من جملة المسائل التي يرمى الدينُ من خلالها بالخرافة: مسألة نحوسة الأيام، حيث يشتهر على ألسنة المتدينين وجود أيام نحسات، فيتجنبون الزواج والسكنى وممارسة بعض الأعمال فيها، وهذا ما يدعونا للوقوف عند حقيقة نحوسة الأيام عمومًا، وتحقيق نحوسة شهر صفر خصوصًا، وذلك من خلال ثلاثة محاور:
المحور الأول: حقيقة نحوسة الأيام.
ومطرح البحث هنا هو: أنَّ النحوسة التي توصف بها بعضُ الأيام هل لها حقيقةٌ ذاتيةٌ، أم لا؟
وللإجابة عن هذا التساؤل توجد ثلاث نظريات:
النظرية الأولى: النظرية الإيحائية.
ويرى أصحاب هذه النظرية: أنَّ نحوسة الأيام والأوقات مجرد وهم، فليس هنالك وقتٌ يكون لخصوصيةٍ فيه نحسًا، ووقتٌ يكونُ لخصوصيةٍ فيه مباركًا، بل الأيام والأوقات كلها متساوية من هذه الناحية، وما النحوسة سوى وهم توحي به بعض الحوادث المأساوية التي تقع في بعض الأيام، كما أنَّ البركة مجرد وهم توحي به المناسبات السعيدة التي تحدث في الأيام الأخرى.
النظرية الثانية: النظرية الاقترانية.
ويرى أصحاب هذه النظرية: أنَّ الأوقات والآنات الزمانية في حد ذاتها لا نحوسة فيها ولا بركة لها، ولكنَّ اقترانها بحدث معين يُضفي عليها ثوب النحوسة أو البركة، فمثلًا: يوم عاشوراء في حد نفسه لا نحوسة فيه، فقد كان يومًا عاديًا قبل أن يُقْتَل فيه سيد الشهداء (عليه السلام)، ولكنه عندما اقترن بفاجعة الطف تسبّب هذا الاقتران في صيرورته نحسًا.
وقد يُستشهد لذلك بما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): “من ترك السعي في قضاء حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومن سمّى يوم عاشوراء يوم بركة أو ادّخر فيه شيئًا لم يبارَك له فيما ادخر فيه، وحشره الله مع يزيد وابن زياد وعمر بن سعد في الدرك الأسفل من النار”[1]، والحاصل: فإنَّ يوم عاشوراء وإن كان في حد ذاته لا نحوسة فيه، إلا أنه لمّا اقترن بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) اتّسم بالنحوسة [2].
النظرية الثالثة: النظرية الذاتية.
ويرى أصحاب هذه النظرية: أنَّ النحوسة والبركة للأوقات أمران ذاتيان، بمعنى أنَّ القطعة الزمانية الموصوفة بالبركة أو النحوسة قد جعلها الله تعالى ذات خصائص تكوينية معينة، وهذه الخصائص التكوينية قد أوجبت نحوستها أو بركتها.
وبعبارة أخرى: إنَّ الزمان قطع متعددة وآنات متراكمة، فكلُّ يوم من الأيام قطعة من الآنات يُعبّر عنها بـ(الزمان)، وحيث أنَّ الله تعالى قد جعل بعض هذه القطع ذات خصائص تكوينية معينة، فإنَّ هذه الخصائص قد تجعل تلك القطعة موجبةً للنحوسة وقد تجعلها موجبةً للبركة، وهذا معنى أنَّ البركة والنحوسة أمران ذاتيان.
ومن الواضح أنَّ جميع هذه النظريات الثلاث ممكنةٌ بحسب مقام الثبوت، وبالتالي فمن أجل ترجيح إحداهن على الأخريتَيْن لا بُدَّ من الرجوع إلى لسان الأدلة والنصوص الشرعية قرآنًا وسنةً.
ونلتقي – حينئذ – بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}[3]، وقوله أيضًا: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ}[4]، وقوله تعالى أيضًا: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}[5]، وفي تفسير هذه الآيةِ وردَ عن الإمام الباقر (عليه السلام): “الصرصر: الريح الباردة، في أيام نحسات: أيام مشائيم”[6].
