[اشترك]
ورد في العديد من الروايات ما يظهرُ منها الترغيب في اتِّخاذ بعض الطيور -كالحمام- في المنزل لغرض الأنس بها، وكذلك ليدفع بها الهوام وهي الدواب كالديدان الضارَّة والحشرات المؤذية، ويظهرُ من بعض الروايات أنَّ وجودها في المنزل نافعٌ لدفع بعض أنواع البلاء.
فمِن الروايات الواردة في ذلك: صحيحة حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: إِنَّ أَصْلَ حَمَامِ الْحَرَمِ بَقِيَّةُ حَمَامٍ كَانَ لإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (ع) اتَّخَذَهَا كَانَ يَأْنَسُ بِهَا فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): يُسْتَحَبُّ أَنْ تَتَّخِذَ طَيْراً مَقْصُوصاً تَأْنَسُ بِه مَخَافَةَ الْهَوَامِّ"(1).
أقول: الظاهر أنَّ المراد من الاستحباب هو الإرشاد إلى حُسن اتِّخاذها ومحبوبيته، وذلك بقرينة بيان أنَّ الترغيب في اتِّخاذ الطير نشأ عن كونه مؤنساً وصالحاً لدفع الهوام لأنَّه يأكلها أو يقتلها. ويظهر من الرواية أنَّ الترغيب لا يختصُّ بنوعٍ خاصٍّ من الطيور وإنْ كان القدر المتيقن من الرواية هي الحمام.
ومنه: صحيحة مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: "الْحَمَامُ مِنْ طُيُورِ الأَنْبِيَاءِ(ع)"(2).
أقول: والظاهر أنَّ المراد من الرواية هو أنَّ الأنبياء (ع) كانوا يتَّخذون الحمام في بيوتهم، ويُؤيد ذلك ما ورد في رواية أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): "الْحَمَامُ طَيْرٌ مِنْ طُيُورِ الأَنْبِيَاءِ (ع) الَّتِي كَانُوا يُمْسِكُونَ فِي بُيُوتِهِمْ ولَيْسَ مِنْ بَيْتٍ فِيه حَمَامٌ إِلَّا لَمْ تُصِبْ أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ آفَةٌ مِنَ الْجِنِّ .. قَالَ فَرَأَيْتُ فِي بُيُوتِ أَبِي عَبْدِ اللَّه ع حَمَاماً لِابْنِه إِسْمَاعِيلَ (3).
أقول: ويظهر من الرواية أنَّ الحمام ليست هي النوع الوحيد من الطيور التي كانت تتَّخذها الأنبياء (ع) في بيوتهم.
ولعلَّ المراد من الآفة التي تكون من الجنِّ هي مثل ما ينشأ عن وساوس الشياطين وهواجسهم فقد ينشأ عنها الاستيحاش أو الخوف والفزع والذي قد يُفضي لدى الضعفاء إلى الجنون أو الابتلاء ببعض الأمراض أو العاهات، ولعلَّ ممَّا يُؤيد ذلك ما ورد في رواية يَحْيَى الأَزْرَقِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: إِنَّ حَفِيفَ أَجْنِحَةِ الْحَمَامِ لَتَطْرُدُ الشَّيَاطِينَ"(4). وأورد ذات الرواية الشيخ الصدوق في الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنَّ حفيف أجنحة الحمام ليطرد الشياطين"(5).
ومنه: رواية عَبْدِ اللَّه بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "شَكَا رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه (ص) الْوَحْشَةَ فَأَمَرَه أَنْ يَتَّخِذَ فِي بَيْتِه زَوْجَ حَمَامٍ"(6).
ومنه: رواية زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ: ذُكِرَتِ الْحَمَامُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَقَالَ: اتَّخِذُوهَا فِي مَنَازِلِكُمْ فَإِنَّهَا مَحْبُوبَةٌ لَحِقَتْهَا دَعْوَةُ نُوحٍ (ع) وهِيَ آنَسُ شَيْءٍ فِي الْبُيُوتِ"(7).
ومنه: رواية سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ رَفَعَه قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَدْفَعُ بِالْحَمَامِ عَنْ هَدَّةِ الدَّارِ"(8).
أقول: لعلَّ المراد من هدَّة الدار هو الكناية عن النازلة المهلكة، لأنَّ الهدَّة لغةً تعني الهدم الشديد، هذا وقد ذكر صاحب البحار (رحمه الله) أنَّ الرواية وردت في بعض النُسَخ بهذا اللفظ: "إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَدْفَعُ بِالْحَمَامِ عَنْ هَذه الدَّارِ" وأفاد أنَّ ذلك هو الأظهر(9). وكذلك هي في الوسائل للحرِّ العاملي(10).
