأساس أراد أئمة الشيعة أن يقيموا بنيان الإنسانية لتسيطر المحبة والعدالة، ويعم الأمن والسلام.

وقعت البشرية في أشد مما هي فيه اليوم من الجهل والعدوان وإفشاء الرذيلة والفحشاء، ولم تنشلها من تلك الهوة السحيقة العميقة القنابل والطائرات، إن هذه تزيد المشاكل تعقداً وتقف حجرة عثرة في سبيل الصلاح والإصلاح لأن الأدواء والأوباء لا تعالج بإِيجاد اسبابها الباعثة على نموها وانتشارها. لقد وقع العالم في شر مما هو فيه الآن، فكان خلاصه على يد الرسل والأنبياء، رسل الرحمة والسلام، وانبياء الإنسانية والعدالة، إن احياء روح الفضيلة في النفوس هي السبيل الوحيدة الموصلة إلى الراحة وحسن العاقبة والسعادة في الدنيا والآخرة.

ليس الغرض من هذه الأوراد التقرب إلى اللّه سبحانه بتلاوتها وترديد ألفاظها، وإنما القصد أن نتفهم معانيها ومغازيها، فتغمر بها نفوسنا، ويستغرق بها تفكيرنا، لنعمل جاهدين معتقدين أن من ورائنا قوة خفية تراقب وتحاسب، فتعين المخلص على جهاده، وتمهد له سبيل النجاح، وتشجعه على المضي والنشاط:

«ربي قوّ على خدمتك جوارحي، واشدد على العزيمة جوانحي وهب لي الجد في خشيتك، والدوام في الاتصال بخدمتك، حتى أسرع إليك في ميادين السابقين، واشتاق إلى قربك في المشتاقين، وأدنو منك دنو المخلصين، واخافك مخافة الموقنين».

وهل القرب من اللّه غير الجهاد في سبيل الصالح العام ؟ وهل السباق في ميادين اللّه غير المسارعة إلى الفضائل والخيرات ؟ وهل الاتصال بخدمة اللّه غير المثابرة على العمل الذي يعود بالنفع عليك وعلى أهلك وأطفالك ؟

«اللهم أعطني السعة في الرزق، والأمن في الوطن، وقرة العين في الأهل والمال والولد والصحة في الجسم والقوة في البدن والسلامة في الدين».

إن هذه ثمرات ينتجها السعي مع التوكل على الواحد الأحد، وهل تجد شيئاً أمس بالعاطفة، وأسرع تأثيراً وإنفعالاً من قول الإمام زين العابدين (ع) : «اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعل أوسع رزقك عليّ إذا كبرت، واحسن أيامي يوم ألقاك».

وأي حرمة أو هيبة للمرء عند زوجه وأولاده إذا شاب رأسه وقل ماله ؟ ولا يوم كيومه الأخير الذي عليه مدار سعادته أو شقائه الابديين.

وبعد، فإن هذه الكنوز ليست بأدعية ولا أوراد فحسب، وإنما هي كتاب الدهر ومدرسة الحياة، وثروة القلب والعقل، فيجب أن يقرأها المؤمن والملحد، لأنها الوازع الوجداني في هذه الحياة، فضلاً عما فيها من لذة ومتعة وجمال.

كان الشيعة الإمامية منذ عهد أئمتهم إلى زمن قريب يحافظون على هذه الآثار ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً، يجثمون في المساجد وفي البيوت يكررونها خاشعين متضرعين، فيشعر كل واحد أنه خلق لعمل الخير لا للشر، ووجد للطاعة لا للمعصية، ثم أهملوها كما أهملوا غيرها من الشعائر والعادات المقدسة التي كانوا بها مثلاً أعلى لصدق الإيمان ورسوخ العقيدة.

 

التقيَّة

قال ابن أبي الحديد في أول الجزء الثالث من شرح نهج البلاغة ما يتلخص بأن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى عماله برئت الذمة ممن يروي شيئاً في فضائل علي وأهل بيته، وأن يمحوا اسم كل شيعي من دواوين العطاء، وينكلوا به، ويهدموا داره، وامتثل العمال أمر سيدهم، فقتلوا الشيعة تحت كل حجر ومدر، وطردوهم وشردوهم، وقطعوا الأيدي والأرجل، وسملوا الأعين، وصلبوهم على جذع النخل. وزاد الضغط بعد معاوية أضعافاً، وبالأخص في ولاية عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين، وولاية الحجاج «بن يوسف» حيث قتل الشيعة كل قتلة، وأخذوا بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعي.

ومن هذا الضغط التزم الشيعة طريق (التقية). ومعناها عندهم الحيطة والحذر من القوي الظالم الذي يأخذ المتهم دون أن يحاكمه ويأذن له بالدفاع عن نفسه.

واليوم لا أثر للتقية عند الشيعة حيث لا خوف عليهم، ولا هم يرهبون.

واستدلوا على تشريع التقية بالآية 106 النحل «إِلا من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان». قال المفسرون في سبب نزولها : إِن المشركين آذوا عمار بن ياسر، وقسوا عليه، وأكرهوه على قول السوء بحق الرسول صلى اللّه عليه وسلم فأعطاهم ما أرادوا، فوصل خبره إلى الرسول، وهو مع جماعة من أصحابه، فقال بعضهم : كفر عمار، فأجابه الرسول : كلا، إِن عماراً يغمره الإيمان من قرنه إلى قدمه، ودخل عليهم عمار باكياً على ما صدر منه، فمسح الرسول عينيه، وقال له : لا تبك، إِن عادوا لك فعد لهم بما قلت.

 

الأصْل في الأشيَاء

من عقيدة الإمامية أن الأصل في الأشياء الاباحة حتى يرد فيها نهي، فهم لا يخطئون من يفعل شيئاً لا يعلم المنع عنه، فعدم العلم بالمنع كاف للحكم بالإباحة، ولا نحتاج إلى دليل خاص يدل على الترخيص، فمن قال : هذا حلال، أو هذا طاهر، لا يسأل عن الدليل، وإنما يطلب الدليل ممن يدعي التحريم أو النجاسة، لأن الأصل في الأشياء الحل والطهارة حتى يثبت العكس.

وينقلب هذا الأصل إلى ضده في بعض الوقائع، أي أن الأصل فيها المنع حتى يثبت العكس، منها حقوق الناس، فلا يجوز لأحد أن يتعدى على غيره بالقتل أو الضرب أو الشتم، أو التصرف في أمواله حتى يعلم بوجود المسوغ، ومنها مقاربة النساء، فلا يجوز مقاربة أية امرأة أو العقد عليها إلا بعد العلم بالحل والجواز، ومنها اللحوم فلا يجوز تناول أي نوع من اللحم حتى يثبت أنه من حيوان يؤكل لحمه، وأنه ذكي حسب الأصول المقررة.

والسر أن الزواج في النوع الأول مطلق غير مقيد بشيء، أما جواز التصرف بحق الغير، بدمه أو ماله، وجواز مقاربة المرأة، وتناول اللحم فمقيد بشرط خاص لا بد من إِحرازه والتثبت من وجوده، وبمجرد الشك في الشرط ينتفي الجواز والترخيص.

 

هَل يَجبُ على المتَديّن أن يقَلد في أعمَالِه الدّينية ؟ *

جاءني هذا السؤال من أحد المهاجرين المؤمنين، ثم أخبرني بعض القادمين من المهجر أن هذه المسألة كثر حولها الكلام والحوار بين الجالية اللبنانية في سيراليون.

لكل إنسان أن يستقل بحريته وإِرادته، فيقول ويفعل ما يشاء ما لم يتعد بأقواله وأفعاله على حرية الغير، وبتعبير أهل الشريعة ما لم يحلل حراماً أو يحرم حلالاً، وليس له أن ينسب كلمة واحدة أو فعلاً من الأفعال إلى الدين أو القانون أو لأي شيء آخر ما لم تثبت النسبة لديه بالطرق العلمية الصحيحة.

والمتدين عندما يؤدي عملاً إِنما يؤديه بدافع ثبوته في الدين مدعياً أن الدين نفسه أمره بذلك، ولا ريب أن يكون كاذباً مفترياً على اللّه ورسوله في دعواه هذه إذا لم يتحقق من ثبوتها في الشريعة بأحد طرق الإثبات، ومصادر الشريعة أربعة : كتاب اللّه، وسنة نبيه، والإجماع، وأدلة العقل، ولمعرفة الحكم الشرعي الثابت في هذه الأصول طريقان(1).

الطريق الأول : أن يكون للمتدين الأهلية التامة لاستخراج الحكم من دليله بنفسه وبلا واسطة، ولا تتحقق هذه الأهلية إلا لمن عرف اللغة العربية من معاني الكلمات وهيئاتها وتراكيبها واطلع على كتب الشريعة، وموارد اجماع العلماء والمشهور من أقوالهم، واتقن أصول الفقه اللفظية والعقلية، ومتى تمت هذه المعلومات للمتدين استطاع بعد بذل الجهد في البحث والتنقيب وإمعان النظر أن يرد الفروع إلى أصولها، والجزئيات إلى كلياتها، ويستخرج الأحكام الشرعية

_____________________

* - نشر في العرفان تشرين الثاني 1954.

(1) هذان الطريقان محل وفاق بين الفقهاء أما الاحتياط فقد اختلفوا فيه ولذا لم نذكره.

من أدلتها وبهذا يصبح عالماً مجتهداً يعمل برأيه، ولا يرجع إلى غيره.

الطريق الثاني : يختص بمن لا أهلية له لاستخراج الحكم الشرعي من دليله، وقد عبر عنه الفقهاء بالمقلد، والتقليد تارة يراد منه التقليد بالرأي، أي الأخذ بقول القائل بصفته الشخصية دون أن يطالب بالحجة والدليل، بل يجعل قوله «العندي» هو الدليل والحجة، كما لو حكم إنسان بصحة شيء أو فساده، لأن فلاناً حكم بذلك بحيث يكون القول هو الدليل الوحيد لا غير، وهذا هو التقليد الأعمى المحرم عقلاً وشرعاً وعرفاً، وهو المعني بما جاء في القرآن الكريم «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا.. قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون».

وتارة يراد بالتقليد الأخذ بالرواية أي الأخذ بما ينقله القائل عن غيره، لا من عند نفسه، كالأخذ بقول الطبيب إن هذا الشيء يحتوي على مادة كذا، وبقول المحامي إن القانون ينص على كذا، وبقول المهندس إن هذا الأساس يحمل طابقين من البناء أو أكثر، وكأخذ القاضي بشهادة من يعلم بعدالته، والأعمى بقول البصير الذي يرشده إلى الطريق، وما إلى ذلك من رجوع من لا يعلم إلى من يعلم، وهذا النوع من التقليد، وهو العمل بالرواية لا بالرأي، هو الذي أوجبه الفقهاء، فقد كانوا وما زالوا يرشدون الناس إلى ما ثبت في كتاب اللّه وسنة رسوله لا إلى شيء من آرائهم وأقوالهم الخاصة، فالجاهل يسأل العالم عن الحكم الثابت في الشريعة، فيفتيه به، ويرويه له لفظاً أو معنى، لقد أوجب الفقهاء السؤال على الجاهل للآية الكريمة «فاسألوا أهل الذكر إِن كنتم لا تعلمون» وأوجبوا على العالم أن يجيب ويبين لقوله تعالى «وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه»

وبهذه المناسبة ننقل إلى القراء ما قاله محمد بن علي الشوكاني من علماء السنة في رسالته المسماه القول المفيد في أدلة الإجتهاد والتقليد طبعة سنة 1929 ص 17 و18 و28 «ان حدوث التمذهب بمذهب الأئمة الأربعة إِنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة، وانهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد، وان هذه المذاهب إنما أحدثها العوام المقلدة من دون أن يأذن بها إِمام من الأئمة المجتهدين.. وكأن هذه الشريعة التي بين أظهرنا من كتاب اللّه وسنة رسوله قد صارت منسوخة، والناسخ لها ما ابتدعوه من التقليد في دين اللّه، فلا يعمل الناس بشيء مما في الكتاب والسنة، بل لا شريعة لهم إِلا ما تقرر في المذاهب، أذهبها اللّه».

 

فوَائدُ الصَّوم *

اعتاد فريق أن يكتبوا في كل سنة عن فوائد الصوم في عدد رمضان من مجلة العرفان الغراء، ونحن إذ نشكر العرفان التقية السخية، ولهذا الفريق حسن النية، نرجو ألا يكتب أحد في هذه السنة وفي السنين التالية الشيء الذي كان قد كتب في الأجيال الخالية، إن ما ينشرونه في كل عام، هو تكرار لما قيل وسطر من مئات الأعوام.

قالوا : إن فائدة الصوم تنقية المعدة، وفائدة الوضوء النظافة وفائدة الصلاة الرياضة، وأنا استغفر اللّه تعالى عن إخواني الأفاضل من هذا التعليل والتحليل، إن تناول حبة واحدة من الصيدلية لا تدع في المعدة كبيرة ولا صغيرة، وإن الغسل بالماء الساخن والصابون يغني عن عشرين وضوءاً من حيث النظافة، وإن حركة رياضية فنية تغني عن ألف ركعة من حيث الرياضة.

إن العبادة صلة خاصة بين العبد وربه، وفائدتها أخروية محضة، فلا يسوغ تفسيرها بأشياء دنيوية، ولا صلة لها بهذه الحياة سوى إظهار العبودية، والانقياد التام، والطاعة العمياء للّه سبحانه، فكل ما يعود إلى العبادة يجب التسليم به من غير قيد ولا شرط، وقول كيف ولماذا ؟ عقوق، وهذا معنى قول الفقهاء إن العبادة من الأمور التوقيفية، أي يجب الوقوف منها عند أمر اللّه تعالى.

أما حديث «صوموا تصحوا» فلعله جواب لمن يزعم أن الصوم يمرض الصحيح، لا إنه يصحح المريض، ولهذا يحرم الصوم على المريض مع الضرر،

_____________________

* - نشر في العرفان أيار 1952.

وعلى الصحيح إذا أدى به إلى المرض.

وقالوا : إن من فائدة الصوم أن يتذكر الصائم الفقير، ليتصدق عليه بالفرش والرغيف، ولو صح هذا لوجب الصوم على النواب فقط ليتذكروا الجياع والعطاشى الذين انتخبوهم، وجعلوهم نواباً.

 

كيفَ يَجبُ أن نَفهَم الِعبَادَة *

المواضيع التي تعرض لها الإسلام

يبحث الإسلام عن العقائد، عن الإيمان باللّه ورسوله واليوم الآخر، وعن محاسن الأخلاق ومساوئها، كالعفاف والصدق، والثبات والوفاء، والكرم والأمانة، وعن الغضب والحسد، والإسراف والبخل، والرياء والكذب، والغش والخلاعة، وما إلى ذلك، ويبحث عن العبادة، كالصلاة والصيام والحج، وعن النظم الاجتماعية، كالزواج والطلاق، والوصايا والمواريث، والجيش وتعيين الولاة، وتنظيم القضاء، ويبحث عن التجارة والزراعة، وما إِليهما من العقود.

ومن يرغب في لقب عالم بالديانة الإسلامية فعليه أن يعرف هذه الأمور، ويأخذها من أصولها المقررة، وأدلتها المفصلة، وبقدر معرفته بها قوة وضعفاً تكون منزلته من العلم بالإسلام وشريعته.

وليس من غرضنا في هذا المقام أن نبين حقيقة كل نوع من هذه الأنواع، والوصف الذي يخصه، ويميزه عن سواه، وإنما الغرض أن نبين الفرق بين العبادة وغيرها من المعاملات، ومنه يتضح القصد مما قلناه عن العبادة في العرفان الأغر عدد شعبان سنة 1371 هجري، وجواب ما كتبه الدكتور عمر فروخ، وما كتبه الأستاذ الشيخ عبد اللّه الخنيزي حول رأينا في معنى العبادة.

_____________________

* - نشر في العرفان أيلول 1952.

معنى العبادة

والفرق بين العبادة وجميع المعاملات أن العبادة لا تصح بحال بل لا تسمى عبادة إلا بشرطين: الأول : أن يثبت وجوبها بطريق النقل لا بطريق العقل. الثاني : أن يكون الدافع الأول على الإتيان بها إِطاعة اللّه سبحانه، وامتثال أمره الخاص المتعلق بالفعل نفسه، فمن عمل عملاً متعبداً به، وقاصداً منه وجه اللّه من دون أن يثبت أمره فإن عمله يكون بدعة وضلالة، وكذا من صام وصلى من غير أن يكون الدافع الأول على عباته إِطاعة الأمر المتعلق بالعبادة يكون عمله لغواً، فليس للإنسان كائناً من كان أن يعبد اللّه تعالى بعمل خاص يخترعه من عند نفسه، أو يزيد أو ينقص فيما رسم اللّه، مستنداً في ذلك إلى الأوامر المطلقة المجملة، كقوله سبحانه «وما اُمروا إِلا ليعبدوا اللّه. واعبدوا اللّه مخلصين له الدين. وما خلقت الجن والانس إِلا ليعبدون» وليس له أيضاً أن يشرك مع طاعة اللّه أي باعث من البواعث المادية، فمن توضأ بداعي الطاعة والنظافة معاً، أو صلى بداعي التعبد والرياضة، أو صام بداعي الوجوب والصحة يقع عمله في غير موقعه.

معنى المعاملة

أما معاملات التجارة، وعقود الزراعة، والأحوال الشخصية، وتنظيم دوائر الحكومة، وما إلى ذلك مما لا يدخل في باب العبادات ولا يمت إليها بصلة قريبة أو بعيدة، فكلها تصح وتنفذ من غير حاجة إلى أمر من اللّه سبحانه، على شريطة أن لا تزاحم حقاً من الحقوق الخاصة أو العامة، فلو فرض أن الناس اصطلحوا فيما بينهم على إيجاد نوع من التجارة أو الزراعة أو الصناعة أو عادة من العادات، ولم يكن شيء منها معروفاً في عهد الرسول فتصح وتسمى شرعية أيضاً، وإن لم يرد فيها نص خاص، تسمى شرعية للمبادئ العامة التي أقرها الدين، مثل «أوفوا بالعقود. وأحل اللّه البيع. والناس عند شروطهم. وكل صلح وشرط جائز إلا ما حلل حراماً أو حرم حلالاً» وأعلن الفقهاء هذه الحقيقة في كتب الفقه وأصوله بقولهم أنه ليس للمشرع حقيقة دينية شرعية واصطلاح خاص لمعنى الألفاظ إلا في العبادات، أي يرجع إليه في تفسير العبادة وأجزائها وشروطها، أما غيرها من المعاملات فهو كأحد الناس لا فرق بينه وبين أي إنسان من أبناء العرف في هذه الجهة.

وإذا وجد أمر خاص في الكتاب أو السنة بغير العبادات، كالأمر بالزواج والتجارة، فلا يجب على الإنسان أن يفعل المأمور به تقرباً إلى اللّه، وامتثالاً لأمره الخاص، كما يجب ذلك في العبادات، فمن تزوج لإشباع الغريزة الجنسية أو للولد، فالزواج شرعي صحيح، ومن باع أو اشترى، لغاية مادية فمعاملته صحيحة نافذة، بل لو قصد التوصل إلى الحرام من البيع كمن باع بعض ما يملك ليستعين به على الاثم والعدوان، فالبيع صحيح، وقد أجمع الفقهاء على أن من باع وقت الأذان إلى الصلاة من يوم الجمعة يأثم، ولكن بيعه صحيح نافذ الأثر، يأثم للآية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع» ويصح البيع، لأن النهي عن المعاملة لا يدل على الفساد.

نتيجة الفرق بين العبادة والمعاملة

وبعد أن اتضح أن الأحكام الشرعية، منها عبادات، ومنها معاملات، وأن العبادة تتوقف على أمر اللّه، وعلى إِتيانها بامتثال هذا الأمر على العكس من المعاملة ينتج أن العبادة من الأمور الروحية التي تقرب فاعلها من طاعة اللّه، وتبعده عن معصيته، وانها لا تمت إلى المادة بصلة، بل هي للّه وحده «فاسجدوا للّه واعبدوا. فاعبد اللّه مخلصاً. وأقم الصلاة لذكري» ولازم ذلك أن كل متدين يجب عليه أن يفعل العبادة عن طيب نفس من غير قيد ولا شرط.

ويبحث الإسلام عن المعاملات على أساس مادي، أي أساس تنظيم الحياة الدنيوية تنظيماً يصون مصلحة المجتمع، ولا تتصل المعاملات بالروح والحياة الأخرى إِلا تبعاً لهذه المصلحة، فمن تجاوز حدودها فقد تجاوز حدين، وخالف حقين، حق اللّه، وحق الناس، أي الحق الخاص والحق العام، ومن أخل بشيء من العبادة فقد تجاوز حداً واحداً، وخالف حقاً واحداً، هو حق اللّه فحسب، فالمعاملات التجارية والزراعية والصناعية يصح منها ما يتلاءم مع الحياة وتقدمها ويفسد منها ما لا يتفق مع الصالح الدنيوي، والصحيح نافذ بحق كل إنسان مؤمناً كان أم جاحداً.

ويتسع على الفقيه مجال الاجتهاد في المعاملات، ويضيق في العبادات، إِذ ينحصر في البحث عن الأمر التعبدي، فإِن وجده التزم به، وإِلا توقف عن القول، واعمال الفكر.

بني الإسلام على خمس

ولا شيء أصرح في الدلالة على ما قدمنا من الحديث الذي اتفقت عليه جميع المذاهب الإسلامية «بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إِله إِلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة، وحج البيت» فلم يبنَ الإسلام على شيء من الزراعة والصناعة والتجارة، لأن هذه تبنى عليها الحياة المطلقة في جميع صورها وألوانها، الحياة الطبيعية المادية التي يحياها في هذه الدار كل فرد متديناً أم غير متدين، أما الصلاة والحج والصيام فإنها أركان الحياة الروحية الدينية، فمن أقرَّ بها لزمه أن ينقاد إليها انقياداً تاماً، ولا يجوز له أن يعللها بشيء من المادة، إِذ يتنافى ذلك مع إِسلامه وإِيمانه.

الصلاة تنهى عن الفحشاء

وعلى الأساس الذي ذكرناه لمعنى العبادة نستطيع أن نفسر قوله سبحانه «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» وغيرها من الآيات والأحاديث التي تعرضت لبيان الحكمة من العبادة، فالقصد منها أن الإنسان لو عبد اللّه حقاً لتمشى على دين اللّه، وانتهج صراطه المستقيم، فانتهى عن المنكر والفحش، وعمل الخير والمعروف إِلا فقد حكم على نفسه بنفسه بأنه دجال منافق خير منه من أعلن الكفر والجحود وبهذا تجد تفسير قوله تعالى «فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون»

ما قال ربك ويل للأولى سكروا***بل قال ربك ويل للمصلينا

وثبت عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أنه قال «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إِلا بعداً. وقال : لا صلاة لمن لم يطع الصلاة. وطاعة الصلاة أن ينتهي المصلي عن الفحشاء والمنكر» وقال الإمام الصادق ع : «من أحب أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه».

 

المتعَة عِندَ الشيعَة الإمَاميَّة *

ويسمونها بالزواج المنقطع، وبالزواج إلى اجل، وهي كالزواج الدائم لا تتم إلا بعقد صحيح دال على قصد الزواج صراحة، ويحتاج العقد إلى إيجاب. وهو قول المرأة أو وكيلها : زوجت أو أنكحت أو متعت، ولا يكون بغير هذه الألفاظ الثلاثة أبداً، وإلى قبول من الرجل، وهو قبلت أو رضيت.

وكل مقاربة تحصل بين رجل وامرأة من دون هذا العقد فهي سفاح. وليست بنكاح حتى مع التراضي والرغبة الأكيدة. وإذا كان العقد بلفظ أجرت أو وهبت أو أبحت ونحوها، فهو لغو لا أثر له أبداً. ومتى تم العقد كان لازماً يجب الوفاء به، وألزم كل واحد من الطرفين بالعمل على مقتضاه.

ولا بد في عقد المتعة من ذكر المهر، وهو كمهر الزوجة الدائمة لا يتقدر بقلة أو كثرة، فيصح بكل ما يتراضى عليه الرجل والمرأة، ويسقط نصفه بهبة الأجل، أو انقضائه قبل الدخول، كما يسقط نصف مهر الزوجة بالطلاق قبل الدخول.

ولا يجوز للرجل أن يتمتع بذات محرم كأمه، واخته، وبنته، وبنت أخيه، وبنت اخته، وعمته، وخالته، نسباً ولا رضاعاً، ولا بأم زوجته ولا بنتها، واختها، ولا بمن تزوج أو تمتع بها أبوه أو ابنه، ولا بمن هي في العدة من نكاح غيره، ولا بمن زنى بها وهي في عصمة غيره، فالمتعة في ذلك كله كالزوجة الدائمة من غير تفاوت.

وعلى المتمتع بها أن تعتد مع الدخول بعد انتهاء الأجل، كالمطلقة، سوى أن المطلقة تعتد بثلاث حيضات، أو ثلاثة أشهر، وهي تعتد بحيضتين أو بخمسة

_____________________

* - نشر في العرفان تشرين الأول 1950.

وأربعين يوماً. أما العدة من الوفاة فهما فيها سواء، ومدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء أحصل الدخول أم لم يحصل.

والولد من المتعة كالولد من الزوجة الدائمة في الميراث والنفقة وسائر الحقوق المادية والأدبية.

ولا بد من أجل معين في المتعة يذكر في متن العقد، وبهذا تفترق المتعة عن الزواج الدائم، ولكن الطلاق يفصم عرى الزواج، كما يفصمه انتهاء الأجل في المتعة، فانتهاء الأجل طلاق في المعنى، ولكن بغير أسلوبه.

ولا ميراث للمتمتع بها من الزوج، ولا نفقة لها عليه، والزوجة الدائمة لها الميراث والنفقة ولكن للمتمتع بها أن تشترط على الرجل ضمن العقد الانفاق والميراث، وإذا تم هذا الشرط كانت المتمتع بها كالزوجة الدائمة من هذه الجهة أيضاً، ويكره التمتع بالزانية والبكر.

هذه هي المتعة، وهذي حدودها وقيودها، كما هي مدونة في جميع الكتب الفقهية للشيعة الإمامية، ولم تستعمل المتعة شيعة سوريا ولبنان، ولا عرب العراق، والمنقول أن بعض المسنّات في بلاد إيران يستعملن المتعة.

والخلاصة أن الشيعة الإمامية يقولون بإِباحة المتعة، ولكن على الأساس الذي بيناه. وعلى الرغم من ذلك فإنهم لا يفعلونها، وما هي بشائعة في بلادهم. وإنما الزواج الشائع بينهم هو الزواج الدائم المعروف المألوف عند جميع الطوائف والأمم. ولا أثر لها في محاكمهم الشرعية.

وقد اتفق السنة والشيعة على تشريع زواج المتعة في عهد الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وسلم، ودلت عليه الآية 24 من سورة النساء «فما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن فريضة»، وفي الحديث ما ذكره مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه، قال : «استمتعنا على عهد رسول اللّه وأبي بكر وعمر».

ولكن السنة قالوا : إن المتعة نسخت واصبحت حراماً بعد أن أحلها اللّه سبحانه، وقال الشيعة: لم يثبت النسخ عندنا، كانت حلالاً، وما زالت على ما كانت عليه.

ضَريبَة الزكَاة عِندَ الإماميَّة *

اجتمعت في القاهرة اللجنة التحضيرية للمؤتمر الشعبي العام الذي سيعقد في 20 أيلول من هذه السنة لبحث التكافل الاجتماعي، وستستأنف اللجنة اجتماعها ثانية لتنهي الأبحاث التي تدرج في جدول أعمال المؤتمر.

ومن الأبحاث التي تحضرها اللجنة الزكاة والوقف الخيري لرعاية المؤسسات الاجتماعية، تبحث هذين الموضوعين مكيفين مع العصر على أساس الشريعة الإسلامية، وقد اختير لهذه الغاية ثلاثة من علماء المسلمين، منهم العلامة الشيخ عبد اللّه العلايلي، واثنان من علماء القاهرة، ولا بد أن يدرس هؤلاء الأفاضل أقوال المذاهب في الزكاة والوقف، إن درس أقوالهم مجتمعة يؤدي حتماً إلى النتيجة المطلوبة، إذ رب فقيه لا تتفق فتواه في مسألة إلا مع عصره وبيئته، وآخر تتفق فتواه في المسألة ذاتها مع عصره، ولو ضمت اللجنة علماء من جميع المذاهب الإسلامية لجاءت الفائدة أتم وأكمل.

وان للشيعة الإمامية اجتهادات في زكاة الأموال واخماسها لا تجدها في أي مذهب إسلامي، وبوسعي أن أورد عشرات الشواهد على ذلك غير أن المجال لا يتسع لأكثر من شاهد : قال اللّه تعالى في سورة الأنفال آية 41 «واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل» فقد فسرت المذاهب - عدا الشيعة - الغنيمة بالأموال المكتسبة بطريق الحرب والقتال فأوجبوا الخمس بهذا النوع خاصة، أما الشيعة فقالوا: إن

_____________________

* - نشر في جريدة بيروت 23 نيسان 1952.

الغنيمة هي كل فائدة تحصل للإنسان من أي سبيل كان، لا من طريق الحرب فحسب.

فمن ملك منجماً من ذهب أو فضة أو حديد أو نفط أو نحاس أو زفت أو كبريت وما إلى ذلك ففيه الخمس، عشرون بالمائة، ومن وجد مدخراً من آثار السابقين أو أخرج شيئاً من البحر كاللؤلؤ والمرجان أو ورث من إنسان مالاً ثابتاً أو منقولاً، وكان المورث لم يؤد الخمس ففي ذلك كله ضريبة 20 بالمائة وكل ما يكسبه الإنسان من أرباح التجارة والصناعة والعمل والاجارات والوظيفة والهدية والوصية، وما إلى ذلك يستثنى منه مؤنته ومؤنة من يعول سنة كاملة وما زاد عن مؤنة السنة ففيه الخمس، ومن اشترى طعاماً أو وقوداً وفضل منه شيء عن السنة ففيه الخمس، ومن اشترى ثياباً تزيد عن حاجته وبقيت عنده أكثر من سنة ففيها الخمس.

هذا مثال واحد أوردناه للتنبيه على أن المجال عند الشيعة الإمامية يتسع لمن يريد أن يتخذ من الشريعة الإِسلامية أحكاماً تتمشى مع كل زمان ومكان.

إن الشيعة يملكون كنوزاً ثمينة من الاجتهادات التي ترتكز على الكتاب والسنة، ويملكون الإفادة منها في كل تشريع جديد، فمن الخير أن يشترك علماء الشيعة في كل مجتمع ومؤتمر يهدف إلى مثل هذه الغاية السامية.

 

الضَّرورَة تعفي المضطرّ مِنَ العِقاب *

عدم الحرج :

تقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ وأسس يقاس بها كل حكم من أحكام الشريعة، من أي نوع كان، ومن تلك المبادئ السعة، وعدم العسر والحرج على المكلفين، وهو أصل مطلق غير مقيد، وحاكم غير محكوم، لا ينفيه شيء، وبه ينتفي كل تكليف يوجب العسر والحرج، سواء أكان التكليف من نوع العبادات أو المعاملات أو العقوبات أو الأحوال الشخصية.

وقد أعلن القرآن الكريم هذا المبدأ «وما جعل عليكم في الدين من حرج» «يريد اللّه بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر». «يريد اللّه أن يخفف عنكم» واشتهر الحديث عن الرسول الأعظم: (بعثت بالحنفية السمحة).

قاعدة المصالح والمفاسد :

ومن القواعد التي ترجع إلى عدم الحرج قاعدة المصالح والمفاسد التي قال بها الشيعة والمعتزلة، تتلخص في أن اللّه أمر بالفعل لمصلحة فيه تعود على فاعله، ونهى عنه لمفسدة كذلك، لا ان الفعل يصبح صالحاً لأن اللّه أمر به وفاسداً لأنه نهى عنه، بل أمر به اللّه تعالى لأنه صالح بالذات، ونهى عنه لأنه قبيح بالذات.

ويتفرع على ذلك أنه يجوز للإنسان - إذا اضطرته الظروف - أن يفعل، ويترك ما نص الكتاب والسنة على وجوبه وتحريمه، ولا يعد ذلك مخالفة منه

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام نيسان 1952.

للشريعة، بل عمل بالشريعة نفسها، على شريطة أن تقدر الضرورة بقدرها، فيكتفي المضطر بما يدفع عنه الضرورة والضيق، وبارتفاع الضرورة يرتفع المسوغ الشرعي والعقلي، ويبقى الشيء على حكمه الأول، ويكون التعدي بغياً وعدواناً «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إِثم عليه». «فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإِن اللّه غفور رحيم». «وقد فصل لكم ما حرم عليكم إِلا ما اضطررتم إليه».

معنى الاضطرار :

ليس للاضطرار ضابط خاص يرجع إليه الفقيه، وإِنما يختلف باختلاف الأشخاص، والعوامل الخارجية، والدوافع النفسية، فرب حالة تعد اضطراراً بالقياس إِلى إِنسان دون غيره، بل رب حالة تكون اضطراراً لإنسان في مورد ولا تكون اضطراراً له في مورد آخر، ولذا قيل : لكل مقام مقال، ولكل سؤال جواب، ولكل حادث حديث.

وعلى أي الأحوال فليس معنى الاضطرار - في مقامنا هذا - أن يكون الإنسان مجبراً على الفعل، على نحو لا يكون له معه مندوحة إلى الترك، فإن الفعل - والحالة هذه - لا يتصف بحسن أو قبح، ولا يحكم عليه بحل او تحريم، لأنه خارج عن القدرة والاختيار، وإِنما المقصود من الإضطرار أن يكون الإنسان قادراً على الفعل والترك معاً، ولكنه يختار الفعل لعامل خارجي أو دافع نفسي، كمن لا يملك إلا ثوباً واحداً يتستر به، فاضطره الجوع إلى بيعه، ليشتري بثمنه رغيفاً يسد رمقه، ويقيم أوده.

وقد ذكر الفقهاء أسباباً تخفف على المجرم عقاب الجريمة، وأعذاراً تعفي المضطر من كل عقاب، غير أنهم لم ينظموها في مبحث واحد، بل جاءت متفرقة في أبواب الفقه هنا وهناك، ولو جمعت لكانت كتاباً مستقلاً.

اسباب التخفيف :

ومن أسباب التخفيف التي ذكرها الفقهاء : أن الزاني إذا كان أعزب أو متزوجاً يتعذر عليه الوصول إلى زوجته لمرض أو سفر فعقابه الجلد دون الرجم، وإذا كان متزوجاً يمكنه الوصول إلى زوجته ساعة يشاء يعاقب بالرجم، وأن السارق تقطع يده، إذا نقب نقباً، أو كسر قفلاً أو باباً، أما إذا أخذ المال من غير حرز كسرقة الثمرة على الشجرة، أو السرقة من الحقل والبيدر فلا تقطع يده(1).