وهذا المقدار من النصوص يكفي لاستبعاد النظرية الأولى؛ إذ أنها ظاهرةٌ جدًا في أنَّ مسألة النحوسة والبركة في الأوقات ليست مجرد إيحاء ووهم، بل هي ذات بُعْدٍ واقعي.
وعلى ضوء ذلك يدور أمر هذه الواقعية بين كونها على نحو الاقتران، كما هو مفاد النظرية الثانية، وبين كونها أمرًا ذاتيًا، كما هو مفاد النظرية الثالثة.
والظاهر من الأدلة المذكورة – حيث وصفت الأيام والليالي بالنحوسة تارة والبركة تارة أخرى – هو أنَّ النحوسة والبركة أمران ذاتيان مُكوّنان ضمن الخصائص التكوينية للأزمان الموصوفة بالنحوسة والبركة، لا أنَّ الأزمان بسبب اقترانها بحوادث معينة قد أصبحت مباركة أو نحسة؛ إذ الظاهر من توصيف الشيء بوصفٍ معيّن أنَّ الوصف وصف له بحال نفسه لا بحال غيره [7].
اللهمّ إلا أن يُقال: إنَّ الاقتران بالنحس والبركة قد يولّد نحوسة وبركة في نفس الأوقات، فلا تأبى الأدلة المذكورة حينئذ عن حملها على النظرية الاقترانية بهذا التفسير الجديد؛ لوضوح أنَّ وصف الوقت بالبركة أو النحوسة – على ضوء هذا التفسير لنظرية الاقتران – يكون من باب وصف الشيء بحال نفسه أيضًا، وإن لم يكن اتصافه به من ذاتياته، بل هو طارئ وعارض عليه.
وقد يحاول البعض استظهار ذلك من بعض النصوص الشريفة، كالخبر المشهور عن الإمام الصادق (عليه السلام): “مَن سافر أو تزوج والقمر في العقرب لم يرَ الحسنى”[8]، بدعوى: أنَّ هذا الخبر – والذي يفتي الفقهاء على ضوئه بكراهة إنشاء عقد الزواج والدخول بالزوجة حين يكون القمر في برج العقرب – ظاهرٌ في أنَّ الوقت المذكور– بسبب اقترانه بكينونة القمر في برج العقرب – له خصائص تكوينية تمنع من حدوث البركة، مما يعني عدم كون النحوسة من الذاتيات، وإنما هي من العوارض الطارئة [9].
وعلى ذلك؛ فالنحوسة – وكذلك البركة – ليست مجرد أمر وهمي إيحائي، بل الصحيح أنها ذات بعد واقعي، إلا أنها قد تكون ذاتية لبعض الأوقات، واقترانية لبعضها الآخر [10].
المحور الثاني: تأثير الأيام في النحوسة بين الاقتضاء والفعلية.
بعد أن ثبت لدينا: أنَّ لبعض الأيام تأثيرًا واقعيًا في النحوسة، يقع الكلام هنا حول أنَّ هذا التأثير هل هو على نحو الاقتضاء؟ أم هو على نحو العلية التامة؟
وحتى يتضح المقصود جيّدًا نقول: لقد ثبت لدينا – من خلال المحور السابق – أنَّ الأيام تؤثر وتوجب النحوسة أو البركة، وهذا يعني أنَّ هناك مؤثرًا – وهو القطعة الزمانية المعينة – وأثرًا يترتب عليه، وهو النحوسة أو البركة، فمثلًا: عندما يريد الإنسان أنْ يُوقِع عقد زواجه والقمر في العقرب، فإنَّ المؤثر هو القطعة الزمنية التي يكون فيها القمر في العقرب، والأثر المترتب على ذلك هو عدم الحسنى، أي: عدم العاقبة الحسنة، وحينها يأتي السؤال المتقدم حول كيفية هذا التأثير، وأنه على نحو الاقتضاء؟ أم على نحو العلية التامة؟
وهنا يوجد عندنا احتمالان:
الاحتمال الأول: أنَّ المؤثر المذكور بمجرد أن يتحقق يتحقق أثره من غير أن يمنعه مانع، وهذا ما يُعَبَّر عنه بالتأثير على نحو العلية التامة.
