الإنسان قبل وبعد الدنيا: من أين جاء وإلى أين يذهب؟!!

قيل: "رحم اللّه امرءاً ... عرف من أين؟ وفي أين؟ والى أين؟ " ([1]) في هذا الإطار يبحث المقال عن الإنسان وتقلباته وعوالمه، في زمن الفلسفات التي تبحث عما يجمع هذا الكائن بالحيوانات ينشد المقال ما يميزه ويفرقه بوعيه بأطواره وتفكيره بما ينتظره، وما أعظم ذلك إذا اعتمد كلام خالق الإنسان وعوالمه أداةً للمعرفة!

أـ الإنسان بين رؤيتين

الإنسان كما الكون في الرؤية المادية، مقطوع الصلة بما قبله وما بعده لا يعلم من أين وفي أين وإلى أين! وكل ما يعلم عن الكون أنّه موجود وحسب لا يعلم أصله وما قبله وإلى أين سينتهي و"لا يوجد ولم يوجد ولن يوجد أي شيء سوى الكون "([2]) وبخصوص الإنسان فكما يقال: لا شيء سوى ارحام تدفع وارض تبلع ومن ثمّ استبدل الفكر المادي سؤال الانسان المحوري: لماذا يعيش؟ بسؤال: كيف يعيش؟ وهكذا قتلت كل آماله وتطلعاته وصار ابن الطبيعة لا غير فمنها بدأ وإليها ينتهي! «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ»([3])

يشير ذيل الآية إلى أنّ نفيهم لوجود عالم آخر لا يقوم على دليل ومن ثمّ فمثلهم مثل الجنين في الرحم الذي ينفي وجود عالم بعد عالمه الخاص به!

دعك من هذا الاختزال المادي للكائن المفكر لنذهب صوب الدين والفلسفة الإلهية، حيث الإنسان المكرم والمفضّل: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»([4]) المخلوق في أحسن تقويم: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» ([5]) لنسبر أطوار الإنسان «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا»([6]) وعوالمه حسب السيناريو الإلهي المستفاد من مجموع الآيات الكتاب الكريم.

في هذه المقالة نروم بإيجاز بيان عالم الإنسان قبل وجوده في الدنيا الآن وهنا على هذه الأرض وأيضاً وما ينتظرنا بعد حياتنا الدنيا كل ذلك حسب المنظور القرآني، طبعاً لا يعني ذلك أنْ ليس للقرآن كلمة عن الإنسان وتكوينه في الدنيا فعن مكونّه المادي أفاد أنّ مادته الأولية التراب بعد ذلك يتحول إلى نطفة ويمكث في الأصلاب حيناً إلى أن يذهب بعدها للرحم ويبقى في الرحم تسعة أشهر أو أقل ومنه يخرج وتبدأ مسيرته: طفلاً، فشاباً، فشيخاً: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»([7]) . وطبعاً غني عن القول إنّ هذا كله لا يمثل تمام حقيقة الإنسان قرآنياً: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ».

ب ـ الإنسان قبل الدنيا

يُصطلح على وجود الإنسان قبل عالمنا بـ (عالم الذر) أو (عالم الإشهاد وعهد: ألستُ) أخذاً من الآية المباركة: «4وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» [الأعراف: 172] .

[ذات صلة]

والمقصود من عالم الذر هو أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأبدان وعرض عليها الإيمان به فآمنت وأقرت فبعد أن خلق الله تعالى آدم (عليه السلام) أخرج ذريته كلهم من الطينة نفسها التي خلق منها أبوهم وعلى شكل ذر عاقل قابل للتكليف والأمر الإلهي، وعندها وجه خالقهم السؤال: ألستُ بربكم؟ فقال الجميع لكن على تفاوت بينهم في الإستجابة: بلى شهدنا، وبعدها أعيدوا إلى ما أخذوا منه.

نعم مرّ الإنسان بهذا العالم دون أن يتذكر عن هذا الحدث سوى ما بقي من فطرة المعرفة والإيمان برب العالمين "ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف" ([8]) وهذا ما بقي في النفوس عبر التأريخ، والواقع كما قال المؤرِّخ والكاتب الإغريقي بلوتارك: "لقد وجدتُ في التاريخ مدنًا بلا حصون، ومدنًا بلا قصور، ومدنًا بلا مدارسَ، ولكن لم توجد أبدًا مدن بلا معابد" ([9]) والهدف مما وقع في الذر: يستفاد من ظاهر آخر آية الذر أنّ الهدف مما وقع من عهد في هذا العالم هو إقامة الحجة وقطع العذر أمام بني البشر: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، تتمم الآية التي بعدها ذلك: «أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ» [الأعراف: 173]