الدفاع عن المال والنفس والحريم :

ومن الأعذار التي تعفي المضطر من كل عقاب، الدفاع عن المال والنفس والعرض، ولو أدى الدفاع إلى قتل المعتدي، وعليه جميع المذاهب، قال صاحب المغني ج 7 «لا أعلم فيه خلافاً» وقال صاحب الجواهر والمسالك «القتل دفاعاً عن النفس والمال لا يوجب قصاصاً.. ومن وجد مع زوجته رجلاً يزني بها فله قتلهما معاً، ولا إِثم عليه» وفي الآية الكريمة «ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً» والمعتدي قتل ظالماً لا مظلوماً، وقال الشهيد في المسالك «ألا قوي وجوب الدفاع عن النفس والحريم مع الإمكان، ولا يجوز الإستسلام» أي يجب على الإنسان أن يدافع عن نفسه وحريمه بكل وسيلة، ولو بقتل المعتدي، على شريطة أن يعتمد في الدفاع على الأسهل فالأسهل، كالصياح أولاً، ثم الضرب ثم الجرح، وأخيراً القتل، أما الدفاع عن المال فجائز فعله وتركه.

حاجة المضطر إلى الطعام

ومن الأعذار : حاجة المضطر إلى الطعام، فقد أباح فقهاء المذاهب للجائع الذي يخاف التلف على نفسه أن يتناول كل ما يحفظ به نفسه، ويسد رمقه، فأباحوا له أكل الميتة، والسرقة والنهب والقتل، قال صاحب المغني في باب الصيد والذبائح ج 8 «إذا لم يجد المضطر إِلا طعاماً لغيره، فإن لم يكن صاحبه مضطراً إليه لزمه بذله للمضطر، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه، لأنه مستحق له دون مالكه، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله قتاله، فإن قتل المضطر فهو شهيد، وإن آل أخذه إلى قتل صاحب الطعام فدمه هدر لأنه ظالم» وقال صاحب المسالك ج 2 باب الأطعمة والأشربة : «إن كان المضطر قادراً على صاحب

_____________________

(1) المغني طبعة ثالثة ج 7 ص 248، والجواهر والمسالك باب الحدود.

الطعام قاتله، فإن قتل المضطر كان مظلوماً، وإن قتل صاحب الطعام فدمه هدر».

ومن الطريف ما ذكره كثير من فقهاء السنة والشيعة وإن المضطر إِن لم يجد إلا نفسه جاز له أن يقطع بعض أعضائه غير الرئيسة التي لا يؤدي قطعها إلى هلاكه، ويأكلها، وأنه إذا وجد إنساناً ميتاً جاز له أن يأكل من لحمه.

وأول ما يختلج في النفس أن الفقهاء قد استوحوا هذا الفرص وأمثاله، من الفقر والحرمان في العصر الذي عاشوا فيه، وإن شأن المضطر في حركاته وسكناته أشبه بشأن الجماد تسيره قوة خارجة عنه، لأنه لا يصغي ولا يمكن أن يصغي لقول : هذا حسن يجب فعله، وذاك قبيح يجب تركه :

وقد التقت النظرية القائلة «إن الفقر ليتحدى كل فضيلة» بنظرية الفقهاء «لا عقاب مع اضطرار» بل هي عينها، وكفى بالفقر عقاباً.

وقال الشيخ محمد الأعسم في منظومة الأطعمة والأشربة(1):

الفضل للخبز الذي لولاه***ما كان يوماً يعبد الإله

ومن الأمثلة عندنا في جبل عامل «الجوع كافر» ولعل مصدر هذا المثل قول أبي ذر : «إِذا ذهب الفقر إِلى بلد قال له الكفر خذني معك» فقد تجول هذا الصحابي في قرى العامليين - جنوب لبنان - ينذر ويبشر أهله، عندما نفاه عثمان إلى بلاد الشام.

وليس الفقر كفراً فحسب، بل هو الموت الأكبر، كما قال الإمام علي بن أبي طالب ع، موت للعقل والروح والجسم، فلا صحة ولا علم، ولا فضيلة مع فقر، فالجهاد للقضاء على الفقر أفضل من كل جهاد عند اللّه سبحانه، لأنه جهاد في سبيل الإيمان باللّه والعمل بشريعته وأحكامه.

_____________________

(1) الشيخ محمد علي الأعسم عالم من علماء النجف وشعرائها، له منظومات في الفقه والعربية، توفي سنة 1247 هجرية.

 

اليمين وأحكامها *

وردت اليمين في كلام اللّه سبحانه، كقوله عز وجل : والقرآن، والعصر، والنجم، والتين والزيتون، وما إلى ذلك مما جاء في الكتاب العزيز، ووردت في كلام الأنبياء والأئمة فكان النبي صلى الله عليه وآله يحلف : والذي نفس أبي القاسم بيده، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، وكان الإمام (ع) يحلف : والذي أصوم وأصلي له، وتجدها في كلام العلماء والجهال، والملوك والصعاليك، وتكاد توجد حيث يوجد ضمير المتكلم، وأكثر ما تكون استعمالاً في كلام التجار والنفعيين.

وعرفت اليمين كتب الشرائع والقوانين، وأطال الفقهاء الكلام في أقسامها وأحكامها وفي الحالف وشروطه، والمحلوف عليه وبه، قال الشيعة الإمامية : لا يتحقق معنى اليمين إِلا إذا كان القسم باللّه وأسمائه الحسنى وصفاته الدالة عليه صراحة، فمن حلف بالقرآن والنبي والكعبة، وما إلى ذلك لا يكون القسم شرعياً، ولا يترتب على مخالفته إِثم ولا كفارة، ولا تُفصل به الدعاوى في المحاكمات، ووافقهم على ذلك أبو حنيفة.

قال الشافعي ومالك وابن حنبل تنعقد اليمين إذا كان الحلف بالمصحف، وتفرد ابن حنبل عن الجميع بأنها تنعقد بالحلف بالنبي(1) وثبت من طريق الشيعة والسنة عنه صلى الله عليه وآله أنه قال : من كان منكم حالفاً فليحلف باللّه أو ليذر. ومن طريق الشيعة أن محمد بن مسلم سأل الإمام الباقر (ع) عن قول اللّه عز وجل : والليل

_____________________

* - نشر في العرفان آذار سنة 1951.

(1) الدرر شرح الغرر ج 1 باب الإيمان. وميزان الشعراني ج 2 باب الإيمان.

إِذا يغشى، والنجم إذا هوى وما أشبه ذلك فقال : إِن للّه عز وجل أن يقسم من خلقه بما شاء. وليس لخلقه أن يقسموا إِلا به.

وتنقسم اليمين إلى أربعة أقسام :

1 - يمين اللغو، وهي التي لا يعتد بها الناس، فلم يقصدوا بها جلب مغنم، ولا دفع مغرم وإنما تدور على ألسنتهم جرياً على المعتاد، كما تقول لمن قال لك : ألا تحبني : بلى واللّه، ولمن قال لك : أرأيت فلاناً أو معك صرف ليرة : لا واللّه، وقولك: فلان رجل طيب واللّه، تقول ذلك من غير قصد اليمين، وليس لهذه اليمين أي أثر عند السنة والشيعة، فصاحبها غير مؤاخذ ولا تجب عليه كفارة سواء أطابق قوله الواقع أم لم يطابق، لأنها ليست بيمين حقيقية، ولا تشبهها في شيء إلا في الصورة والصيغة.

وفي سورة البقرة آية 225 «لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، واللّه غفور رحيم».

القسم الثاني : يمين المناشدة، وهي الحلف على إنسان ليفعل أو يترك، وهذه لا أثر لها عند السنة والشيعة لا بالنسبة إلى المقسم، ولا بالنسبة إلى المقسم عليه، وعن الإمام الصادق في رجل أقسم على آخر قال : ليس عليه شيء، إنما أراد إكرامه، وتسمية هذا القسم باليمين ضرب من التجوز.

القسم الثالث : يمين الغموس، وهي الحلف باللّه سبحانه على شيء في الماضي أو الحال مع تعمد الحالف الكذب، وسميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في الذنوب الآثام، وبها تفصل الدعاوى في المرافعات، وتستعملها الناس كثيراً لينفوا عنهم ما نسب اليهم من فعل أو ترك أو لإرضاء المحلوف له، أو ترغيبه كيمين التجار والنفعيين، وهي من أعظم الكبائر مع عدم الصدق، وتكرر النهي عنها في القرآن الحكيم «لا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم.. تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم.. لا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل اللّه ولكم عذاب عظيم.. ولا تطع كل حلاف مهين.. يحلفون باللّه لكم ليرضوكم واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إِن كانوا مؤمنين.. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا فإِن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين» والدخل الخيانة، وفي الحديث أن موسى نبي اللّه أمر أن لا يحلفوا باللّه كاذبين وأنا آمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين ولا صادقين، واتفق السنة والشيعة على أنها توجب الإثم والعقاب ولا توجب الكفارة، لأنها أعظم من أن يكفر عنها إلا الشافعي حيث أوجب التكفير(1).

القسم الرابع : اليمين المنعقدة، وهي الحلف على آت في المستقبل فعلاً كان أم تركاً، وفي ميزان الشعراني ج 2 باب الأيمان «إن هذه اليمين تنعقد عند الأئمة الأربعة في الطاعة والمعصية والمباح» وفي الدرر ج 1 باب الأيمان «لو حلف إنسان على معصية كعدم الكلام مع أبيه، وترك الصلاة تنعقد اليمين ويحنث ويكفر - والحنث هو عدم العمل بموجب اليمين - ولو قال كل حلال عليَّ حرام فالقياس أن يحنث عند انتهائه من هذه الجملة لأنه تنفس، بل تنعقد اليمين ولو كان الحالف مكرهاً أو مخطئاً كما لو أراد أن يقول اسقني الماء فسبق لسانه وقال واللّه لا أشرب الماء» وفي ميزان الشعراني «لو حلف لا يكلم فلاناً أو ليضربنه مائة سوط تنعقد اليمين ويحنث، أو حلف ليقتلن فلاناً وكان يعلم أنه ميت تنعقد ويحنث مع قول مالك أنه لا يحنث» وفي الجزء الثاني من حاشية الباجوري على شرح الغزي على متن أبي شجاع «لو حلف لا يصلي فصلى تنعقد اليمين ويحنث إلا صلاة الجنازة لأنها لا تسمى صلاة».

وقال الشيعة الإمامية : إِن اليمين لا تنعقد، ولا يكون لها أي أثر إذا كانت على محرم أو مكروه أو ترك مستحب، فمن حلف أن يشرب الخمر أو لا يصلي أو لا يكلم أباه أو زوجته أو ولده أو يقتل إنساناً أو يضربه أو لا يعود مريضاً، وما إلى ذلك تقع اليمين منه لغواً فلا توجب حنثاً ولا كفارة، لأنها حلف على عمل غير مشروع، وتحليل للحرام أو تحريم للحلال أو استكراه لمستحب أو مباح وإنما تكون اليمين صحيحة عند الشيعة لها أثرها الشرعي إذا حلف على عمل واجب أو مستحب أو مباح على الأقل على نحو تعود اليمين بالمصلحة على الحالف أو عدم الضرر، ولو حلف على ترك شيء وكان في صالح الحالف حين الحلف، ثم احتاج إليه تنحل اليمين، ومثاله أن يحلف إنسان على ترك أكل اللحم لغاية صحية، تنعقد اليمين، فإِذا أكل اللحم والحالة هذه يأثم ويكفر، ولو تحسنت

_____________________

(1) ميزان الشعراني ج 2 باب الأيمان.

صحته بعد ذلك ، واحتاج إلى أكل اللحم ، تنحل اليمين ، ويصبح في حل منها. فكما أنها لا تنعقد أبداً على ما كان تركه أولى وأرجح، فإنها تنحل بعد انعقادها إذا صار مرجوحاً.

أما كفارة هذه اليمين المنعقدة لو خالف الحالف فعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، ومن عجز عن ذلك كله فصيام ثلاثة أيام عند جميع المذاهب للآية 89 من سورة المائدة «فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم».

أما يمين البراءة من الحق فحرمتها مؤكدة عند جميع المذاهب سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: أنا بريء من دين محمد إن لم أفعل كذا فما كلمه الرسول حتى مات، وفي الحديث أن من حلف بالبراءة من الحق فقد برئ منه كاذباً كان أو صادقاً. اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه.

 

نحوَ فِقْه إسْلامي في أسْلوبٍ جَديد *

إن من تتبع آيات الأحكام وأحاديثها، وتدبر معانيها وأسرارها يرى أن التشريع الإسلامي يرتكز على أصول ومبادئ عامة هي :

الحرية، وحقن الدماء، وصيانة الفروج والأموال، واحترام العقائد، وعدم الضرر والحرج، والوفاء بالعهد، وحفظ النظام، وعقوبة الجاني، وتغريم المعتدي، وعدم الغش والخيانة، وإباحة الطيبات، وتحريم الخبائث، ومراعاة العقل والعدل، ودرء المفاسد، وجلب المصالح، وفصل الخصومات بالصلح والحسنى مع الإمكان، وإلا فبالقوة على أساس الحق، والأخذ بالمعرف مع عدم وجود النص المعاكس والمساواة بين الناس جميعاً، وما إلى ذلك مما تستدعيه الحاجة، ويفرضه الظرف، ويقره المنطق السليم.

إن هذه المبادئ هي الأسس الثابتة للتشريع الحديث، والمصادر الأولى التي يستقي منها المشرع العصري أحكامه وأراءه، أسس راسخة لا تتغير بتغير الزمن، ولا تتبدل بتبدل الأحوال، وإنما تتطور الأسباب والحاجات التي تمثل هذه المبادئ. فقبل عصر الآلة كان العرف يعتبر قيوداً وشروطاً في البيع والتجارة لا تتم بدونها، وبعد أن زاد الإنتاج، وتطورت وسائل النقل، واتسعت حدود التجارة وأسبابها براً وبحراً لم تعد تلك القيود مرعية عند العرف، وأصبح التاجر الشرقي يشتري من التاجر الغربي الصفقات الكبرى بهاتف أو برقية، ويتم البيع بينهما قبل استلام المثمن وقبض الثمن، ثم يبيع الشرقي هذه الصفقات بالوسيلة نفسها، فالشرع - والحالة هذه - يلغي الشروط التي كانت معتبرة قبلاً، ويلزم

_____________________

* - نشر في النشرة القضائية أيار 1951.

المتابعين بما التزما، والزمتهما به غرفة التجارة، فالمعول شرعاً على العرف الذي يختلف باختلاف الزمن، ولا ينظر إلى الوسائل مهما كان نوعها ما دامت لا تحرم حلالاً، ولا تحلل حراماً، وبهذا نجد تفسير الحديث المشهور «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» أي أن المفاهيم العامة كالبيع مثلاً بمعناه الشامل كان حلالاً في عهد محمد ص، وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة، وإن تطورت أفراده بتطور الزمن.

فأي حكم يتنافى مع مبدأ من هذه المبادئ فهو محل للاعتراض والطعن، ولا يسوغ نسبته إلى الإسلام وشريعته، وإن كان الحاكم به مرجع المؤلفين قديماً وحديثاً، وشيخ المجتهدين علماً وورعاً، بل إذا كان الحديث مخالفاً لهذه المبادئ يجب إهماله أو صرفه عن ظاهره، وإن كان راويه من السابقين الأولين، حيث ثبت بطريق السنة والشيعة أن النبي أمر أن يعرض ما روي عنه على كتاب اللّه، فما وافقه فهو قائله، وما خالفه لم يقله(1).

وعلى الرغم من إيمان فقهاء السنة والشيعة بهذه المبادئ العامة، واعترافهم بأن الشريعة الإسلامية ترتكز عليها، وتستنير بضوئها فإنك تجد في كتبهم أحكاماً لا تتفق مع مبدأ من مبادئ الإسلام، وقد تجاوزت هذه الأحكام حد الإحصاء. نقدم بعضها بين يدي القارئ ليكون شاهداً على ما نقول منها : ما أجمع عليه فقهاء الشيعة أنه إذا كانت عين في يد إنسان فأقرّ بها لآخر، ثم أقرّ بها لغيره، كما لو قال : هي لزيد، بل هي لعمر وجب على المقر أن يدفع العين للأول، وثمنها بكامله للثاني، لأنه ساوى بينهما في الإقرار. يعطي العين للأول لتقدم الإقرار له وثمنها للثاني، لأنه أحال بينه وبين حقه. وهذه «الحيلولة» بمنزلة التلف(2). ان مثل هذا الحكم ضرر فاحش على المقر، حيث حكم عليه بأكثر مما ثبت في الواقع، وأن أحد المحكوم لهما أخذ منه ما لا يستحقه ظلماً وعدواناً بحكم القضاء.

ومنها : ما أجمع عليه فقهاء الشيعة أيضاً أنه إذا ظلم قوي عاملاً فحبسه حائلاً

_____________________

(1) كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري من الشيعة، وكتاب فجر الإسلام نقلاً عن الموافقات للشاطبي من السنة.

(2) كتاب الجواهر، باب الاقرار، وجميع كتب الفقه للشيعة.

بينه وبين عمله الذي يدر عليه وعلى عياله القوت قالوا : إن القوي آثم يستحق الذم والعقاب، ولكن لا يجوز الحكم عليه بالمبلغ الذي فوته على العامل أي لا يحكم عليه بالعطل والضرر «أما لو غصب دابة ضمن منافعها سواء استوفاها الغاصب أم لا»(1) مستندين في ذلك إلى أن العامل نفسه إنسان حر لا يتقوم بمال، فمنافعه كذلك، بخلاف الدابة فإنها تتقوم هي ومنافعها بالمال(2). وهذا الحكم يتنافى مع مبدأ الحرية واحترام الأنفس والأموال. والعرف لا يرى أدنى تفاوت بين حبس عامل لو ترك حراً لحصل على المال، وبين التعدي على ماله الحاصل.

ومنها : ما ذكره صاحب المسالك، وصاحب الجواهر من فقهاء الشيعة في باب الطلاق «إذا كرهت المرأة زوجها، وأرادت انفساخ عقد الزواج، فارتدت عن الإسلام انفسخ العقد وبانت منه.. فاذا رجعت بعد ذلك إلى الإسلام قبل منها وتمت الحيلة» ومثل هذا الاحتيال على الدين لتحقق الأهواء والشهوات لا يقره عقل ولا شرع سماوي أو وضعي(3).

ومنها : ما جاء في كتاب الميزان للشعراني من السنة (ج 2) باب الصيد والذباحة : أن ابن حنبل قال (لا يحل صيد الكلب الأسود - ووجهة صاحب الكتاب - بأنه شيطان، وصيد الشيطان رجس، لأنه لا كتاب له، ولو كان له كتاب لحل صيده) وفي باب الشهادات من الكتاب المذكور نقلاً عن ابن حنبل أيضاً : أنه لا تقبل شهادة البدوي على القروي.

وفي كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (ج 4 ص 289) (إذا أراد رجل أن يقول لزوجته : أنت ظاهر، فسبق لسانه، وقال : أنت طالق يحكم القاضي بصحة الطلاق.

_____________________

(1) كتاب الوسيلة الكبرى، باب الغصب للسيد أبو الحسن.

(2) كتاب الجواهر باب الغصب.

(3) عرضت لي هذه الحادثة حين كنت قاضياً في محكمة بيروت الشرعية. كرهت امرأة زوجها وطلبت منه الطلاق فامتنع، فأشار عليها بعضهم بالارتداد، فارتدت عن الإسلام إلى النصرانية، وسجلت ارتدادها عند المحافظ وفي دائرة الاحصاء وقدمت لي طلباً بفسخ الزواج، فأصدرت قراراً بتاريخ 19 شباط سنة 1949 برد طلبها وبقاء الزواج فاستأنفت قراري فأصدرت محكمة الاستئناف الشرعية قراراً بتاريخ 8 كانون الأول سنة 1949 بفسخ الزواج بينها وبين زوجها، وبعد هذا القرار رجعت إلى الإسلام وتزوجت غيره وتمت الحيلة.

وفي كتاب الذخائر الأشرفية لابن الشحنة الحنفي باب النكاح «إذا علق رجل طلاق امرأته على رؤية شيء، وقد كانت حاملاً، فخرج إلى السوق، ورأى ذلك الشيء ووضعت امرأته حملها، وعندما رجع إلى بيته وجدها متزوجة برجل آخر فيصح الطلاق من الزوج، والزواج من الآخر».

إن هذه الأحكام وأمثالها التي يجدها المتبع في كتب الفقه لرجال الدين لا تعتمد على غير الحدس والاقيسة الباطلة، فمن الخطأ نسبتها إلى شريعة خالدة ذات مبادئ صحيحة ثابتة كالشريعة الإسلامية، إن هذا النوع من الأحكام لا يجوز بقاؤه بحال من الأحوال في كتب الفقه الإسلامي التي يقدسها الأستاذ والطالب، ويعتمد عليها المرجع الأكبر في علمه وعمله.

لقد آن لقادة الدين في النجف والأزهر أن يصفوا الحساب مع هذه الكتب، فيدرسوها دراسة علمية صحيحة، ويختاروا منها ما يتفق مع حاجاتنا الاجتماعية والاقتصادية، ومع المبادئ العامة للتشريع الإسلامي، ويظهروا ما في بطونها من كنوز وفوائد لا نجدها في قانون قديم وحديث، ويهملوا هذه السخافات التي تعود بنا إلى عهد الجهل، ودور الوحشية، وتعوقنا عن التفكير في مسايرة الحياة وأطوارها.

اعتمد التشريع الإسلامي في بدايته على الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وكان هذان الأصلان يومذاك كافيين وافيين باغراض الحياة الساذجة البسيطة في عهد الرسول، وبعد أن تطورت الحياة، وفوجئ المسلمون بأمور لا يعرفون عنها وعن أحكامها كثيراً أو قليلاً، ورأى فقهاؤهم أن الجمود عند نصوص الكتاب والسنة لا يزيل جهالة، ولا يرشد إلى هداية لجأوا إلى أصول أخرى للتشريع غير الكتاب والسنة، فقال السنة : عندنا القياس، وقال الشيعة : عندنا العقل، ولكن الكثيرين منهم وخاصة «المتأخرين» دونوا أحكاماً تتنافى مع روح التشريع الإسلامي ومبادئه العامة، ولا يؤيدها قياس صحيح أو عقل سليم.

يجب على الفقيه إذا عرضت له مسألة من المسائل أن يستخرج حكمها - قبل كل شيء - من آيات الأحكام وأحاديثها الثابتة على أن يراعي في تخريج الحكم المبادئ العامة للتشريع فإذا وجد آية أو رواية تتنافى بظاهرها مع مبدأ منها وجب أن يصرفها عن ظاهرها، ويؤولها بما يتفق مع العقل والمنطق، وإذا فقد النص من الكتاب والسنة تتبع أقوال الفقهاء، فإن وجد لها أثراً في كلامهم نظر إلى دليلهم غير مقلد لأحد في أصل أو فرع كائناً من كان، فإن كان معقولاً وكفيلاً بالغاية المنشودة من الشرع عمل به، وإن لم يجد لمسألته أثراً في كتبهم، أو وجد حكمها من النوع الذي نقلناه، اعرض غير مكترث بالمتون والشروح والحواشي، ورجع إلى عقله واجتهاده، وركز حكمه على مبادئ التشريع مسترشداً بالقواعد العامة التي قررها العقل، ووضعت لحل المشكلات والمعضلات. يجب أن نسترشد بكل قاعدة وأصل وضع لرفع مستوى التشريع سواء أكان واضعه شيخاً قديماً أو جديداً، ما دام الأصل يتفق مع منطق العقل، وروح الشرع.

نحن نعتقد أن الشريعة الإسلامية شريعة خالدة تمتاز بروح المرونة، والتطور مع كل عصر، وأن الشرائع الحديثة قد اقتبست الكثير من أحكامها. ولكن هذا لا يمنعنا من إعلان الحق بأن فيها إلى جانب ذلك أحكاماً دخيلة ابتدعها التعصب والجهل، وأنها في أشد الحاجة إلى التقليم والتطعيم، وهذا لا يحط من شأنها، ولا ينزلها عن عرشها، فهذه أرقى القوانين الحديثة التي هي نتيجة التفكير العميق، والدراسة الصحيحة ما زالت معرضاً للتعديل والتبديل، والزيادة والنقصان، فأحرى أن يعرض ذلك لما في كتب الفقه التي مضى عليها قرون عديدة، وهي على وضعها وطبعها، وترتيبها وتبويبها، مع أن أصحابها لا يعلمون الغيب، ولا يتنزهون عن الخطأ.

وضع الفقهاء كتباً، وبوبوا أبواباً خاصة للأمور الاجتماعية والاقتصادية كالزواج والطلاق، والتجارة والاجارة، وأكثروا فيها من الفروع والقروض، ومع هذا كثيراً ما تعرض لنا مسائل من هذه الأبواب نجهل حكمها، فنرجع إلى كتبهم وأبوابهم باحثين عن الحكم فلا نجد له أثراً في فروعهم وفروضهم على كثرتها، فكيف بما لم يفردوا له باباً مستقلاً، ولا عنواناً خاصاً كالملاحة والتجارة البحرية ونظم البريد التي هي من صميم الحياة، والتي وضع لها المشرع العصري قوانين في مجلد ضخم يبلغ مئات الصفحات.

لقد تطورت الحياة، وتعددت شؤونها واحداثها، ولم يبق شيء حقير أو خطير على ما كان عليه في عهد الفقهاء السالفين، فمن المستحيل أن تبقى الأحكام جامدة راكدة، وموضوعاتها في تغير مستمر، ان الحكم متفرع من موضوعه فيثبت بثبوته وينتفي بانتفائه ويتطور بتطوره.

 

مَعرَكة في الأزهَر * بين المجددين والمحافظين

قامت في الجمهورية المصرية معركة عنيفة حول الأزهر ومشاكله، واستمرت شهرين على التقريب. يضم الأزهر من العلماء والطلاب ما يربو على العشرين ألفاً، كما أن ميزانيته تربو بكثير على المليون من الجنيهات.

وسبب المعركة أن الاستاذ خالد محمد خالد وجه إلى الشيخ عبد الرحمن تاج على أثر توليه مشيخة الأزهر ستة خطابات مفتوحة يحثه فيها على أن يسير بالأزهر إلى الامام. وأن لا يبقى ما كان فيه على ما كان، وحركت خطابات الاستاذ خالد أفراداً من داخل الأزهر وخارجه، فناصره فريق، وعارضه فريق. ورأيت أن الخص لقراء العرفان أقوال الطرفين، لما فيها من فائدة ومتعة، ولما للأزهر من قدر ومكانة في نفوس القريبين والبعيدين.

يعتقد الأستاذ خالد أن الأزهر عقدة التنفس للمصريين وغيرهم من العرب والمسلمين وانه إنما وجد لخير العروبة والإسلام، ولكن الكثير من شيوخه لم يفهموا هذه الرسالة، أو فهموها ولم يعملوا لها، بل تاجروا بالإسلام بغير مبرر، وباعوه بغير ثمن، وقد أزاح الاستاذ خالد الستار عن بعض ما يعانيه الأزهر من الأدواء، وقدم الحلول لعلاجها واستئصالها.

من هذه الأدواء أن بعض حملة العمائم ينعقون مع كل ناعق لا يردعهم رادع من دين أو عقل. ففي عام 1951 جاء إلى مصر مدير أقلام المخابرات الإنكليزية في الشرق الأوسط، واستحصل من شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ووكيل الأزهر على فتوى بأن الإسلام يحرم تحديد الملكية. وفي عام 1937

_____________________

* - نشر في العرفان نيسان 1954.

كان الاستاذ يدرس في الأزهر عند أحد الشيوخ، وكان هذا الشيخ يمقت الإمام الراحل المراغي، ويلتمس له العثرات ليحدث تلاميذه بها، وذات يوم رأى التلاميذ شيخهم هذا يقبل يد المراغي، وينحني له كأنه في ركوع، وفي أثناء الدرس سأل التلاميذ شيخهم عن تلك المودة والخضوع، فأجاب الشيخ : يا أبنائي «نقبلها ونلعنها» وقد تأكد التلاميذ فيما بعد أن «نقبلها ونلعنها» قاعدة مطردة يلتزمها معظم شيوخ الأزهر. وفي عام 1936 كان الاستاذ خالد يدرس كتاباً كبيراً في الفقه يضم بين دفتيه حشداً من المسائل التافهة، منها «مسألة» من صلى وهو يحمل قربة فساء، فهل تصلح صلاته أم تكون باطلة، ويذكر مثلاً آخر من كتاب التوحيد الذي يدرسه طلاب كلية أصول الدين في الأزهر. قال صاحب هذا الكتاب «لا يجوز عزل الإمام بالفسق والخروج عن طاعة اللّه، ولا بالظلم والجود على عباد اللّه. لأنه قد ظهر الفسق، وانتشر الجور من الائمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين، وكان السلف ينقادون لهم. ولا يرون الخروج عليهم».

ويوم ابتدع فاروق لنفسه نسباً كاذباً برسول اللّه ص قام خطباء المساجد يسألون اللّه أن يوفق مليكهم المعظم ويرعاه، وقال بعض الشيوخ : «لقد علم اللّه أن مليكنا الصالح من سلالة نبيه الكريم، فألهم والده العظيم أن يختار له اسماً قريباً من النبوة ألا وهو الفاروق» وبعد أن ذهب فاروق هذا وقف شيخ من العلماء بين يدي اللواء محمد نجيب فحوقل وبسمل وقال إن فرعون (أي فاروق) علا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً.

واجتمعت مرة لجنة الفتاوى بالأزهر، وقررت إِخراج أبي ذر من الإسلام، وظهرت الصحف تحمل طعن العمائم فيه لأن المصلحين والجائعين يستشهدون بأقوال هذا الصحابي الجليل، ونشرت جريدة الأهرام حديثاً لشيخ الأزهر السابق. قال فضيلته : إن الشعب الروسي شقي وتعس، ونظامه الاقتصادي فاشل، والبطالة متفشية، والعمال ساخطون. مع أن هذا الشيخ لو سئل عن حي الزمالك لما عرف أين يقع !

وخاطب الأستاذ خالد شيخ الأزهر قائلاً : أن مهمتك تبدأ من الأجابة على هذا السؤال : هل الأزهر مقبرة أم جامعة ؟ فإِذا كان مقبرة فليبق كما هو، وإِذا كان جامعة فليمض على الدرب الذي خطته الحياة للجامعات. ثم يلتفت ويقول : ان الأزهر في الحقيقة أكثر من جامعة، إِنه غدة تفرز للناس في بلادنا ما لا غنى عنه، وقد خرج في القديم رجالاً لا يستوحون في أعمالهم وأقوالهم غير الدين والعلم. دخل الخديو مرة على شيخ يلقي درسه في فناء الأزهر وقد تحلق الطلاب حوله على الحصير، وبسط الشيخ ساقه بسبب مرض بها، فوقف الخديو على الحلقة، فلم يتحول الشيخ من مكانه، ولم يجمع ساقه الممدودة في وجه الخديو، ويعجب الخديو بهذا الشيخ البسيط، ويأمر له بنفحة من المال، فيردها الشيخ قائلاً للرسول : قل لأفندينا : ان الذي يمد رجله لا يمد يده. وعندما توفي الشيخ محمد عبده أرسل الخديو رسولاً إلى شيخ الأزهر يبلغه أن يمتنع هو والعلماء عن تشييع جنازة الإمام، فيلتفت إلى أبناء الأزهر، ويقول على مسمع من رسول الخديو : هيا يا مشايخ إِلى تشييع الجنازة، فيبهت الرسول، ويقول للشيخ : ألا تمتثل رغبة أفندينا ! فيجيب الشيخ في غضب صاعق : ان اللّه وحده هو أفندينا.

ومن الذين ناصروا الأستاذ خالداً في ثورته، ورجا أن لا يخمد لهبها الشيخ حمد حبش من علماء الأزهر ومدرس بأحد معاهده قال : طالما خالجتني المعاني التي تناول شرحها وعلاجها الأستاذ خالد، لكنني كنت أجبن من أن أجهر بها. وذكر مأساة حصلت له. قال : زارني أحد المفتشين وأنا أدرس في بعض المدارس الدينية، فسأل الطلبة في نواقض الوضوء هذا السؤال : رجل من غير دبر، وفتحنا له فتحة في بطنه فما الحكم ! وناصره الأستاذ موسى جلال، ونقل صورة لعالم يحمل الشهادة العالمية من الأزهر قال : جرت مسابقة لوظيفة الإمامية في عهد مصطفى عبد الرزاق حين كان وزيراً للأوقاف، وكان من ضمن الأسئلة هذا السؤال «ماذا تعرف عن قرطبة ؟» فأجاب الشيخ بخط يده ما نصه بالحرف «قرطبة على وزن فعللة، وهي امرأة صحابية جليلة تزوجت صحابياً جليلاً، وانجبت منه تابعين وأتباع التابعين».

أما الذين لم ترق لهم أقوال الأستاذ خالد، وتصدوا للرد عليه فكلمات بعضهم تنبئ بانهم من فصيلة شيخ قرطبة أم التابعين وأتباعهم، وإليك هذه الجملة من تلك الردود «أتى الأستاذ خالد بأمثلة يظن أنها تزري بكتب الفقه من مسائل الطلاق، على أن عين البصير لا ترى هزءاً في ذلك وأي عجب في الصورة التي أبرزها الكاتب - أي خالد - في قول من قال لزوجته «ان لم اقتلك فأنت طالق» أليس يجوز أن يقولها قائل : فهو ان قتل كان قاتلاً، وإن لم يقتل كان مطلقاً».

أما الآراء التي قدمها الأستاذ خالد، ورآها شافية للأزهر من أدواته، ووافية للسير به في سبيل الحياة والتقدم فتتلخص بأن تتكون لجان تعكف على مراجعة جميع مناهج وكتب التعليم بالأزهر، وتراجع الكتب الدينية المعروضة للثقافة العامة من تفسير وتصوف وسيرة، وتعد قائمة بما لا يتفق منها مع العقل، وتضع اللجان مؤلفاً جديداً يحتوي على خطب تذاع على ملايين المسلمين تكشف لهم النقاب عن الخرافات الدينية، وتنظر اللجان في دراسة الفقه الإسلامي على أن مصدره الكتاب والسنة فقط لا المذاهب الأربعة ولا غيرها.

هذي خلاصة لتلك الخطابات المفتوحة التي وجهها الأستاذ خالد محمد خالد إلى شيخ الأزهر، وما دار حولها من الرد والتأييد، وهي تدل على الوعي والرغبة في أن لا يتخلف الأزهر الشريف عن ركب الحياة السائر دائماً إلى الأمام(1).

_____________________

(1) المصدر جريدة الجمهورية المصرية العدد 9 و10 و12 و14 و15 و17 كانون الثاني 1954 والعدد 6 و7 و10 و17 و21 و24 شباط 1954.