الاحتمال الثاني: أنَّ المؤثر المذكور لو تُرِكَ كما هو لأثّر أثره، ولكنه متى ابتُلي بالمانع فإنه يحول بينه وبين تأثيره ذلك الأثر، وهذا ما يُعَبَّر عنه بالتأثير على نحو الاقتضاء.
وحتى تتضح الفكرة جيّدًا نضرب مثالًا، فنقول: إننا حين نصف النار بأنها محرقةٌ، فهذا لا يعني أنَّ أثرها – وهو الإحراق – يتحقق فورًا بمجرد تحققها، إذ أنَّ الإنسان لو أشعلَ نارًا ولكنه لم يضع بجانبها شيئًا فلن يتحقق الإحراق، وكذا لو وضع بقربها جسمًا مبللًا فإنَّ النتيجة هي عدم تحقق الإحراق أيضًا، مما يعني أنَّ النار لها اقتضاء الإحراق، بمعنى أنها بمجرد تحققها لا يتحقق الأثر، بل لا بُدَّ من تحقق الشرط من ناحية، وهو اقتراب الجسم المحترق منها، وارتفاع المانع من ناحية أخرى، وهو البلل والماء، وأما لو كانت الرطوبة موجودة فإنها تمنع من تأثير النار، ولذلك نقول: النار ليست علة تامة للإحراق، وإنما لها اقتضاء الإحراق.
وإذا اتضح الفرق بين التأثيرين فإننا نقول: إنَّ تأثير الأيام في النحوسة تأثير اقتضائي، وليس على نحو العلية التامة، وهذا يعني أنها تؤثر أثرها إذا لم يتحقق المانع، وأما متى ما تحقق المانع فإنها لا تؤثر أثرها، ولكن ما هو هذا المانع الأقوى تأثيرًا منها؟
وللإجابة عن ذلك يُقال: كما أنَّ نحوسة وبركة الأيام مما لا سبيل لاستكشافه إلا بتنصيص المحيط بالمصالح والمفاسد الواقعية، كذلك الموانع عنها لا يمكن استكشافها إلا بالرجوع إليه.
وعند الرجوع للنصوص الشريفة نلتقي بعدةٍ من الموانع، ومن أهمها الصدقة، فقد نصّت الروايات الشريفة على أنَّ الصدقة تحول دون تأثير الأوقات، كالرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام): “من تصدق حين يصبح بصدقة أذهب الله عنه نحس ذلك اليوم” [11].
وعنه عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): “إذا أصبحت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس ذلك اليوم، وإذا أمسيت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس تلك الليلة”[12].
ومن هنا فإنَّ من المستحسن للمؤمن أن يلتزم بالصدقة بشكلٍ يومي ولو بمقدار بسيط جدًا، بأن يجعل له صندوقًا يضع فيه ولو مقدارًا ضئيلًا من الصدقة كلَّ يوم؛ لدفع نحوسته.
وكيف كان، فمما ذكرناه يتضح أنَّ تأثير الأوقات في النحوسة تأثير اقتضائي، وليس على نحو العلية التامة، وهذا يعني أنَّ الأوقات وإن كانت مؤثرة في النحوسة إلا أنَّ هنالك ما هو أقوى منها تأثيرًا، وإذا حصل ما هو الأقوى تأثيرًا – وهو الصدقة، كما مرّ – فإنَّ الأضعف تأثيرًا لا يؤثر أثره.
