السياسة في الإسلام يجب أن تكون حركة أخلاقية تسعى لبناء مجتمع تقوم روابطه على قيم الحق والفضيلة، وتعمل على رفض كل المظالم بما فيها الاضطهاد السياسي والاستئثار بالسلطة، وتسعى لتحقيق العدل والمساوة وإقامة الحقوق وتحقيق الرفاه والتنمية، والدفع بالأمم والمجتمعات الى الأمام، لتحقيق تكامل الإنسان وبناء حضارة الإسلام، وتتوسل السياسة في الإسلام لتحقيق ذلك بالصدق والإخلاص وكل قيم الفضيلة والأخلاق. وهذا الواقع الطموح أو الحقيقة المفترضة هي التي تنسجم مع الفهم الذي ينظر للإسلام بوصفه رسالة للحياة وليس فقط لتدبير شؤن الإنسان بعد الموت وعالم الآخرة.
اما الوصف الموضوعي لواقع العمل السياسي بشكل عام يسير في الإتجاه المعاكس لهذا الطموح، فقد قامت كل التصورات السياسية على تكريس المصالح الآنية والدنيوية بعد أن أصبح الأفق الذي يتحرك فيه الإنسان لا يتجاوز حدود المادة، وأهمل في المقابل الجانب المعنوي والروحي الذي يُفهم في إطاره الإسلام كرسالة قيمية واخلاقية، كما أهمل بنفس المقدار الإنسان كذات قابلة للتكامل والسمو على صغائر المادة.
تلوث سياسي!
والحركات الإسلامية التي انخرطت في العمل السياسي في هذا الجو غير الصافي تلوثت به وأصبحت جزء من المشكلة الأخلاقية الكبرى التي تسود عالم اليوم، ولا نتجاوز الإنصاف اذا قلنا ان الإشكالية الكبرى التي تواجه الإنسانية اليوم هو هذا الانخراط السياسي للإسلاميين، وما أوجدوه من أزمة على مستوى الأمن الدولي، ولا يمكننا تبسيط الأسباب التي صنعت هذا التطرف الإسلامي بربط المسؤولية منفردة بهذه الجماعات الإرهابية كما يصنع كثير من المحللين، وانما المحيط والجو السياسي العالمي هو الذي خلق المناخ والبيئة المناسبة لنمو مثل هذه الحركات، فكل ظاهرة سياسية أو اجتماعية لا يمكن فهمها بعيداً عن المحيط التي وجدت فيه، والإرهاب كظاهرة هو مولود مشوه وغير شرعي لعملية سِفاح حضاري، فصراع الحضارات بل هيمنة بعض الحضارات وسياسة القطب الواحد ومصادرة حقوق الضعفاء ينتج حتماً وحشاً جريحاً لا يمكن ضبطه والتحكم في تصرفاته.
سياسة الأخلاق لا أخلاق السياسة
فما ينقص عالم اليوم هو حضور الأخلاق في عالم السياسة، وما يجب أن تسعى إليه الحركات الإسلامية -إن كانت جادة- هو سياسة الأخلاق لا أخلاق السياسة. وهذا ما لم تنجح فيه حتى الحركات المعتدلة عندما سعت الى السلطة مستعينة بأخلاقيات السياسة، فزادت الواقع تعقيداً كما شوهت حقيقة الإسلام، فعندما تكون في المعارضة ترفع شعار الحرية والتعددية وتطالب بالاستقلال وعدم الارتهان للقوى الدولية، كما تتحدث باسم المحرومين والفقراء، ولكنها تسير عكس كل ذلك إذا سنحت لها الظروف للوصول للسلطة في مكان ما، ولا نحتاج الى جمع شواهد من بعض التجارب المعاصرة فالكل شاهد على ما أحدثته الحركة الإسلامية بعد وصولها للسلطة سواء كان في أفغانستان أو في السودان، التي عملت على تدمير البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية والفكرية، ففي السودان بعد أن كانت تسير الحياة السياسية على نسق ديمقراطي تتنافس فيه الأحزاب السياسية في أجواء تتجه للتكامل والنضج في العمل السياسي الحر، جاءت الحركة الإسلامية للسلطة بانقلاب عسكري صادر هذه التجربة وما زالت مقاليد السلطة بيده، ناهيك عن الممارسات اللاأخلاقية في بعض الجوانب الاقتصادية والاجتماعية مضافاً لتجاوز أبسط القيم الأخلاقية في التعامل مع المعارضة السياسية، والمتابع للتجارب الإسلامية لا يطالبنا بذكر شواهد تدلل على الأزمة الأخلاقية التي تعيشها هذه الحركات سواءً على مستوى العمل الحركي أو ممارسة الحكم والسلطة، وما تنقله وسائل الأعلام لممارسات داعش من قتل وتفجير وغدر وخيانة كافي للحكم على انقلاب هذه الحركات على قيم الإسلام وتعاليمه السامية.