 

هَلْ أبو ذرّ اِشتِراكي ؟ *

من الآراء السائدة أن أبا ذر الغفاري ممن آمن بالاشتراكية ودعا إليها وأنه لاقى من جراء ذلك أنواع العذاب، أما سبب هذا الرأي فيعود إلى كفاح هذا الصحابي الجليل في سبيل تنفيذ مبدأ الإسلام ومحاربة البؤس والشقاء.

لم يكن أبو ذر فيلسوفاً ولا صاحب مذهب خاص، بل كان رجلاً ساذجاً عاش في البادية يرعى الماعز والغنم، ثم صحب الرسول الأعظم وأخذ عنه تعاليم الإسلام، فآمن بها، ودعا إليها، فهو لا يعتمد في إيمانه ودعوته على غير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

على هذا الأساس، أساس روح الإسلام ومبادئه حارب أبو ذر قيام الترف والنعيم إلى جانب البؤس والشقاء ونادى بأعلى صوته : لا يحل للإنسان أن يتمتع بثروة لا يحصيها العد والحساب، وجاره جائع يعجز عن القوت، ومريض لا يستطيع التطبيب، وجاهل لا يجد السبيل إلى التعليم.

وإذا دفع الأغنياء من أموالهم ما يسد هذا الفراغ، بحيث تتيسر السبيل إلى الرغيف والدواء والدرس لطلابها فلهم أن يكسبوا الأموال ويجمعوها من حل ويتصرفوا بها كما يريدون ويشتهون ما دامت تصرفاتهم لا تضر بصالح الأفراد ولا الجماعات.

ومن تفهم الإسلام وأخلص له، إخلاص أبي ذر حرم على الإنسان أن يتقلب في نعيم الثراء وأخوه يعذب في جحيم الشقاء، أما إذا كان أخوه في عيشة راضية أو مستور الحال فإن النعيم مباح بل مستحب لكل من وجد السبيل إليه قال تعالى

_____________________

* - نشر في جريدة الجهاد 1952.

في سورة الأعراف آية 32 و33 «قل : من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده. والطيبات من الرزق.. قل : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي».

إن هذه الآية الكريمة أباحت للإنسان أن يحيا في نعيم الطيبات ويظهر بمظاهر الابهة والزينة، بل أنكر اللّه على من حرم ذلك، لأن التحريم ينافي الحكمة من خلق الزينة والطيبات التي أخرجها اللّه لعباده، وحرمت الفواحش والخلاعة وانتهاك الأعراض والحرمات، والإثم والبغي.

وعلى هذه الآية يرتكز تشريع القوانين والأحكام الدينية، فتطلق للفرد حريته وسعادته ومواهبه ولا تكون الحكومة ولا غيرها وصياً ولا ولياً عليه، وإنما تكون رقيباً ومحاسباً ورادعاً له عن الإثم والبغي، عن الاضرار بالغير والتعدي على حقوق الناس، كي لا يعيش إنسان على حساب إنسان.

إن للفرد وجوداً مستقلاً عن غيره، ووجوداً بوصف كونه جزءاً من الجماعة، له حقوقه المادية والأدبية.

ليس للإسلام مذهب خاص يسمى الاشتراكية أو الديمقراطية وإنما هو دين وشرع يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمحبة والمساواة يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد تلتقي هذه الدعوة من بعض جهاتها مع المذاهب المادية والآراء الفلسفية، وتفترق عنها من جهات أخرى ولا تعني هذه الملاءمة أن تلك الدعوة هي عين هذا المذهب وحقيقته.

وكثيراً ما يحسن الإنسان بذكائه وصفاء فطرته بمعنى من المعاني فيعبر عنه في معرض حديثه بأسلوب ساذج عادي ثم يقرر هذا المعنى كحقيقة علمية جاءت نتيجة لدرس العلماء وتجاربهم، كقول أبي ذر «إذا ذهب الفقر إلى بلد قال الكفر : خذني معك» فقد اثبت العلم أن سلوك الإنسان وليد لحالاته وظروفه فإذا كان جائعاً لم ينتفع بالحكمة الصالحة والموعظة الحسنة، لأنه يفكر ببطنه لا بعقله ومثل هذا الحس الصائب لا يصح أن نسميه مذهباً في الأخلاق، ونظرية في العلوم التي هي نتيجة البحث والاقيسة والاستنتاج.

إن أبا ذر صحابي، مثله مثل أي صحابي آمن باللّه ورسوله، وبالإسلام ومبادئه ولكنه يمتاز عن غيره بالزهد والجهر بالحق، وهاتان الميزتان هما السبب الوحيد لنسبة الاشتراكية إلى أبي ذر.

كان لأبي ذر زوجة سوداء وكان يرحمها ويرفق بها، وكان أصحابه ينصحونه ويلحون عليه بأن يتزوج غيرها فلا يقبل منهما النصح، وكان إذا وزع العطاء على المسلمين أخذ عطاءه وانفقه على الفقراء وكانت له غنيمات يرعاها بنفسه، ويحلبها بيده، فيبدأ بجيرانه وأضيافه إذا كان عنده رغيفان أعطى أحدهما لذي حاجة، وكان لا يقبل عطاء من حاكم ولا من غيره إلا إذا كان العطاء عاماً. أرسل إليه عثمان مائتي دينار فجاء الرسول، وقال له : هذه من عثمان، وهو يقول لك : إنها من صلب ماله ما خالطها حرام، فقال له أبو ذر : هل أعطى أحداً من المسلمين مثلما أعطاني ؟ قال كلا، فقال أبو ذر : إذهب أنت والدراهم، إنما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسعهم ولست في حاجة إلى المال، فقال له الرسول :

أصلحك اللّه إني لا أرى في بيتك كثيراً ولا قليلاً !

فرفع أبو ذر الوسادة وأراه قرصين من خبز الشعير، وقال للرسول : بل عندي هذان وإني لغني بهما وبثقتي باللّه وإيماني بالحق.

يمقت أبو ذر الاحتكار بشتى انواعه ومعانيه حتى الهدايا، فإنها لا تحل له ولا لغيره إذا لم تكن عامة شاملة للجميع، وهو غني بكوز الماء والشعير لأنهما وسيلة تيسر له الوصول إلى هدفه الأسمى وعقيدته المثلى.

أما صراحة أبي ذر فقد جرت عليه الويلات وسببت له الضرب والبؤس والتشريد، عندما أسلم أبو ذر كان عدد المسلمين لا يزيد على أربعة، فتعرض لصناديد قريش، وجهر بالإسلام وتحداهم منادياً بأعلى صوته : لا إِله إِلا اللّه، محمد رسول اللّه. فضربوه حتى كاد يقضى عليه لولا أن يكفهم عنه العباس بن عبد المطلب، ثم عاود فعاودوا الضرب والعذاب. ولما رأى النبي ص أن أبا ذر معرض للقتل، لأن طبعه يأبى السكوت عن الباطل أمره أن يلتحق بأهله حتى إذا كثر المسلمون أتاه.

ولما توفي النبي ص، ورأى أبو ذر الأموال في عهد الخليفة الثالث يبذرها الأقربون هنا وهناك، والناس يقتلهم الجوع والبؤس ثارت ثورته وجن جنونه وصاح في وجه السلطان وفي كل مكان : جمعتم الأموال من الناس فيجب أن تنفقوها على الناس فطرد، ونفي ومات في الصحراء وحيداً، بعد أن مضت عليه ثلاثة أيام لم يطعم فيها شيئاً، هذا والكثير من زملائه الذين هم دونه سابقة ومنزلة عند الرسول يتدفق عليهم الذهب والفضة وتزخر حياتهم بالنعيم وأطايب العيش، وهذي سبيل الإثم والبغي ما تزال، ولن تزال متبعة ما وجد الباطل أنصاراً.

اصطدم أبو ذر بأصحاب السيادة والثروة لا لأنه يطلب سلطاناً ومالاً، بل لأنه لا يريد أن يقوم الترف والبذخ إلى جنب الفقر والبؤس.

لم يكن أبو ذر صاحب مذهب خاص أو رأي جديد، صحب الرسول وآمن بدعوته على أنها وحي من اللّه سبحانه، وتفهمها على أساس العدل بين الناس أجمعين، فلا تابع ومتبوع، وسيد ومسود، وكرس حياته لتحقيق هذه الدعوة والظفر بها ولم يتخذها كغيره وسيلة للجاه والعيش، فكان ذلك سبباً لأن يتخذ المصلحون من شخصيته هادياً لسلوكهم ورائداً لأهدافهم.

وأي إنسان أدرك الدين على حقيقته كما بشر به الرسل والأنبياء، أدركه على أنه رسالة إنسانية تجاوزت حدود الفردية والعنصرية والإقليمية والطائفية وإن هذه الرسالة غاية تقصد لذاتها لا وسيلة وأداة للميول والشهوات، وأخلص لها إخلاص أبي ذر يكون كأبي ذر قدوة صالحة لكل مصلح ومثلاً أعلى لكل مؤمن.

ليس رجل الدين من نطق بالحكمة وحفظ الأصول والفروع، ولا من آمن بالأساطير والعفاريت والسحر والتخريف فالأول مشعوذ محترف يقلده الجاهلون باسم العلم والمعرفة، والثاني جاهل مخرف يحترمونه باسم الإيمان والقداسة، ولا شيء أعظم من خطرهما على الدين، إذ يبقى بلا قائد ولا رائد، هذا هو السر في ضعف العقيدة الدينية وانصراف الناس عن الدين وأهله.

دَرس مِن المَاضِي *

اعتاد كثيرون من خطباء الجوامع والكنائس أن يأمروا بتقوى اللّه، وينهوا عن معصيته، يوجهون هذه الموعظة - في الغالب - إلى المستضعفين الذين يظلمهم الأقوياء ولا يستطيعون أن يظلموا أحداً، فيخوفوهم من نار جهنم تشوي وجوههم وأفئدتهم، كلما نضجت بدلهم غيرها كي يدوم عليهم العذاب الأليم.

أما الأقوياء الطغاة الذين يملكون الاطيان والبنايات، والأثاث والسيارات، ويملأون البنوك والمصارف بما اختلسوه من أقوات العباد فيمجدونهم ويسبحون بحمدهم، ويلتمسون العلل لتبرير عدوانهم،ويعدونهم بجنة عرضها السموات والأرض، وبقصور أضخم من قصورهم في الدنيا، وببساتين أوسع من بساتينهم في هذه الدار، وبحور أجمل من الراقصات والأرتستات اللائي انفقوا عليهن الألوف، وبخمور ألذ وأشهى مما يشربونها في المواخير والحانات.

ومنذ القديم كان وعاظ المساجد يتقربون إلى الملوك والحكام أمثال الطاغية عبد الحميد، والفاسق فاروق يتقربون إليهم بالدعاء لهم في خطب الجمعة بأن يديم اللّه لهم القوة والعز، والغلبة والنصر متجاهلين قول اللّه سبحانه «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار» وقول الرسول الأعظم «ما ازداد رجل من السلطان قربا إلا ازداد من اللّه بعدا - من أرضى سلطاناً بما سخط اللّه خرج من دين الإسلام».

إن أمثال هؤلاء الوعاظ يهددون ويهولون على المساكين الذين لا يستطيعون حيلة ولا وسيلة ويبشرون المترفين بما أعد اللّه لهم من الثواب الجزيل والأجر

_____________________

* - نشر في جريدة الهدف 23 أيلول سنة 1954.

العظيم، إن الواعظ المخلص هو الذي يقف في وجه القوي الظالم يردعه عن ظلم الضعيف، ويجابهه بالحقيقة، بسوء عمله، ويشهر به بين الناس، ويدعو الجماهير على المنابر وفي المحافل لمكافحته وردعه عن الباطل، ويدلهم على من اغتصب حريتهم، واعتدى على كرامتهم ويدفعهم إلى الاستماتة دون حقهم، على الواعظ أن يفهم المظلوم أن واجبه الأول أن يناضل من ظلمه ويحاربه بكل سبيل، يفهمه أن نومه على الضيم يجعله ظالماً بعد أن كان مظلوماً، لأنه بالخنوع والخضوع يشجع الظالم على التمادي في الغي والفساد.

ونقدم أمثلة من الوعاظ المخلصين السابقين الذين تجردوا عن كل غاية إلا النصح والإخلاص للّه والإنسانية عسى أن ينتفع بها وعاظ اليوم :

مر أبو ذر الصحابي الجليل بمعاوية، وهو يبني داره الخضراء، فصاح أبو ذر في وجهه قائلاً : من أين لك هذا يا معاوية ! فإن كنت بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة، وإن كنت بنيتها من مالك فهو الإسراف.

ولما بنى الخليفة الناصر قصر الزهراء بالأندلس بالغ القاضي منذر بن سعيد في تقريعه وترويعه بخطبة على المنبر أمام الجماهير، والخليفة بينهم. ابتدأ القاضي خطبته بقوله تعالى : «أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين».

ثم أفضى الخطيب إلى ذكر التبذير والإسراف في أموال الأمة، وتلا قوله سبحانه «أفمن أسس بنيانه على تقوى اللّه ورضوانه خير، أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين».

وحج المنصور أيام خلافته، فسمع وهو يطوف في البيت، منادياً يرفع صوته، ويقول : اللهم إنا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، فطلبه المنصور، وقال له : من تعني. قال : إياك عنيت، فقد حال طمعك بين الناس وحقهم، استرعاك اللّه أمور المسلمين، فجعلت بينك وبينهم حجاباً وحصوناً، واتخذت وزراء ظلمة، وأعواناً فجرة، إن أحسنت لا يعينوك، وإن أسأت لا يردعوك، وقويتهم على ظلم الناس، ولم تأمرهم بإغاثة المظلوم والجائع.

وذات يوم وزع رسول اللّه بعض الفيء على الناس، وأخذ أعرابي نصيبه فاستقله، وبسط يده، وجذب الرسول من ثوبه جذباً شديداً، وقال : يا محمد زدني، فليس هذا المال مالك ولا مال أبيك، واستل عمر سيفه صارخاً دعني يا رسول اللّه أضرب عنقه، فقال الرسول : دعه ان لصاحب الحق مقالاً.

ضرب رسول اللّه بهذا أصدق الأمثال من نفسه، ليعطي الحكام والأقوياء درساً في تقبل النقد والمعارضة من كل إنسان، فلا يستصغرون ضعيفاً، ولا يحتقرون فقيراً، فمهما بلغوا من المكانة فإنهم دون النبي قداسة وعظمة، ضرب من نفسه هذا المثل ليعطي الأقوياء هذا الدرس البليغ، وليشجع المستضعفين على المطالبة بحقوقهم، ويجرئهم على من يظن به الإنحراف عن جادة الصواب كائناً من كان، وقال : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقيل له : كيف تنصره ظالماً، قال : بردعه عن الظلم، وفي الحديث إذا عجزت أمتي عن أن تقول للظالم يا ظالم، فقد تودع منها». وفي هذا الحديث يكمن السبب الأول لتأخر الشعوب وفقرها وجهلها واستعبادها وتآمر الأذناب الخونة عليها.

 

الإسْلام وفكَرة الزّهْد *

تعرضت كتب التاريخ والتراجم لسيرة الملوك والأمراء، وقادة الجيش، ولم تتعرض بالذات لحياة الفقراء الكادحين، ومع ذلك فباستطاعة الباحث أن يتعرف على حياة الجماهير من خلال دراسته لحياة القادة والحكام، لأن حياة هؤلاء وتاريخهم يرتبط ارتباطاً تاماً بالحياة الاجتماعية، وتاريخ المجتمع على أن المؤرخين وأصحاب السير قد ترجموا لعدد كبير من الشعراء ورجال الدين وعلماء اللغة الذين عانوا آلام البؤس والشقاء، ترجموا لهم لأنهم من أهل الذكاء والمعرفة، لا لأنهم من ذوي الفقر والفاقة، فمن هؤلاء :

عبد الوهاب بن علي المالكي كان بقية ذوي الفضل، وقد ضاق به العيش في بغداد فهجرها، ولدى خروجه شيعه خلق كثير من سائر الطوائف، فقال لهم : لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين في كل غداة ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية. ومنهم الاخفش الصغير علي بن سليمان النحوي عاش أياماً على اللفت النيء حتى انتهت به الحال إلى أن مات جوعاً، ومنهم الخليل بن أحمد النحوي العروضي الشهير كان يقيم في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين، والخص خيمة من القصب، ومنهم أبو الطيب الطبري طاهر بن عبد اللّه كان شيخ الشافعية في عصره وبلغ من العمر مائة وستين سنة صحيح العقل والفهم والأعضاء، يفتي ويقضي ويدرس، كان له ولأخيه عمامة وقميص، إذا لبسها هذا جلس الآخر في البيت وإذا أراد غسلها جلسا فيه معاً، وفي ذلك قال الشاعر :

قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم***لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام نيسان 1954.

ومنهم السيرافي النحوي الحسن بن عبد اللّه كان ينسج ويأكل من كسب يده، ومنهم الشيخ أبو حامد الأسفرايني، قيل في سيرته : انه إمام المذهب على الإطلاق وشيخ الإسلام والمسلمين قاطبة، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه، كان هذا الشيخ يشتغل حارساً في الليل لبيوت الناس، ويقرأ ويطالع على ضوء فانوس الحرس، ومنهم الزبيدي محمد بن يحيى تزيد مصنفاته على مائة تصنيف في شتى العلوم والفنون، وقد بلغ به الفقر والجوع أن يضع نواة في حلقه يلوكها ليتعلل بها. ومنهم عبد القادر السهروردي كان يبقى اليوم واليومين لا يذوق الزاد، وكان ينقل الماء بالقربة بأجر زهيد. وكان الشهيد الثاني زين الدين العاملي على علمه ومكانته ينقل الحطب على ظهره إلى أهله لعجزه عن أجرة الخادم، وباع الشيخ عبد المحسن الصوري عمامته ليشتري بثمنها قوت يومه، ويكفي هذا العدد اليسير مثالاً لحياة قادة الفكر وأئمة الدين واللغة البائسين، وتمهيداً لبيان فكرة الزهد وأسبابها.

عاش الخليل في خص من القصب لا يملك فلسين، واشتغل شيخ الإسلام والمسلمين حارساً، ومات الأخفش من الجوع، عاش هؤلاء وأمثالهم في الحرمان وهم يرون أن الأموال تجبى من العامل والفلاح وغيرهما في شرق الأرض وغربها ليبذرها الخونة والمقامرون على الحرام والفسوق، ويمتلكون بها الدور الشاهقة والضياع الواسعة، وكان من نتيجة هذا الوضع الشاذ أن تراكم السخط والاستياء في نفوس الشيوخ المحرومين من الذين قدمنا ذكرهم، والذين لم نأت لهم على ذكر، وعوضاً عن أن يحملهم هذا الاستياء على النضال وجهاد القائمين على الظلم، فقد انقلب في نفوس الكثير إلى يأس من الاصلاح وتبدل الحال وتولد من هذا اليأس فكرة الزهد في الحياة الدنيا، والتهوين من شأنها. وكان لهذه الفكرة خطورتها وتأثيرها في الحياة الاجتماعية بين المسلمين، فكتب علماؤهم في الزهد وأطالوا، ودعوا إليه في المساجد والمحافل، وألبسوه ثوب الدين والقداسة، والزهد بمعنى الاعراض عن طيبات الحياة ليس له مصدر في الكتاب الكريم، ولا في السنة النبوية، وإنما انعكس في أذهان البائسين من فقرهم وفاقتهم، ان أفكار الإنسان ورغباته لا تأتيه عفواً، ولا تهبط عليه من السماء، وإنما تتولد من واقع حياته، والظروف التي تحيط به.

ولولا وجود الفقراء المعذبين في الأرض، لولا الطمع وظلم الإنسان للإنسان، لو طبق مبدأ التعاون الأخوي، والمساواة دون اعتبار لطبقة أو فرد، لما عرف الناس معنى الزهد، ولما كان للفظه في قواميس اللغة عين ولا أثر، ويكفي للدلالة على هذه الحقيقة زهد الإمام علي عليه السلام، وأبي ذر، وغيرهما من أنصار الحق، ودعاة العدالة، قال الإمام : هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل في الحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له في الشبع، وقال أبو ذر : عندما خصه عثمان بمبلغ من المال لا أقبل عطاء لا يعم كل معوز.

أعرض الهداة المتقون من الزهاد عن متاع الحياة وطيباتها لا رغبة عنها، بل احتجاجاً على من استأثر بها، واحتكرها لنفسه دون سواه. أرادوا أن تكون الحياة وخيراتها للجميع، أرادوها اجتماعية عامة لا فردية خاصة، أرادوا القضاء على الفوارق والامتيازات ليعيش الجميع في أمن وسلام، فلا تكالب ولا تطاحن على أرزاق الشعوب، ولا حقد ولا حسد على الرغيف.

زهد الإمام في لذائذ العيش، وهو الحاكم المطلق ليفهم الأجيال أنه ليس لمن يتولى أمور الناس أن يشبع، وفيهم جائع واحد. إن الاعراض عن متاع الحياة مواساة لمن حرم منها، كما فعل الإمام، إن دل على شيء فإِنما يدل على قيمة الحياة وأهميتها لا على احتقارها وازدرائها، وقد ثبت في الحديث الشريف أن حرمة الأموال كحرمة الدماء، فالاعتداء على قوت إنسان اعتداء على دمه وحياته، فكيف بالغاصبين المحتكرين أقوات الشعوب وموارد ثرواتهم !

أما الآيات والروايات التي استدل بها بعض الزهاد، فلا تدل على الترغيب في التقشف والاعراض عن اللذائذ، إِنما تدل على وجوب الزهد في المحرمات، والكف عن السلب والنهب، والخيانة والكذب، على أن يضحي الإنسان بالنفس والمال في سبيل الحق، ولا يؤثر الخبيث على الطيب. قال اللّه سبحانه وتعالى : «وابتغ فيما آتاك اللّه الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا» «ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض» «لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم ولا تعتدوا إِن اللّه لا يحب المعتدين».

المُحَرّم هو اعتداء الإنسان على حق أخيه، وتهاونه بنصيبه من هذا الحق.

وقد جاء في الحديث الشريف (ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه - المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف).

ولا ريب أن الإنسان يقوى بالمادة، وما تقدمت الإنسانية إِلا بعد أن كشف العلم عن حقيقتها، وسلك بها سبيل الخير والعمار، لا سبيل الشر والدمار.

وبعد، فإن الإسلام دين القوة والعمل، لا دين الرهبانية والكسل.

 

ستّة يعرفونَ بسيماهم *

قال الإمام الصادق (ع) :

* للمرائي ثلاث علامات : يكسل إِذا كان وحده، وينشط إِذا كان الناس عنده، ويجب أن يحمد بما لم يفعل.

* وللكسلان ثلاث علامات : يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم.

* وللمسرف ثلاث علامات : يشتري ما ليس له، ويأكل ما ليس له، ويلبس ما ليس له.

* وللمنافق ثلاث علامات : إِذا حدث كذب، وإِذا وعد أخلف، وإِذا اؤتمن خان.

* وللظالم ثلاث علامات : يعصي مَن فوقه، ويعتدي على من دونه، ويظاهر الظالمين.

* وللحاسد ثلاث علامات : يغتاب إذا غاب، ويتملق إذا شهد، ويشمت بالمصيبة.

ثم قال : ولكل واحدة من هذه العلامات : شعب يبلغ العلم بها أكثر من ألف باب.

ويجمع هذه العلامات وشعبها فقدان الشعور بالواجب الذي يمليه الدين والضمير، وقد توجد هذه العلامات كلها أو بعضها مجتمعة في شخص واحد.

إِن الشعور الوحيد الذي يسيطر على صاحبها، ويدفعه إلى الحركة منفعته الخاصة

_____________________

* - نشر في العرفان نيسان 1951.

التي استعمل لأجلها الأساليب، واتخذ من غايته مبرراً للكذب والخيانة والغش والخديعة، ولا وزن للقيم الروحية عنده، إِذ الفضيلة في نظره لا تقاس بمقياس النبل والمروءة، وضميره لا يؤنبه على ما يتنافى وشيئاً من ذلك، وإنما يؤاخذه على أنه لم يكن يحسن سبل الاحتيال التي تحقق انانيته، فمن العبث، والحالة هذه، أن ترغبه في ترك الجريمة مناشداً ومبيناً أن عمله يأباه الدين القويم والخلق الكريم.

لقد كثر المصابون بهذا النقص كثرة عمت جميع الفئات، فإنك تجدهم بين الموظفين والاطباء ورجال الدين والمحامين وفي الشوارع والأسواق، وفي المدارس والمزارع، وفي كل مكان، ولا شيء أدل على هذا الوباء وانتشاره من كثرة التذمر وتراكم الاستياء، فالموظف يشكو من عدم إِنصافه في حين أنه يكسل في عمله حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، والشاب المتعلم يشكو من عدم تقدير الناس لحامل الشهادات «والعبقرية الفذة» ولكنه لا يتورع عن ظلم زميله، فينتقصه إذا غاب، ويشمت به إذا فشل، ورجل الدين يشكو من فساد الاخلاق ولكنه في نفس الوقت يحب أن يحمد بما لم يفعل، وقل مثل ذلك في المحامي والطبيب وما إليهما.

إِن تفشي الرذيلة بهذا النحو يحدث خطراً كبيراً على المجتمع، ويسبب مشاكل اجتماعية عديدة، وإذا عولج الفقر بزيادة الإنتاج، والمرض والجهل في المؤسسات العلمية والصحية، فإن الخلق السيئ لا يعالج بغير الشعور بأن وراء هذه الطبيعة قوة خفية تراقب، وتحاسب، وتثيب، وتعاقب، شريطة أن ينعكس هذا الشعور في الأقوال والأفعال، وتكون هي أثراً من آثاره.

بهذا الإيمان، الإيمان باللّه وحده، وبهذا الشعور، الشعور بالخوف والرجاء تهذب الأخلاق فتموت الرذيلة، وتحيا الفضيلة، وتسود المحبة التي تثمر الثقة المتبادلة، والتعاون المنتج.

يقول بعض الفلاسفة : إن من يفعل حسناً أو يترك قبيحاً بدافع الخوف والرجاء من اللّه سبحانه أو الدولة مثله مثل المجرم، وأحسب أن في هذا القول شيئاً من التسامح، فإن الدوافع والبواعث مهما كان نوعها لا تغير من حقيقة ما هو حسن بالذات أو قبيح بالذات، والذين ينزعون إلى الخير بذاتهم، ويفعلونه من تلقاء أنفسهم أندر من الكبريت الأحمر، فالشعور بأن فاعل الخير عظيم مثاب عند اللّه تعالى، وفاعل الشر حقير معاقب ضرورة أخلاقية اجتماعية له فوائده وثمراته، هذا بالإضافة إلى أنه من أهم أركان الدين، ومن هنا تعرف سر ما جاء في الكتاب العزيز «وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون».

 

العمَامة وَرجَال الدّين *

كان اللباس في عهد الرسول ص والخلفاء الراشدين، وأول عهد العباسيين واحداً لا تمييز فيه لأحد على أحد، فلا فرق بين لباس العالم والجاهل، ولا بين رجل الدين وغيره، فالنبي ص وخلفاؤه وأصحابه جميعاً كانوا يلبسون كما تلبس الناس، فكان العالم يُعرف بهديه وآثاره، لا بثيابه ومظاهره.

وأول من غيّر لباس رجال الدين في الإسلام إلى هيئة خاصة هو أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وفي المجلد الأول من كتاب المدخل لابن الحاج ص 137 أن تمييز رجال الدين باللباس عن غيرهم مخالف للسنة، ثم ذكر مفاسد تترتب على هذا التمييز نلخصها بما يلي :

إِن تمييز رجال الدين في اللباس يستدعي - كما رأينا - أن يتزيّا بزيهم من لا أهلية له، فيتقدم ويترأس في المجالس وغيرها على من هو خير منه علماً وخلقاً، وتنخدع العوام بثوبه فيأتمنونه ويسألونه عن أشياء لا يعرف حكمها، ويمنعه زيه ولباسه أن يقول لا أعلم، كي لا يقال : إِنه جاهل ومتطفل يلبس ثوب غيره فيفتي بما لا يعلم، ويحكم بغير ما انزل اللّه سبحانه.

ولو كان لباس العلماء كلباس غيرهم من الناس لم تقع هذه المفاسد، ولعمَّ بهم النفع، وحصلت البركة والراحة والخير على أيديهم، وضرب شاهداً على ذلك ما حكي عن العالم أبي الحسن الزيات كان من عادة هذا العالم الجليل أن يلبس لباس العمال، ويعمل في أرضه كما يعملون، وفي ذات يوم خرج ليعمل في أرضه كعادته، وإذا بالشرطة يأخذونه مع غيره من العمال ليشتغلوا سخرة

_____________________

* - نشر في العرفان تموز سنة 1954.

في بستان السلطان، وكان الشرطة يسمعون باسمه، ولكنهم يجهلون شخصه، وليس عليه ما يدل على علمه ومكانته، فسمع وأطاع، وعمل كغيره، ودخل الوزير البستان يراقب الأعمال، وما أن وقعت عيناه على الشيخ حتى انكب على قدميه يقبلهما ويعتذر، ويقول : من جاء بك يا سيدي، فقال : أعوانكم أيها الظلمة، قال أقلنا يا سيدي، واخرج بسلام، فأبى الشيخ إِلا أن يبقى مع المظلومين، وقال : هؤلاء إخواني، كيف أخرج، وأدعهم في ظلمكم ! قال الوزير : يخرجون معك، فأبى الشيخ، وقال : غداً تعودون بهم إلى السخرة، فأعطاه الوزير أوثق العهود على أن لا يسخر أحداً أبداً، فرضي الشيخ، وخرج هو والعمال.

ثم قال صاحب كتاب المدخل في صفحة 139 «إِنما عز الفقيه بفهم المسائل وشرحها ومعرفتها، ومعرفة السنن والعمل بها... ومعرفة البدع وتجنبها... قال اللّه سبحانه : إِنما يخشى اللّه من عباده العلماء. فجعل خلعة العالم الخشية والورع، ولكن البعض جعل خلعته توسيع الثياب والأكمام وكبرها وحسنها وصقالتها».

قال صاحب البحار في المجلد السادس ص 209 طبعة 1323 هجرية «كان النبي ص يلبس القلانس تحت العمائم، والعمائم بغير القلانس... وكانت له عمامة يقال لها السحاب، فوهبها للإمام علي (عليه السلام) وكان ربما طلع فيها الإمام، فيقول النبي ص أتاكم علي في السحاب» ويدل على هذا أن النبي لم يكن يتقيد بزي خاص، ولم يوجب أحد من أئمة الدين على طلاب العلم وشيوخه لباساً معيناً.

وبعد أن أصبحت العمامة شعاراً مقدساً بحكم العادة واستمرارها وجب صيانتها من يد العابثين وضحكة الهازئين، وجب على أهلها الحقيقيين أن يلزموا أولي الأمر بسن قانون يحوطها من الفوضى، ويصونها من جاهل منتحل، ومراء محترف، لو تزيَّا غير الشرطي بزي الشرطي لعاقبه القانون، فهل تأتي الأيام، ونرى لمرجع ديني كبير ما لشرطي صغير من نظام يحفظه ويرعاه، وإِن عجز أهل الدين والعلم الصحيح عن إِيجاد هذا النظام فألف خير لهم وللمجتمع أن يسيروا مكشوفي الرأس، أو يلبسوا الكوفية والعقال من أن يتزيَّا بزيهم الجهلاء والدخلاء.

إِن الدين فوق كل شيء، ولكن ليس له حارس يحرسه، ولا سياج يحفظه، اللهم إِلا صوت الاستعمار يخوفنا من عدوه، ويوصينا بالاحتراس منه، يخاف الاستعمار على الدين من عدو الاستعمار، كأن الدين يوالي الاستعمار ويحالفه، وليس للدين عدو كالاستعمار ولا خصم كالاقطاع، لأنهما يدينان بالغي والفساد، فيكفران باللّه وحقوق الإنسانية ويتخذان من الدخلاء على الدين وسيلة لتحقيق ما يبغيان، وهذا وحده يحتم على رجال الدين الذين هم منه في الصميم أن يسلكوا كل سبيل للغربلة والتصفية.

 

يَوم عَاشُورَاء *

لو آمن الناس بقول قائل : ان الحق للقوة لكان عليهم أن يرموا بكل كتاب مقدس، وبكل تشريع ودستور في عرض البحر.

حيث لا عدل، ولا فضيلة، ولا إيمان إلا بالمادة، والنتيجة الحتمية لهذا المنطق إن الإنسانية والجماد في الميزان سيان.

لو كان الحق للقوة ما كان لشهداء الفضيلة ذكر، ولا لأبطال التحرير فضل، وكان السفاكون الهادمون في كل عصر ومصر كيزيد هم الكون بكامله.

إن يوم عاشوراء لأحد الشواهد الصادقة على أن من تسلح بالمادة وحدها فهو أعزل.

ليس يوم عاشوراء احتجاجاً على يزيد وجيش يزيد فحسب، وإنما هو دليل قاطع على أن من يقف أمام الغاصب الطاغي ساجد الركاب منحني الرأس معفر الجبين يمد إليه يد الذل والاستجداء، دليل على أنه ليس له من الحق شيء، وأنه يستحق الحياة. ألا ترى إذا رآه الرائي قال : شقي بائس، ولم يقل : صاحب حق مهتضم.

إن صاحب الحق يمد إلى حقه يد القوة والعزة، يمدها وهو عالي الرأس ثابت الجنان، ولا يردها إلا قابضة على حقه، أو تقطع مجاهدة في سبيل الحق والعدالة، فإن قطعها في هذا السبيل حياة، وبقاءها ممات، والسلام على الحسين القائل : «إني لا أرى الموت إِلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً».

ليس يوم عاشوراء عاطفة مذهبية شيعية نحو الرسول وأهل بيته، عاطفة

_____________________

* - تليت في الكلية العاملية يوم العاشر من المحرم سنة 1371 هجرية.

ولدها الضغط على الشيعة، كما زعم الزاعمون، ولكنه تكريم للبطولة والتضحية، وإحياء للجهاد المقدس، واعتزاز بالاباء والكرامة، وإيمان بسلطان العدالة والحرية، وثورة على معاهدة سنة 36 المصرية، وعلى الشركة الأنكلوايرانية، وعلى الاستعمار في تونس وعلى الفساد في جميع البلاد، على كل ظالم مستعمر ومستثمر أموياً كان أم غير أموي.

ليس يوم عاشوراء للشيعة فحسب، ولا للسنة، وإنما هو للناس أجمعين، لأنه جهاد وتضحية، وحق وصراحة، ونور وحكمة، وليس لهذه الفضائل دين خاص، ولا مذهب خاص، ولا وطن خاص، ولا لغة خاصة. هذا هو يوم عاشوراء في حقيقته ومغزاه.