ولك أن تقول: النحوسة والصدقة من قبيل النار والماء، فإنهما معًا مؤثران، ولكنَّ أحدهما أقوى تأثيرًا من الآخر، ولذا عندما يجتمعان تكون الغلبة للأقوى، وهذا الأقوى الذي يلغي تأثير المؤثِّر الآخر عند التزاحم هو ما يُعبّر عنه – في الاصطلاح – بـ(المانع)، وبما أنَّ الصدقة علة للتأثير، والأيام النحسة علة للتأثير أيضًا، إلا أنَّ الصدقة هي الأقوى تأثيرًا، لذلك يمكن حيلولتها دون تأثير الأيام في النحوسة.
المحور الثالث: حقيقة نحوسة شهر صفر.
يشتهر في الألسنة: أنَّ شهر صفر شهر نحس، وقد يتداول بعض الناس أعمالًا وأورادًا وصلواتٍ ينسبونها للمشرِّع، ويزعمون أنَّ الهدف من تشريعها هو دفع نحوسة شهر صفر، ومنها الصلاة المتداولة المعروفة عند الناس بصلاة آخر أربعاء من شهر صفر، والتي يُقال: إنَّ أداءها موجب لدفع نحوسة ما بقي من شهر صفر إلى شهر صفر المقبل.
فالكلام يدور حول أنَّ نحوسة شهر صفر هل هي ثابتةٌ فعلًا، أم لا؟
وهنا ربّما يُقال: إنَّ نحوسة شهر صفر أمرٌ ثابتٌ، والدليل على ذلك هو كلام شيخ المحدّثين، العلامة التقي، الشيخ عبّاس القمي (رحمه الله)، حيث قال في كتابه الشهير (مفاتيح الجنان): “اعلم أنَّ هذا الشهر معروفٌ بالنحوسة، ولا شيء أجدى لرفع النحوسة من الصدقة والأدعية والاستعاذات المأثورة، مَن أراد أن يصان مما ينزل في هذا الشهر من البَلاءِ فليقل كل يوم عشر مرّات – كما روى المحدث الفيض وغيره –: [يا شَدِيدُ القُوى وَيا شَدِيدَ المِحالِ، يا عَزِيزُ يا عَزِيزُ يا عَزِيزُ، ذَلَّتْ بِعَظَمَتِكَ جَمِيعُ خَلْقِكَ، فَاكْفِنِي شَرَّ خَلْقِكَ، يا مُحْسِنُ يا مُجْمِلُ، يا مُنْعِمُ يا مُفَضِّلُ، يا لا إلهَ إِلاّ أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَيْناهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ، وَصَلّى الله عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَيِّبِينَ الطَّاهِرينَ]” [13].
ولنا حول هذا الكلام ثلاثة تعاليق:
التعليق الأول: عدم وجود نص شرعي يثبت النحوسة.
إنَّ النحوسة والبركة – كما مرَّ – إنما تثبت للأزمنة بنصِّ المُشرِّع المحيط بالمصالح والمفاسد الواقعية، وبالتالي فإذا كان هنالك نصٌّ شرعيٌّ يؤكّد على ثبوت النحوسة أو البركة فبها ونعمت، وإلا فإنَّ ذلك مما لا موجب للالتزام به، وعند الرجوع إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام)، لا نجد ولا رواية واحدة – ولو كانت ضعيفة – تدلُّ على أنَّ شهر صفر له خصوصية النحوسة [14].
ونفس الشيخ الفيض الكاشاني (طاب ثراه) لم ينسب ما ذكره إلى أحد المعصومين (عليهم السلام)، بل اكتفى بقول: “لأيام صفر: «يا شديد القوى يا شديد المحال، يا عزيز يا عزيز، ذلّت بعزّتك جميع خلقك، فاكفني شرّ خلقك، يا مجمل يا منعم يا مفضل، يا لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين، فاستجبنا له و نجّيناه من الغمّ و كذلك ننجي المؤمنين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين» كل يوم عشر مرّات للحفظ من البلايا النازلة فيه”[15].
نعم، هنالك رواية عامية نبوية تقول: “من بشّرني بخروج شهر صفر بشّرته بالجنة”، ولكنَّ هذه الرواية ليست واردة من طريقنا، كما أنَّ نفس علماء العامة يصرّحون بوضعها [16].
