وداعاً شهر البركات

ها نحنُ نودّعُ شهر رمضان المبارك.. فاعلموا عباد الله تعالى ان من أفضل نعم الله عليكم ان وفقكم لامتثال أمره بصيام هذه الشهر المبارك وقيام ليله وتلاوة كتابه فكونوا له من الحامدين.. ولكن – ربما- البعض من قد غفل أو جهل او قصّر او اغواه الشيطان فوقع في معصية او ظَلَمَ احداً او قصّر في حق من حقوق والديه أو اهله او اخوانه.. وما تزال الفرصة امامكم حيث أنتم في اليوم الاخير من هذا الشهر الذي جعله الله تعالى شهر العتق من النار.. فتداركوا ذلك بتوبة نصوح تعودون بها الى ساحة رحمة ربكم ومغفرته فكم من اناس كانت أواخرُهم خاتِمة ً حسنة.. وربما تكون ساعة ٌ واحدةٌ تشكل منعطفاً كبيراً في حياة الانسان..

فاغتنموا الفرصة الاخيرة في بقية هذا اليوم وهذه الليلة – ليلة عيد الفطر- انها ليلة الجوائز كما ورد في الحديث عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (من ختم صيامه بقول صالح أو عمل صالح تقبل الله منه صيامه، فقيل يا ربن رسول الله، ما القول الصالح ؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، والعمل الصالح : إخراج الفطرة).

وورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (مَنْ أحيا ليلة العيد وليلةَ النصف من شعبان، لم يَمُتْ قلبُهُ يوم تموتُ القلوب).

وعن جعفر بن محمد عن ابيه (عليه السلام) قال : (كان علي بن الحسين (عليه السلام) يُحْيي ليلة عيد الفطر بصلاة ٍ حتى يُصبِحَ ويبيتُ ليلة َ الفِطرِ في المسجد ويقول : يا بُنيّ ما هي بدونِ ليلةٍ يعني ليلة القدر).

فينبغي للصائمين ان لا يجعلوا ليلة عيدهم ليلة يشعرون فيها بالراحة والاسترخاء والفرح لانهم تخلصوا من قيود شهر رمضان المبارك وكان ثقيلا ً عليهم لحرمانهم من شهواتهم ورغباتهم ويفرحوا لحلول اليوم الذي ستنطلق فيه غرائزهم وشهواتهم..

والصائم الحقيقي هو الذي يكمل رحلة العبادة والاحياء لشهر رمضان بالاشتغال بالعبادة والقيام والذكر وزيارة الامام الحسين (عليه السلام) وغيرها..

وان يعيش حالة القلق والخوف والتوجس والندم.. القلق لأنه لا يعلم هل غفرت ذنوبه وادى ما عليه من الصيام المحبوب لله تعالى أم صام عن الطعام والشراب فقط ولم تصم جوارحه ولم يكف جوانحه عما لا يرضاه الله تعالى.. فما يزال قلبه ملئ بالحسد والغل والنفاق والكبر والعجب.. وأن يعيش الندم لأنه لم يستثمر فرصته هذا الشهر الذي فتح الله تعالى أبواب خزائن رحمته ومغفرته وجوائزه..

كيف نعيش الساعات الاخيرة من شهر رمضان؟

ومن الامور المهمة التي يستحسن للصائمين معايشتها والتفاعل معها هي تلك المضامين العبادية والروحية التي وردت في دعاء الامام السجاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان حيث يقول (عليه السلام) في الروضة الخامسة والاربعين:

(وَقَدْ أَقامَ فينا هذَا الشَّهْرُ مَقامَ حَمْد، وَصَحِبَنا صُحْبَةَ مَبْرُور، وَأَرْبَحَنا أَفْضَلَ أَرْباحِ الْعالَمينَ، ثُمَّ قَدْ فارَقَنا عِنْدَ تَمامِ وَقْتِهِ وَانْقِطاعِ مُدَّتِهِ، وَ وَفاءِ عَدَدِهِ، فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وَداعَ مَنْ عَزَّ فِراقُهُ عَلَيْنا، وَغَمَّنا وَأَوْحَشَنَا انْصِرافهُ عَنّا، وَلَزِمَنا لَهُ الذِّمامُ الْمَحْفُوظُ، وَالْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّهُّ، وَالْحَقُّ الْمَقْضِىُّ)

وحاصل المعنى: إنّا نودع شهر رمضان وداع من كان فراقه علينا عزيزاً عظيماً وصار فراقه سبباً لحزننا ووحشتنا، وداع من لزمنا له الحرمة ومن لزمنا له حقٌ لابد من قضائه، فكما ان مفارقة هذا الشخص في غاية الصعوبة والشدّة، فكذا مفارقة هذا الشهر..

ثم يقول (عليه السلام) : (أَللّهُمَّ فَلَكَ الْحَمْدُ إِقْراراً بِالاْساءَةِ، وَاعْتِرافاً بِالاْضاعَةِ، وَلَكَ مِنْ قُلُوبِنا عَقْدُ النَّدَمِ، وَمِنْ أَلْسِنَتِنا صِدْقُ الاْعْتِذارِ)

فينبغي للمؤمن ان لا يعيش شعور الرضا والفرح بانتهاء شهر الصوم ويشعر انه ادى ما عليه من الصيام وبقية الواجبات بل عليه ان يحمد الله تعالى ويشكره وان يستشعر الخوف من حصول التقصير والاضاعة والتفريط بحقوق هذا الشهر ويُفر بالإساءة ويعترف بإضاعة الفرصة والغنيمة على نفسه من عطايا وبركات هذا الشهر فيعقد قلبه على الندم ويصدق بالاعتذار الحقيقي بلسانه..

ويُفصّل الامام (عليه السلام) حال المؤمن من الاعتراف بالذنب والخطيئة فيقول (عليه السلام) : (أَللّهُمَّ وَما أَلْمَمْنا بِهِ في شَهْرِنا هذا مِنْ لَمَم أَوْ إِثْم، أَوْ واقَعْنا فيهِ مِنْ ذَنْب وَاكْتَسَبْنا فيهِ مِنْ خَطيئَة عَلى تَعَمُّد مِنّا، أَوْ عَلى نِسْيان ظَلَمْنا فيهِ أَنْفُسَنا، أَوِ انْتَهَكْنا بِهِ حُرْمَةً مِنْ غَيْرِنا، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاسْتُرْنا بِسِتْرِكَ، وَاعْفُ عَنّا بِعَفْوِكَ، وَلا تَنْصِبْنا فيهِ لاَِعْيُنِ الشّامِتينَ، وَلا تَبْسُطْ عَلَيْنا فيهِ أَلْسُنَ الطّاعِنينَ، وَاسْتَعْمِلْنا بِما يَكُونُ حِطَّةً وَكَفّارَةً لِما أَنَكَرْتَ مِنّا فيهِ، بِرَأْفَتِكَ الَّتي لا تَنْفَدُ، وَفَضْلِكَ الَّذي لا يَنْقُصُ).

اللمم: صغار الذنوب، أي ما باشَرنا وفعلنا في هذا الشهر من الذنوب الصغيرة.

وقيل : اللَمَم – بفتحتين- مقارفة الذنب مطلقاً.

والذي يظهر من روايات اهل بيت العصمة عليهم السلام ان اللمم هو ان يرتكب العبد الذنب بعد الذنب بخلاف طبعه مع الاستغفار والخوف، سواء أكان كبيرة او صغيرة..

رُويَ عن ابي عبدالله (عليه السلام) : ان اللمم: الرجل يلمُّ بالذنب فيستغفر الله منه.

*الخطبة الاولى لصلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 30/شهر رمضان/1439هـ الموافق 15/6/2018م