الاتجاه الدولي يتعارض مع قيمية الإسلام
إشكالية الرؤية السياسية الإسلامية في عالم اليوم هي هيمنة نموذج الدولة الحديثة على طبيعة التفكير السياسي عند الإنسان المعاصر، فقد وجد الإنسان المسلم نفسه في ورطة الحداثة التي لا يجد مفراً للخروج منها، ومسايرة الحركات الإسلامية لنموذج الدولة الحديثة قد يؤدي الى تخليها عن نظامها القيمي الذي تفرضه طبيعة الانتماء الى الإسلام، فقيام دولة إسلامية تحافظ على خصوصيتها القيمية في ظل مناخ دولي ضاغط في اتجاه واحد يتعارض مع النموذج الأخلاقي للإسلام، مما يجعل إقامة نظام إسلامي مهمة شبه مستحيلة.
والخطاب الإسلامي اليوم بالفعل مبتلى بعقدة الحداثة، الأمر الذي يجعله بين خيارين: يمثل الخيار الأول البعد البراغماتي الذي يعمل على تبرير الخيارات ومداهنة الواقع ليتمكن من مسايرة الاتجاه العام. والخيار الآخر يمثل الأصولية المتحجرة الرافضة لكل منتجات الحداثة، وبين الخيارين تضيع الفرص لإنتاج رؤية أكثر واقعية تساهم في تكوين وعي سياسي يمكن أن نحتفظ فيه بأخلاقيات الإسلام في الوقت الذي يتاح فيه الاستفادة من مكتسبات الحداثة، وهذا الخيار يمثل طموحاً حالماً لا يمكن الوصول اليه في ظل التعقيد الذي يشهده الواقع وفي ظل خطاب إسلامي ينقصه الكثير لتجاوز التصور التاريخي للإسلام.
وفي أحسن الحالات أصبح الإسلام مصدراً لقوانين الأحوال الشخصية في الدول الحديثة، حيث كتب في معظم دساتير الدول الإسلامية عبارة كون الإسلام مصدراً من مصادر التشريعات، في عبارات خادعة تعمل على إفراغ الإسلام عن محتواه الطبيعي المتفاعل مع الواقع الاجتماعي والسياسي وحصره في بعض القوانين التي لا تؤثر على التوجه السياسي للدولة، بل قد وظفت الدولة بهذا العمل الإسلام لصالح مشروعها السياسي عندما تستخدم الإسلام كترضية للشارع الإسلامي بعد أن عملت على إعادة انتاج هذه التشريعات بالشكل الذي ينسجم مع الواقع الذي تفرضه سياسات الدولة.
والحركات الإسلامية التي واجهت الدول القائمة اليوم مع اعتراف تلك الدول بالإسلام كمصدر لم تقدم تصور مقنع للعمل السياسي الإسلامي خارج حدود هذه التشريعات والقوانين الشخصية، وبعد وصول بعضها للسلطة نجد إنها حولت مفهوم الدولة الى مجرد حدود من قطع وبتر ورجم وجلد، في صور قشرية تتصادم بالطبع واليقين مع أبجديات الدولة الحديثة، فتجربة طالبان، وشريعة جعفر نميري في السودان، وبعض المناطق التي وقعت تحت حكم التيارات الإسلامية مؤخراً في سوريا والعراق، كشفت عن حجم التنافر الكبير بين محاولات إقامة دولة إسلامية وبين مفهوم الدولة الحديثة.
وهذا التعارض الذي صورناه بين الدولة الحديثة والدولة الإسلامية، لم يكن محل قبول الكثيرين فرفضت بعض قيادات العمل الإسلامي هذا التعارض بين المشروعين، وحاولت أن تقدم تصوراً يتحقق فيه هذا الانسجام، وهو الخيار الذي يبدو أكثر تعقلاً وموضوعية، مع انه قد يفضي في خاتمة المطاف الى التنازل عن مشروع سياسي خاص بالإسلام، والانتصار لمشروع الدولة الحديثة مع بعض الرتوش التي تحاول إرضاء الطموح الإسلامي، فقد كتب دكتور عبد المنعم أبو الفتوح القيادي الإخواني السابق والمرشح المستقل للرئاسة في مصر مقالاً قال فيه: "وعندما نتأمل النصوص الإسلامية نجد إنها تخلو من أي شكل محدد للدولة، ونجدها تؤكد على القيم والمبادئ العليا التي يجب أن تستند اليها الدولة، تاركة شكل الدولة وطريقة إدارتها للمتغيرات الزمانية والمكانية. فالدولة باعتبارها ضرورة من ضرورات الاجتماع السياسي يجب أن تقوم للحفاظ على النظام وتنظيم شؤون الناس، أما شكلُها وطريقتها فهي متروكة للناس يطورون ويغيرون ويضيفون ويحذفون فيها بما تقتضيه مصالحهم التي تتغير من حين لآخر".