مضافًا إلى قصور دلالتها عن إثبات ذلك، لاحتمال أن يكون التبشير فيها بلحاظ جهة أخرى غير جهة النحوسة، كما ويُحتمل – على فرض صدورها – أن يكون المراد بشهر صفر فيها شهر صفر خاص كان النبي (صلى الله عليه وآله) يترقب تصرّمه.
ومما يجدر ذكره هنا: أنَّ الأعمال والأدعية والآداب والسنن كثيرةٌ جدًا، ولكنَّ الشيخ القمي – جزاه الله خير الجزاء – قد اختصرها في كتاب واحد، وذلك عندما رأى الناس يميلون إلى الدعة والكسل، حيث ارتأى أن يحافظ على هذا المقدار المتبقي عند الناس من الهمّة، فاختصر لهم كتابًا في الأعمال والسنن سمّاه (مفاتيح الجنان)، ومن جهة تنظيمه واختصاره – مضافًا لقوة إخلاص كاتبه – حظي بشهرةٍ كبيرة، وإلا فإنَّ كتب الأدعية القديمة كثيرة جدًا.
وعند الرجوع إلى هذه الكتب – ككتاب “مصباح المتهجد” للشيخ الطوسي، وكتاب “المصباح” للشيخ الكفعمي، وكتاب “إقبال الأعمال” للسيد ابن طاووس (رحمه الله) – فإنَّنا لا نجد فيها إشارة إلى نحوسة شهر صفر أبدًا، بل إنَّ ديدن علمائنا ومراجعنا وفقهائنا على التعبير عن شهر صفر في كلماتهم الشريفة بـ(صفر الخير) [17].
التعليق الثاني: منشأ معروفية شهر صفر بالنحوسة والشؤم.
بما أنّ شيخ المحدثين وثقتهم الشيخ عباس القمي (رحمه الله) قد ذكرَ أنَّ شهر صفر معروف بالنحوسة، ومثله لا يلقي الكلام على عواهنه، فلا بدّ أن يكون هنالك منشأ لهذه المعروفية.
وبدوًا قد يتوهّم بعضهم أنَّ كلام الشيخ القمي ينبئ عن وجود دليل شرعي يدل على هذه المعروفية، ولكن قد اتضح عدم وجوده، فيتعيّن أن يكون منشأ المعروفية شيئًا آخر، وهذا الشيء الآخر قد أفصحَ عنه نفس المحدّث القمي (طاب ثراه) في كتابه (وقائع الأيام)، فإنه عندما وصل به الكلام إلى شهر صفر احتمل سببَيْن لمعروفيته بالشؤم:
- أولهما: وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه وهجرته عن هذا العالم.
- وثانيهما: سببٌ تحليليٌ لطيفٌ، وهو: أنَّ شهر صفر قد وقع بعد الأشهر الحرم الأربعة؛ إذ كان العرب أيام الجاهلية يتوقفون عن الحروب والقتال والمعارك طوال الأشهر الأربعة، وبمجرد أن ينتهي شهر محرم تبدأ الحروب مجددًا، فكان العرب يتشاءمون من شهر صفر؛ لأنه شهر الحروب والمعارك وسفك الدماء [18].
ولا يخفى ما في هذين السببين من التأمل، أما الأول: فلأنه لو كان شهر صفر مشومًا لأجل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) فيه، لكان شهر رمضان نحسًا لأجل مقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه، ولكان شهر جمادى الأولى نحسًا أيضًا لقتل الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) فيه.
اللهم إلا أن يُقال: إنَّ مصائب المعصومين (عليهم السلام) وإن جلّت إلا أنها لا تقاس بمصيبة شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) – كما هو صريح النصوص الشريفة [19] – فمن الممكن أن تكون لها خصوصية تكوينية ليست لغيرها.
وهذا وإن كان تامًا ثبوتًا، وممكنًا في حدّ نفسه، إلا أنَّ الأدلة قاصرة عنه إثباتًا، فلا سبيل لاعتماده.