أما زيارة كربلاء وشد الرحال إليها من بلاد نائية فهي تكرار وتأكيد لما يهدف إليه يوم عاشوراء، وإنك واجد تفسير ذلك مكتوباً في القطع المعلقة على قبر الحسين بتلوها الزائر ساعة دخوله الحضرة المقدسة، وخروجه منها، وقد جاء فيها :

«إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم محقق لما حققتم مبطل لما ابطلتم، فاسأل اللّه أن يجعلني من خيار مواليكم العاملين بما دعوتم إليه، اهتدي بهديكم، وأن يجعل محياي محيا محمد وآل محمد، ومماتي ممات محمد وآل محمد».

يتلو الزائر هذه الكلمات وأمثالها بقلب خاشع ونفس مطمئنة في بقعة ارتفع فيها صوت الحق ضد الباطل، وخفقت رايات الهدى ضد الضلال، وشع فيها نور العدالة ليمحو ظلام الجور، واريقت دماء زكية لتطهر الأرض من رجس الاستعباد.

لم تعرف الكرة الأرضية في عهد يزيد مناصراً للحق غير هذه البقعة الصغيرة المسماة بأرض كربلاء، يقصدها الزائر ليشهد اللّه والناس على نفسه أنه لا يتبع إلا الحق، ولا يناصر إلا أهله، وأنه عليه يحيا ويموت، يحيا حياة محمد وآل محمد، ويموت ممات محمد وآل محمد.

إذن ليس معنى زيارة كربلاء تأليه الأحجار والأخشاب، وعبادة الأرض والتراب.

هذا شاعر - الجواهري - زار قبر الحسين، وبيّن الغاية من زيارته، والهدف من رحلته، فقال : إني زرت قبر الحسين، وشممت ثراه كي يتسرب إلى نفسي نسيم الاباء والكرامة، ويهب على قلبي ريح الحق والعدالة، وعفرت خدي بالتراب، حيث يضع، وقطع خد الحسين، ولم يخضع لظالم، ولثمت أرضاً وطأها الحسين، لأن خيل الطغاة جالت على صدره وقلبه وظهره وصلبه، ولم يهادن، ولم يمالئ من سلب الشعب حريته، والأمة حقوقها.

شممت ثراك فهب النسيم***نسيم الكرامة من بلقع

وعفرت خدي بحيث استرا***ح خد تفرّى ولم يخضع

ولا يبتغي الزائر الشاعر بعد هذا الدليل دليلاً على قداسة غايته ونبل مقصده، وأي دليل أصدق وأبلغ وأوضح على عظمة بقعة دفن فيها من نثرت السيوف لحمه دون رأيه وضميره، ورفع رأسه على الرمح دون إيمانه وعقيدته، وأطعم الموت خير البنين والأصحاب من الكهول إلى الشباب إلى الرضع دون مبدئه ودعوته.

وماذا أأروع من أن***يكون لحمك وقفاً على المبضع

وأن تتقي دون ما ترتأي***ضميرك بالاسل الشرع

وأن تطعم الموت خير البنين***من الأكهلين إلى الرضع

إن يوم عاشوراء وزيارة كربلاء هما رمز الحرية والمساواة بين الأسود والأبيض، والعربي مع العجمي، والملك وابن الشارع، وانه لا فضل إِلا لمن جاهد وكابد في سبيل هذه المساواة، المساواة في الغرم والغنم، فلا ظالم ومظلوم، ولا جائع ومتخوم، ولا عطشان وريان.

 

نحْنُ أعدَاء الظُّلم *

(الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم) نطق بهذه الحكمة العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، وهو أحد أئمة الدين الإسلامي.

وإن حوادث التاريخ لتشهد لهذه الحكمة بالحق والصدق. إن الحكم الذي يرتكز على الانساب والوراثة، ومظهر الدين، ورضا الأفراد المقربين لا يلبث حتى يزول، والأساس الثابت للحكم هو ثقة الشعب وولاؤه. وما فاروق عنا ببعيد، فهو من سلالة الملوك والأمراء، وتولد من أبوين مسلمين، وأقر بالشهادتين وكان يحضر في المساجد للصلاة، ويقيم موائد الإفطار في رمضان للصائمين، ويستمع لتلاوة القرآن الكريم.

قال الرسول الأعظم ص مفتخراً : (إني خلقت في زمن الملك العادل) يفخر محمد بعدالة رجل لم يكن على دينه، ولا من بلده ولا لغته من لغته، يفخر به وبزمانه لأنه ساوى بين الناس أجمعين، ورفع ظلم القوي عن الضعيف، وطمع الغني بالفقير، وحال بين استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وهذي هي دعوة نبي الإخاء والمساواة ورسول المحبة والسلام.

أجل، كان هذا الملك يعبد النيران، ولكنه لم يتقلب هو وأهله وحاشيته في النعيم والهناء، وشعبه يقاسي عذاب البؤس والشقاء، ولم يتحصن بحجاب يطردون عن بابه الضعيف المظلوم، ويرحبون بالقوي الظالم، بهذه المساواة بين الناس كافة كان ذلك المجوسي عظيماً عند الرسول، على ما بينهما من البعد في الدين واللغة والوطن.

_____________________

* - تليت في الكلية العاملية يوم العاشر من المحرم سنة 1372 هجرية.

فالقريب - إذن - من قربته الإنسانية، وإن بعد لغة وديناً وبلاداً، والبعيد من أبعده الطمع والجشع، وإِن قرب ديناً ولغة ووطناً ونسباً، والرجل الصالح العادل من شعر بالتبعات، وتحرر من الشهوات، وقام بواجبه الإنساني بصبر وشجاعة، أما أن يتظاهر بالدين، بالإيمان بالغيب، والمحافظة عليه، والدفاع عنه، ثم يعمل أعمالاً إجراميةً وحشية فإن الحق والدين يبرآن منه، ومن أعماله، فمسلم ومسيحي ومجوسي اسماء تدل على أن هذا الإنسان تولد من أب مسلم أو مسيحي أو مجوسي لا أكثر ولا أقل، وماذا يجدي الانتساب إلى الدين، إذا لم يكن معه حق وعدالة وقد رأينا المستعمر يتخذ من التظاهر بالدين وسيلة لتوطيد أقدامه، وتغطية عدوانه، ويوجد في عصرنا هذا حكام مسلمون، وغير مسلمين، فهل الحاكم المسلم أصلح وأنفع لشعبه من الحاكم غير المسلم !

كان ملك الفرس يعبد النيران، ولكنه لم يفسد في الأرض بعد إِصلاحها، فيحول خيراتها لإبادة العالم، أو يخصص هذه الخيرات بفئة من الفئات وبهذا كان صالحاً عادلاً يفخر الرسول به وبزمانه.

ونحن المسلمين الذين ندين بدين محمد صلى الله عليه وآله لسنا أعداء دين من الأديان، ولا قومية من القوميات، ولا شعب من الشعوب، ولسنا شعب اللّه المختار كما تزعم الصهيونية لنفسها، وإنما نحن أعداء الظلم والاستعمار والتضليل.

نحن أعداء الصحافة المضللة التي عميت عن بؤسنا وشقائنا، واهتمت بنشر الأزياء، بأخبار الفساتين في باريس. والإعلان عن السيقان الجميلة، ومدينة الملاهي، والكازينو، ولو حسنت نية أربابها وتوخوا الصالح العام، والتوجيه المفيد لنشروا في صحفهم عن كيفية إنتاج الحليب والزبدة في هولندا، وإنتاج الحبوب في أميركا، ووسائل الري في روسيا، وتربية الدواجن في أوروبا.

ونحن في أشد الحاجة إلى هذا التوجيه، إلى الانتفاع بإمكانياتنا المادية، والتحرر من اغلال الامتيازات وقيود الشركات وطوفان البضائع الأجنية.

 

لِمَن العِيد ؟ *

كان المجتمع العربي الإسلامي إلى نهاية الحرب الأولى. وقبل أن تقع البلاد العربية فريسة المستعمر يعيش بعقائد ومبادئ يستمدها من دينه الذي كان مصدر معرفته، كما أنه سبيل سعادته وهدايته.

فمناهج التربية كانت توجه نحو القيم الروحية، وتوضع في ضوء أصولها وقواعدها.. وكان الفقه الإسلامي يفصل بين الناس في منازعاتهم في المحاكم وغير المحاكم. فالمتعلم من حفظ القرآن، وتعلم العقائد وعلم الكلام، وعرف التفسير والحديث، والقانوني من درس الشريعة الإسلامية، والرجل الطيب من كان سلوكه صورة عن الخلق الإسلامي الصحيح. والخائن من زاغ عن منهج الدين، واستخف بتعاليمه حاكماً كان أو محكوماً.

وكان من نتيجة ذلك أن التعاليم الدينية كانت واضحة في أذهان الناس، متمكنة من نفوسهم، فيعرفون الشيء الذي يأمر به الشرع، أو ينهى عنه، فيخضعون لأمره ونهيه طوعاً لا كرهاً واقتناعاً لا حياء، ويميزون بين الواجب والمحرم والمندوب، فيمتنعون عن السرقة والكذب والزنا والخمر، لأن هذه محرمة، ويؤدون الصلاة والزكاة والحج، لأنها واجبة، ويتصدقون مؤمنين بأن الصدقة سنة ندب إليها الشرع الشريف، هكذا كان المجتمع يواجه الحياة بعقيدة تهديه، وتسدد خطاه، وبدين يهذب من سلوكه وأخلاقه. فكان الفرد وهو في أحسن أوقات النعيم يشعر بالخوف من اللّه، وبحافز يبعثه إلى أن يساءل نفسه : ما هي

_____________________

* - تليت في اجتماع ديني في الزيدانية ببيروت 1952 واذيعت في الوقت نفسه من محطة الإذاعة اللبنانية.

عاقبة النعمة التي وهبني اللّه إياها ؟ هل أثاب عليها أو أعاقب، وماذا سيكون موقفي أمام اللّه إذا سألني عنها ؟ لقد كان الإحساس الديني يلازمه في جميع أحواله، حتى عند المعصية، فسرعان ما يندم ويبالغ في الانابة والتوبة.

وقد أعطانا الاحتلال الأجنبي مجتمعاً جديداً، أعطانا مجتمعاً لا يهتم بالعقائد والأخلاق، ولا يعرف من المبادئ قليلاً ولا كثيراً، وعرف الأجنبي كيف يخلق مجتمعاً أعزل من الضمير والمثل العليا، فوجه اهتمامه قبل كل شيء إلى الشريعة الإسلامية، فأزاحها من المحاكم ودور القضاء، وأحل محلها القانون الوصفي الذي يتلاءم مع أغراضه الاستعمارية، كما ألغى من المدارس كل ما يمت إلى الدين واحياء الضمير بسبب، ووضع منهاج التربية على أساس قتل الروح الوطنية، وإضعاف اللغة العربية، وطلى عقول الناشئة بألفاظ جوفاء تتطاول بها إلى الكراسي والمناصب، ولو أن الأجنبي حين الغى الدين من مناهج التربية أحل محله العلم الذي نجابه به مشاكلنا الاقتصادية لهان الخطر، ولكنه حاول أن يجردنا من الروح والمادة معاً ليبرر استغلاله وجشعه.

أجل هكذا أراد المستعمر أن نكون، أن نعيش في ظلام دامس، وجو مفعم بالغموض بالنسبة للعقائد وآداب السلوك، وقد تم له ما أراد، أو بعض ما أراد، وإِن أردت برهاناً على ذلك فقارن بين احترامنا لشهر الصيام اليوم، واحترامنا له بالأمس، وبين أغنياء المسلمين اليوم، وأغنيائهم بالأمس، فمن بنى هذي المدارس والمساجد ؟ ومن أوقف الأسواق والمخازن في سبيل الخير ؟ وقل لي بربك هل تستطيع أن تجمع قليلاً من المال دون أن تقيم حفلاً برئاسة حاكم أو وزير تنشد بين يديه القصائد الطوال، والخطب الرنانة في المديح والثناء، وتسلك الف سبيل وسبيل، تفعل ذلك مرغماً لأن الغني لا يتبرع لأي عمل خيري إِلا ملقاً لحاكم أو زعيم، أو رغبة في رتبة، أو شهرة. هذي هي أخلاقنا أخلاق تجارية لا دينية، وهذي إِحدى الأسباب للضعف والانحلال، وأي شيء أدل على الضعف من المظاهر يوم العيد الذي سيطل علينا غداً، لمن هو العيد ! ومن هم الذين سيعيدون ويفرحون ؟ هم الأغنياء ونساؤهم وأطفالهم، أما الأرامل والأيتام، والعاطلون عن العمل فلهم الحسرات والتنهدات للأغنياء اللحم والحلوى والفاكهة وللفقراء الجوع والعطش والدموع. للاغنياء الأجواخ والحرير، وللفقراء الأجساد العارية والثياب البالية، للأغنياء القصور والخدم، وللفقراء الأكواخ وحرارة الشمس، للأغنياء السينما والملاهي، وللفقراء الشوارع والرمال، للأغنياء سيارات الكدلك والبويك، وللفقراء الدهس والسب والشتائم !

ألا ليت يوم العيد لا كان انه***يجدد للمحزون حزناً فيجزع

وإذا كانت الأنظمة الوضعية لم تبدع للإنسانية شيئاً أفضل مما أبدعه الإسلام فعلينا نحن المسلمين أن نضرب أمثلة من أفعالنا، لا من أقوالنا هذه الحقيقة، أن نضرب أمثلة بالتضحية لا بتلاوة القرآن والخطب والأناشيد فحسب. إن هذا ليس بشيء عند اللّه إذا لم يكن سبيلاً إلى تطبيق تعاليم الإسلام الذي حارب فكرة الإنقسام والتفاضل بين الناس على أساس الغنى والفقر، والانساب والمناصب.

نحن لا نريد أن نعيش بالأحلام العقيمة، ونسعد لأن اسمنا مسلمون، وكفى، إننا نكون مسلمين حقاً سعداء حقاً إذا تدبرنا آي الذكر الحكيم، وتعاونا جميعاً على خير هذا الوطن، على أن يكون مجتمعنا في أمن وأمان من الجوع والمرض والجهل. أيكون الإنسان منا مسلماً، وهو لا يستطيع أن يرى أحداً إِلا أصحاب الجاه والمال ولا يحترم إلا زعيماً أو حاكماً. جاء في الحديث الشريف أن الفقراء هم صفوة الخلق، وان من أراد اللّه فليطلبه عند الفقراء، أي من أراد الحق فلا يبحث عنه في المريخ ولا عند أرباب العروش والتيحان، لأنه لا يجده هناك، إنما يجده في العمل الذي يرفع البؤس عن البائسين، والعوز عن المعوزين، يجده في السبيل الذي يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف. إن حياة اليسر والراحة تعين على طاعة اللّه وعبادته، وتبعد عن محارمه ومعصيته.

وما كان ربك ليهلك القرى وأهلها مصلحون.

 

الجشَع *

كان الناس فيما مضى لا يتطلبون من رجل الدين أن يتكلم في أشياء تخرج عن تعاليم مدرسته ودائرة اختصاصه، فإذا خطب أو كتب تناول موضوعات تكاد تنحصر في العبادات والفقه والوصايا العشر، وما إليها، وكان يسند أقواله إلى كتاب منزل، أو نبي مرسل، أو حكم العقل، أو إجماع الأمة، هذا إذا كان من ذوي العلم والتحصيل، وإلا اسندها إلى مصدر غير صحيح، أو أرسلها إرسالاً من غير اسناد معتمداً على اسم الدين وماله من قداسة وهيبة في النفوس، وكانت هذه القداسة وحدها تقوم عند المؤمنين والاتباع مقام التعليل وذكر الدليل، فهي الحجة القاطعة لإثبات الحق في فصل الخصومات، وحل المشكلات.

أما اليوم فقد عم الوعي، وخضع كل شيء للنقد والتساؤل، وبنيت الحياة واشياؤها على العلم، على التجربة والمشاهدة، فأي مبدأ أو قول كائناً من كان قائله لا بد يتناوله البحث والتمحيص، ومن حاول أو يحاول الافلات من النقد والبحث الحر فإنما يقيم الدليل على أنه يبني على غير أساس، ويسير على غير هدى. إن الويل لمن زلت قدمه عن جادة الصواب، وتجاوز حدود الواقع، واستعان بالأوهام والتخيلات.

إن الدعاية الصحيحة أو قل الناجحة هي أن تعلن الواقع بدون مبالغة أو تحريف، أما إعلان ما ليس بواقع فينتج عكس الغرض المطلوب، لهذا لا أذكر شيئاً مما قرأته في كتاب أو سمعته من أفواه الرجال عن فوائد الصوم، لأن الصوم عبادة، والعبادة لا تصاب بالعقول، ولا تفسّر بالأوهام، بل يختصر فيها على ما نطق به

_____________________

* - اذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشر في جريدة «الجريدة» في شهر رمضان المبارك سنة 1955.

القرآن الكريم، وثبت في السنة النبوية.

سأتحدث عن الجشع لا عن الصيام، وكلاهما من وحي رمضان المبارك، لأن الشيء يعرف باضداده كما يعرف بنظائره.

جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم ص وآله «الجشع أشد من حرارة النار». وهذا حق، لأن النار لا تنفذ إلى أعماق الأرض، بل تقف عند حد لا تتعداه، إن لم تجد ما تأكله، أما الجشع فلا يحده شيء ولا يشبهه شيء يلتهم ما فوق الأرض وما تحتها ولا يبقي لأحد باقية، وربما كانت الحكمة من وجوب الصوم، والعلم عند اللّه، استنكاراً للجشع والطمع، وإثارة النقمة على أهله الذين يحتكرون الأقوات، ويتحكمون بالأسعار، واحتجاجاً على أصحاب القصور التي تقوم حولها بطون خاوية، وأجسام عارية، وعلى الجامعات والمستشفيات التي اسست للاستغلال والمراباة.

قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام «إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإن أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت تريد ما لا يكفيك، فإن كل ما فيها لا يكفيك» أي أن كل إنسان لو عمل لكفايته وسد حاجته، لما هو ضروري وحيوي لوجوده وحياته، فإن في هذه الأرض الواسعة الخيرة من الأرزاق ما يكفي جميع سكانها بالغاً ما بلغوا. أما لو عمل للربح والسيطرة والظهور فإن كل ما في الدنيا لا يكفي واحداً، لأن اللاكفاية كاللانهاية لا تحد بحد.

لو أخذ العالم بهذه النظرة لما عرف الناس المشاكل، ولاستراح كل بلد من القلاقل والاضطرابات الداخلية والخارجية، ولسرحت الجنود من ثكناتها، وتحولت مصانع الأسلحة إلى صنع الطعام واللباس، ولم يبق أي داع لوسائل القسوة والعنف، لو عمل كل إنسان للكفاية لما وجد فقير، ولما احتاج أحد إلى الصدقات والمبرات.

إن سلوك هذا السراط هو الذي يأخذ بيدنا إلى حيث نريد وكل جهد يبذل لتجنب الأخطاء والويلات لا بد يتحول إلى النقيض إذا انحرفنا عن هذا النهج القويم، قل في تحديد الفضائل والقيم ما شئت أن تقول وتفلسف ما استطعت فإنك لا تجد ولن تجد لقيمك مكاناً في نفس عاقل إذا لم تحمه من جشع المستغلين، وطمع المستثمرين، إن هدف الإنسان في هذه الحياة أن يحياها بعدالة وسلام، لا أن يفلسفها بمواعظ وكلام، ان الرذيلة أن نبقى في مكاننا من الانحطاط، والفضيلة أن تكون لنا عيشة راضية، ومدارك نامية، وأخلاق سامية، والأخلاق السامية في نظر الإسلام ترتكز على التقوى، فإن الاتجاه إليها يتمثل في كل آية من القرآن الكريم، وكل حديث للرسول العظيم، وكل مبدأ من مبادئ الإسلام، وكل حكم من أحكامه.

وليست التقوى مظاهر وطقوساً تؤدى في المعابد فقط، وإنما هي العمل المنتج، ولا يمكن أن نفهم أو نتصور التقوى مفصولة عن العمل النبيل، ولا يكون العمل نبيلاً إلا إذا كان مقروناً بالإيمان بأن لك مثل ما لغيرك، وعليك مثل ما عليه دون زيادة أو نقصان في المغنم والمغرم.

بهذا الإيمان، الإيمان بالواجب لا بالقوة نكون من المتقين الأخيار، تؤثر الحق على الباطل، والشجاعة على الجبن، والصراحة على المداهنة، والاباء على الذل، ونقول للظالم يا ظالم، وللخائن يا خائن، وللجاهل يا جاهل. بهذا الإيمان نحيا حياة طيبة لا نخاف ظلماً ولا هضماً، وبدونه نحيا حياة الذل والبؤس، وتسود فينا الرذيلة والفجور، والنفاق، والملق «اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون».

العِلم دين يُدان به *

رأى بعض الغيورين على الدين إعراض الشباب عنه وعن أهله، وإقبالهم على كل جديد مفيد وغير مفيد، فحاول أن يرغبهم في الدين ويقنعهم بأن جديدهم هذا غير جديد، لأن الدين بزعمه قد تحدث عن كل شيء تصريحاً أو تلويحاً، وأشار إلى ما كان ويكون من الآلات والمخترعات الحديثة، ثم أورد هذا الغيور الشواهد على دعواه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية حملها على غير محملها، وفسرها بغير حقيقتها، فسر قول القرآن الكريم «ويخلق ما لا تعلمون» بالطيارة والسيارة، وفسر «ويوم تأتي السماء بدخان مبين» بالغازات السامة، وفسر «الكتاب المبين» بالتسجيل الهوائي للاصوات، إذن يصح لنا أن نقول بناء على هذا القياس : أن قول القرآن الحكيم «من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» إشارة إلى تحطيم الذرة، وان الفقرة الأولى تشير إلى استخدام الذرة في الأغراض السلمية النافعة، والفقرة الثانية تشير إلى استعمالها في الحرب المهلكة المدمرة.

إن هذا التفسير، وإن دل على طيب السريرة وسلامة القصد، فإنه لا يقل ضرراً عن الرجعية والجمود. إن الخير كل الخير ان نقف بالدين عند واقعه وحقيقته، وحسب الدين فضيلة أنه أمر بكل شيء نافع، ونهى عن كل ما فيه شائبة الضرر، حسبه فضيلة أنه حارب الجهل والفقر كما حارب الظلم والكفر.

إن القرآن لم يشر إلى وجود هذه الآلات والمخترعات، ولا إلى وجود اديسون وانشتين، وإلى وجود هتلر وموسيليني ولكنه أعرب بلسان عربي فصيح أن

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشرت في مجلة الأحد في شهر رمضان المبارك 1955.

« من قتل نفساً بغير نفس... فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» وقتل النفس يكون بالسيف ويكون بالجهل والبطالة وخنق الحريات وما إلى ذلك من الوقوف في طريق الحياة والنبوغ، كما أن إحياءها يكون بالعلم وإفساح المجال للعمل وحرية الفكر وظهور النبوغ والعبقريات، وبالنتيجة يكون هتلر وأمثاله من الذين قتلوا الناس جميعاً، وأديسون وانشتين من الذين أحيوهم جميعاً، أجل إن اللّه علم الإنسان ما لم يعلم، حيث وهبه العقل والإدراك، ورفع عنه الحجر والوصاية، ولكنه في نفس الوقت نهاه أن يبخس الناس اشياءهم، ويعيث في الأرض فساداً.

إن العلم قد يكون سلاحاً فتاكاً، وقوة هدامة تدمر الحضارة، وتعود بالإنسانية إلى ظلمة التوحش والبربرية، ووسيلة تخيف الناس على أرواحهم وأموالهم، وتجعلهم في جزع مستمر، وقد يكون العالم قوة منتجة، وأداة لتطور الحياة وتقدمها.

والإسلام يحدد موقف العلم، أو قل يحدد مسؤولية من في أيديهم قوة العلم ووسائله، ويوجب عليهم أن يستخدموه للحياة لا للممات، إن الإسلام يحث على العلم ويرفع من شأن العاملين به، وهم المعنيون بقوله سبحانه «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون - يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» وقال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام «العلم دين يدان به». أي أن العلم حق، وعلى كل إنسان أن يدين بالحق، ويعمل به، وإنما يكون العلم حقاً وديناً مقدساً إذا خلقنا خلقاً جديداً ينهض بنا إلى حياة أفضل، كما خلق الإسلام مجتمعاً جديداً في التفكير والمعيشة والسلوك، أما العلم الذي ينتهي بنا إلى سوء المصير فقد تعوذ منه الأنبياء والمصلحون، كما تعوذوا من الشيطان الرجيم، بل تعوذوا من علم لا ضرر فيه ولا نفع، قال الرسول الأعظم ص : أعوذ باللّه من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، فما قولكم بالعلم يتخذ آلة للصوصية ! أما القلب الذي لا يخشع فهو الذي لا يشعر صاحبه بالمسؤولية، ولا يكترث بالدين والوجدان، والنفس التي لا تشبع هي التي تحرص على الاحتكار واحتياز الثروات، وتعمى عن سوء العاقبة والمصير.

 

حَديث رَمضَان *

لقد غير العلم فهم الإنسان لحقيقة الحياة، وقضى على كثير من التقاليد والمعتقدات، قضى على المعتقد الذي أقام الخرافة مقام العلم، والأحلام مقام الملموس والمنظور، وفسر الطبيعة وحوادثها باشياء لا تمت إليها بسبب. فسر المرض بلمس الجن، فعالجه بالرقى والتعاويذ، ونسب الفقر إلى القدر، فأوجب الاستسلام له والانقياد، وأسند سلطة الحاكم إلى اللّه، فأمر الناس بالسمع له والطاعة. هذه هي العقيدة التي ناصرها الظلم، وقاومها العلم، ودعمها الاقطاع، وكذبها الوعي، ودللها الاستعمار وخنقها التطور.

أما الدين الذي يحارب الخرافات والأوهام، ويدعو إلى تفسير الطبيعة بأسبابها، ويتصل بحياة الإنسان مباشرة، ويهدف إلى أن تكون الفضيلة عملاً مجسماً يحسه ويشعر به كل فرد فانه يسير مع العلم جنباً لجنب حليفين متناصرين، وهل يحارب العلم ديناً أساسه الدعوة إلى العلم، وحدّه العدالة والمساواة، وهدفه سعادة الإنسانية ورفاهيتها ؟ إن مثل هذا الدين يرفع الإنسان إلى مستوى أعلى، فقد رفع الإسلام قبائل العرب المتوحشة إلى أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه من التقدم والحضارة في ذلك العهد، وهذا التاريخ طبع كثيراً من الحضارات بطابع الدين وسماته، فوصف هذه بالحضارة الإسلامية، وتلك بالحضارة المسيحية، وثالثة بالحضارة البوذية، ولو كان العلم يعاند الدين لما كان للحضارة الدينية في التاريخ ذكر، وللكنائس ورجالها في أميركا وأوروبا عين ولا أثر أثر في هذا العصر الذي يجري فيه تيار العلم بأقصى ما يجري تيار في جميع العصور.

يتبين من هذا أن العلم لا يعاند اللاهوت، وأن عدو اللاهوت هو اللاهوتي

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشرت في جريدة التلغراف في شهر رمضان المبارك 1952.

الذي يفسر الطبيعة بالخيال والوهم، ويتخذ من أقوال السلف برهاناً على الحقيقة، ولو كذبتها التجربة والعيان، ويحاول إِقناع الناس بأن دينه خير الأديان، وأن طائفته تسعد غداً في جنات النعيم، وسائر الطوائف تشقى بنار الجحيم.

ليست مهمة رجل الدين أن ينظر إلى السماء وحدها، ويغض الطرف عن الأرض التي يعيش فيها، أو ينظر إليها من خلال نفسه وجامعه وكنيسته، فيبشر بدينه، ويهاجم سائر الأديان، ويتعصب لطائفة ضد الطوائف الأخرى، وإنما واجب رجل الدين أولاً وقبل كل شيء أن يتخذ من كل ما عليه مسحة دينية من عمل يؤدى في معبد، أو قول في كتاب مقدس، أو دعاء يكرر في الصلوات وأيام الصيام أداة توجيه وإِرشاده إلى تعاون جميع الطوائف الذين يجمعهم وطن واحد، وآمال واحدة، وأهداف مشتركة، إلى تعاون الجميع على تحقيق هذه الآمال والأهداف، وهدم الفروق والحواجز التي تحول بينها وبينهم، أن يعملوا يداً واحدة على حل ما يعانونه من مشكلات لا يصح الاغضاء عنها، ولا التقصير فيها. إِن الشعب الذي لا يتعاون ابناؤه على ازدهاره ورفع مستواه المادي والروحي لا دين له ولا إيمان.

ليس الدين ذلاً ولا انكساراً وزهداً في الحياة وملذاتها، ولا صلاة وصياماً يذوب له الصائمون، إن الصلاة رمز إلى إيمان المصلي، إيمانه بحق الإنسان وخالقه، وتعبير عن حبه للنظام الذي يحقق الحرية والرخاء للجميع، وانه يتقبل هذا النظام، ويحافظ عليه، ويخضع له بمحض إرادته واختياره. فالصلاة الصحيحة هي ما ينتهي بها المصلي، ويتورع عن كل ما فيه ضرر لنفسه ولغيره، ويأتمر ويفعل كل ما فيه الخير والصلاح له وللمجتمع، وبهذا نجد تفسير الآية الكريمة «ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر».

أما الصيام فقد أمر به الإنجيل قبل أن يأمر به القرآن «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون» وليست الحكمة من وجوب الصيام أن يتذكر الصائم الجائعين، فيحسن إليهم. ويتصدق عليهم بالقرش والرغيف - كما قيل - ولو كانت هذه فائدة الصيام لوجب الصيام على الأغنياء دون الفقراء، ولكان حقاً على اللّه أن يسلط على الناس حاكماً ظالماً يظلمهم، ويستعبدهم ليتذكروا المظلوم، وينتصروا له من الظالم.

إن قول اللّه سبحانه كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون إشارة إلى أن الحكمة من وجوب الصوم، وامتناع الإنسان عن طعامه وشرابه - وهما في بيته ومتناول يده - أن يضبط الصائم نفسه بوازع يردعه عن استغلال الناس واستثمارهم، والتعدي على طعامهم وشرابهم. أن يدرك عملاً لا قولاً ان اطلاق العنان لانانيته واهوائه يجعل أقوات الناس ومقدراتهم رهناً بمقدرته على الاحتكار واللعب بالأسواق، وبمهارته في فن الغش والتدليس وفي ذلك خطر كبير عليه وعلى المجتمع. أن يدرك أن حرية الفرد واستقلاله ومصالحه - مهما بالغنا في احترامها - هي دون حرية المجتمع واستقلاله ومصالحه. أن الحر فرداً كان أو مجتمعاً هو من لا يستغل ولا يستغل، لا يستعبد ولا يستعبد. وبالتالي أن يهيِّئ الصائم نفسه بنكران ذاته، وكبح شهواته ليكون عضواً صالحاً في مجتمع يسير في سبيل النجاح والازدهار.

أن الدين أمر بالصوم تحدياً للجوع والعطش، لا رغبة في الجوع والعطش، تحدياً للأهواء التي تفرض على الناس ضريبة الجوع والعطش، وتعيق سير التقدم بجشعها الذي لا يقيد بقيد، ولا ينتهي إلى حد. قال الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّه ص : الصائم من يذر شهوته وطعامه وشرابه لأجل اللّه سبحانه، وقال : كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. أجل، لأن صيامه لم يحد من طمعه، ولم يرق به إلى احترام الحياة، والإيمان بحقوق الإنسان. وجاء في بعض الأدعية التي يتلوها المؤمنون في شهر رمضان المبارك : اللهم ارزقني الجد والاجتهاد، والقوة والنشاط لما تحب وترضى.. والوجل منك، والرجاء لك والتوكل عليك، والثقة بك، والورع عن محارمك، ان الخوف من اللّه سبحانه، والورع عن محارمه، والنشاط لما يرضيه، كل ذلك، إنما يكون بالتحرر من عبودية الهوى، وحب السيطرة والاستئثار، والبعد عن الكسل والخمول، عن سبيل الذين يقامرون بقرش الفقير، ورغيف البائس، ولا عمل لهم سوى الانتقال من مقهى إلى بار، ومن ملهى إلى حانة، إن اللّه لا يحب، ولا يرضى عن مجتمع لا يجد ويجتهد، ولا يكافح ويناضل في سبيل حياة أرقى وأبقى، ولو ملأ الشوارع بالكنائس والجوامع، والفضاء بالأجراس والأذان ان المجتمع الذي يحبه اللّه ورسوله، ويحب اللّه ورسوله هو الذي لا ترى فيه إِلا عاملاً في مصنع، أو زارعاً في حقل، أو راعياً على منحدر جبل، أو سماكاً يجذب شباكه، أو فناناً يرسم على لوحة، أو طبيباً في عيادة، أو عالماً في مختبر، أو أديباً ينقد الأوضاع.

إن مثل هذا المجتمع خليق بأن يعبد اللّه مخلصاً له الدين والصلاة والصيام.

 

العيد *

إن الأعياد لا تختص بأمة دون أمة، ولا بدين دون آخر، فنجدها جلية واضحة في تاريخ الأمم والأديان جميعاً. وتنقسم الأعياد إلى دينية وشعبية، وأعياد خاصة ليست بشعبية ولا دينية، بل هي في نظر الأديان بدعة وضلالة، وعند الشعوب سخف وجهالة، كالاحتفال بتتويج ملك ليس له أثر يذكر، ولا منقبة تشكر. والغبطة بمثل هذا العيد لا تتعدى المتوج وأسرته، فإذا زال النفوذ والسلطان، وجاءت الأعياد كانت عليهم عذاباً وحسرات.

ويلاحظ أن العرب يهتمون ويحتفلون بالأعياد الدينية أكثر من الأعياد الشعبية، على عكس الغربيين الذين يهتمون بالأعياد الشعبية أكثر من غيرها، ولعل السر أن الشرق مصدر الأديان، وأن العرب لم يستردوا بعد كامل حقوقهم وسيادتهم، وسالف عزهم ومجدهم.

ومهما يكن فإن الأعياد الدينية تختلف باختلاف البواعث والأسباب، فعيد الميلاد يرمز إلى المودة والرحمة والإنسانية التي دعا إليها السيد المسيح، ومولد النبي من الذكريات الخالدة التي لها أعظم الأثر في تاريخ الإنسانية، فقد كان مولده إِيذاناً بانتهاء عهد الجاهلية والاستبداد، وبزوغ عهد الحضارة والحرية . والحكمة من عيد الهجرة النبوية ان يلتفت المسلمون إلى الماضي ليجددوا وحدتهم، ويعملوا يداً واحدة لأنفسهم لا لغيرهم، ويناضلوا بروح التضحية والإخلاص في سبيل مبادئهم القومية، وإرجاع مجدهم، وإحياء تراثهم، ويحرروا بلادهم وعقولهم من كل قيد يعيقهم عن السير في طريق الحرية والحياة.