ومنه: رواية محمد بن كرامة، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) أنَّه رأى في منزله زوجَ حمام، أمَّا الذكر فإنَّه كان أخضر به شيءٌ من السمر، وأمَّا الاثني فسوداء، ورأيتُه يفتُّ لهما الخبز وهو على الخِوان، ويقول: إنَّهما ليتحرَّكان من الليل فيؤنساني، وما مِن انتفاضةٍ ينتفضانها من الليل إلا دفع اللهُ بها مَن دخل البيت من الأرواح"(11).
أقول: الظاهر أنَّ المراد من الأرواح هي الشياطين، ولا غرابة في أنْ يدفع اللهُ تعالى بأضعف خلقِه شرورَ الشياطين، وأمَّا كيف يدفعُ الله تعالى بها الشياطين فلا علم لنا بذلك، فالكون مليء بالأسرار التي لا يدَّعي الإحاطةَ بها إلا أحمق معتدٌّ بنفسه، فإنَّ لله تعالى في خلقِه شؤون.
ومنه: رواية عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَرَأَيْتُ عَلَى فِرَاشِه ثَلَاثَ حَمَامَاتٍ خُضْرٍ قَدْ ذَرَقْنَ عَلَى الْفِرَاشِ فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَؤُلَاءِ الْحَمَامُ تَقْذَرُ الْفِرَاشَ فَقَالَ: لَا، إِنَّه يُسْتَحَبُّ أَنْ تُسْكَنَ فِي الْبَيْتِ"(12).
أقول: معنى نفي تقذيرها للفراش هو أنَّ ذرقها أي فضلاتها ليست نجسة، والظاهر أنَّ المراد من الاستحباب هو الرجحان والإرشاد إلى محبوبيّة اتِّخاذها في البيت، فليس المراد -ظاهراً- من الاستحباب هو الاستحباب المصطلح.
ومنه: رواية الحسين بن علوان عن الإمام جعفر (ع) عن أبيه (ع) قال: "كانوا يُحبُّون أنْ يكون في البيت الشيء الداجن، مثل الحمام أو الدجاج أو العَناق .."(13).
أقول: الداجن مفرد دواجن وهي الحيوانات الأليفة التي تألفُ البيوت وتأنس بها وبأهلها، من دجن بالمكان وأدجن إذا أقام به وألِفَه، ويُقال المداجنة حسن المخالطة (14) فالدواجن هي مطلق الحيوانات الأليفة كالشياه والحمام وشبهها والدجاج.
والعَناق على وزن سَحاب بفتح العين هي الأُنثى من أَولاد الماعز والغنم من حين الولادة إِلى أن تبلغ سنة، وجمعها عُنوق وأعنُق (15)، والرواية تدلُّ على الترغيب في اتِّخاذ مطلق الداجن من الطيور والحيوان، ولا يبعد أنَّ المراد من الداجن في المقام خاصٌّ بمأكول اللحم.
ثم إنَّ الترغيب في اتِّخاذ الحمام وكذلك غيرها من الحيوانات الداجنة لا يعني الترغيب في اللَّعب واللهو بها فإنَّ ذلك مكروه أو لا أقلَّ من أنَّه مرجوح، وقد نصَّت على ذلك بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) فالترغيبُ إنَّما هو في اتِّخاذها في المنزل للأنس بها أو ليأنس بها الأطفال، وكذلك للغايات الأخرى التي أشارت إليها الروايات.
الهوامش: [1]- الكافي -الكليني- ج6 / ص546. [2]- الكافي -الكليني- ج6 / ص546. [3]- الكافي -الكليني- ج6 / ص547. [4]- الكافي -الكليني- ج6 / ص547 [5]- من لا يحضره الفقيه ج3 / ص350. [6]- الكافي -الكليني- ج6 / ص546. [7]- الكافي -الكليني- ج6 / ص547. [8]- الكافي -الكليني- ج6 / ص547. [9]- بحار الأنوار- المجلسي- ج62 / ص19. [10]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج11 / ص517. [11]- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج11 / ص520. [12]- الكافي -الكليني- ج6 / ص547 [13]- قرب الاسناد -الحميري القمي- ص93، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج11 / ص524. [14]- لاحظ الصحاح -الجوهري- ج5 / ص2111، أساس البلاغة -الزمخشري- ص264، النهاية في غريب الحديث -ابن الأثير- ج2 / ص102. [15]- لاحظ لسان العرب -ابن منظور- ج10 / ص275، تاج العروس -الزبيدي- ج13 / ص361.