وأما الثاني: فلأنَّ الوجه المذكور لا يفيد أكثر من النحوسة الوهمية الإيحائية، وقد ظهر لنا – من خلال المحور الأول – أنَّ أدلة نحوسة الأيام تأبى الحمل عليها.
وبذلك ظهر: أنَّ معروفية شهر صفر بالشؤم والنحوسة ليست نابعةً عن دليل شرعي، وإنما هي نابعةٌ – على ضوء الاحتمال الأخير – عن الواقع الحياتي الذي كان يعيشه العرب آنذاك، ثمَّ توارث أبناؤهم منهم هذا الموروثَ الثقافي جيلًا بعد جيل، إلى يوم الناس هذا.
التعليق الثالث: الوجه في الحثّ على بعض الأعمال في شهر صفر.
قال ثقةُ الإسلام القمي (رحمه الله) في كلامه المتقدم: “ولا شيء أجدى لرفع النحوسة من الصدقة والأدعية والاستعاذات المأثورة”، والذي يجدر الالتفات إليه: أنَّ هذا ليس من باب ورود الدليل الخاص، وإنما هو من باب التمسّك بالعمومات، بتقريب: أنَّ لدينا كبرى وصغرى.
- أما الكبرى فهي: أنَّ الصدقة تدفع البلاء، وهذه مستفادة من لسان الشارع المقدس.
- وأما الصغرى فهي: أنَّ شهر صفر شهر شؤم وبلاء ونحوسة، وهذه مستفادة مما تعارف عليه الناس.
وحينئذ فلسنا نحتاج لورود دليل خاص لإثبات استحباب الصدقة في شهر صفر، بل يكفينا – بعد احتمال نحوسة صفر وبلائه – أن نتمسك بعموم ما دلّ على أنّ الصدقة تدفع البلاء؛ لإثبات رجحانها في شهر صفر، بعد تحقق موضوعها، كما هو ظاهر.
وهكذا يُقال بالنسبة لقراءة بعض الأدعية والعوذات، فإنها مما دلّت الأدلة العامة على استحباب قراءتها عند نزول البلاء أو احتمال نزوله [20]، وبما أنَّ شهر صفر يُحتمل فيه ذلك، فترجح قراءتها فيه، وإن لم يصلنا دليل خاص يدل على استحباب القراءة في خصوص شهر صفر.
الهوامش:
[1] وسائل الشيعة: 14 / 504.
[2] وهذا ما اختاره العلامة الطباطبائي (طاب ثراه) في تفسيره الشريف (الميزان) 19 / 74 حيث قال: “فتبين مما تقدم على طوله: أن الأخبار الواردة في سعادة الأيام ونحوستها لا تدل على أزيد من ابتنائهما على حوادث مرتبطة بالدين توجب حسنًا وقبحًا بحسب الذوق الديني أو بحسب تأثير النفوس، وأما اتصاف اليوم أو أي قطعة من الزمان بصفة الميمنة أو المشأمة واختصاصه بخواص تكوينية عن علل وأسباب طبيعية تكوينية فلا”.
[3] سورة الدخان، الآية: 3.
[4] سورة القمر، الآية: 19.
[5] سورة فصلت، الآية: 16.
[6] بحار الأنوار: 11 / 354.
[7] ولعلَّ المتتبع للنصوص الشريفة التي تناولت خصائص الأيام يستقرب أنَّ لها خصائص تكوينية ذاتية مؤثرة، من قبيل ما ورد عن رسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله): “مَن قلَّم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله من أنامله الداء، وأدخل فيه الدواء”. بحار الأنوار: 56 / 33.
ومثله ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): “الحجامة يوم الاثنين من آخر النهار تسلُّ الداء سلًا من البدن”. بحار الأنوار: 56 / 38.
[8] الكافي: 8 / 275 ح416.