وهذان العيدان المولد والهجرة لم يكونا معروفين في عهد الرسول، ولا

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية في عيد رمضان المبارك 1953.

في عهد خلفائه الراشدين، فالمولد لم يصبح عيداً مقرراً عند المسلمين إلا في القرن الثامن الهجري، وعيد الهجرة تقرر بالأمس في هذا القرن. والحقيقة أن هذين العيدين هما من الأعياد الشعبية عند المسلمين لا من الأعياد الدينية، ولذا لا تجوز فيهما صلاةُ العيد. أما عيد الأضحى والفطر فإنهما من الدين في الصميم، فقد ثبت أن النبي كان يحتفل بهما، ويحتفل معه المسلمون، ويصلون فيهما خلفه صلاةَ العيد.

وعيد الأضحى يهدف إلى توثيق آصرة القربى بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وديارهم ولغاتهم، ويذكرهم بأنهم أسرة واحدة ينتظم فيها مئات الملايين. وعيد الفطر تحية القيام بالواجب، حيث يجدر بالصائم الذي جاهد شهواته شهراً كاملاً، وانتصرت قوى إِيمانه وعقيدته على أهوائه وميوله أن يعيد عيد النصرِ والفوز، عيدَ انتصارِ النظام على الفوضى، والعقل على العاطفة، عيداً يبتهج فيه لتغلب الحق على الباطل، والمبدأ المقدس على المنافع الخاصة.

لقد كان الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى في عصر الإسلام الأول بسيطاً متواضعاً، كان النبي يوسع على عياله يوم العيد، ويأمر أصحابه بالتوسعة على عيالهم، وكان يغتسل ويتطيب ويلبس أجمل ثيابه، ويقول : إِن اللّه جميل يحب الجمال، وقال الإمام جعفر الصادق في تفسير هذه الآية من سورة الأعراف «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا، إن اللّه لا يحب المسرفين، قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق» قال : إن معنى الآية تزينوا والبسوا أفخر ثيابكم في الجمعات والأعياد، وكلوا من طيبات ما أحل اللّه، ولا تأكلوا حراماً ولا باطلاً.

لقد استحب القرآن الزينة والأكل والشرب من الحلال الطيب، ونهى عن التبذير والإسراف، لأن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وقرش واحد يؤخذ من غير حل، أو ينفق في معصية اللّه، في الفسق والفجور فهو إِسراف وتبذير ومجاوزة للحدود. وإذا ضممنا الآية التي أمرت بالزينة إلى هذه الآية من سورة النور الموجهة إلى النساء «ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ابنائهن أو ابناء بعولتهن أو اخوانهن أو ابناء اخوانهن أو ابناء اخواتهن أو نسائهن» إذا ضممنا الآيتين معاً تكون النتيجة أن القرآن أباح للرجال أن يتزينوا إِذا خرجوا إلى المساجد والمحافل في الأعياد وغيرها، أما النساء فلا تباح لهن الزينة في يوم العيد ولا في غير العيد إِلا إذا كانت الزينة للأزواج لا للأجانب، وفي عصرنا هذا تكاد تنعكس الآية عند بعض النساء، فانهن يقابلن الأزواج بثياب المطبخ، وبشعرهن المنفوش، كأنه صوف على غنم، وبالكلام الجاف الموحش، وإِذا أردن الخروج تزين بأفخر الزينة، ولبسن الحلي والحلل، وزججن الحواجب والعيونا، وملأن المحافظ بأنواع المساحيق يضعنها على الخدود، وهن سائرات في الشارع، أو راكبات في السيارة. وفي الحديث عن الرسول الأعظم «أيما امرأة تزينت لغير زوجها فعليها لعنة اللّه.. إِن خير نسائكم الولود الودود السيّرة العفيفة العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها المتبرجة مع زوجها الحصان على غيره التي تسمع قوله، وتطيع أمره».

وفي أيام الأعياد تتجلى العواطف الزوجية والأبوية والأخوية بأجلى معانيها حتى عند المتشائمين المشككين الذين يعمون عن الأثمار والأزهار، ولا يرون إلا الحنظل والأشواك، وتظهر هذه العاطفة الإنسانية في أبناء القرى أكثر منها في ابناء المدينة، فليس العيد في القرية ملابس وكعكاً وذبائح فحسب، فقبل كل شيء يجتمع أهل القرية في المسجد لصلاة العيد جماعة، ثم يتصافحون ويتعانقون متبادلين كلمات التهاني والدعاء بالخير (كل عام وأنتم بخير) يقولونها بصدق وإخلاص، ويرجون للأعزب أن يروه في العام المقبل عريساً سعيداً، وللمتزوج الذي لم يولد له أن يروا له ولداً مباركاً، ومن استوفى نصيبه من ذلك يتمنون له الخلاص من الذنوب والآثام. وحج بيت اللّه الحرام.

ثم ينتشرون زرافات ووحدانا إلى زيارة المرضى ومعايدتهم وتفقد الفقراء والأيتام فيجمعون لهم المعونة لنفقات العيد، ويبذلون أقصى الجهود لإصلاح ذات البين، فيؤلفون بين عائلتين متباغضتين أو شخصين متحاسدين، وإذا عجز أهل القرية عن التأليف بين القلوب المتنافرة استنجدوا بالقرى المجاورة، فيلبون مسرعين مخلصين، وإذا كان أهل بيت في حزن وحداد على فقد عزيز رغبوا إليهم في ترك الحداد، وتناسي المصاب، وإلا حدّت لأجلهم القربة بكاملها.

ومنذ سنوات كنت أقيم في بعض القرى الواقعة على حدود لبنان الجنوبية، فحدث شجار دام بين عائلتين كبيرتين لأسباب مادية، فحاولت الصلح بينهما فلم أفلح حتى جاء يوم العيد، فأقبل أهل القرية إلى بيتي صباحاً يقدمون لي التهاني كعادتهم في كل عيد، فقلت لهم : إِني حزين لا أقبل التهنئة من أحد أياً كان، وسألوني عن السبب مستغربين، قلت : لا احتفل بالعيد أبداً ما دام في البلد اخصام. فانبرى شيوخ القرية وجمعوا المتخاصمين، وأتوا بهم جميعاً إلي، فتكلمت ورغبت إليهم أن يتصافحوا ويتعانقوا، ففعلوا، وزال ما كان في قلوبهم من غل. وهكذا اتفق أهل القرية الذين ما زالوا على الفطرة الإنسانية الطيبة التي فطرهم اللّه وفطر الناس جميعاً عليها، لا أهل القرية فحسب، وإنما فسد، وأفسد من ساءت تربيته وعلاقاته الاجتماعية.

ولولا أن تمتد بعض الايدي الأثيمة إلى كثير من القرى تثير فيها الفتنة والشغب لكانت كل قرية كهذه، ويتناسى أهلُها جراحَهم ودماءهم، ويسيرون وراء كل من يتجه بهم إلى النجدة والصالح العام.

إن المشاركة الوجدانية تظهر بأصدق معانيها في ابناء القرية يوم العيد، ويلمسها كل من أقام بينهم، وشهد أعيادهم. أما المدينة فيكاد لا يوجد لهذه المشاركة أثر يذكر لا في أيام الأعياد ولا في غيرها. وليس السبب في هذا التفاوت ما قيل أو يقال بأن القرية صغيرة، وكل واحد من أهلها يرى الآخر صباحاً ومساء، فهم كأهل البيت الواحد، وإنما السبب الحقيقي أن التفاوت في العيش بين أبناء القرى يسير جداً، فلا يوجد فيها كوخ متواضع إلى جانب قصر شامخ، كما هي الحال في المدينة. والغني من أهل القرية من يملك قوته الضروري ولباسه وفراشه، فهم لذلك يشعرون بالمسؤولية، ويجتمعون على النجدة، ويبتهجون بالعيد جميعاً.

أما المدينة ففيها مملكتان منفصلتان انفصالاً تاماً مملكة الغني الكبير الذي يحوز الملايين، ومملكةُ الفقير المعدم الذي لا يملك شيئاً. ومن هنا ضعف الشعور بالمسؤولية، وساءت العلاقة بين الهيئات، واختص الابتهاج والاحتفال بالعيد ومظاهره ورسومه بذوي القوة والغنى والترف. أما الفقير فإِنه يكذب على نفسه ويخدعها يوم العيد، فيبتهجُ ويبتسم متجاهلاً أتعابه وأوجاعه، لأنه لا يَود أن تكون حياته كلها سلسلة من الأحزان والآلام، فهو يفر من الحزن الواقعي إلى الفرح الكاذب، ومن الاتعاب الحقيقية إلى الراحة الوهمية. إِن احتفال البائسين بالأعياد أشبه بالمريض والجائع يلجأ إلى الفن ليخففَ أعباء الواقع.

إن القائلين بأن الابتهاج والسعادة ينبعان من القلب مغالون جداً بل أن ابتهاج القلب وسعادته ينبعان من هذه الأشياء المحسوسة الملموسة القائمة على وجه الأرض، والكامنة في بطنها، والتي لا تستقيم الحياة بدونها أبداً، ولا تتم السعادة إلا بها.

إن العيد السعيد حقاً هو اليوم الذي لا يقل فيه الصادر عن الوارد، والخارج عن الداخل، عيد النهضة الكبرى، نهضةُ الزراعةِ والصناعة، والقضاء على الفقر والبطالة والأمية، وعلى اليد التي تثير التفرقة والفتنة والفساد، وعلى كل مشروع يهدف إلى الاستثمار، والوقوف في سبيل الحرية والحياة.

ربنا هيِّئ لهذا البلد من أمره رشداً وقرب هذا اليوم لنتخذه شعاراً لنهضتنا، وعيداً لأولنا وآخرنا، وما ذاك عليك، ولا على المخلصين من عبادك بعزيز.

 

كاشِفُ الغطاء الكبير وَالمصَلّون *

إن من يدعي الإصلاح دينياً كان أو سياسياً لا يكون مصلحاً حتى ينكر ذاته، وينسى شخصيته، فيحاسب نفسه وأهله وولده، وكل من يلوذ به قبل أن يحاسب الناس، وأن من تظاهر بالصلاح والإصلاح، وعمل في الخفاء لحساب شهواته وملذاته فهو مراءٍ منافق، وظالم لئيم.

إن نكران الذات هو الأساس الوحيد الذي يجب أن تبنى عليه دعوة الداعين إلى الخير والصالح العام.

كان المغفور له الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء المتوفى في أوائل القرن التاسع عشر المرجع الأول للشيعة، وكان الاقبال عليه عظيماً من جميع الطبقات، وكان الناس يجتمعون الوفاً للصلاة خلفه، وفي ذات يوم تجمع الناس في المكان الذي يصلي فيه الشيخ ينتظرونه كالمعتاد، ولما أبطأ عن ميعاده قام كل واحد إلى صلاته يؤديها منفرداً. ودخل الشيخ فرآهم على هذه الحال، فغاظته هذه النزعة الفردية، وهذا الانحلال، فوبخهم قائلاً : لماذا لم تختاروا رجلاً منكم يؤمكم في الصلاة ؟ ثم قصد رجلاً عادياً يصلي في طرف المسجد، فاقتدى به، وصلى خلفه.

ربما كان تأخير الشيخ عن قصد وعمد، ليرى ما هم صانعون، إذا غاب هو عنهم، فلما رأى شتاتهم وتفككهم أنكر عليهم وضرب لهم من نفسه مثلاً حياً لنكران الذات، واقتدى برجل عادي.

رأى الشيخ من إقبال الناس عليه، وثقتهم به، وتعظيمهم له، ما أخافه،

_____________________

* - نشر في مجلة الأحد سنة 1952.

وأقلقه.. خاف، وهو الحارس على الدين ومبادئه، وحامي الشريعة وتعاليمها أن يتوهم متوهم أنه هو وحده الذي يستحق التكريم والتعظيم من دون الناس أجمعين، وإن من عداه ليس أهلاً أن يكون إِماماً للجماعات في الصلاة، ولا في غير الصلاة فحارب هذه الأرستقراطية، وهذا الاحتكار بأفعاله قبل أقواله، وأحيا مبدأ الرسول الأعظم الذي قال : «إن في كل حي نجيباً، وإن شر الناس من أحقر الناس».

أراد الشيخ من اقتدائه برجل عادي أن يخلق الثقة في نفس كل فرد بأنه أهل للإمامة في الصلاة، وقيادة الجماعات في كل عمل نافع، ما دام يذعن للحق، وينكر الباطل، وأن يفهم الناس جميعاً أن القيادة ليست وقفاً على ذوي المناصب والانساب، وأن في السوق والشارع نفوساً طيبة، وقلوباً ذكية تصلح أن تقود جماعة، ويقتدي بها حتى الشيخ الأكبر، والمرجع الأول أمثال كاشف الغطاء.

إن اتباع الشيخ ومقلديه لا يرون غيره أهلاً لهذه الإمامة، فهو وحده القائد، وإِمام الصلاة. ولو كان الشيخ من طلاب الرئاسة ومحبيها، لسره هذا الشعور من الجماهير، وأقرهم عليه، واغراهم به ليغالوا بالاقبال عليه، والاعراض عمن سواه، ولكن الشيخ نظر إلى هذا الشعور بمنظار الدين والواقع لا بانفعاله الذاتي، وانانيته الضيقة، فرأى أن إقرارهم عليه تضليل وخيانة، فردعهم عنه، وأرشدهم إلى الحق مقتدياً برجل عادي إطاعة لواجب الدين والعلم.

 

السّيّد محسِن الأمِين *

ربما يتساءل الناس إِذا كان لم يعد للدين وزن ولا أثر في النفوس في هذا العصر فمن أين هذه العظمة للأمين المحسن، وهو رجل الدين الأول، ورئيس العلماء الأكبر ! وما هذا الدوي الهائل الذي كنا نسمعه خلف جثمانه، وهذا السيل الجارف من الشعب والحكومة في سوريا ولبنان حول الجثمان وخلفه وأمامه، هذا الحشد الذي ضم جميع الهيئات الدينية والسياسية والشعبية كبارها وصغارها من جميع الطوائف والأديان، ولماذا ملأت الصحف في الأقطار الغربية أعمدتها على الصفحات الأولى تشيد بعظمة الفقيد تعدد فضائله ومناقبه ! وما سبب هذه الهزة العنيفة التي زلزلت العالم العربي والإسلامي عندما سمع نبأ وفاته !

أجل لقد غيرت التطورات الأخيرة كثيراً من الأفكار والاتجاهات، وكشفت الغطاء عن كل مموه زائف، ولكنها عجزت عن مقاومة الحق الذي يتمثل بشخصية الفقيد، فأرغمت على الاعتراف بسلطانه، والنزول على حكمه.

اعتمد الفقيد على العمل والاخلاص لا على الرياء والتضليل، ولا على الأنساب والألقاب، وهل يفخر بأكفان الأموات وترابهم غير الحقير الأعزل من سلاح الحياة، انتسب الفقيد إلى حقيقة الدين وجوهره لا إلى اسمه ومظهره، فانتسب إليه العلم والدين فهذي المدرسة المحسنية مضى على خدمتها للعلم والإنسانية نصف قرن، وهذي المؤلفات تعد بالعشرات، وهذا كتاب الأعيان من أعظم وأضخم ما تركت أمة من تراث خالد وهذا الجهاد المستمر لتوحيد الكلمة، وجمع الصفوف، وهذا الكفاح لكل مستعمر ومستثمر، خلال اصطفى لها اللّه أمينه

_____________________

* - نشر في العرفان أيار سنة 1952.

المحسن.

إن الكثير منا يملك العلم والذكاء، ولكن ماذا يجدي العلم والذكاء إِذا أديا إلى لغو لا خير فيه ! وماذا يجدي الجاه والمال إِذا كانا سبباً للتحاسد والتباغض ! بل ماذا تجدي الهجرة إلى النجف والأزهر واكسفورد والسوربون إذا لم تكن لغايات إنسانية ولم تدفع بالحياة إلى التقدم وكيف تتقدم بنا الحياة أو نتقدم بها، إذا كنا نجهل الحياة، وتستعبدنا الشهوات !.

لقد انبعثت نفس الفقيد من صميم العصر الذي عاش فيه، وتجرد عن ذاته وغايته، فكان كفوءاً لكل ما ألقي عليه من مسؤوليات، تسعين عاماً من حياته قضاها مجاهداً في سبيل العلم والخير مدافعاً عن الحق دفاع من لا يبغي حطاماً، ولا يخشى سلطاناً، فكان في عاملة والعراق ودمشق لا وزن عنده إلا للحق، ولا فضل إلا لعامل على خير الوطن والصالح العام كائناً من كان سنياً أم شيعياً، مسلماً أم غير مسلم، وهذه هي السبيل الواضحة التي يصل منها الإنسان إلى العظمة المطلقة التي تتخطى حدود الأمصار والأديان، لأنها كالشمس فوق الحدود جميعاً، لقد كان الإنسان إنساناً قبل أن يكون شرقياً أو غربياً، وقبل أن يكون مسلماً أو نصرانياً، وهكذا العظمة وحب الخير لا يجنسان جغرافياً ولا تاريخياً ولا دينياً، ولا هوية لهما غير حقيقة الإنسان بمعناه الشامل، إن الزمان والمكان لا يغيران شيئاً من حقيقة الإنسان، وإِنما هما ظرفان لما يقوم به من أعمال، وأن معنى الدين هو الشعور بالمسؤولية تجاه أخيك الإنسان، ومعنى الإيمان هو إخضاع حياتك لهذا الشعور، أن المسيح لا يريد النصراني الماروني أو الرومي وإنما يريد النصراني الإنساني، ومحمد لا يريد المسلم السني أو الشيعي، وإنما يريد المسلم الإنساني، هكذا فهم الفقيد الإسلام والإيمان فأخضع حياته لهذا الشعور، وبهذا كان عظيماً عند المسيحيين كافة والمحمديين كافة.

وربما يتساءل المرء : كيف اجتمعت هذه العظمة مع تلك الحياة المتواضعة التي كان يحياها الفقيد والبساطة في مظاهره كلها في مأكله وملبسه ومسكنه، فلا بواب ولا حجاب، ولا سيارة فخمة، وبناية ضخمة، وقد رأيته، وأنا جار له في الشياح واقفاً في دكان قصاب يشتري اللحم ويحمله بيده إلى أهله، ورأيته منفرداً متثاقلاً يدفع بجسمه المريض المتهدم يزور العمال البائسين في بيوتهم، فيجلس إليهم ويطايبهم، ويسمع منهم، ويستمعون إليه، قد يتساءل المرء : أهذا حقاً هو الذي احتشدت الأمة بقضها وقضيضها خلف جثمانه ! أهذا حقاً هو الذي كان بالأمس يحمل اللحم بيده ! أهذا حقاً هو الذي كان يمشي وحيداً في الشارع، ويجلس على الحصير مع البائس والفقير ! نعم هو هو !

وهذا الرسول الأعظم الذي قرن اسمه باسم اللّه فيه الصلاة، وعلى المنابر والمآذن، ودانت بأقواله ملايين الملايين في مشارق الأرض ومغاربها هو الذي كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه بيده ويعقل البعير، ويقطع اللحم، ويحلب الشاة، ويطحن مع الخادم، ويجلس على الأرض مع الأسود والأبيض، وهكذا كان الرسول الأعظم، وهكذا اقتدى به سليله المحسن الكبير، وما هذا الاحتقار للمادة إِلا مظهر الكمال، والاعتداد بسلامة النفس، الاعتداد بالعلم والنزاهة والعمل والإخلاص وحيثما وجدت الترف والزينة وجدت الاستغلال والخيانة، وحيثما وجدت التواضع وجدت الحق والصدق.

كان مسجد الرسول الأعظم في عهده وعهد الخلفاء الراشدين هو البرلمان والسراي الكبير وقصر العدل، ولم يكن هذا الجامع سوى قليل من الطين وسعف النخل ولكن منه انبعثت القوة التي حطمت تاج كسرى وقيصر، ومنه شع النور الذي ملأ الآفاق والأكوان، وبه سادت الفضيلة على الرذيلة، وتغلب الضعيف المحق على القوي المبطل. أما القصور الشامخة أما ناطحات السحاب فأساسها البغي والاستثمار وحيطانها التحاسد والتباغض، وسقفها الطمح والجشع، وأثاثها العجب والرياء، من سكنها أغوته، ومن اغتر بها أردته، والسلام على أمير المؤمنين حيث وصف المخلصين «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم» والعكس بالعكس.

أنكر أهل الجاهلية الرسول الأعظم، لأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يملك كنزاً ولا بستاناً أهذا الذي بعثه اللّه رسولاً ؟ «وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إِليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إِليه كنز أو تكون له جنة» ولو كان محمد ص في هذا العصر لقال له البعض : كيف تكون نبياً، وأنت لا تملك سيارة!

وما تجلت هيبة الحق في شيء، كما تجلت في حياة متواضعة وزهد في زخرف الأرض وزينتها، كان للفقيد - الذي لا يملك سيارة - صور للهيبة والجلال تتعدد بتعدد من ارتدى عمة مثل عمته، ولبس جبة وقفطاناً كما لبس. وقد أعار لكل واحد صورة أكسبته احتراماً وتقديراً حتى إِذا ذهب الأصيل ذهبت تلك الصورة عن الدخيل، واسترد المستعار، وبرز الجميع عراة إِلا من لبس ثوبه من غزله، وحاكه على نوله.

* * *

إلى هنا أكتفي بجمع ما تألف منه هذا الكتاب، وهو جزء مما نشرت وأذعت في مدة تقرب من عشرين عاماً، وأؤمل أن يوفقني اللّه سبحانه لجمع الجزء الباقي في مستقبل الأيام.

وأسأل القارئ المعذرة عما يجد من أخطاء لم يتهيأ لي التحرز عنها حين وقوعها، وما على الإنسان من غضاضة في خطأ غير مقصود يرجع عنه عند ظهور الصواب، والسلام على الإمام علي بن أبي طالب حيث قال «ليس كل من رمى أصاب» واللّه سبحانه من وراء القصد، وهو العالم بصدق النية، وطيب السريرة.

الاثنَا عشريَّة وَأهل البيَت (ع)

الاثنَا عشريَّة

الاثنا عشرية نعت يطلق على الشيعة الإمامية القائلة باثني عشر إماماً تعيّنهم بأسمائهم.

تمهيد : واجه الإسلام ما واجهته سائر الأديان من التقسيم إلى فرق، ثم تقسيم كل فرقة، على مرّ الّزمن، إلى فرق... وفي التاريخ العديد من الشواهد على ذلك «ولو شاء ربك لجعل النَّاس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين» (هود - 118) ولا يقف هذا الاختلاف على الطوائف وأهل الأديان بعضها مع بعض.

بل يتعداها إلى اتباع الدين الواحد. ولا نعرف أهل دين أجمعوا على عقيدة واحدة من جميع جهاتها، دون أن يتفرّقوا شيَعاً وأحزاباً. ورغم هذا الشتات والنزاع - وربما الحرب والصراع - فإن بين الفرق من كل طائفة قاسماً مشتركاً يجمع شملها.

ويربطها بالدّين الأصيل، وإلا لم تكن فرقاً لدين واحد، فلا بد لكل فرقة أن تأخذ بنصيب من دينها، أمّا مقدار هذا النصيب، وأيّ الفرق أكثر ملاءمة للأصل والمصدر فلا يعرف من كثرة الأتباع وقوّتهم، وسلطانهم.

الفرق الإسلامية

والذي نراه ونرجّحه أن أسباب الإختلاف والتعدّد في الفرق الإسلامية، على ما بينها من رابط قويّ أو ضعيف، هي واحدة تتّحد مفهوماً، وتختلف مصداقاً. ومن هذه الأسباب أن الذين انتموا إلى الدّين، عند بدايته، منهم من انتمى إليه حقاً وصدقاً، ومنهم من انتمى إليه شكلاً وظاهراً ابتغاء ما يجنيه من وراء هذا الانتماء، تماماً كما ينتمي كثيرون إلى حزب من الأحزاب لمنافع شخصية.

ومنها أن التعاليم التي أتى بها النبيّ لم تطبق بكاملها في عهده وحياته. ولمّا جاء دور تطبيقها والعمل بها، نظر إليها كلّ من زاويته الخاصّة، وواقع بيئته، ومنطق عقله. هذا وإنّ كثيراً من التعاليم المنسوبة إلى النبيّ لم ينطق بها صراحة، وإنّما استنبطها الأتباع من إيماءة أو تصرّف، أو من شيء لا يمتّ إليه بسبب. بل اختلفوا في الأحكام التي طبقها النبي، وعمل بها. فلقد توضأ مئات المرات أمام ألوف من المسلمين، ومع هذا اختلف السنّة والشيعة في صورة الوضوء، وادعت كل فرقة أنها هي التي تتوضأ بوضوئه دون غيرها.

ومنها أن فئة من الأتباع قد تثق برجل ثقة عمياء، وتواليه ولاء دين وعقيدة وأخرى تتّهمه وتهاجمه.

الخلافة

لهذه الأسباب ولغيرها افترق المسلمون إلى فرق وشيع. وقامت بينهم حدود وحواجز، وأهمّها مسألة الخلافة وما يتّصل بها، بخاصة الطريق الذي يعين الخليفة بعد الرسول، وهل هو النصّ من الرسول، أو اختيار الوجهاء والأعيان ؟ قال الشيعة بالأول، وقال السنة بالثاني. وآمن كل بما رأى، وأصبح إيمانه هذا جزءاً من عقيدته ونظامها. وهذا - كما ترى - اختلاف في المنهج والطريق المثبت للخلافة، لا في أصل الخلافة : فالقول بأنها من عقيدة الشيعة خطأ. ما دام الكلّ متفقين على أصل الفكرة، وأنها تستند إلى الدين باعتبارها رئاسة عامة في الدين والدنيا نيابة عن الرسول باتفاق الجميع، إذن ليست الخلافة، من حيث الفكرة، شيعيّة فقط، أو سنّية فقط وإنما هي عقيدة لجميع المسلمين.

أجل، إن فكرة النص من النبي على الخليفة شيعية لأن السنّة لا يقولون بها، كما أن فكرة الانتخاب سنّية لأن الشيعة لا يقولون بها.

وبعد أن أناط السنّة تعيين الخليفة بانتخاب الوجهاء خاصة، وهم الذين عبّروا عنهم «بأهل الحلّ والعقد» قالوا مبرّرين رأيهم هذا إن الجماعة - أي الوجهاء - منزّهون ومعصومون عن الخطأ، وإن اللّه يهديهم إلى الحقّ والصواب، لحديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة» ولما رواه البخاري في «صحيحه» (9 : كتاب الأحكام) من أن النبيّ قال : «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر،

فإنّه ما أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية».

وردّ الشيعة هذا الحديث، وكلّ حديث يتضمّن عصمة الجماعة، لأنَّها قد تخطئ بل جاء في الآية 187 من «الأعراف» «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» فبالأولى القلّة وإن كانوا «أهل الحلّ والعقد».

هذا، إلى أن السنّة والشيعة متفقون قولاً واحداً على أن أيّ حديث يأتي من الرّسول يجب أن يعرض أولاً على «كتاب اللّه» فإن تناقض معنى أحدهما مع معنى الآخر، وجب طرح الحديث وإهماله. وليس من شك أنّ بين قوله «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» وبين حديث عصمة الجماعة تناقضاً ظاهراً، فيجب طرحه وإهماله.

وأيضاً : بعد أن أناط الشِّيعة تعيين الخليفة بنصّ النبيّ عليه اسماً وعيناً قالوا مستدلين على ذلك : «إن محمداً نصّ على علي بن أبي طالب (ع) باسمه وعينه ونسبه، وعقد له الخلافة على المسلمين من بعده، وأمرهم بالسمع والطاعة له، وأعلمهم أن طاعته طاعة اللّه ورسوله» ونقل الشيعة عن ج 1 من «مسند» الإمام أحمد بن حنبل وج 2 من «تاريخ» الطبري، وجلد 2 من «تاريخ» ابن الأثير، وج 3 من «مستدرك» «الصحيحين» للنيسابوري ومن «السيرة الحلبية» نقلوا عن هذه الكتب وغيرها.

إن محمداً صلى الله عليه وآله حين نزلت عليه هذه الآية : «وأنذر عشيرتك الأقربين» 26 (الشعراء) (214)، جمع عشيرته في بيته. وبعد أن أكلوا من مائدته، قال لهم مشيراً إلى علي (ع) : هذا أخي ووصيّي وخليفّتي فيكم، فاسمعوا له، وأطيعوا. وعلّق الأستاذ محمد عبد اللّه عنان المصري، في كتابه على ذلك «تاريخ الجمعيّات السريّة» : فقال : من الخطأ أن يقال إن الشيعة إنما ظهروا لأول مرّة عند انشقاق الخوارج، بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرّسول، حين أمر بإنذار عشيرته بهذه الآية : «وأنذر عشيرتك الأقربين» ثم ساق الحديث إلى نهايته.

ووضع علماء الشيعة الاثني عشرية العديد من الكتب في النصّ على علي عليه السَّلام، وجمعوا فيها الآيات والأحاديث من طرق السنة والشيعة.

من هذه الكتب «الشافي» للمرتضى، «ونهج الحق» للعلامة الحلّي، والجزء الثاني «من دلائل الصدق» للمظفّر، «ونقض الوشيعة» والجزء الأول من «أعيان الشيعة» للسيّد الأمين، و«المراجعات» لشرف الدّين، «والغدير» للأميني.

وممّا قدّمناه نستخلص :

أولاً - إن فكرة العصمة لم يقل بها الشيعة وحدهم، فإن السنّة يقولون بها أيضاً، والاختلاف بينهم في التطبيق فقط. فالسنّة يجعلونها للجماعة، والشيعة للإمام المنصوص عليه، فنسبة الفكرة من حيث هي إلى الشيعة دون السنّة خطأ واشتباه، تماماً كما هي الحال في فكرة الخلافة من حيث هي، ونسبتها إلى الشيعة دون غيرهم.

ثانياً - إنّ فكرة النصّ على علي عليه السَّلام بالذات هي فكرة دينية إسلامية تستند إلى الكتاب والسنة، وليست فكرة سياسية - كما قيل - ترتكز على حق الوراثة في الحكم، ولا فكرة عاطفية صرف، لا مصدر لها إلا قرابة النسب والسبب بين محمد صلى اللّه عليه وآله.

ثالثاً - إن مبدأ النص على علي عليه السلام بالخلافة فارق أساسي، وحاجز منيع بين السنة والشيعة. وقد كان له المقام الأول في الإيمان والعقيدة، وتعدد الفرق الإسلامية، والتأثير البالغ في السياسة، والفلسفة، وعلم الكلام، وفي الفقه، وفي التفسير والحديث، والتصوف، والأدب الإسلامي في جميع مراحله، بل والأساطير التي يبرأ منها الكتاب والرسول صلى الله عليه وآله ، وعلي وأبناؤه عليهم السلام، والمحقون من شيعتهم. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : «ما شيعتنا إلا من يقول علينا حقّاً».

بدء التشيع :

قال الشيعة : إن رسول اللّه هو الذي غرس بذرة التشيع لعلي عليه السلام بالنص عليه، وبالمدح والثناء بما لم يثن به على غيره من الأصحاب.

كقوله : «يا علي، لا يحبّك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق» وقوله : «علي مع الحق، والحق مع علي» بل هو الذي أطلق على أتباع علي عليه السلام

لفظ الشيعة، وأسماهم بهذا الاسم، حيث قال له : «يا أبا الحسن أنت وشيعتك في الجنة» وقال: «تأتي أنت وشيعتك راضين مرضيين» نقل الشيعة هذا الحديث عن كتاب «الصواعق المحرقة» لابن حجر الشافعي.

وظهرت هذه البذرة أوّل ما ظهرت حين توفي النبي صلى اللّه عليه وآله، وبويع أبو بكر بالخلافة، حيث امتنع علي عليه السلام، ومعه شيعته وأنصاره، واستمرّوا ممتنعين عن البيعة ستة أشهر كاملة. ذكر هذا المؤرخون والكتّاب القدامى والجدد.

وآخرهم الكاتب المصري أحمد عباس صالح، فقد نشر مقالاً متسلسلاً بعنوان «اليمين والثورة» في مجلة الكاتب القاهرية. وممّا قاله في عدد يناير «كانون الثاني» 1965 : إنّ غالبية المسلمين حين توفي النبي صلى اللّه عليه وآله، كانوا مع الاتجاه الذي يمثله علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه. لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله كان زعيم هذا الاتجاه، وواضع مبادئه الأساسية وقال في عدد فبراير «شباط» 1965 : «كان حزب كبير من أحزاب المسلمين يعتقدون أن علياً عليه السلام كان أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر».

وأخذت بذرة التشيع تنمو وتعلو، وتواصل نموها وعلوها مع الزمن، والحركات الاجتماعية الإصلاحية في الإسلام، حتى أصبحت عقيدة الأصحاب والرواد الأول، والصالحين والمخلصين. ذلك أن علياً كان يسير على الطريق التي رسمها الرسول. قال المسعودي في مروج الذهب : كان مع علي في صفين تسعون ألفاً، فيهم ألفان وثمانمائة من أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وآله.

الخلفاء الاثنا عشر

روى السنة والشيعة عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله أنه قال : إن الخلافة في قريش وإن عدد الخلفاء اثنا عشر خليفة، فقد جاء في صحيح البخاري ج 9 كتاب الأحكام ما نصه بالحرف : «قال رسول اللّه : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان... ويكون اثنا عشر أميراً». وقال ابن حجر العسقلاني، وهو يشرح هذا الحديث في كتاب فتح الباري ج 13 ص 183 طبعة 1301 هجري : «كم يملك هذه الأمة من خليفة؟. فقال : اثنا عشر، كعدة نقباء بني إسرائيل».

ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج، فإنهم قالوا : ليست الخلافة في قريش، بل الناس فيها سواء.

وبعد أن اتفق السنة والشيعة على أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، قال الشيعة وأفضل قريش بنو هاشم، لما رواه مسلم في صحيحه ج 2 بعنوان كتاب الفضائل أن النبي قال : «إن اللّه اصطفى كنانة من إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم». وأيضاً روى مسلم في الكتاب المذكور بعنوان فضائل علي بن أبي طالب أن النبي «قال : أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي، فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب اللّه، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللّه، واستمسكوا به، وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي» كررها ثلاثاً.

وقال الشيعة : فإذا جمعنا بين الأحاديث الثلاثة، في قريش، «والاصطفاء، والثقلين» وعطفنا بعضها على بعض جاءت النتيجة أن الخلافة في أهل بيت رسول اللّه، وهم علي وبنوه.

