[اشترك]
وبشكل عام يمكننا تقسيم موضوعات العلوم إلى موضوعات تنتمي إلى الطبيعة الحسيّة والماديّة، وإلى موضوعات تنتمي إلى ما هو خارج حدود الحسّ والمادّة. وفي القسم الأول تهتمّ العلوم بدراسة الظواهر الطبيعيّة والماديّة، في حين يهتمّ القسم الثاني بدراسة الظاهرة الإنسانيّة، والفرق بين العلمين يعود إلى ثلاث فروقات أساسية:
الفرق الأول: من حيث الموضوع: فالعلوم الطبيعيّة ترصد الأجسام الثابتة والمتغيّرة، سواءً كانت من العناصر الطبيعيّة، أو الكائنات الحيّة، أو النباتات. بينما العلوم الإنسانيّة ترصد الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً ومريداً، فالإنسان لا يمكن رصده وتقييمه ضمن إطار مادّي خارجيّ فحسب، لأنّه موجود له (قصد)، أي أنّ هناك دوافع إنسانيّة داخليّة تحدّد سلوكه، لا يمكن الوصول إليها عن طريق الرصد الماديّ وإدخاله ضمن قانون السببيّة الماديّة وقوانين الطبيعة، فمعرفة الظاهرة الإنسانيّة لا تقوم على الوصف والشرح كما هو الحال في الظاهرة الطبيعيّة، وإنّما تحتاج إلى تعقّلٍ وإدراك وتفهّمٍ يقوم على التعاطف والمعايشة، ومن ثَمّ كشف مخزونه الداخليّ.
الفرق الثاني: من حيث الغاية والهدف: غاية العلوم الطبيعيّة هو تفسير العالم الطبيعيّ وما فيه من ظواهر عن طريق إرجاع كلّ ظاهرة إلى أسبابها الماديّة المباشرة، ومن ثمّ وضع نظريّات تصلح لفهم ما يدور في الطبيعة، ولذا يبتعد هذا العلم عن التفسيرات الغيبيّة والدينيّة. بينما نجد العلوم المهتمّة بمعرفة الإنسان تبحث عن الغايات والأهداف التي تحرّك السلوك الإراديّ للإنسان، وهي في الغالب أهداف وغايات غير ماديّة، وهنا يدخل الدين والوحي الإلهيّ بوصفه الأكثر قدرة على كشف الحقائق الباطنيّة للإنسان، مضافاً إلى كونه الأقدر في رسم الغايات والأهداف التي يجب أن يسير عليها الإنسان.
الفرق الثالث: من حيث المنهج: تعتمد العلوم الطبيعيّة على منهج واحد وهو التجربة الحسّيّة، بينما نجد العلوم الإنسانيّة تعتمد العقل البرهانيّ أو العقل الاستنباطيّ، سواءً عن طريق الأوّليّات العقليّة أو عن طريق الاستقراء وجمع الشواهد، مضافاً إلى ذلك تعتمد أيضاً على الوحي ورسالات الله للإنسان.
وإذا اتضح ذلك، علمنا أنّ الروح لا يمكن أن يكون موضوعاً للعلوم الطبيعيّة والتجريبيّة، بل ليس من حقّ هذا العلم إثبات أو نفي وجود الروح، فهو ليس عنصراً ماديّاً يمكن إخضاعه لشروط التجربة والمختبر.
ينقل عزمي بشارة عن فرح أنطوان قوله: (إنّ العلم نفسه لا ينكر عجزه في بعض الأحيان، مثال ذلك: أنّ العلم يفترض وجود المادّة التي كُوّن العالم منها لتعليل وجود الكون.. وهو يفترض وجود النفس.. فإذا كان العلم نفسه لا يزال إلى اليوم يبني قواعده على افتراض حتّى في المسائل العلميّة، فكيف يجوز له إنكار الأمور القلبّية.. مثال ذلك: شعور كلّ نفس بوجودها الذاتيّ، فهي تقول: (أنا)، وتعرف أنّها مستقلّة قائمة بذاتها، وشعور القلب بلذّة الفضيلة والصلاح ونزوع الإنسان إلى عالمٍ آخر) [العلمانية والدين ص267)
والخطأ الكبير الذي يقع فيه البعض: هو اعتقادهم بوجود تنافر بين العلوم التي تهتمّ بالمادّة والعلوم التي تهتمّ بالمعنى، والسبب في ذلك يعود إلى الفهم المشوّه لحقيقة الإنسان، وبالتالي العامل الأكثر تأثيراً في الجمع بين هذه العلوم هو الانطلاق من التقييم الموضوعيّ والواقعيّ للإنسان. وهذا لا يتحقّق إلّا بالاعتراف بكون الإنسان كائناً مركّباً من مادّة وروح، فالرؤية الكونيّة الماديّة تغطّي جوانب دون أخرى من اهتمامات الإنسان، والرؤية الكونيّة المنطلقة من الجانب الروحيّ قد تغطّي ما أهملته الرؤية المادّيّة، ولكنّها قد تقع في خطأ إهمال ما تغطّيه الرؤية الماديّة. وعليه، من المفترض اعتماد رؤية كونيّة تراعي كلا البعدين – الماديّ والروحيّ - في الإنسان، فإذا أراد العلم التجريبيّ أن يحتكر الحقيقة فعليه أن يستوعب كلّ حاجات الإنسان واهتماماته بما فيها اهتماماته الروحيّة، وهذا ما لم تدّعه العلوم الطبيعيّة لنفسها، وإذا أراد دين من الأديان أن يكون بديلاً حتّى عن العلوم التجريبيّة، فيجب أن يكون لديه إجابات حول كلّ العلوم الطبيعيّة، وهذا ما لم يتبنّاه دين من الأديان.
فالاهتمام بالجانب الماديّ للإنسان ضروريّ، ولكن بشرط ألّا يكون على حساب الجانب الروحيّ لديه، فكما أنّ الإنسان يشعر بحاجة ماديّة كذلك يشعر بحاجة روحيّة، والإفراط والتفريط في أيّ واحد منهما قد يحقّقان مكاسباً في جهة ولكن على حساب خسائر في جهة أخرى. وهكذا يبقى الانسان ضائعاً وفي حاجة أبديّة لمَن يحقّق له توازن الروح والجسد.
وفي محصّلة الاجابة على السؤال، فإنّ الروح من الحقائق التي لا يمكن إدراكها بالعوامل الحسّيّة، ويكفي في إثبات وجوده شعور الإنسان به، وتفاعله مع آثاره الواضحة في جميع شؤون الحياة، فلا يحتاج إثبات وجوده إلى ملامسته باليد، أو رؤيتها بالبصر، أو حصره في المختبر، وكما أنّ الجميع معترف بوجود العقل من غير أن يروه بالبصر أو يشمّوه بالأنف أو يلمسوه باليد، كذلك الحال في وجود الروح فهي ظاهرة بذاتها، ودالّة على نفسها بنفسها.
*المقال رداً على سؤال: هل يمكن إثبات وجود الروح بالتجربة العلمية؟