[9] ولكن الحق أنّ الحديث كما يُحتمل ما أُفيد، كذلك يحتمل أن يكون ناظرًا إلى الوضع، لا إلى المتى، وبالتالي فالتأثير فيه لا يعود للزمان المقترن بكون القمر في العقرب، وإنما يعود للوضع الخاص، وهو كون القمر في العقرب، ولعلّ هذا الاحتمال هو الأقرب، وهذا نظير ما رواه الشيخ (قده) في التهذيب 7 / 411 قال: “لقد بات رسول الله صلى الله عليه وآله عند بعض النساء، فانكسف القمر في تلك الليلة، فلم يكن منه فيها شيء، فقالت له زوجته: يا رسول الله بأبي أنت وأمي كل هذا للبغض؟ فقال: ويحك هذا الحادث في السماء فكرهت ان أتلذذ فأدخل في شيء”.
[10] مما لا يخفى أنَّ الفلاسفة قد اختلفوا اختلافًا شديدًا في تحديد حقيقة (الزمان)، ففي الوقت الذي يراه فيه بعضهم من الأمور المتوهمة، يراه البعض الآخر منهم – وكذا بعض المتكلمين – من الأمور الواقعية، وهؤلاء أيضًا اختلفوا في كونه مجردًّا أم ماديًا، ومَن يرونه ماديًا اختلفوا أيضًا في كونه من الجواهر أم الأعراض.
ومن الواضح أنَّ النزاع الذي عرضناه في تصوير حقيقة نحوسة الأيام إنما يُتصور على القول بكون الزمان موجودًا واقعيًّا درّاكًا – كما هو مفاد النصوص الشريفة – وإن لم نهتدِ لحقيقته تفصيلًا.
[11] بحار الأنوار: 93 / 176.
[12] بحار الأنوار: 93 / 176.
[13] مفاتيح الجنان: 379.
[14] قال العارف المتأله آية الحق الميرزا جواد الملكي التبريزي (طاب ثراه) في (المراقبات) 37: “المعروف أنّ شهر صفر فيه نحوسة لا سيّما يوم أربعائه الآخرة، ولم يرد فيه شيء مخصوص من الروايات، إلا أن يكون ذلك لأجل أنّ فيه وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وآله”.
[15] خلاصة الأذكار: 304.
[16] تذكرة الموضوعات، للفتني: 116، والأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: 324.
[17] منهم: المحقق الكركي (قده)، كما في بحار الأنوار: 105 / 59، والسيد الأمين العاملي (قده) في أعيان الشيعة: 2 / 626، والمحقق السيد الخوئي (قده) في دراسات في علم الأصول: 1 / 3، والشيخ الميرزا جواد التبريزي (قده) في صراط النجاة: 3 / 3، والشيخ بهجت (قده) في جامع المسائل: 2 / 75، وغيرهم في غيرها.
[18] وقائع الأيام: 185.
[19] ورد في (قرب الإسناد: 94): “قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها أعظم المصائب”.
[20] ومن تلك الأدلة العامة: ما رواه العلامة المجلسي (طاب ثراه) – في بحار الأنوار: 56 / 25 – عن الإمام العسكري عليه السلام: “فإذا أردت التوجه في يوم قد حذرت فيه فقدم أمام توجهك: الحمد لله رب العالمين والمعوذتين، وآية الكرسي، وسورة القدر، وآخر آية في سورة آل عمران، وقل: اللهم بك يصول الصائل، وبقدرتك يطول الطائل، ولا حول لكل ذي حول إلا بك، ولا قوة يمتارها ذو قوة إلا منك، بصفوتك من خلقك وخيرتك من بريتك محمد نبيك وعترته وسلالته عليه وعليهم السلام صل عليهم، واكفني شر هذا اليوم وضرره، وارزقني خيره ويمنه، واقض لي في متصرفاتي بحسن العاقبة وبلوغ المحبة، والظفر بالأمنية وكفاية الطاغية الغوية، وكل ذي قدرة لي على أذية، حتى أكون في جنة وعصمة، من كل بلاء ونقمة، وأبدلني من المخاوف أمنًا، ومن العوائق فيه يسرًا، حتى لا يصدني صاد عن المراد، ولا يحل بي طارق من أذى العباد، إنك على كل شيء قدير، والأمور إليك تصير، يا من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”.