فالسنة يتفقون مع الشيعة في أن الخلافة لا بد منها، وأنها في قريش دون غيرهم وأن عدد الأئمة اثنا عشر إماماً ويختلفون معهم في أمرين : الأول في حصر الخلافة بالهاشميين، وبصورة أخص بعلي وبنيه. الثاني في تعيين الأئمة الاثني عشر بأسمائهم وأنسابهم، يختلفون في هذين، أما أصل فكرة الاثني عشرية فمحل وفاق بين السنة والشيعة الاثني عشرية، وعلى هذا تكون فكرة إسلامية تعم الطرفين، لا سنية فقط، ولا شيعية فقط، تماماً كفكرة العصمة وفكرة الخلافة من حيث المبدأ والقاعدة.

أما السبب لتسمية هذه الفرقة من الشيعة بالاثني عشرية دون غيرها، مع العلم بأن السنة يؤمنون بالأئمة ال 12 فهو أن هذه الفرقة قد أجمعت على تعيين ال 12 بأسمائهم وأعيانهم، واختلف السنة في ذلك.. فمنهم من قال : إن ال 12 لم يخلقوا بعد، وسيخلقون، ويملكون بعد ظهور المهدي المنتظر ووفاته، ومنهم من قال : «إن المراد بال 12 غير أصحاب الرسول لأن حكم أصحابه يرتبط بحكمه.. إذن، كل الأئمة الاثني عشر من بني أمية ما عدا عثمان ومروان، لأنهما صحابيان.. وعليه يكون أول الأئمة الذين عناهم النبي يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية،

ثم عبد الملك، وأولاده الأربعة : الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام وعمر بن عبد العزيز، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وأخوه إبراهيم، ومروان الحمار.. ومنهم من قال : هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، وولده يزيد، وعبد الملك، وأولاده الأربعة، وعمر بن عبد العزيز.. ومنهم من قال : المراد وجود 12 إماماً في مدة الإسلام، حتى يوم القيامة، وإن لم تتوال أيامهم إلى غير ذلك (فتح الباري للعسقلاني ج 13 ص 183 وما بعدها طبعة سنة 1301 هجري).

الفرقة الاثنا عشرية

قدمنا أن بذرة التشيع غرست في عهد الرسول، وظهرت حين بويع أبو بكر، ونمت وعلت يوم صفين، ففرقة علي هي أولى الفرق الإسلامية على الإطلاق، تكونت في حياته، وبقيت ثابتة على ولائه إلى أن قتل، فافترقت بعده إلى فرق، وباد أكثر هذه الفرق، وذهب مع الزمن، ومنها ما هي ثابتة قائمة، حتى اليوم، وستبقى إلى آخر يوم، رغم الحملات والمحاولات لمحوها وإبادتها وهكذا جميع الفرق، أية فرق تنطبق عليها قاعدة تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، تماماً كأغصان الشجرة، تتفرع عن أصل واحد، فينمو، ويمتد في النمو، ويحمل من الأزهار والثمار ما يصلح للبقاء والاستمرار، والذي لا يصلح لها يذبل ويجف وينتهي إلى السقوط والضياع.

ومن فرق الشيعة البائدة فرقة قالت : إن علياً لم يقتل ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً.

وفرقة قالت بإمامة ولده محمد بن الحنفية من بعده وهم المعروفون بالكيسانية.

ومن الفرق الباقية حتى اليوم الاثنا عشرية التي لزمت القول بإمامة الحسن بن علي بعد أبيه، لأن النبي نص عليه، وعلى أخيه الحسين بقوله : «ولداي هذان إمامان قاما أو قعدا» وبهذا النص انتقلت الإمامة بعد الحسن إلى أخيه الحسين، ثم اوصى بها الحسين إلى ولده علي زين العابدين، وأوصى هو إلى ولده محمد الباقر، وأوصى الباقر إلى ولده جعفر الصادق، ثم أوصى الصادق إلى ولده موسى الكاظم ، ثم أوصى الكاظم إلى ولده علي الرضا، ثم أوصى الرضا إلى ولده محمد الجواد، ثم أوصى الجواد إلي ولده علي الهادي، هو أوصى إلى ولده الحسن العسكري ومنه انتقلت الإمامة بالوصية إلى ولده محمد بن الحسن، وهو المهدي المنتظر الذي اختفى بعد موت أبيه، وكان ذلك سنة 256 هجري.

وقد وضعت كتاباً مستقلاً، اسمه «المهدي المنتظر والعقل» وقربت الفكرة من وجهة عقلية، وذكرت جملة من مؤلفات السنة والشيعة في المهدي، ثم أدرجت كتاب المهدي في كتاب «الإسلام والعقل».

وهذا التسلسل في الوصية من إمام إلى إمام هو من صلب عقيدة الاثني عشرية، لأن الإمام عندهم لا يكون إلا بنص النبي عليه مباشرة، أو بواسطة إمام منصوص عليه، ومن هنا كانت الإمامة منصباً إلهيّاً، يأتي في الدرجة الثانية من النبوة، فالنبي يبلغ عن اللّه، والإمام يبلغ عن النبي.

هؤلاء هم الأئمة الاثنا عشر للفرقة الاثني عشرية التي مضى على وجودها أكثر من ألف عام، رغم ما لاقته من الظلم والاضطهاد.

عقيدتهم

يستطيع أي إنسان يحسن القراءة أن يعطي صورة واضحة الملامح عن عقيدة الاثني عشرية، يستخلصها من أوثق المصادر، وأصفى المراجع.. ذلك أن علماءهم قديماً وحديثاً قد وضعوا العديد من الكتب في هذا الموضوع، منها - على سبيل المثال - اعتقادات الصدوق وشرحها للشيخ المفيد، وأوائل المقالات للشيخ المفيد أيضاً، وقواعد العقائد للخواجة نصير الطوسي، وشرحها للعلامة الحلي، وشرح الباب الحادي عشر للمقداد، ونقض الوشيعة للسيد محسن الأمين وأصل الشيعة وأصولها للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وعقيدة الشيعة الإمامية للسيد هاشم معروف، وعقائد الإمامية للشيخ المظفر، والشيعة والتشيع ومع الشيعة الإمامية للكاتب.

ولست أدري كيف يقطع في الخطأ والالتباس من يعرض عقيدة هذه الفرقة، مع كثرة المصادر، وانتشارها... ومهما يكن، فإن الاثني عشرية يعتقدون: بالتوحيد، والعدل، والنبوة، والمعاد، وبوجوب الصوم والصلاة، والحج

والخمس والزكاة، وبكل ما جاء في القرآن الكريم، وثبت عن الرسول العظيم بالتواتر أو بنقل الثقات. ويعتقدون بوجوب تأويل النقل بما يتفق مع العقل، وبأن القرآن هو هذا الذي بين أيدي الناس لا زيادة فيه، ولا نقصان، ويعتقدون بفتح باب الاجتهاد، لأهل المعرفة والكفاءة، وبتقليد الجاهل للعالم في الأمور الشرعية الفرعية، وبوجوب طلب العلم على كل إنسان كفاية لا عيناً، وبعصمة جميع الأنبياء، وأئمتهم الاثني عشر، وبالتقية، مع خوف الضرر، وقد ذكرنا العصمة والتقية بصورة مفصلة في كتاب الشيعة والتشيع، ويعتقدون بأن الإمامة أصل من أصول المذهب، لا من أصول الإسلام، وأن من أنكرها فهو مسلم، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، إذا اعتقد بالتوحيد والنبوة والمعاد، ولكنه ليس إمامياً.

و يعتقدون بأن الغلو بأي إنسان فهو كفر سواء أكان من أهل البيت، أم من غيرهم، لقول الإمام علي: «سيهلك فيّ صنفان: محب مفرط، يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس في هذا النمط الأوسط فالزموه».

وروى الاثنا عشرية عن إمامهم الخامس محمد الباقر أنه قال: واللّه ما شيعتنا إلا من اتقى اللّه... ليس بين اللّه وبين أحد قرابة.. ولسنا نتقرب إلى اللّه إلا بالطاعة، فمن كان للّه مطيعاً فهو ولينا، ومن كان للّه عاصياً فهو عدونا، ولا تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع.

ورووا عن إمامهم السادس جعفر الصادق أنه قال: لا تقولوا علينا إلا الحق.

وقال: إنما شيعة جعفر من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده، وعمل بخالقه، ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فهم شيعة جعفر.

وقال بعض شعرائهم يصف الصادقين في إيمانهم وعقيدتهم من هذه الفرقة:

إن ينطقوا ذكروا أو يسكتوا فكروا*** أو يغضبوا غفروا أو يقطعوا وصلوا

أو يظلموا صفحوا أو يوزنوا رجحوا*** أو يسألوا سمحوا أو يحكموا عدلوا

المهدي المنتظر

أما المهدي المنتظر فإنه فكرة إسلامية يعتنقها السنة والشيعة، فلقد روى السنة

أخباره عن النبي، ودونوها في الصحاح من كتب الحديث، وبلغت لكثرتها حد التواتر منها ما جاء في سنن ابن ماجة ج 2 الحديث رقم 4083 أن رسول اللّه قال: يكون في أمتي المهدي، تنعم به أمتي نعمة لم تنعم مثلها قط. وفي حديث آخر أنه يملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً. ومنها ما في سنن أبي داود السجستاني ج 2 ص 422 طبعة سنة 1952 وصحيح الترمذي ج 9 ص 74 طبعة سنة 1934 أن رسول اللّه قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول اللّه ذلك اليوم، حتى يبعث رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً». ونقل صاحب أعيان الشيعة في الجزء الرابع عن فوائد السمطين لمحمد بن إبراهيم الحموي الشافعي أن النبي قال: من نكر خروج المهدي فقد كفر بما أنزل على محمد.

ووضع علماء السنة كتباً خاصة بالمهدي نذكر منها على سبيل المثال: كتاب صفة المهدي، لأبي نعيم الأصفهاني والبيان في أخبار صاحب الزمان، للكنجي الشافعي، والبرهان في علامات مهدي آخر الزمان، لملا علي المتقي، وأخبار المهدي، لعباد الرواجني، والعرف الوردي في أخبار المهدي، للسيوطي، والقول المختصر في علامات المهدي المنتظر، لابن حجر، وعقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر، لجلال الدين يوسف الدمشقي نقلاً عن منتخب الأثر للطف اللّه الصافي.

أما علماء السنة الذين أفردوا لأخبار المهدي باباً خاصاً في مؤلفاتهم فلا يبلغهم الإحصاء، وقد جرأت هذه الأحاديث والمقالات والكتب الكثيرين من أهل السنة أن ينتحلوا المهدوية ويدعوها لأنفسهم، وهذا يثبت ما قلناه من أن فكرة المهدي المنتظر يقول بها السنة والشيعة على السواء، تماماً كفكرة الخلافة والاثني عشرية، من حيث المبدأ، ولا اختلاف إلا في اتجاه الفهم وتطبيقه.

وكما اتفق الطرفان على فكرة المهدي المنتظر فقد اتفقوا أيضاً على اسمه ونسبه، وكنيته ولقبه، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأما الجهة التي اختلفوا فيها فهي: هل ولد المهدي أو لم يولد حتى الآن.

أهم الفروق بين الشيعة والسنة

وبالإضافة إلى ما تقدم فإن الشيعة الاثني عشرية تختلف مع السنة في أشياء. بعضها يرجع إلى العقيدة، وبعضها يرجع إلى الأحكام، نلخص أهمها فيما يلي:

معرفة اللّه: قال السنة:

تجب معرفة اللّه بالسمع لا بالعقل، أي أن اللّه وحده هو الذي أوجب على الناس أن يعرفوه. (المواقف للأيجي: (المتوفى 756 هجري - 1355) 1 - : 251 ، مطبعة السعادة بمصر سنة 1325 هجري).

وقال الشيعة: إن معرفة اللّه تجب بالعقل لا بالسمع، أي أن العقل هو الذي أوجب على الإنسان أن يعرف خالقه، لأن معرفة الإيجاب تتوقف على معرفة الموجب، فلا بد أن نعرف اللّه أولاً بطريق العقل، ثم ننظر فيما أوجب، وما لم يُوجب ومحال أن نعرف أحكامه دون أن نعرف شيئاً عنه،.. أما ما جاء في السمع من هذا الباب كقوله تعالى: «فاعلموا أن لا إله إلا هو» فهو بيان وتأكيد وتقرير لحكم العقل، وليس تأسيساً جديداً من الشارع، وقال السنة: اللّه يصح أن يرى (المواقف للأيجي 8: 115). وقال الشيعة: ان رؤية اللّه محالة وغير ممكنة في الدنيا والآخرة: وأولوا الآيات الدالة بظاهرها على إمكان الرؤية، أولوها بالعقل والبصيرة لا بالعين والبصر (وقال السنة: إن صفات اللّه زائدة على ذاته).

وقال الشيعة بل هي عينها، وإلا لزم تعدد القديم.

كلام اللّه: هل هناك شيء آخر وراء ألفاظ التوراة والإنجيل، الأصليّين والقرآن يسمى كلام اللّه، أو أن كلامه تعالى هو هذا اللفظ الموجود في الكتب السماوية؟

قال السنة: إن الكلام الموجود في الكتب السماوية ليس بكلام اللّه حقيقة، بل إن كلامه قديم قائم بذاته، تماماً كالعلم والقدرة والإرادة، وهذه الكلمات المسطورة التي نتلفظ بها، وننسبها إليه سبحانه تعبر عن كلامه القائم بذاته.

كما يعبر قولنا «علْم اللّه وإرادة اللّه» عن علمه وإرادته القائمين بذاته.

وقال الشيعة: إن كل من يوجد كلاماً فكلامه يدل على معنى ما نطق به. وعلى هذا يكون كلام اللّه هو الكلمات نفسها الموجودة في التوراة، والإنجيل، والقرآن.

وهي حادثة، ومخلوقة. ولا يلزم من القول بحدوثها أن يكون اللّه محلاً للحوادث، لأنه سبحانه يخلق الكلام، كما يخلق سائر الكائنات.

أفعال اللّه: قال السنة: لا يجوز تعليل أفعال اللّه بشيء من الأغراض والعلل الغائية، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء. (المواقف 8: 202) وفي كتاب «المذاهب الإسلامية» للشيخ أبي زهرة (فصل وحدانية التكوين: فقرة تعليل الأفعال) ما نصّه بالحرف «قال الأشاعرة أي السنة: إن اللّه سبحانه وتعالى خلق الأشياء لا لعلة ولا لباعث لأن ذلك يقيّد إرادة اللّه».

وقال الشيعة: إن جميع أفعاله عزّ وجل معلّلة بمصالح تعود على الناس، أو تتعلق بنظام الكون، كما هو شأن العليم الحكيم.

الأمر والإرادة: قال السنة: لا تلازم بين ما يأمر به اللّه وما يريد، ولا بين ما ينهى عنه وما يكره، فقد يأمر بما يكره، وينهى عما يحب. (المواقف 8 : 176) وقال الشيعة: إن أمر اللّه بالشيء يدل على إرادته له، وإن نهيه عنه يدل على كرهه له، ومحال أن يأمر بما يكره، وينهى عما يحب.

عقاب الطائع وثواب العاصي: قال السنة: إن العقل يجيز على اللّه أن يعاقب الطائع، ويثيب العاصي، لأن المطيع لا يستحق ثواباً بطاعته، والعاصي لا يستحق عقاباً بمعصيته، وأيضاً يجيز العقل على اللّه أن يخلف وعده. (المواقف 8 : المقصد الخامس والسادس من المرصد الثاني في المعاد)، والمذاهب الإسلامية لأبي زهرة، فصل بعنوان «منهاجه وآراؤه» رقم 104. وقال الشيعة: إن العقل لا يجيز على الله أن يعاقب المطيع، ويجيز عليه أن يتفضّل على العاصي، تماماً كما لك أن تتفضّل على من أساء إليك، ولا يجوز أن تسيء إلى من أحسن.

الجبر والاختيار: قال السنة: أفعال العباد كلها خيرها وشرها، من اللّه، وليس لقدرتهم تأثير فيها، وإن التكليف بما لا يطاق جائز على اللّه، لأنه خالق كل شيء، ولا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء. (المواقف 8 : المقصد الأول والثاني، والسابع من المرصد السادس في أفعاله تعالى).

وقال الشيعة: إن الإنسان مخير لا مسير وإن اللّه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وإن أفعال العباد خيرها من اللّه، لأنه أرادها وأمر بها ومن العبد أيضاً لأنها صدرت منه باختياره وإرادته.

أما شرها فمن العبد فقط، لأنه فاعلها بمشيئته، وليست من اللّه لأنه نهي عنها.

الحسن والقبح: قال السنة: إن العقل لا يدرك حسناً ولا قبحاً، وإنما الحسن ما أمر به الشرع، والقبيح ما نهى عنه. ولو أمر بما نهى عنه، لصار حسناً بعد أن كان قبيحاً أو نهى عما أمر به لصار قبيحاً بعد أن كان حسناً. ويقولون هذا حسن لأن اللّه أمر به، وهذا قبيح لأن اللّه نهى عنه (المواقف 8 : المقصد الخامس في الحسن والقبح من المرصد السادس في أفعاله تعالى).

قال الشيعة: العقل يدرك الحسن والقبح مستقلاً عن الشرع ويقولون إن اللّه أمر بهذا لأنه حسن، ونهى عن ذلك لأنه قبيح.

الأسباب والمسببات: قال السنة: إن المسببات لا تجري على أسبابها، وإن جميع الممكنات مستندة إليه تعالى بلا واسطة ولا علاقة بين الحوادث المتعاقبة إلا بإجراء العادة بخلق بعضها عقب بعض، كالإحراق عقب مماسة النار والري بعد شرب الماء فكل من الإحراق والري يستند إلى اللّه مباشرة، ولا مدخل إطلاقاً للمماسة والشرب. (المواقف 8 : 148و203 - 204).

وقال الشيعة إن جميع المسببات ترتبط بأسبابها، فالماء هو الذي يروي والنار هي التي تحرق.

وقال السنة: لا يجب على اللّه أن يبعث أنبياء يبينون للناس موارد الخير والشر، ويجوز أن يتركهم بلا هادٍ ولا مرشد، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

وقال الشيعة: بل تجب بعثة الأنبياء من باب اللطف الذي يقرب الناس من الطاعة ويبتعد بهم عن المعصية.

عصمة الأنبياء قال السنة: تجوز الذنوب على الأنبياء الكبائر منها والصغائر قبل البعثة، أما بعد البعثة، فتجوز الصغائر عمداً وسهواً والكبائر سهواً، لا عمداً.

وقال الشيعة: الأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها، قبل البعثة وبعد البعثة ولا يصدر عنهم ما يشين لا عمداً ولا سهواً كما أنهم منزهون عن دناءة الآباء، وعهر الأمهات وأن اللّه سبحانه نقلهم من أصلاب طاهرة إلى أرحام مطهرة منذ آدم إلى حين ولادتهم.

الصحابة: قال أكثر السنة: إن أصحاب رسول اللّه جميعهم عدول لا تطلب تزكيتهم (كتاب مسلم: الثبوت وشرحه، وكتاب «أصول الفقه» للخضري).

وقال الشيعة: إن الصحابة كغيرهم، فيهم الطيب، والخبيث، والعادل، والفاسق، واستدلوا بالآية 102 من سورة التوبة «من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين».

وقالوا: بل أنزل اللّه على نبيه سورة خاصة بالمنافقين افتتحها بقوله: «إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول اللّه، واللّه يعلم إنك لرسوله، واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون».

الاجتهاد: للاجتهاد معنيان: الأول أن يستخرج الفقيه الحكم الشرعي فما يرتئيه هو ويستحسنه، دون أن يعتمد على آية قرآنية، أو سنة نبوية، أو إجماع قائم، أو مبدأ ثبت بحكم العقل والبديهة، وتسالم على صحته جميع العقلاء.. وهذا النوع من الاجتهاد يعبر عنه بالرأي، وهو جائز عند السنة.

أما عند الشيعة فمحرم، ويستدلون على تحريمه بأنه يعتمد على مجرد الظن والترجيحات الشخصية.

المعنى الثاني: ان يجتهد الفقيه في سند الحديث من حيث الصحة والضعف، وفي تفسير النص كتاباً وسنّة، وفي استخراج الحكم من أقوال المجمعين، ومبدأ العقل الثابت بالبديهة كمبدأ قبح العقاب بلا بيان، ومبدأ المشروط عدم عند عدم شرطه، وما إلى ذلك من أحكام العقل التي لاتقبل الشك، ولا يختلف فيها اثنان... وقد أجاز الشيعة هذا الاجتهاد لكل فقيه يجمع الشروط المقررة للمجتهد، ولم يقيدوا اجتهاده بقول إمام من أئمة السلف أو الخلف.

وحرم السنة هذا النوع من الاجتهاد واقفلوا بابه منذ القرن الرابع الهجري، وحجروا على الفقيه أن يصحح أو يضعف حديثاً من أحاديث الآحاد أو يعمل بما يفهمه من النص، أو يستخرج حكماً من مبادئ العقل. إلا إذا وافق رأيه قول إمام من أئمة السلف.

التعصيب: قال السنة: إذا كان للميت بنت وأخ، وليس له ابن ولا أب فتركته مناصفة بين الأخ والبنت، وإذا كان له بنتان فأكثر فلأخيه الثلث، والباقي للبنتين أو البنات... وهذي إحدى مسائل التعصيب الذي عقد الفقهاء له فصلاً خاصاً في باب الميراث.

وقال الشيعة: التعصيب باطل من الأساس بشتى فروعه ومسائله، وإن التركة بكاملها للبنت أو البنات، وليس للأخ شيء لأن الولد ذكراً كان أو أنثى يأتي في الدرجة الأولى نسباً والأخ في الدرجة الثانية، والعم في الدرجة الثالثة.

العول: القاعدة في الإرث أن فرض الزوجة من ميراث زوجها الثُّمن إن كان له ولد ذكراً كان أو أنثى، وللأبوين معاً الثلث وللبنتين الثلثان إذا لم يكن للميت ابن فإذا افترض أن كان للميت زوجة وأبوان وبنتان، ولا ابن له اجتمع على تركته من له الثمن، ومن له الثلث، ومن له الثلثان وبديهة أن التركة لا تتسع للثلث والثلثين والثمن، فإذا أخذ الأبوان الثلث، والبنتان الثلثين، لم يبق للزوجة شيء. وإذا أخذت الزوجة الثمن، دخل النقص على الأبوين أو البنتين، فماذا نصنع. وهذي إحدى مسائل العول الذي أطال الفقهاء الكلام عنه في باب الميراث، ومعنى العول هنا زيادة السهام على التركة. قال السنة: يدخل النقص على كل واحد بقدر سهمه، تماماً كأرباب الديون إذا ضاق مال المديون عن دينهم.

وقال الشيعة: يدخل النقص على البنتين فقط.

المتعة: من معاني المتعة الزواج إلى أجل، وقد اتفق المسلمون قولاً واحداً السنة منهم والشيعة على أن الإسلام شرعها، ورسول اللّه أباحها، واستدلوا بالآية 34 من سورة النساء «فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة».

وجاء في «صحيح البخاري» (7 : كتاب النكاح): إن رسول اللّه قال لأصحابه في بعض حروبه: «قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا.. إيما رجل

أو امرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليالٍ، فإن أحبّا أن يتزايدا أو يتتاركا تركا».

وفي «صحيح مسلم» (2 : باب نكاح المتعة ص 623 - طبعة 1348 هجري) عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنه قال: «استمتعنا على عهد رسول اللّه، وأبي بَكر، وعمر» وفي الصفحة نفسها حديث عن جابر، قال فيه: «ثم نهانا عنه عمر».

وبعد أن اتفق المسلمون على شرعيتها وإباحتها في عهد رسول اللّه، اختلفوا في نسخها: وهل صارت حراماً بعد أن أحلها اللّه؟.

ذهب السنة إلى أنها نسخت، وحرمت بعد الإذن بها قال ابن حجر العسقلاني في كتاب «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» (11 : 70 طبعة 1959) «وردت عدة أحاديث صحيحة وصريحة بالنهي عن المتعة بعد الإذن بها» وجاء في الجزء السادس من كتاب «المغني» لابن قدامة ص 645، طبعة ثالثة، ما نصه بالحرف: قال الشافعي: «لا أعلم شيئاً أحله اللّه، ثم حرمه، ثم أحله ثم حرمه، إلا المتعة».

وقال الشيعة: أجمع المسلمون على إباحة المتعة، واختلفوا فينسخها. وما ثبت باليقين لا يزول بمجرد الشك والظن. وأيضاً استدلوا على عدم النسخ بأن الإمام الصادق سئل : «هل نسخ آية المتعة شيء قال : لا ولولا ما نهى عنها عمر، ما زنى إلا شقي» وأن كثيراً من الناس يحسبون المتعة ضرباً من الزنا والفجور، جهلاً بحقيقتها، ويعتقدون أن ابن المتعة، عند الشيعة، لا نصيب له من ميراث أبيه، وأن المتمتع بها لا عدة لها وأنها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت.. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة، واستنكروها وشنعوا على من أباحها.

والواقع أن المتعة عند الشيعة الاثني عشرية كالزواج الدائم، لا تتمُ إلا بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة، وأن المتمتع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع، وأن ولدها كالولد من الدائمة في وجوب التوارث، والإنفاق وسائر الحقوق المادية والأدبية وأن عليها أن تعتد بعد انتهاء الأجل مع الدخول بها، وإذا

مات زوجها وهي في عصمته، اعتدت كالدائمة من غير تفاوت إلى غير ذلك من الآثار والأحكام.

وقال الشيعة : تجب الصلاة على النبي وآله في الصلاة ومن لا يصلي عليه وعليهم فيها فلا صلاة له، واستدلوا بالآية 56 من سورة الأحزاب : «إن اللّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً» معطوفاً عليها الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه ج 8، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي وهذا نصه بالحرف : «كيف نصلي عليك - يا رسول اللّه - فقال : قولوا : «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد».

وقال السنة : لا تجب الصلاة على آل محمد في الصلاة وبالأولى في غيرها. أما الصلاة على محمد دون آله فهي فرض عند الشافعية والحنابلة، وتبطل الصلاة بتركها، وهي سنة راجحة عند الحنفية والمالكية، وتصح الصلاة بتركها. ج 1 ميزان الشعراني، باب صفة الصلاة. و ج 1 المغني لابن قدامى، مسألة التشهد.

تاريخهم السياسي

إن الارتباط وثيق جداً بين تاريخهم السياسي، وبين ملوك بني بويه، والأمراء الحمدانيين، وملوك إيران من عهد الصفويين إلى اليوم، وذكرنا ما يتصل بذلك في كتاب «الشيعة والتشيع» أما الفاطميون فقد كانوا من الإسماعيلية لا من الاثني عشرية.

ولا بد للمؤرخ لهذه الفرقة أن يدخل في حسابه الإمارات المستقلة - غير أمراء الأقطاع - كإمارة بني عمار الذين حكموا طرابلس الشام من أواسط القرن الخامس الهجري إلى سنة 502 حين أخذها منهم الصليبيون.

وأيضاً عليه أن ينظر إلى من تولى الوزارة من هذه الفرقة لدول غير شيعية، كالعلقمي وزير المستعصم العباسي، وابن الفرات وزير المقتدر.

وأيضاً ينبغي أن يقف طويلاً عند الحوادث والحركات الثورية التي قام بها الشيعة الاثنا عشرية، للانتفاض على السلطة الحاكمة طلباً للحرية والعدالة،

كثورة العراقيين ضد الإنكليز سنة 1920 م وموقف علمائهم من حكام الجور.

تاريخهم الثقافي

أما آثارهم الثقافية فيستطيع الباحث أن يعرفها بالحس واليقين، لا بالحدس والتخمين، فهذه المكتبة الإسلامية العربية منها، وغير العربية تغص في مؤلفاتهم من كل فن، وقد ذكرنا طرفاً منها في كلمتنا عن آل البيت، أما منهجهم في البحث والتأليف فهو الاجتهاد ومنطق العقل، قال الدكتور توفيق الطويل المصري في كتاب «أسس الفلسفة» ص 390 طبعة 1955 : ورأي كارادي فو «أن التشيع رد فعل لفكر حر طليق كان يقاوم جموداً عقلياً بدا في مذهب أهل السنة» وفي ص 391 : «كان للشيعة فضل ملحوظ في إغناء المضمون الروحي للإسلام، فبمثل حركاتهم الجامعة تأمن الأديان التحجر في قوالب جامدة».

وقال الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر في كتاب تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص 202 طبعة 1959 : «إن النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة من سائر المسلمين» وقدمنا أن الذهن يتجه عند سماع لفظة الشيعة إلى الاثني عشرية.

وقال الأديب أحمد أمين المصري في كتاب «يوم الإسلام» ص 89 طبعة 1958 : «وكان الطوسي - أي الخواجا نصير - أسبق من أينشتين في فهم الزمنية».

وفي مجلة المجلة المصرية عدد تشرين الثاني سنة 1964 مقال بعنوان «نظرة جديدة في الفلسفة الإسلامية» جاء فيه «صدر في هذه السنة الجزء الأول من تاريخ الفلسفة الإسلامية تأليف «هنري كوربان» الأستاذ بالمدرسة العلمية للدراسات العليا في كلية الآداب بالسوربون، وقد أعطى المؤلف الشيعة نصيب الأسد في تطور الفلسفة الإسلامية، والكثير من آرائها واتجاهاتها.. وكذلك أعطى أهمية كبرى لميرداماد، وملا محسن الفيض، وعبد الرزاق هيجي، وقاضي سعيد القمي، وصدر الدين الشيرازي، وسيد حيدر آملي، والجلال الرواني، وابن كمونه، ومحمود شبسري».

بلدانهم وعددهم

إن إحصاء البلدان والنفوس من الموضوعات العلمية التي تعتمد على الاستقراء والمشاهدات، ولا نعرف أحداً أحصى بلدان هذه الفرقة وعددهم على هذا الأساس لنعتمد عليه، وننقل عنه ولكن الذي لا شك فيه أنهم من الفرق الكبرى في الإسلام، ويأتون بعد السنة من حيث العدد بلا فصل، وأن العراق وإيران والبحرين والأحساء والقطيف أكثرهم منهم.

وهم في لبنان من الطوائف الأولى، ويشعرون فيه بحريتهم وكرامتهم، لأن لبنان من حيث هو بلد الحرية والكرامة، ولهم في هذا البلد تاريخ مجيد، ويعيش العدد الكبير من الاثني عشرية في أكثر البلاد الإسلامية كسورية والحجاز، واليمن، وقطر، ومسقط، وعمان، والكويت ومنهم نواب في المجلس بتركيا، ومنهم الآن نائبان ويذهب إليهم بين الحين والحين بعض علماء النجف وإيران للهداية والإرشاد.

ولا يخلو مكان منهم في أفغانستان، وبعثات الأفغانيين الدينية إلى النجف الأشرف مستمرة منذ القديم. وقال لي أديب أندنوسي اثنا عشري، وعالم من علماء النجف أقام أمداً غير قصير في أندنوسيا، قالا : إن عدد الاثني عشرية هناك يبلغ نحواً من خمسة ملايين.

ويوجد منهم عدد غير قليل في البانيا، أما الصين فقال الشيخ المظفر في تاريخ الشيعة : إن فيها 11 مليوناً، وفي روسيا 10 ملايين، وقال صاحب أعيان الشيعة : إنهم في الهند 30 مليونا. وفي الجزء الأول من دائرة المعارف الإسلامية الشيعية التي يصدرها الأستاذ الكبير السيد حسن الأمين باللغة الإنكليزية - إن عدد الشيعة اليوم يبلغ حوالي مائة وخمسين مليوناً يقيمون في شرق الأرض وغربها.

وقال الشيخ محمد أبو زهرة المصري في آخر كتاب الإمام جعفر الصادق : لقد نما المذهب الجعفري، وانتشر لأسباب:

1 - إن باب الإجتهاد مفتوح عند أهله1.

____________________

1 - تكلمنا مفصلاً عن الاجتهاد في المجلد السابع من دائرة المعارف، وآخر الجزء السادس من فقه الإمام الصادق.

2- إن المذهب الجعفري قد انتشر في أقاليم مختلفة الألوان من الصين إلى بحر الظلمات، حيث أوروبا و ما حولها، وتفريق الأقاليم التي تتباين عاداتهم وتفكيرهم وبيئاتهم الطبيعية والاقتصادية والاجتّماعية والنفسية. إن هذا يجعل المذهب كالنهر الجاري في الأرضين المختلفة الألوان يحمل في سيره ألوانها وأشكالها من غير أن تتغير في الجملة عذوبته.

3 - كثرة علماء المذهب الذين يتصدون للبحث والدراسة وعلاج المشاكل المختلفة، وقد آتى اللّه ذلك المذهب من هؤلاء العلماء عدداً وفيراً عكفوا على دراسته، وعلاج المشاكل على مقتضاه.

آل البَيْت

تعريف :

أهل البيت في اللغة سكانه، وآل الرجل أهله، ولا يُستعمل لفظ «آل» إلا في أهل رجل له مكانة.

وقد جاء ذكر أهل البيت في آيتين من القرآن، الأولى الآية 73 من سورة «هود» : «رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت»، والثانية الآية 33 من سورة «الأحزاب» : «إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهّركم تطهيراً». واتفق المفسرون أن المراد بالآية الأولى أهل بيت إبراهيم الخليل، وبالآية الثانية أهل بيت محمد بن عبد اللّه، وتبعاً للقرآن استعمل المسلمون لفظ أهل البيت وآل البيت في أهل بيت محمد خاصة، واشتهر هذا الاستعمال حتى صار اللفظ علماً لهم، بحيث لا يفهم منه غيرهم إلا بالقرينة، كما اشتهر لفظ المدينة بيثرب مدينة الرسول.

اختلف المسلمون في عدد أزواج النبي، فمن قائل : أنهن ثماني عشرة امرأة، ومنهم من قال: إنهن إحدى عشرة، وعلى أي الأحوال فقد أقام مع النساء سبعاً وثلاثين سنة، رُزق خلالها بنين وبنات ماتوا كلهم في حياته، ولم يبق منهم سوى ابنته فاطمة. وقد اتفقت كلمة المسلمين على أن علي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين من آل البيت في الصميم، وأن شجرة النسب النبوي تنحصر فروعها في أبناء فاطمة، لأن النبي لم يُعقب إلا من وُلدها.

منزلة آل البيت عند المسلمين

إذا أردنا أن نعرف منزلة آل البيت عند المسلمين، والباعث على تكوين الفرق الإسلامية، وإيمانها بآل البيت فعلينا أن نلاحظ منزلة محمد عند المسلمين، وسيرته مع آل بيته، وأن نلاحظ، مع ذلك، أخلاق آل البيت أنفسهم، وما أصابهم من المحن في سبيل تمسكهم بما يرونه الحق والعدل. وكل ما يرونه حقاً فهو الحق.