و مضافاً لصريح الآية من الإقرار بالله رباً أشارت بعض الروايات أن من جملة المشهود به هو الإقرار بالنبوة لنبينا والولاية لأمير المؤمنين والأئمة، وأن النبي سبق الأنبياء وفُضّل عليهم مع أنه بعث آخرهم لإنّه كان أول من أجاب حين أخذ الله الميثاق، فسبقهم بالإقرار بالله تعالى إلى آخر التفاصيل، وهناك عشرات الروايات التي تتحدث عن هذا العالم حتى أنّ بعض الأعلام لم يستبعد تواترها المعنوي ([10])

ج ـ الإنسان بعد الدنيا

خلافاً للمادية لا يمثل الموت في الرؤية القرآنية إعداما وفناءً بل هو انتقالة من حياة إلى أخرى اذ يمر الإنسان بعد الموت بثلاثة عوالم:

الأول: عالم البرزخ: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» [المؤمنون: 100] وهو أول ما ينتقل له الإنسان بعد الموت وحين يوضع بدنه في القبر ليكون إما روضة من رياض الجنة او حفرة من حفر النيران، وهو عالم وسط بين الدنيا والقيامة وسمي بذلك لإنّ "البرزخ: الحاجز بين الشيئين" ([11]) والحديث عن الوحشة وضغطة القبر ومنكر ونكير وغيرها من تفاصيل يمكن مراجعتها في المطولات.

الثاني: عالم البعث – المعاد:  بعد البرزخ والقبر يأتي يوم الحشر «وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» [الحج: 7] وينفرد القرآن الكريم بين الكتب السماوية، بالتحدث عن المعاد والحشر تفصيلاً، في حين ان «التوراة» لم تشر الى هذا اليوم وهذا الموقف، وكتاب «الانجيل» يشير اشارة مختصرة، والقرآن يذكره ويُذكر به في مئات الموارد، وبأسماء شتّى، ويشرح عاقبة العالم والبشرية، التي تنتظرهم فتارة باختصار واخرى بإسهاب، ويُذكّر مراراً ان الاعتقاد بيوم الجزاء (يوم القيامة) يعادل الاعتقاد بالله تعالى، ويعتبر أحد الأصول الثلاثة للإسلام ومنكره (منكر المعاد)، خارج عن شريعة الاسلام وما عاقبته الا الهلاك والخسران"([12])

الثالث: عالم الجنة او النار: وبه يختتم الإنسان رحته وفيه يستقر خالداً، كلٌ حسب عمله، إما في الجنة أو في النار، فـ «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» [التوبة: 72] وفي المقابل: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ» [التوبة: 68]

الخاتمة

مما سبق أتضح أن للإنسان ثمانية عوالم رئيسة مرّ أو سيمرّ بها حتماً، وهي بالترتيب كالتالي:

1ـ عالم الذر 2ـ عالم التراب 3ـ عالم الأصلاب 4ـ عالم الأرحام 5ـ عالم الدنيا 6ـ عالم البرزخ 7ـ عالم الحساب 8ـ عالم الجنة والنار، وكل تلك العوالم تضمنها القرآن في آياته، وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ .

«رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» [البقرة: 201]

الهوامش:

([1]) نسبت المقولة في العديد من الكتب لأمير المؤمنين (عليه السلام) بيد أنا لم نعثر عليها في مصدر معتبر، فأقتضى التنويه.

([2]) كما قال في مقدمة برنامجه (الكن ــ رحلة شخصية ) عالم الفلك الملحد: كارل إدوارد ساغان (توفي: 1996 م ) أحد أبرز المساهمين في تبسيط العلوم

([3])[الجاثية: 24]

([4])[الإسراء: 70]

([5])[التين: 4]

([6])[نوح: 14]

([7])[غافر: 67]

([8])البرقي - المحاسن ج: 1 ص: 241 الناشر: دار الكتب الإسلامية – قم، الطبعة: الثانية 1371 هـ

[9])) بلوتارك ( 46؟ - 120م؟).كاتب إغريقي وراوي تراجم، اشتُهر نتيجةً لمؤلَّفه الحياة المتوازية لليونانيين والرومانيين المعروفين . (الموسوعة العربية العالمية )

 ([10])الطبأطبائي - الميزان في تفسير القرآن 8: 329

([11]) الطريحي – مجمع البحرين: [430]

([12]) الطبأطبائي – الشيعة في الإسلام ص 142 .