اذا كانت الحاجة الى الدين تتمثل برفع الاختلاف بين البشر، فإنها سوف ترتفع بقانون يتفقون عليه، وعند ذلك لايوجد مبرر لبعث الأنبياء والرسل والوعد والوعيد والجنة والنار!!
ولكن، القوانين البشرية لو سلمنا بانها تضمن العدل الاجتماعي، فإنها وضعت لمراعاة مصالحهم في هذه النشأة دون غيرها، فلم يراع فيها كون هذا الإنسان موجوداً مخلوقاً لله تعالى متعلق الوجود بصانعه، بدأ من عنده وسيعود إليه، إذ للإنسان حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الحالية، وهي حياة طويلة غير منقطعة الأمد، ومرتبة على مسيرته في هذه الحياة الدنيوية، وكيفية سلوكه فيها، واكتسابه الأحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبداً لله سبحانه، بادئاً منه عائداً إليه. فإذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، وستر حقيقة الأمر؛ فقد أهلك نفسه وأباد حقيقته.
طريقان لسن القوانين
ثم ان المتتبع لتاريخ الحضارات يجد انها سلكت طريقين في سنها للقوانين المصلحة للاجتماع وحمل الناس على طاعتها، وكلاهما لم يراع حقيقة الإنسان المتقدمة ونشأته الأخرى:
الأول: تقنين انظمة تنظم حياة أفراد المجتمع فيما بينهم مع الغاء المعارف الدينية من التوحيد والأخلاق الفاضلة، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولا مرعي، وجعل سلوك الأفراد وأخلاقهم تابعة للاجتماع وتحوله، فما وافق حال وتوجهات المجتمع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوماً العفة، ويوماً الخلاعة، ويوماً الصدق، ويوماً الكذب، ويوماً الأمانة، ويوماً الخيانة، وهكذا مما بنته الحضارة الغربية على انقاض النسبية في الحقيقة والأخلاق.
ثم أن هذه الأنظمة أجبرت مجتمعاتها على طاعة القوانين الموضوعة من خلال القهر والإجبار.
والثاني: سن نظام اجتماعي ينشد العدل والمساواة، مع إلغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية ايضاً، ودعوة الناس الى طاعة القوانين من خلال تربية المجتمع على ما يناسبها من الأخلاق واحترامها، كما فعلت بعض الشعوب الشرقية من خلال ما يعرف بالكونفوشيوسية.
فهذان الطريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الأمة المجتمعة من الإنسان: أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلطة من الإنسان فقط، وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد بسبب عدم مراعاة نشأة الإنسان الآخرة، مبنيان على أساس الجهل بملاك التفاوت بين الأفراد في توزيع الحقوق والواجبات، وحال الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السفر، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبثوا حتى اخذوا في الاختلاف: من قتل، وضرب، وهتك عرض، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم.
فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الزاد والأمتعة، والتمتع على حسب الوزن الاجتماعي لكل فرد من افراد القافلة، فليس إلا هذا المنزل والمتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة.
وقال آخر كمقالة الأول في ضرورة الاشتراك في الانتفاع بهذه الأمتعة الموجودة، وتناسي انهم على سفر وعليهم اتخاذ ما يناسبه من زاد وراحلة، الا انه اختلف معه في طريق حمل الناس على الالتزام بالقانون، وملاك توزيع الموارد فلابد ان توزع على أساس الشخصيات الموجودة التي جاءوا بها من بلدهم الذي خرجوا منه، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية، ويأخذ بالرحمة لرفقائه، والعطف والشهامة والفضيلة.
وقد أخطأ القائلان جميعاً، وسهيا عن أن القافلة جميعاً على جناح سفر، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئاً من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال والغي والهلاك.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (1)، فإنهم إنما كانوا يصرون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لأن القول بالمعاد والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحياة بنحو العبودية، وطاعة قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية: من العبادات والمعاملات والسياسات.
المعاد والحياة
وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين، واتباع أحكامه في الحياة، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الأحوال والأعمال، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها.
والقائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتعوا من هذه الأمتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة، وخذوا من ذلك زاداً لما هو أمامكم من الطريق، وما أريد منكم في وطنكم، وما تريدونه لمقصدكم.
ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعاً ذلك على أساس التوحيد، والاعتقاد والأخلاق والأفعال، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، وأنهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى: {...إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}(2)، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ...} الآية، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير والإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم.
والخلاصة ان الاختلاف فطري بين افراد البشر وهذا هو السبب في انزال الكتب والتكليف بالشرائع.
--------
1- الجاثية: 24.
2- يوسف: 40.