إن حقيقة الإسلام هي الشهادة للّه بالوحدانية ولمحمد بالرسالة : «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه». فمن أقرّ للّه بالوحدانية، وجحد رسالة محمد، أو نسب صفات الخالق إلى غير اللّه، أو صفات النبوّة إلى غير محمد ممن كان في عصره، أو جحد آية من القرآن، أو سنّة ثابتة بالضرورة من سنن النبي، فلا يصحّ عده من المسلمين، لأنه لا يحمل الطابع الأساسي للإسلام. فالمسلم إذن من آمن باللّه، وبمحمد، وقرن طاعته بطاعته، وبهذا نطقت الآية 6 من سورة «الأحزاب» : «أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول»، والآية 62 من سورة «التوبة» : «واللّه ورسوله أحقّ أن ترضوه» والآية 65 من سورة «النساء» : «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم». والآية 2 من سورة «النجم» : «وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى» وما إلى ذلك من عشرات الآيات.

سيرة النبي مع آل بيته :

نقل أصحاب السير والمناقب من السنّة والشيعة صوراً كثيرة لعطف النبي على آل بيته وحبّه لهم، نكتفي بالإشارة إلى بعضها :

كان النبي إذا سافر، فآخر بيت يخرج منه بيت فاطمة وإذا رجع من سفره فأول بيت يدخله بيتها. يجلس ويضع الحسن على فخذه الأيمن، والحسين على فخذه الأيسر، يقبّل هذا مرة وذاك أخرى، ويجلس علياً وفاطمة بين يديه. وجاء في الحديث أنه دخل مرة بيت فاطمة ودعاها ودعا علياً، والحسن، والحسين، ولفّ عليه وعليهم كساء وتلا الآية : «إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهّركم تطهيراً». والمسلمون يسمّون هذا الحديث بحديث الكساء، ويطلقون لفظ «أصحاب الكساء» على محمد، وعلي،

وفاطمة، والحسن، والحسين. وقال لهم مرة : «أنا سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم». وما إلى ذلك من الأحاديث المشهورة عند جميع الفرق الإسلامية. وقد أوصى النبي أمته بآل بيته، وواصاهم بالقرآن، ففي الحديث : «إني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب اللّه، فيه الهدى والنور... ثم قال : وأهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي». وفي الآية 22 من سورة «الشورى» : «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى». والمراد بالقربى قرابة النبي. ولذا أولاهم المسلمون على اختلاف فرقهم قسطاً كبيراً من الرعاية والتبجيل، وكان لهم عند أبي بكر من التعظيم والإكبار ما لم يكن لأحد غيرهم. وكان عمر بن الخطاب يؤثرهم على جميع المسلمين، فرض لأبناء البدريين من العطاء ألفين ألفين في السنة إلا حسناً وحسيناً فرض لكل واحد منهما خمسة آلاف. وقد ملأ أصحاب التاريخ والتراجم كتبهم بفضائل أهل البيت ومناقبهم. فأهل السنّة يقدّسون علياً والأئمة من ذرّيته، ولكنهم لا يعترفون بأنهم أحقّ وأولى بالخلافة من غيرهم، كما تعتقد الشيعة.

أخلاق أهل البيت :

كان عليّ صلباً في الحق لا تأخذه فيه لومة لائم. ولم يكن الحقّ في مفهومه ما كان امتداداً لذاته وسلطانه. فقد تساهل في حقوقه الخاصة حتى استغلّ أعداؤه هذا التساهل. عفا عن مروان بن الحكم بعد أن ظفر به في وقعة الجمل، وعن عمرو بن العاص حين تمكن منه يوم صفين، وسقى أهل الشام من الماء، بعد أن منعوه منه، حتى كاد يهلك جنده عطشاً. وإنما كان الحق في مفهومه أن لا يستأثر إنسان على إنسان بشيء كائناً من كان. جاءته امرأتان ذات يوم تشكوان فقرهما، فأعطاهما. ولكنّ إحداهما سألته أن يفضلها على صاحبتها، لأنها عربية، وصاحبتها من الموالي. فأخذ قبضة من تراب، ونظر فيه، وقال : لا أعلم أن اللّه فضَّل أحداً من الناس على أحد إلا بالطاعة والتقوى. وطلب أخوه عقيل، وهو ابن أمه وأبيه، شيئاً من بيت المال، فمنعه. وأرادت ابنته أم كلثوم أن تتزيّن يوم العيد بعقد من بيت المال، على أن تردّه عاريةً مضمونة، حين كان أبوها خليفة، فغضب. وطلب طلحة والزبير الوظيفة على أن يناصراه، والا

عارضا وأثارا عليه حرباً شعواء، فأبى، ولما أشير عليه أن يخادعهما ويخادع معاوية حتى يستقيم له الأمر، فقال : لا أداهن في ديني، ولا اعطي الدنية في أمري. وأبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثاراً للخصاص التي يسكنها الفقراء.. وكان يلبس المرقّع حتى استحيا من راقعه، كما قال، وكان راقعه ولده الحسن. ويأكل الخبز الشعير تطحنه امرأته بيدها مواساة للكادحين والمعوزين. وأثنى عليه رجل من أصحابه، فأجابه بقوله : إن من اسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظنّ بهم حبّ الفخر، ويوضع أمرهم على الكبر، وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحبّ الإطراء واستماع الثناء... فلا تكلموني بما تُكلم به الجبابرة.

وكان منكراً لذاته متوجهاً بكل تفكيره إلى خير الجماعة، لا يبالي بغضب الخاصة إذا رضيت العامة، ويقول : إن سخط الخاصة يُغتفر مع رضى العامّة. لذا افتتنت به الجماهير في عصره وبعد عصره، وبوّأته أعلى مكان، لأنه العنوان الكامل لآمالها وأمانيها. ومنهم من رفعه إلى مكان الآلهة، كما فعل الغلاة، وبحقّ قال له النبيّ : يا علي إن اللّه قد زيّنك بأحبّ زينة لديه، وهب لك حبّ المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً، ويرضون بك إماماً.

لقد بالغ عليّ في تمسّكه بالحقّ، وحاسب عليه نفسه وعمَّاله، حتى أغضب الكثير منهم، وبعضهم تركه وهرب إلى عدوّه معاوية، وأصبح عوناً له بعد أن كان حرباً عليه.

آمن علي باللّه وبالإنسان. وقد ورث عنه الأئمة من ولده هذا الإيمان وساروا بسيرته، وتخلّقوا بأخلاقه، فكل واحد منهم وافر العلم، محبّ للخير والسلم، عزوف عن الشرّ والحرب، صارم في الحق. وإنما ظهر بعض هذه الصفات في شخص أحدهم أكثر من الآخرين تبعاً للظروف ومقتضيات الأحوال. ظهر في الحسن بن علي حبه للسلم وكرهه للحرب، لأن عصره كان عصر الفتن والقلاقل، بايعه أهل العراق بعد وفاة أبيه بالخلافة، وكان جيشه يتألف من أربعين ألفاً. ولما رأى أن معاوية مصرّ على الحرب، تنازل له عن الخلافة مؤثراً حقن الدماء وصالح الإسلام على كل شيء.. وظهرت صلابة الحسين في الحق، وضحَّى

بنفسه وأهله وأصحابه، لأن يزيد بن معاوية لم يترك مجالاً للمهادنة. وظهرت آثار علوم الإمام محمد الباقر وولده الإمام جعفر الصادق، لأن العلم في عصرهما كثر طلابه والراغبون فيه، وقد أفسح لهما المجال للتدريس وبثّ العلوم.

محن آل البيت :

تحدّث أصحاب التاريخ والسير عن محن آل البيت وأطالوا الحديث، ووضع الشيعة فيها كتباً مستقلّة سموا الكثير منها بأسماء تدل عليها، كاسم مثير الأحزان، ونفس المهموم، والدمعة الساكبة، ولواعج الأشجان، ورياض المصائب، واللهوف، ومقاتل الطالبيين، وما إلى ذلك. وتكاد تتفق كلمة الباحثين القدامى والمتأخرين على أن الأمويين إنما نكلوا بآل البيت أخذاً بثارات بدر واُحد، لأن محمداً وعلياً قتلا في هاتين الحربين شيوخ الأمويين وساداتهم. ويستشهدون على ذلك بما تمثل به يزيد بن معاوية، عندما قتل الحسين، ووضع رأسه بين يديه:

ليت أشياخي ببدر شهدوا*** جزع الخزرج من وقع الأسلْ

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً،*** ثم قالوا : يا يزيد، لا تشلْ

وليس ببعيد أن يتذكر يزيد الحفائظ والحروب القديمة بين محمد، جدّ الحسين، وجدّه أبي سفيان، وبين علي أبي الحسين وأبيه معاوية، وأن ينطق بكلمة التشفّي والحقد. ولكن الباعث الأول على الفجيعة هو نظام الجور، وعهد الأب للابن بالخلافة، وجعلها حقاً موروثاً. والبحث في محن آل البيت واسع المجال متشعّب الأطراف.

فقد ظهرت آثار هذه المحن في العقيدة، والسياسة، والأدب، والتقاليد، وما زالت تفعل فعلها إلى اليوم. ولم يتح لمحن آل البيت، فيما أعلم، من درسها درساً موضوعيّاً، ولا يمكن شرحها وبيان أسبابها ونتائجها في مقامنا هذا. وعلى أي الأحوال، فإن محن آل البيت ومحن الناس جميعاً ابتدأت منذ تغيّر نظام الحكم عند المسلمين.

كان الحكم في عهد الرسول الأعظم يقوم على مبدأ أن كل شيء للّه، فالمال مال اللّه، والجند جند اللّه، ومعنى هذا أن الناس جميعاً متساوون في الحقوق، لأن اللّه للجميع وبعده بأمد قصير تغير هذا النظام، وأصبح كل شيء للحاكم.

فالمال مال الحاكم، والجند جند الحاكم، والناس كلهم عبيد الحاكم. قال معاوية بن أبي سفيان : «الأرض للّه، وأنا خليفة اللّه. فما أخذت فلي، وما تركته للناس فبالفضل مني». وعلى هذا المبدأ، وهب مصر لعمرو بن العاص مكافأةً له على جهاده وبلائه ضد الإمام علي. وكان جند يزيد في وقعة الحرة يجبرون الناس على أن يبايعوا يزيداً، على أنهم عبيد قنّ له، وينقشون أكف المبايعين علامة الاسترقاق، ومن أبى عن هذه البيعة ضربت عنقه.

من هذا النظام وحده تولدت محن آل البيتوغير آل البيت، وإن كان نصيبهم منها أكبر وأفظع.

ولا بد من التساؤل : لماذا ذعر الناس لمحن آل البيت وتحدّثوا فيها وأطالوا الحديث أكثر من غيرها؟ ويمكننا الجواب بأن محنهم كانت أقسى المحن جميعاً، وبأنها في نظر المسلمين هي محن الإسلام نفسه. فقد أوصى الرسول وبالغ في الوصاية بأهل بيته، وواساهم بكتاب اللّه، وشّبههم بسفينة نوح، واعتبر التعدي عليهم تعدياً عليه بالذات، وهذا السبب يرجع إلى الدين، ولا شيء يوازي احترام العقيدة الدينية وتقديسها عند المسلمين وبخاصة في ذاك العهد.

وهناك أسباب سياسية لتوالي المحن على آل البيت من الحكام، وإذاعتها بين الجماهير أكثر من غيرها. لما يئس المسلمون من إصلاح الحاكم تمنوا أن يدبر شؤونهم إمام عادل ناصح للّه ورسوله، وفي آل البيت خير من توافرت فيه هذه الصفات، بل كان في المسلمين حزب قوي منتشر في أقطار الأرض يدين بالتشيع لهم، ويرى أن الخلافة حق خصه اللّه بعلي وبنيه. وقد أعلن الشيعة هذا المبدأ في أشعارهم، واتخذوه أساساً لتعاليمهم، وعملوا على بثه في الجهر والخفاء، ولم يتركوا فرصة تمرّ إلا عدّدوا مناقب آل البيت ومثالب من غصبهم هذا الحق. فرأى الحكام في آل البيت وشيعتّهم خطراً كبيراً على سلامة الدولة وأمنها أكثر من غيرهم فخصّوهم بالقسط الأوفر من المحن، ونكّلوا بهم بقسوة تفوق كل قسوة. وقد رأى الناس في هذه المحن مورداً خصباً للتشهير بالحاكم وإثارة الجماهير، ولا شيء كالخطوب والمآسي تستدعي عطف الناس، وتثير إشفاقهم ورحمتهم، وكلنا يعرف كيف استغلّ معاوية قميص عثمان لتأليب أهل الشام على عليّ. فالشيعة أذاعوا تلك المحن وبكوا واستبكوا الناس وفاء لأئمتّهم، ولبثّ

الدعوة لهم ونشر مبادئهم. وأذاعها كل ناقم ومعارض للأنظمة السياسية تبريراً لنقمته ومعارضته، ودعماً لأقواله وحجته تظلّم الشعب لآل البيت، وفي الوقت نفسه عّبر بمحنهم عن ثورته على الفساد.

إن محن آل البيت هي محن الشعب، ومحنه محنهم، وقد أعرب عن آلامه بما ألمّ بهم، لإثارة العواطف، لأنّ من أساء إليهم فبالأحرى أن يسيء إلى غيرهم، ولأنهم المجموعة الكريمة الطيبة التي يرى فيها الشعب مثاله الأعلى ويتمنى أن تقوده هي، أو من يماثلها في الصفات والمؤهلات وإلا فإن الثورة على النظام الجائر محتمة لا محالة.

كارثة كربلاء وأثرها في حياة الشيعة

كانت الأسباب الأولى لمحن آل البيت سياسية، وبعد حدوثها تركت أثراً بارزاً في حياة طائفة كبيرة من المسلمين كانت ولا تزال تدين بالولاء لآل البيت. فكارثة كربلاء، وهي أفظع ما حلّ بآل البيت من كوارث، قُتل فيها الحسين بن علي، وسبعة عشر شاباً وطفلاً من أهله، وأكثر من سبعين رجلاً من أصحابه، فيهم الصحابي والتابعي، هذه الحادثة جعلت كربلاء مزاراً مقدساً عند الشيعة يفد إليها في كل سنة مئات الألوف للزيارة من أنحاء البلاد، وفي كثير من الأحيان يوصي الشيعة في الهند، وإيران واطراف العراق أن ينقل رفاته من بلده ليدفن في كربلاء، رغبةً في ثواب اللّه وجزائه. وتحيي الشيعة، في كل سنة، وفي كل مدينة وقرية من بلادهم، ذكرى مقتل الحسين في الثلث الأول من شهر محرّم. وفي بعض أيام السنة، يجتمعون للاحتفال بهذه الذكرى فيروي الخطيب بعض أخبار كربلاء ومأساتها، ويعدّد المناقب والسوابق لشهدائها، وينوح عليهم شعراً ونثراً، ويسمّون هذه المحافل بمجالس التعزية، وقد وضعوا لها كتباً خاصة.

وما زال شعراء الشيعة، منذ قتل الحسين إلى اليوم، ينظمون القصائد الطوال يصوّرون فيها الحوادث الدامية التي جرت في كربلاء، وهي من عيون الشعر العربي في الرثاء. وقد طبع السيد محسن الأمين قسماً كبيراً من هذه المراثي أسماه «الذر النضيد في مراثي السبط الشهيد».

ونذكر أبياتاً من قصيدة لشاعر شيعي تصوّر لنا الغاية التي يهدف إليها الشيعة من زيارة كربلاء، ويوم عاشوراء:

شممتُ ثراك، فهبّ النسيم*** نسيم الكرامة من بلقع

وعفرتُ خدي بحيث استرا*** خ خدّ تفرّى ولم يخضع

وماذا؟ أأروع من أن يكون*** لحمك وقفاً على المبضع

وأن تتقي، دون ما ترتأي*** ضميرك بالأسل الشرَّع

وأن تطعم الموت خير البنين*** من الأكهلين إلى الرُّضَّع!

ومن هنا نعرف أن الشيعة إنما يقدسون أرض كربلاء، ويحيون يوم عاشوراء، لأنها في نظرهم، رمز الجهاد المقدس في سبيل الحرية والكرامة، وعنوان التضحية ضد الظلم والطغيان. فاحياؤها كذلك ثورة على الظلم والطغيان.

ماذا تعني كلمة الحسين عند الشيعة

كتبت ما تقدم عن كارثة كربلاء وأثرها في حياة الشيعة سنة 1375 هجري. وفي شهر رمضان المبارك سنة 1387 كنت في البحرين، كان عليّ أن أصعد المنبر في كل ليلة بمأتم آل العريض الكرام بعد أن أزمع على موضوع يتقبله المثقف العصري وغيره على السواء، وكنت أحرص على بلوغ هذا الهدف كل الحرص.. أما الحكم بأني أدركت ما أردت وأملت فأدعه إلى أهل البحرين.

وفي إحدى الليالي صعدت المنبر، وقبل أن ابتدئ بالكلام سمعت صوتاً يقول: سلام اللّه عليك يا حسين، ولعن اللّه من قتلك، وكان الموضوع الذي أزمعت الحديث عنه لا يتصل بالحسين ولا بيزيد من قريب أو بعيد، وإذا بي أنسى موضوع المحاضرة، وأشرع بتفسير كلمة الحسين عند إطلاقها دون قيد، وكلمة يزيد وماذا تعنيان عند الشيعة، وقلت فيما قلت:

إن التطور لم يقف عند حدود المادة، بل تعداها إلى الأفكار واللغة، لأنها جميعاً متلازمة متشابكة، لا ينفك بعضها عن بعض.. وكلمة الحسين كانت في البداية اسماً لذات الحسين بن علي (ع) ثم تطورت مع الزمن، وأصبحت عند شيعته وشيعة أبيه رمزاً للبطولة والجهاد من أجل تحرر الإنسانية من الظلم والاضطهاد، وعنواناً للفداء والتضحية بالرجال والنساء والأطفال لإحياء دين محمد بن عبد اللّه صلى الله عليه وآله

ولا شيء أصدق في الدلالة على هذه الحقيقة من قول الحسين (ع)، وهو في طريقه إلى الاستشهاد: «أمضي على دين النبي».

أما كلمة يزيد فقد كانت من قبل اسماً لابن معاوية، أما هي الآن عند الشيعة فإنها رمز للفساد والاستبداد، والتهتك والخلاعة، وعنوان للزندقة والإلحاد، فحيث يكون الشر والفساد فثم اسم يزيد، وحيثما يكون الخير والحق والعدل فثم اسم الحسين.

فكربلاء اليوم عند الشيعة هي فلسطين المحتلة، وسيناء، والضفة الغربية من الأردن، والمرتفعات السورية، أما أطفال الحسين وسبايا الحسين فهم النساء والأطفال المشردون المطرودون من ديارهم،.. وشهداء كربلاء هم الذين قتلوا دفاعاً عن الحق والوطن في 5 حزيران.. وهذا ما عناه الشاعر الشيعي بقوله:

كأن كل مكان كربلاء لدى*** عيني وكل زمان يوم عاشورا

وما أن نزلت عن المنبر، حتى استقبلني شاب مرحباً وقال: هذي هي الحقيقة وهكذا يجب أن يفهم الإسلام وتاريخ الإسلام، بخاصة كارثة كربلاء.. ثم وجه إليّ سؤالاً وافقني على جوابه، ولم أكن أعرفه من قبل، ولما عرفوني به علمت أنه من سنة البحرين، وأنه يشغل منصباً كبيراً في الحكومة.

علم الإمام علي بن أبي طالب

كان مظهر الحياة الفكرية عند العرب قبل الإسلام اللغة، والشعر، والأمثال، والقصص، ومعرفة الأنساب. وبعد الإسلام والقرآن تطورت الحياة الفكرية والمادية، وتعددت العلوم، وأصبح كل ما أشار إليه القرآن من قريب أو بعيد علماً مستقلاً، ولم يتعرض الإسلام للعقائد والأخلاق والعبادات فحسب، بل تعرض أيضاً للتشريع، والقضاء، والكون وعلاقة الناس بعضهم ببعض.

وكان من نتيجة تعرّض الإسلام للحياة الدنيوية أن آمن المسلمون بمبدأ عام، وهو أن الدين مبدأ التشريع، وحدا بهم هذا الإيمان أن يتخذوا من الدين أساساً لحياتهم الفكرية بشتى فروعها وشعبّها، وأن يبحثوا عن إرادة اللّه وقصد الرسول في كل مسألة تعرض لهم، سواء أكانت دينية أم دنيوية، لأن الدين إذا كان مصدر الهداية فيجب أن يكون مصدراً من مصادر المعرفة أيضاً. وقد رافقتهم

هذه الظاهرة في جميع أدوارهم، ولن ينسوها بعد أن اتصلوا بالفلسفة اليونانية والأمم المتحضرة. لم تكن الفلسفة معروفة في صدر الإسلام، ولما عرفها المسلمون فيما بعد انحرفوا بها إلى الدين، وأوضح مثال على ذلك علم الكلام والتوحيد، فإنه فلسفي في صورته دينيّ في مادته.

وليس من غرضنا الآن أن نترجم لكل إمام من أئمة آل البيت ونبيّن منزلته من العلوم، وإنما غرضنا الأول أن نقدّم صورة لعلومهم على وجه العموم، وخير مثال لذلك علم الإمام علي وحفيده جعفر الصادق. فقد ذاع علمهما وانتشر. وظهر أثره في المؤلفات والمدارس الإسلامية أكثر من علم غيرهما من الأئمة. على أنه إذا استطعنا أن نصوّر علم هذين العظيمين أمكننا أن ندرك من خلاله مدى علوم سائر الأئمة، لأن كل إمام كان يأخذ العلم عن أبيه إلى أن تنتهي السلسلة إلى الرسول الأعظم، كما قال الشيخ أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق.

كان الإمام علي بن أبي طالب عالماً بأمور الدين والدنيا التي تعرض لها القرآن والسنة. ولم يخف عليه شيء يمتّ إلى الإسلام بسبب قريب أو بعيد، بل رُوي عنه أنه قال: «لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوارتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل القرآن بقرآنهم». وعلمه هذا نتيجة لطول صحبته مع الرسول، فقد ضمّه إليه وهو طفل، وبقي في كنفه بعد النبوة، إلى أن لحق النبي بالرفيق الأعلى. وأسلم حيث لا يوجد على وجه الأرض مسلم إلا محمد وزوجته خديجة. واهتم النبي بتنشئته وتربيته، واتخذه أميناً لسره، واصطفاه لعلمه، وكان كاتبه وشريكه في نسبه وزوج ابنته، وأبا ريحانيته الحسن والحسين، وأخاه حين آخى بين المسلمين، وبديله على فراشه حين همّ المشركون بقتل من يبيت في الفراش. واستخلفه على ما كان عنده من ودائع لما هاجر من مكة إلى المدينة، كما استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك، وقال له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى. وولاّه القضاء في اليمن، وبلغ عنه سورة «براءة». وشهد مع النبي مشاهده كلها. بل كان علي نفس النبي كما نطقت بذلك الآية 61 من سورة آل عمران: «فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم،

ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين». فقد أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين، وبنسائنا فاطمة، وبأنفسنا النبي وعلي. وقال النبي: «علي مني وأنا من علي... عليّ مع الحق والحق مع علي... علي رباني هذه الأمة...

من كنت مولاه فعليّ مولاه»، إلى غير ذلك من الفضائل التي قال عنها طه حسين في كتابه «علي وبنوه»: «إن علياً كان أهلاً لها ولأكثر منها، ويعرفها له خيار المسلمين، ويؤمن بها أهل السنّة كما تؤمن بها شيعته».

هذا، إلى عقل يتسع لكل شيء، وفراسة لا يكاد يخفى عليها شيء، وحكمة هي الحقيقة والواقع الملموس وبلاغة ليس فوقها إلا بلاغة القرآن. إن هذا العلم والعقل وهذه الحكمة والبلاغة قد جعلت من الإمام ترجماناً للتشريع ومرجعاً في جميع العلوم الإسلامية، وقدوة لكل مذهب من مذاهب المسلمين. لم يكن للمسلمين علوم مدوّنة في عهد الإمام، ولما صار لهم علوم منظمة، لها أبواب وفصول، ووضعوا الكتب في الفقه، والأصول والتفسير والحديث، وعلم الكلام والتوحيد، والأدب وتاريخه، والبلاغة، وفي المذاهب والفرق، وما إلى ذلك استعان بنور علمه وحكمته كل عالم ومؤلف، واحتج بقوله وبلاغته كل أديب وكاتب. (أنظر كتاب علي والفلسفة للمؤلف).

كان علي عالماً بالأصول والأنظمة التي قررها القرآن والرسول، والتي تحقق للناس الرخاء والهناء فحرص عليها، وأمر عماله بالعمل بها ومن تلك الأصول:

«احترام الجماهير». قال في عهده لمالك الأشتر النخعي لما ولاّه على مصر: «إن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة... فليكن صفوك لهم، وميلك معهم». وكتب إلى أحد عمّاله على الخراج «لا تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعملون عليها ولاعبداً، ولا تضربن أحداً سوطاً بمكان درهم».

«رعاية الموظفين». وقد أوصى الأشتر أن يختار الموظفين الأكفاء، وأن «يسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم. وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا».

«زيادة الإنتاج». وقال للأشتر: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ في نظرك من استجلاب الخراج». إلى أن قال: «وإنما يؤتى خراب الأرض

من إعواز أهلها لأشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء».

«كراهية الحرب». قال له أهل العراق عندما استبطأوه عن حرب أهل الشام بادئ الأمر، إن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهية الموت، فقال: «والله لا أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ ... فواللّه ما دفعت الحرب يوماً، إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها». وقال لأصحابه بعد أن أثخنوا في أعدائه يوم صفين: «لا تتبعوا موالياً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تنهبوا مالاً». فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم فلا يعرض لهما أحد. وبلغه أن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يشتمان معاوية وأهل الشام، فأرسل إليهما أن كفا عما بلغني عنكما. فقالا: «يا أمير المؤمنين ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: «كرهت لكم أن تكونوا شتّامين لعّانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم».

«المساكين». اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين المحتاجين وأهل البؤسى والزمنى... واحفظ للّه ما استحفظك من حقه فيهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصّعّر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم.

قضاء الإمام

وقد اشتهر عنه أنه كان أقضى أهل زمانه. والقضاء هو المحكّ للمواهب والرأي الصائب، ولمن حفظ العلم حفظ رواية أو دراية، قال أحمد أمين في المجلد الأول من فجر الإسلام: «كان ذا عقل قضائي، فقد ولاّه رسول اللّه صلى الله عليه وآله قضاء اليمن وله آراء ثبتت صحتها في مشاكل قضائية عديدة، حتى قيل عنه: قضية ولا أبا حسن لها» وهذا القول مشهور عن عمر بن الخطاب. وقد عني جماعة من فقهاء السنة والشيعة بجمع قضاياه في كتاب مستقل، منهم الترمذي صاحب أحد الصحاح الستة، والمعلى بن محمد البصري، ومحمد بن قيس البجلي، وعلي بن إبراهيم القمي، وجمع السيد محسن الأمين عدة قضايا أضافها إلى كتاب علي بن إبراهيم، وطبعها في كتاب اسمه «عجائب أحكام أمير المؤمنين».

منها: أن أربعة رجال شربوا الخمر، وكان مع كل واحد منهم سكين، فلما بلغ بهم السكر تباعجوا بالسكاكين، فمات اثنان وبقي اثنان. فجاء أهل القتيلين للإمام وقالوا: إن هذين قتلا صاحبينا فأقدنا منهما، قال لهم... ما علمكم بذلك، لعل كلاً منهما قتل صاحبه ولكن الدية توزع على الأربعة فيصيب كل واحد من الاثنين الباقيين ربع دية كل واحد من القتيلين».

ومبنى هذا الحكم أن الاجتماع على السكر وحمل السكاكين مخالفة صريحة للشرع والقانون. وقد نجمت جناية القتل عن هذه المخالفة التي اشترك فيها الأربعة. فتكون جناية القتل مشتركة بين الأربعة أيضاً.

ومنها أن ستة غلمان تعاطوا لعباً في الفرات، فغرق غلام منهم. فشهد ثلاثة على الاثنين أنهما أغرقاه، وشهد اثنان على الثلاثة أنهم أغرقوه. فقضى بالدية أخماساً منها ثلاثة أخماس على الاثنين ومنها خمسان على الثلاثة.

استند هذا الحكم إلى عدد الشهود، شهد ثلاثة على الاثنين فأصابهما ثلاثة أخماس على كلّ واحد خمس ونصف، وشهد اثنان على ثلاثة فأصابهم اثنان من خمسة، على كل واحد أقل من خمس.

علم الإمام جعفر الصادق

عاش الإمام جعفر الصادق في أواخر زمن الأمويين، وأوائل العهد العباسي، حين أقبلت الدنيا على العرب بسبب الفتوح، واتصلوا بالأمم المتحضرة كالفرس، وعندهم الطب، والهندسة، والجغرافية، والحساب، والتنجيم، والأدب، والتاريخ، والمصريين، وعندهم مدرسة الإسكندرية، والسوريين الذين تاثروا بالعقلية الرومانية. وفي هذا العهد شرع بنقل هذه العلوم إلى اللغة العربية. فأقبل عليها المسلمون يدرسونها إلى جانب الفقه والتفسير والحديث والنحو وما إليه.

ويعقدون لها الحلقات العلمية في مساجد الشام والعراق والحجاز. وفي هذا العهد، وفي الحلقات، كانت تقوم مناقشات عنيفة قسمت المسلمين فرقاً ومذاهب، ما يزال أثرها قائماً إلى اليوم. كانت هذه المناقشات تدور حول مسألة الخلافة ومسألة استقلال الإنسان بأفعاله، ومسألة من ارتكب كبيرة ولم يتب، ومسألة إمكان رؤية اللّه، ومسألة أن صفاته هي عين ذاته أو غيرها، ومسألة خلق القرآن. ولم

يكن الخلاف في هذه المسألة قد بلغ ما انتهى إليه في عصر المأمون. وقد كان لهذه الخلافات أثر كبير في العلم والأدب والسياسة. أما أثرها في العلم فإن النظر في الخلافة يستتبع النظر في معنى الرئاسة ومهمتها ومصدرها وشروطها. والنظر في الإرادة والاختيار يستتبع النظر في عدل اللّه وحكم العقل واستحقاق الإنسان للثواب والعقاب. والنظر في مرتكب الكبيرة يستتبع النظر في حقيقة الإيمان والكفر وعلاقة الناس بعضهم ببعض. والنظر في إمكان رؤية اللّه يستتبع النظر في سرّ الوجود وصفات الموجد والقدم والحدوث.

إن النظر في هذه المسائل وما إليها ينتمي حتماً إلى الكائنات وأسبابها. أما أثرها في الأدب فقد وقف الشعراء ينصر بعضهم هذا المبدأ ويدعو إليه، وبعضهم يحاربه ويدعو إلى غيره.

وكان أثرها في السياسة أظهر وأبلغ. لأن الكثير منها يتعلق بالحاكمين وشرعية حكمهم، وعلاقة المحكومين بهم، ولذا رأينا رجال الدولة ينكِّلون بكل عالم لا تتفق سياستهم مع أقواله وآرائه، ويقرّبون إليهم كلّ من وجدوا في قوله مبرراً لظلمهم واستبدادهم. ومن هنا قال بعض الباحثين إن هذه الخلافات كانت في بدء أمرها سياسيّة، ثم تغلب الجانب الديني على الجانب السياسي.

وإذا لاحظنا أن النهضة العلمية عند المسلمين، والإنقسامات المذهبية، والخلافات السياسية يبدأ تاريخ أكثرها بعهد الإمام الصادق، ولاحظنا مع هذا ما اتفقت عليه أهل السير والتراجم من أن الإمام الصادق ابتعد عن السياسة كل البعد، وانصرف انصرافاً تامّاً للعلم، إذا لاحظنا ذلك كله فلا ندهش لما قرأناه من أن أصحاب الحديث جمعوا أسماء الرواة الثقات عن الصادق فكانوا أربعة آلاف رجل، ولما سطّره ابن حجر في «صواعقه»: إن الناس نقلوا عن الصادق من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، ولما قاله فريد وجدي في «دائرة معارف القرن العشرين» : ألف جابر بن حيان في الكيمياء كتاباً يشتمل على ألف ورقة، يتضمن رسائل جعفر الصادق، وهي خمسمائة رسالة، ولما ذكره الشهرستاني في «الملل والنحل» : كان الصادق ذا علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد في الدنيا، وورع تامّ عن الشهوات أقام مدة بالمدينة يفيد الشيعة، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل

العراق وأقام بها مدة.. ولما جاء في كتاب «عقيدة الشيعة» للمستشرق دوايت، وقد ساهم عدد من تلامذة الصادق مساهمة عظمى في تقدم علمي الفقه والكلام. وصار اثنان منهم، وهما أبو حنيفة ومالك بن أنس، فيما بعد، من أصحاب المذاهب الفقهية، وكان واصل بن عطاء رئيس المعتزلة، وجابر بن حيان الكيمياوي الشهير من تلامذته، إلى غير ذلك مما ذكره الباحثون من غربيين وشرقيين.

الطابع الخاص لمدرسة الإمام جعفر الصادق وتعاليمه

نوجز الكلام عن تعليم الإمام وطابعه الخاص على ضوء آثاره التي حفظها التراث الإسلامي، ويستطيع الوصول إليها من أراد ذلك. وقد حفظ له هذا التراث أصولاً في الكيمياء، وفي علم الكلام والتوحيد، وفي الأخلاق، وفي العلوم الدينية بشتى فروعها :

الكيمياء : للصادق رسائل في الكيمياء درجها تلميذه جابر بن حيّان في مؤلفاته العديدة. وقد نشر بعضها، والبعض الآخر لم ينشر بعد، وهو موجود في القاهرة. ومما طبع : كتاب الرحمة، وكتاب الميزان، وكتاب الملك، وكتاب مختار رسائل جابر بن حيان، ونترك الكلام عن طابعها وفوائدها إلى ذوي الاختصاص.

علم الكلام والتوحيد : له كتاب توحيد المفضل، درجه المجلسي في كتاب البحار بكامله، وطبع مستقلاً بمصر. وله احتجاجات وتعاليم في الإلهيات يجدها المتتبع في كتاب أصول الكافي للكليني، وكتاب الشافي للسيد المرتضى، وفي غيرهما من كتب الحديث والعقائد لعلماء الشيعة الإمامية.

وطريقته لفهم ما وراء الطبيعة ترتكز على منطق العقل والفطرة والثقة بما يستنتجه ويستنبطه من الفرض الصحيح فكل فرض يصح إذا كان نتيجة منطقية لقضية بديهيَّة. وهذا الأسلوب يعتمده اليوم علماء الطبيعة وغيرهم وبه يستدل الإمام على حدوث العالم، وبحدوثه على وجود الصانع. وكان يوجه اهتماماً بالغاً إلى إزاحة كل شبهة تحوم حول وحدانية اللّه وعدله وقدرته وسمّوه، وحول بعث الأنبياء وتنزيههم.

فاللّه واحد، وعالم، وقادر، وصفاته عين ذاته، ليس كمثله شيء. وكلامه مخلوق وليس بقديم. والبعث والحساب لا بدّ منهما. والأنبياء معصومون قبل النبوّة وبعدها. والخلافة تكون بنصّ الرسول لا بالانتخاب. والإنسان مخير غير مسيّر، وخلاصه بيده لا بيد أحد من الناس.

الأخلاق : له مواعظ وحكم، ووصايا أوصى بها أهل بيته وأصحابه نجدها متفرّقة في كتاب «حلية الأولياء» لأبي نعيم الأصفهاني، وكتاب «تحف العقول» للحسين الحرّاني، وكتاب «مطالب السؤول» لمحمد بن طلحة الشافعي، وغير ذلك من كتب الأخلاق، والحديث. ولو جمعت لجاءت في كتاب ضخم، وهي تضع قواعد لحسن السلوك وتقرّره على مبدأ المساواة بين الناس جميعاً، ومبدأ أن الإنسان خيّر بطبعه طيّب بذاته، وإنما تفسده التربية والمحيط والأوضاع. فمن أقواله : «أصل الإنسان عقله، وحسبه دينه، وكرمه تقواه، والناس في آدم مستوون. إن النفس لتلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنّت. بني الإنسان على خصال، فمهما بني عليه فإنه لا يبنى على الخيانة والكذب». وإذا كان طبع الإنسان الصدق والأمانة، فالكاذب الخائن إذن من أخرج الإنسان عن طبعه ووضعه، وعمل على هدم بنائه وكيانه.

التفسير : للشيعة كتب عدة في تفسير القرآن، منها كتاب «مجمع البيان» للطبرسي، وكتاب «التبيان» للشيخ الطوسي، وكتاب «كنز العرفان» للمقداد. وقد رووا في هذه الكتب وغيرها من كتب التفسير والحديث عن الإمام الصادق تفاسير لكثير من آيات الكتاب، وخاصة فيما يتعلق بالأحكام. والشيعة لا يفسرون آية من القرآن إلا بعد مقابلتها مع سائر الآيات، وبعد البحث عما صحّ عن النبي وآل بيته من التفسير، لأن في القرآن آيات ينسخ أو يخصص بعضها بعضاً، وفي السنة أحاديث تفسر كثيراً من الآيات. وكلام اللّه والرسول لا يتناقضان، لأنهما بمنزلة الشيء الواحد، فإن لم يجدوا في الكتاب ناسخاً ولا مخصصاً، ولم يجدوا في السنة مفسراً، فسروا الآية بما يقتضيه ظاهر لفظها ما لم يتنافَ الظاهر مع العقل، وإلا أوجبوا التأويل بما يتحمله اللفظ، ويقبله العقل. وقد أخذوا هذه الطريقة في التفسير عن أئمة آل البيت.

الفقه

تعرّض الفقه الإسلامي لأحوال الإنسان الخاصة والعامة : لواجبه مع اللّه، ومع نفسه وأسرته، ولعلاقته مع الدولة والمجتمع، ولشؤونه الزراعية والتجارية، ولما ينتج، ويستهلك. ولهذا كان الفقه الإسلامي أوسع من سائر العلوم الإسلامية، وكانت آثار الصادق فيه أكثر منها في غيره، فظهرت في كتب الصحاح للسنة، وفي كل كتاب من كتب الحديث والفقه للشيعة، وفي كل باب من أبوابها، وهذا هو السرّ في تسمية الشيعة الإمامية أحياناً بالجعفريين، ونسبتهم إلى الإمام جعفر دون غيره من الأئمة الاثني عشر. وقد تصدى جماعة، منهم الجاحظ بن عقدة الزيدي، والشيخ أبو جعفر الطوسي، لإحصاء عدد الرواة الذين رَوَوا عن جعفر بن محمد، ودوّنت أسماؤهم ورواياتهم في الكتب الموجودة بين أيدي الناس، فبلغوا أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز والشام وخراسان. وفي «كتاب المعتبر» للمحقق الشيخ علي بن عبد العال : «كتب من أجوبة مسائل جعفر بن محمد أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنّف سمّوها أصولاً».

وبهذه الأصول أصبح الصادق مرجعاً للفقه والتشريع عند الشيعة الإمامية. وبعد عصر الأئمة بقليل جمعت هذه الأصول الأربعمائة في أربعة كتب : في «كتاب الكافي» لمحمد بن يعقوب الكليني، وكتاب «من لا يحضره الفقيه» لمحمد بن بابويه القمي المعروف بالصدوق وكتاب «الاستبصار»، وكتاب «التهذيب» لمحمد بن الحسن الطوسي.

طريقته في التشريع

نهى الصادق عن العمل بالقياس، وكان يقول : إن المقاييس لا تزيد أصحابها إلا بعداً عن الحقّ، ونهى عن اتباع كل ظنّ لا يستند إلى مصدر صحيح. ومعنى القياس إلحاق أمر بآخر في الحكم الشرعي لاتحادهما في العلة، وهو من الأصول الشرعية عند الأحناف وغيرهم.

ومن تتبع أقواله وأحكامه يجد له شخصية علمية مستقلة بذاتها، فلم يسند حديثه إلى الرواة، ولا إلى قول مشهور أو مأثور إلا نادراً، وتقول الشيعة : إن الإمام إذا حدّث، ولم يسند، فسنده أبوه عن جده عن الرسول، ومهما يكن

فإن ما رُوي عنه في التشريع يرتكز على مبادئ عامة منها :

الحرية

لكل إنسان من ذكر وأنثى حرية التصرف بنفسه، وبما يختص به من شؤون، ولا سلطان عليه لأحد إلا إذا كان صغيراً أو مجنوناً أو سفيهاً، فيولى عليه حينئذٍ قوي أمين، على أن لا تتعدى تصرفات الولي مصلحة المولى عليه.

ومنها المساواة

إن جميع الناس سواء أمام القانون، فكل جان يعاقب، وكل غاصب يغرم، ولا حصانة لحاكم، ولا لذي منصب كائناً من كان، وكل قانون يقسم الناس على غير أساس التقوى، فهو جائر.

ومنها الثقة بالإنسان، واحترام شعوره ومعاملات الإنسان، وجميع تصرفاته صحيحة بموجب الأصل ما لم يثبت العكس، إلا فيما يدّعيه على غيره، لأن كل إنسان بريء ما لم تثبت إدانته، وكل من يدين بدين يرتب على أعماله آثار الصحة ما دامت موافقة لما يعتقد، وإن خالفت الإسلام.

ومنها تحريم الاستغلال

إن الغشّ والربا والاحتكار، وكل معاملة تؤدي إلى استثمار الغير فهي باطلة، وكل احتيال على الشرع والقانون فهو تضليل، وكل من كان في يده شيء يمنع من التصرّف به إذا أدى إلى الإضرار بغيره.

ومنها الإباحة والحلّ

كل شيء فيه صلاح للناس من جهة من الجهات فهو حلال وكل من اضطر إلى شيء فهو له مباح، فالجائع الذي لا يجد سبيلاً للعيش لا يُعاقب على السرقة، والمدين الذي يعجز عن الوفاء لا يُحبس ولا يحجز وله ما يضطرّ إليه من مسكن ومأكل وملبس.

ومنها الذمة

لكل بالغ عاقل صفة ذاتية تؤهله للإلزام والالتزام بما له وما عليه، وعلى من ضمن وتعهد أو اؤتمن على عمل أو مال أن يؤديه على وجهه، وللطرف الثاني الحق في أن يحاسبه ويلزمه بالوفاء، وأن يتسلط عليه وعلى ماله إذا خان أو قصر. والشرط الرئيسي لصحة الإلزام والالتزام أن يكون العمل حقاً للملتزم وسائغاً في نفسه، لا يستدعي ضرراً على من ألزم أو التزم، ولا على غيرهما، فكل معاهدة تخرج عن اختصاص المتعاهدين أو تضرّ بهما أو بأحدهما أو بغيرهما، أو تكون مجهولة الحقيقة فهي تضليل يجب الغاؤها، وكل تجارة أو زراعة أو صناعة فيها شائبة الضرر فهي فاسدة، وكل من نذر أو أقسم أو عاهد اللّه أن يفعل ما يضرّ به أو بغيره فنذره وقسمه وعهده لغو.. قرر الصادق هذا المبدأ بأحاديث كثيرة منها : «من اشترط شرطاً سوى كتاب اللّه فلا يجوز له ولا عليه. والمسلمون عند شروطهم إلا شرطاً حلّل حراماً أو حرّم حلالاً. كل شرط خالف كتاب اللّه فهو مردود. إذا رأيت خيراً من يمينك فدعها، وافعل الذي هو خير، ولا كفَّارة عليك، إنما ذلك من خطوات الشيطان، إن الكفارة إذا حلف الرجل على أن لا يزني ولا يشرب ولا يخون وأشباه هذه.

ومنها قاعدة الأقرب فالأقرب : اعتمد الصادق على هذا المبدأ في الإرث، فجعل الأولاد والآباء أولى بالإرث من الاخوة والأجداد، والاخوة أولى من الأعمام والأخوال. فمتى وجد واحد من المرتبة المتقدمة حجب عن الإرث كل من كان في المرتبة المتأخرة، فالبنت تحجب عمها، كما يحجبه الابن من غير فرق. واعتمد على هذا المبدأ أيضاً في النفقات قال : «إن أفضل ما ينفقه الإنسان على نفسه وعياله، ثم على والديه، ثم الثالثة على القرابة والإخوان، ثم الرابعة على الجيران الفقراء، ثم الخامسة في سبيل اللّه، وهو أخسّها أجراً».

إن هذه المبادئ التي ذكرناها بقصد التمثيل، لا بقصد الحصر، يسري أكثرها في الأمور المدنية كالبيع والإجارة، وما إليها من الموجبات والعقود، وفي الأمور الجنائية كالقتل والسرقة، وفي الأحوال الشخصية كالزواج والوصايا، وفي جميع المعاهدات والالتزامات. وهي تمثل لنا روح التشريع في أحكام

الإمام الصادق، ومذهبه في الفقه الذي استمدّه من واقع الحياة، من كرامة الإنسان وحريته وحاجاته ومصالحه، لا من الظّن والخيال، ولا من أهواء السلطات، وشهوات المحتكرين. إن الحرية والمساواة وصيانة حقوق الإنسان واحترام ذمته وما إلى ذلك هي المدارك الصحيحة للفقه عند الإمام الصادق. وما الكتاب والسنة إلا تعبير صادق ولسان ناطق لهذه المبادئ. وهذا ما أراده الصادق حين قال للشيعة: لا تقبلوا علينا حيدثاً إلا ما وافق القرآن والسنة، أو كان معه شاهد من أحاديثنا، أي لا تقبلوا حديثاً فيه شائبة الظلم والمحاباة. إن هذه النظرة إلى الفقه نتيجة طبيعية لتلك الثقافة الواسعة، والعلم الغزير. بالكتاب والسنة وعلى مبدأ الإمام الصادق، يجب على من يريد أن يفهم الفقه أن يعي المبادئ الإنسانية قبل كل شيء. وإلا فهو أبعد ما يكون عن فقه الصادق وآيات اللّه. وسنة الرسول صلى الله عليه وآله .

أمضي عَلى دِين النَّبي

معنى الحي

سؤال، قد يبدو للوهلة الأولى غريباً.. وهو ما معنى هذا حي، وذاك ميت ؟.

ووجه الغرابة أن معنى الحي معروف، وكذلك معنى الميت.. ومع التأمل يتضح أن هذا السؤال وجيه.. وإليك البيان :

إن لكل فرد من أفراد الإنسان واقعاً يعيش فيه، وهو عمله بالذات، وقد يقتصر هذا العمل على صاحبه، ولا يتعدى أثره إلى غيره وقد يتجاوزه، وينتفع به الآخرون.. والأول حي بالاسم، ميت بالفعل - وإن أكل وشرب - ما دام لا يحس أحد بوجوده، والثاني حي بآثاره الباقية، يمتد وجوده بوجودها، وإن صار تراباً وعظاماً.

إن محمداً صلى الله عليه وآله الذي اقترن اسمه باسم اللّه في المعابد والمعاهد، وفي الصلوات والدعوات في كل زمان ومكان، إن محمداً باقٍ ببقاء اللّه، وكذلك أهل بيته الذين نزلت بهم آية المودة والتطهير أحياء ما دام لكتاب اللّه، وسنة نبيه أنصار وأتباع.. وكل من ترك أثراً من قول أو فعل ينتفع الناس به مباشرة أو بالواسطة فهو موجود، وكل من خرج من هذه الحياة كما دخلها أول مرة فهو أبتر وعقيم، وعبث زائد.

فمن غرس شجرة، أو بنى بيتاً، أو شق طريقاً، أو اخترع آلة، أو اكتشف نظرية، أو ألّف كتاباً، أو نشر مقالاً، أو ألقى خطاباً ينير العقول والأفكار، أو يثير العواطف، ويتجه بها نحو الخير، كل أولاء، ومن إليهم، باقون ما دامت آثارهم تحيا وتتحرك من بعدهم.

الجزار والخباز

وتسأل : ماذا تقول في الجزار والخباز وبائع الخضار وما أشبه من الذين ينتفع الناس بهم في حياتهم اليومية، دون أن يكون لأعمالهم طبيعة الدوام والاستمرار ؟.

الجواب : ما من أحد يؤدي دوراً في هذه الحياة إلا ويترك أثراً نافعاً، وإن لم يبد ظاهراً للعيان.. إن العامل، أي عاملٍ عضو حي من المجتمع، به وبغيره تحصل البشرية على غاياتها.. وكثيراً ما يقيض اللّه السعادة للآخرين عن طريق واحد من هؤلاء البسطاء، أو ينبه به غافلاً، أو يلهم به مفكراً، أو يؤازر مصلحاً.

وكفى العامل البسيط أثراً أن يكوّن له أسرة صالحة، فيربي أبناءه بالكثير من العرق، والجهد المضني.

العمر القصير

وأقصر الناس عمراً من لا يرى هماً إلا همه، ولا مشكلة إلا مشكلته، ولا خيراً إلا خيره. وقد يخلد هذا، ويدوم له الذكر بما يتركه من اسواء وأدواء.. ولكنه يخلد في العذاب، في اللعن والسباب، تماماً كما خلد يزيد ونيرون.

العمر الطويل

أما أطول الناس أعماراً، وأكثرهم تأكيداً لوجودهم في كل زمان ومكان فكثيرون : منهم العلماء الذين اكتشفوا قوى الطبيعة، وسلطوا عليها إنسان القرن العشرين، لينشئ منها حياة جديدة بعد أن تسلطت عليه واستعبدت أسلافه قروناً وأحقاباً.

ومنهم الذين يمنحون الناس التفاؤل، ويشجعونهم على المضي في العمل من أجل حياة أرغد وأسعد. وفي طليعتهم الأنبياء والأوصياء الذين أرشدوا الإنسانية، وأضاءوا لها سبيل الرقي والهداية.

ومنهم الذين يملكون الاستعداد للاستشهاد والتضحية بكل عزيز من أجل إحياء الحق، وإماتة الباطل.

ولا أتجاوز الحقيقة إذا قلت : إن إيمان المؤمن، ودين المتدين يقاس بالاستعداد للتنازل عن حياته من أجل الدين ومن فقد هذا الاستعداد فما هو من الدين وأهله في شيء، وإن زكّى جبنه وحرصه على الحياة بألف علة وعلة.

الحسين

ولا تعرف الإنسانية واحداً في تاريخها كله تمثلت فيه روح التضحية والفداء من أجل ما يعتقد ويدين كما تمثلت في الحسين (ع) الذي نطق الواقع على لسانه، وهو في طريقه إلى الاستشهاد : «أمضي على دين النبي».

لقد رحب الحسين بالاستشهاد، وأقدم عليه دون تردد لا حباً بالموت، وتبرماً بالحياة، ولا فراراً من سأم، ولا اضطراباً في النفس، ولا طموحاً إلى بطولة وسلطان، ولا خوفاً من الاتصاف بالجبن.. لا دافع ولا هدف على الإطلاق إلا الامتثال لمشيئة اللّه، والانقياد لأمر رسول اللّه الذي لا مفر من طاعته، ولا محيد.

قال له أخوه محمد بن الحنفية : ما حداك على الخروج عاجلاً ؟

قال الحسين : أتاني رسول اللّه، وقال : يا حسين اخرج، شاء اللّه أن يراك قتيلاً.

قال محمد : إنّا للّه، وإنّا إليه راجعون.. فما معنى حملك هذه النسوة معك ؟ .

قال الحسين : إن اللّه شاء أن يراهن سبايا.

وقال له ابن عباس : لا تخرج إلى العراق.

قال الحسين : إن اللّه أمرني بأمرٍ، وأنا ماضٍ فيه.

قال ابن عباس : وا حسيناه.. أطلق ابن عباس صرخته الدامية هذه، وهو لا يعلم أنها قد تجاوزت حدود الزمان والمكان، وأنها ستحدث انقلاباً في الأفكار والأوضاع، وتُتخذ شعاراً للثورات والانتفاضات، ونشيداً للحرية والاستقلال، وأنها ستُجري أبحراً من الدماء والدموع، وتملأ الأجواء لهيباً من الآهات والزفرات، وأن المواكب والمطابع والمنابر سترددها مدى الأجيال، وإلى آخر يوم.

وبعد، فإن الحسين (ع) يحب الحياة، ويكره الموت.. ما في ذلك ريب.. وإلا لم يكن عظيماً، لأن من تساوى في مقاييسه الموت والحياة لا يُعدّ باذلاً ومضحياً إذا أقدم على الموت، وأي عاقل يتنازل عن حياته، ويرضى بجز الرأس، ورضّ الصدر والظهر، وذبح الأطفال، وسبي النساء إذا لم تكن العاقبة خيراً وأبقى.. ولا شيء أفضل عاقبة من طاعة اللّه، والتضحية في سبيله، لهذا وحده أقدم الحسين على ما أقدم، ولم يتردد، ويبرر المعصية والاحجام بمنطق الشيطان، وتحريفه وتزييفه.

منطق إبليس

قيل : إن إبليس التقى برسول اللّه صلى الله عليه وآله ، فقال له : يا محمد، إن اللّه قد وصفك بنبي الهداية، ووصفني بإمام الغواية، مع العلم بأن الأمر في يده، لأنه على كل شيء قدير، فلماذا لا يُلجئ عباده إلى الهداية ما دام قد أرادها منهم ؟.

لقد تجاهل إبليس اللعين أن اللّه يخلق الكون بما فيه على قاعدة «كن فيكون». فيستند الفعل إلى قدرته مباشرة، وإلى كلمته وحده لا شريك له، أما أفعال العباد، ومعاملة بعضهم مع بعض فإنه سبحانه لا يتدخل بها إلا على أساس الإرشاد، والأمر والنهي تاركاً للإنسان حريته الكاملة، وقدرته المطلقة، ليتحمل وحده أعباء الجهاد والعمل، ومسؤولية الإهمال والكسل، ويتميز بذلك الخبيث من الطيب، وتظهر للعقول قيمتها، وللنفوس غرائزها.. ولو أن اللّه ألجأ عباده إلى الفعل إلجاء لانتقضت حكمة الخالق العليم، وتعطل العقل السليم، وبطل الشرع والتكليف، وكانت أفعال الإنسان تماماً كالجريان في الماء، والثمرة على الشجرة.. وبكلمة إن اللّه سبحانه بالنسبة إلى الكون خالق ومبدع، وبالنسبة إلى عمل الإنسان هادٍ ومرشد، لا مبدل لكلماته، وهو الحكيم العليم.

وبهذا نجد تفسير قول الحسين (ع) : إن اللّه شاء أن يراني قتيلاً، وشاء أن يراهن سبايا.. أي أمرني اللّه أن أجاهد ضد الظلم والفساد، ومعي النساء والأطفال، فامتثلت، وهو الحكيم العليم بما يترتب على أمره. وعليه تكون الأوضاع الاجتماعية هي المسؤولة عن الشر، وليست الإرادة الإلهية، والمصلحون الطيبون هم الذين يضحون ويستميتون من أجل تغيير الأوضاع وتحويلها إلى الخير والصلاح كما فعل الحسين وأيضاً بهذا يتبين الجواب عن قول من قال : لماذا سلط اللّه يزيد وجيشه على الحسين وأهله.. إن اللّه سبحانه لا يسلط، ولن يسلط الأشرار على الأخيار.. حاشا وكلا.. بل نهى الأشرار عن الفساد والعدوان، وأمر الأخيار بنضالهم وجهادهم، إن أصروا وتمردوا منذراً العاصي بالعقاب، ومبشراً الطائع بالثواب، دون أن يتدخل بقدرته من أجل هذا أو ذاك : «ولو شاء اللّه لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض» (4 محمد).

على دين النبي

بأمر اللّه تعالى، ودين النبي صلى الله عليه وآله تُفسر أعمال الحسين (ع)، وكل حركة من حركاته، وخطوة من خطواته، فدين النبي هو الهوية والماهية الحقيقية لوقعة كربلاء، وفيه يكمن سر خلودها وبقائها ببقاء اسم محمد، ورسالة محمد.

إن مضي الحسين إلى القتل على دين النبي يدلنا بصراحة لا تقبل التأويل على أن هذا الدين العظيم لا يعترف بأحد كائناً من كان إذا أحاط به الظلم والفساد، ولم يحرك ساكناً حرصاً على نفسه وجاهه.. أبداً إما ان الحسين لم يمض على دين النبي، لأنه جازف وتهور، وإما ان الساكت عن الحق يبرأ منه النبي ودين النبي، ولا واسطة.

ونقول : إن هذا معناه الجهاد، والجهاد لا يجب إلا مع المعصوم أو نائبه.

الجواب : إن الجهاد على نوعين : جهاد الغزو بقصد الدعوة إلى الإسلام وانتشاره.. وهذا هو الذي يجب كفاية بإذن المعصوم أو نائبه، ويختص بالذكر، دون الأنثى، وبالصحيح، دون المريض.

النوع الثاني : جهاد الدفاع عن الدين والحق، وهذا يجب عيناً لا كفاية، ومطلقاً غير مقيد بإذن المعصوم ولا نائبه، تماماً كوجوب الدفاع عن النفس، ويشمل الذكر والأنثى، والمريض والأعرج والأعمى، كلاً حسب استطاعته ومقدرته. (انظر الجواهر وغيرها من كتب الفقه).

المدعي الزائف

وبالتالي، فإن الصراع بين الخير والشر طبيعي لا مفر منه، فإذا طغى الشر في مجتمع، ولا مكترث فإن معنى هذا أن المجتمع لا عدو فيه للشر، ولا ناصر يتحسس الخير، ويهتم بالدين، لأن العدو ينبغي أن يُحارب مهما تكن النتائج..

أما من يكتفي بقول : إنّا للّه، وإنّا إليه راجعون تاركاً الشر يسير على حاله بغية الحفاظ على مصالحه، أما هذا فإنه يؤكد، ولا ريب، ما يلصق به من تهم، ويذاع عنه من محاباة.

ونقول : إن للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر شروطاً، وأولها الأمل بالقضاء على المنكر.

ونقول : ليست المسألة مسألة شرط ومشروط ولا مكلف وتكليف شرعي، وإنما المسألة في واقعها مسألة عداء للشر والباطل، وتحسس بالدين والخير، وعدم التحسس به، فمتى وجد هذا العداء، وهذا الإحساس طغت غريزة المغامرة على صاحبها غير ملتفت إلى الشروط والمشرط، ولا يستسلم إطلاقاً، بل يموت من أجل الحق واقفاً على قدميه بكبرياء وعناد وتحد.. وكفى بهذا التحدي احتجاجاً وخروجاً على الباطل وأهله.

وغريبة الغرائب أن يدعي الواحد منا أنه على دين النبي، ثم يغضب لنفسه وقريبه وصديقه، ويصرخ باسم اللّه والدين صرخات أيوب المبتلى إذا مُست أشياؤه، ولو من بعيد، ولا يغضب إذا انتهكت حرمات اللّه، وشريعة رسول اللّه.. ولو كان بينه وبين اللّه علاقة وصلة لأثمر شجرها، وظهر أثرها.. كلا، إن الوهم هو الذي صوَّر له هذه الصلة، وأضفى عليها صفة الوجود.. أما مجرد الركوع والسجود فما هو من دين النبي في شيء إذا لم ينظر المصلي إلى الباطل بعيني ثائر مغامر.

وكم من متعبد تكشف عنه القناع، وتبين، حين جد الجد، ان قطرة من دمه، وذرة من جاهه ومصلحته خير من ألف نبي ونبي.. إن دين النبي عمل وجهاد وكفاح، إنه دماء وعيال وأرواح تبذل ثمناً للحق، تماماً كما بذل الحسين.. أما من يدعي دين النبي غير مستعد لأن يترجم دعواه. ويثبتها بالأفعال، والتضحية بمصالحه الشخصية من أجل هذا الدين فهو دعي زائف.

وبعد، فقد كان للإسلام دولة وسلطان حين كان يزيد وشهيد يمضي على دين النبي.. أما اليوم فذل وهوان، حيث ألف يزيد ويزيد، ولا شهيد واحد.. بل ألوف العبيد تموت وتحيا على حب الدينار والدولار.

 

لَولا التَّفسير الكاشِف

أحمد اللّه سبحانه على ما وفقني إليه من عرض فقه الإمام جعفر الصادق (ع) فتوى ودليلاً في ستة أجزاء.. وشكراً للّه جل ثناؤه على هذا التوفيق. لقد فرغت إلى تفسير كتابه العزيز.

ومن خصائص القرآن أن يجذب إليه كل قارئ وسامع، دون أن يحس ويشعر، حيث يجد فيه نور العقول، وشفاء القلوب، وراحة الصدور.. وما أن استمع أعداء محمد صلى الله عليه وآله لبعض آياته، حتى أدركوا ما للقرآن من سلطان على القلوب والعقول، وأيقنوا أنهم مغلوبون لا محالة، ما دام القرآن شاهداً له ودليلاً.. فلجأوا إلى التهاتر، وقال بعضهم لبعض : «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون».. ولكن الغلبة في النهاية كانت للقرآن وشريعته، لا لأنه الحق فحسب، بل ويحمل سر الغلبة وسلاحها.

وإذا جذب القرآن إليه كل قارئ وسامع فكيف بمن تصدى لتفسيره، والكشف عما تلقاه محمد صلى الله عليه وآله من ربه، ثم حاول أن يربط آيات اللّه وكلماته بواقع العصر الحديث ؟.. لقد جذبني «التفسير الكاشف» إلى معاني القرآن ومقاصده وأهدافه، وصرفني عن كل شيء، وبالأصح أفقدني كل شيء، حتى ذاكرتي، ولم يدع لي إلا البصيرة التي أهتدي بها إليه وحده.. ولولاه لوضعت كتاباً جديداً حين رغب إليّ التاجر الأمين أن يطبع كتاباً من مؤلفاتي - كما أشرت في المقدمة - ولو اخترت لتفسيري الكاشف أن يكون تلخيصاً أو تبسيطاً لما جاء في التفاسير لأرحت نفسي من عناء السهر والتأملات، ولانتهيت منه، أو من أكثره.. ولا شيء أهون عليّ من التخليص والتوضيح.. وأي شيء أيسر من الرواية بالمعنى ؟.. ولكن حاولت جهدي أن يشعر القارئ بأن كلمات اللّه سبحانه تتوجه إليه من خلال عقله وقلبه، وأنها تصميم وتخطيط لأن يحيا هو وغيره حياة غنية وقوية لا يعوزها شيء، ولا يهددها شيء، وأن الحياة الكريمة هي حق إلهي لكل إنسان، وأن من اعتدى عليها فقد اعتدى على حق اللّه بالذات، وأن أي تخطيط يضعه الإنسان لمجابهة أية مشكلة من مشاكل هذه الحياة فلا يؤدي إلى الحل الصحيح إلا إذا اعتمد على كتاب اللّه، أو التقى معه، لأن الإنسان، أي إنسان يخطئ ويصيب أياً تكون منزلته، أما الوحي فمنزه عن الخطأ.

حاولت جهدي أن يحس القارئ بأن الإسلام نزل من السماء لأجله وأجل الناس جميعاً، لا من أجل الأنبياء، ولا العلماء وأن هؤلاء جنود متطوعون للذب عن الدين، لا للارتزاق به.. وأيضاً حرصت كل الحرص أن يقتنع القارئ بهذا تلقائياً، وهو ماضٍ في قراءته.. وليس هذا بالشيء اليسير.

فأولاً وقبل أن أخط بالقلم أرجع إلى التفاسير واحداً بعد واحد.. وكانت عند شروعي 18 تفسيراً، ثم إزدادت إلى 21، وربما بلغت مع الأيام 30، أو أكثر. وبعدها أفرغ إلى تأملاتي في كل تساؤل يمكن أن يمر بذهن شاب من شبابنا حول معنى الآية ومدلولها، ثم أتأمل في الإجابة بما يتناسب مع عقله وثقافته.. وأيضاً أتأمل طويلاً في تطبيق الآية على سلوكنا العملي ليكون القارئ على يقين بأن الإسلام لا يعنى بالمعاني المجردة، والقيم في ذاتها.. كلا، وإنما قيم الإسلام تحس وتلمس كأية ظاهرة من ظواهر الحياة، وأية ثمرة من ثمرات الأعمال.. وأحسب أني بلغت بعض ما أردت.. وعلى سبيل المثال أذكر تفسيري للآية التالية :

«ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها». وقلت في تفسيرها :

من عجيب الصدف أو أحسنها أن يتفق - من غير قصد - وصولي بتفسير القرآن الكريم إلى آيات الهجرة - مع أول السنة الهجرية لعام 1388، وإسرائيل تحتل أرضنا المقدسة، وأهلها يهاجرون منها فراراً من التنكيل والتقتيل الجماعي الذي مارسته إسرائيل، وما زالت تمارسه.

وقد أوحت إليّ هذه الصدفة بالمقارنة بين اعتداء المشركين في مكة على المسلمين، وإخراجهم من ديارهم وبين الاعتداء الإسرائيلي - وبالأصح - الاعتداء الاستعماري على الأرض المقدسة، وإخراج أهلها من ديارهم. ثم انتقلت من هذه المقارنة إلى استخراج العبرة والعظة من جهاد النبي صلى الله عليه وآله والمسلمين في هجرتهم، وتدبير الخطط وإحكامها الذي بلغ بالمسلمين إلى أوج النصر على عدوهم، وتحطيم طغيانه وعدوانه، وأوقف صناديد قريش الذين أخرجوا النبي من مكة، أوقفهم بين يديه أذلاء مستسلمين، يستمعون إليه وهو يقول لهم : «ما تظنون أني فاعل بكم ؟».

وقد يظن البعض أن الهدف الاول من هجرة النبي والمسلمين هو مجرد الهروب بدينهم من المشركين الذين تعرضوا للمسلمين بالأذى، ومنعوهم من ممارسة الشعائر والأعمال الدينية، تماماً كما يلتجئ العابد الزاهد إلى المسجد ليقيم فيه صلاته بعيداً عن الضوضاء والغوغاء... كلا، لقد كانت هجرة المسلمين أبعد وأعمق من ذلك.. والدليل ما حققته من نتائج وأهداف لقد كانت هجرة الرسول - بالإضافة إلى الهروب بالدين - خطة مرسومة ومدبرة تمهيداً للمعركة الفاصلة، تماماً كانسحاب الجيش من ميدان القتال إلى موقع آخر من مواقعه للهجوم المعاكس والانقضاض على العدو بضربة قاضية لا تقوم له بعدها قائمة.

وبعد أن وصل النبي إلى المدينة آخى بين أصحابه وجمع القلوب المتخاصمة، وأذاب ما فيها من عصبية وأحقاد، وحين تم له ذلك بدأ يرغب المسلمين في الجهاد، ويحثهم على الدفاع عن كيانهم وعقيدتهم، ويضمن الجنة لمن يقتل في سبيل اللّه، والعزة والكرامة دنيا وآخرة لمن ينجو من القتل. ولما أخذت هذه التعاليم سبيلها إلى نفوسهم شرع بتجنيدهم وتأليف السرايا، يبعثها هنا وهناك... وقادها بنفسه أكثر من مرة، وحققت الاستقرار والأمن للمسلمين، كما اقلقت راحة قريش وسلامتها.. ثم تحولت السرايا إلى معارك كبرى، - والمسلمون يبذلون أرواحهم وأموالهم، حتى جاء نصر اللّه والفتح «وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة اللّه هي العليا».

وأحسب أن هذه الإشارة كافية لاستخراج العبرة التي يجب أن ننتفع بها في نكبتنا بإسرائيل ومن ساند إسرائيل..

هاجر النبي صلى الله عليه وآله من مكة المكرمة لاعتداء المشركين عليه وعلى أصحابه، وهاجر الفلسطينيون من الأرض المقدسة لاعتداء الصهيونية والاستعمار عليهم وعلى نسائهم وأطفالهم. وكانت هجرة المسلمين آنذاك ابتعاداً عن الوقوع في التهلكة، وانسحاباً من ميدان المعركة لتجمع القوى، والاستعداد للضربة القاضية على العدو... ويجب أن يكون خروج الفلسطينيين من ديارهم بهذا القصد والروح، ولهذه الغاية بالذات، لا بقصد إخلاء البيت للصوص يسرحون فيه ويمرحون..

وبدأ النبي هجرته بالتآخي بين أصحابه.. وعلى قادة العرب والمسلمين أن يبدأوا بالتآخي والتصافي بين القلوب، وأن يوحدوا كلمتهم لمجابهة العدو، تماماً كما فعل النبي قبل أن يجابه المشركين ومن حاد عن هذه السبيل فقد التقى مع إسرائيل، وحقق أمنيتها من حيث يريد أو لا يريد.

وارسل النبي السرايا لتقلق أمن المشركين، وأمد المسلمون هذه السرايا بكل ما يحتاجون ويجب على العرب والمسلمين أن يشجعوا الفدائيين من الفلسطينيين وغيرهم، ويمدوهم بالمال والعتاد ويتعاونوا معهم إلى أقصى الحدود، ليقلقوا راحة إسرائيل وأمنها... وعبأ النبي جميع المسلمين للمعركة الفاصلة الكبرى، واستأصل الشرك من جذوره بعد أن رسخ قروناً في كل جزء من أرض الجزيرة العربية. وهذا ما يجب أن يفعله قادة العرب والمسلمون.

وإذا لم نعتبر بهذا الدرس من تراثنا وتاريخنا، ونكون جميعاً جنوداً من جنود اللّه والوطن فلسنا جديرين باسم العرب والعروبة، ولا باسم الإسلام والمسلمين... بل ولا باسم الإنسان والإنسانية بعد أن أصبح الجهاد في هذا العصر من أوجب الواجبات وأهمها.