والدولة المدنية كتعبير عصري عن الدولة الحديثة بما يتلائم مع المتغيرات الجديدة لا يتعارض مع تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لان الإسلام هو المرجعية العليا للأوطان الإسلامية أو هكذا يجب أن يكون الحال. فالدولة الحديثة بما فيها من آليات ونظم وقوانين وأجهزة إذا لم يكن فيها ما يتعارض مع ثوابت الإسلام القطعية فلا يوجد ما يمنع من تطويرها والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة كمنتج إنساني عام يجب الإفادة منه لصالح تقدمنا وتطورنا.
وعلى الجانب الآخر فإننا يجب أن نُقر جميعاً بأن مفهوم الدولة الدينية "كمصطلح" لم يرد في الإسلام! بمعنى ان قيم ومبادئ الإسلام الأساسية لا تؤسس لحكم "ثيوقراطي"، ولو كان الإسلام يرى ان في ذلك صالح الناس لنصّ على ذلك صراحة، وهو الدين الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في تنظيم شؤون الناس إلاّ ونصّ عليها، من الزواج والطلاق.. إلى السلم والحرب.
ان ما دعا اليه الإسلام بهذا الشأن هو التزام الدولة كمؤسسة تنظيمية بمرجعية الإسلام، ومنع سنّ أي قانون مخالف لثوابته القطعية فقط..". ( ).
وإن كان هذا النص يحمل فكراً متقدماً لتجاوز الإشكال السابق إلاّ انه يُعد تنازلاً عن الشعار التقليدي للإخوان المسلمين، كما يُعد كفراً في نظر الحركات الراديكالىة التي ما زالت تقاتل من أجل هذا المشروع وهو (إقامة دولة إسلامية)، فإذا كان في نظره مصطلح الدولة الإسلامية لا وجود له في القرآن، فلماذا من الإساس يرفع شعار هذه الدولة؟ وإذا كانت الدولة وجدت لتحقيق مصالح الناس، فكيف نتفهم وجود سياسة إسلامية رسمت سلفاً لتحقق مصالح الناس في كل زمان؟ فما يجوز نسبته للإسلام هو ما صرح به الله ورسوله وطالما لم يصرحوا بشكل او بنظام الدولة فكيف ننسب اجتهادات الإسلاميين للإسلام؟ فليس هناك فرق بين القول (دولة إسلامية أو دولة الله ودولة رسول الله). فطالما لا يوجد بيننا من يمكنه الحديث نيابة عن الله لا يوجد كذلك من يمكنه الحديث عن دولة إسلامية، وبالتالي الإطار الذي يجب أن يفهم فيه العمل السياسي الإسلامي هو العمل الجماهيري الحزبي الذي يتنافس مع الأحزاب الأخرى بحسب برنامجه السياسي فكما ان بعض الأحزاب قد تتشكل ضمن رؤية اشتراكية مثلاً، كذلك الحال في الأحزاب الإسلامية التي اشتركت وتوحدت في بعض الرؤى التي تمثل اجتهاداتهم في الإسلام، وهي المساحة التي نحترم فيها هذا الخيار الجماعي وليس لكونه يمثل الإسلام أو مراد الخالق، وكل ذلك من أجل الاحتراز من مصادرة هذه الحركات الإسلامية حقوق الناس باسم الإسلام ونيابة على الله.
فبالمقدار الذي فشلت فيه الحركات الإسلامية سياسياً فشلت أيضاً اخلاقياً، ولم تتمكن من تقديم صورة أخلاقية ناصعة سواء في العمل الحركي أو في إدارة الدولة، برغم ان حركة الإخوان المسلمين تحتفظ بأدبيات ضخمة في تربية الأفراد من تزكية وتعليم وترابط أخوي، إلاّ ان آثار هذا العمل لم تنعكس على مستوى الفعل الاجتماعي والسياسي ولم يظهروا بسلوك يميزهم كثيراً عن بقية المسلمين، فلا إخوان مصر كانوا نماذج متميزة ولا إخوان سوريا وتونس والسودان واليمن والأردن وبقية الدول العربية، وشعوب كل دولة من هذه الدول تحتفظ بملفات ضخمة لكثير من ممارسات الإخوان الغير أخلاقية سواء كانت في دور المعارضة أو السلطة، الأمر الذي يقودنا لتفهم نفور الكثير من شعوب المنطقة من العمل السياسي الإسلامي، ولكي تكسب الحركة الإسلامية ثقة الشارع الإسلامي لابد من العمل على تأسيس سياسة متشبعة بأخلاق الإسلام وقيمه النبيلة، ولا نقصد الأخلاق العامة التي هي تكليف يجب أن يتحلى بها كل مسلم من صدق وأمانة على المستوى الشخصي ..، وانما نقصد الأخلاق التي يحتاجها العمل الاجتماعي والسياسي من عدالة وإنصاف وحرية ومساوة والدفاع عن سيادة الأمة وكرامتها والتضحية من أجل مصالحها. وهذا مالم تنجح فيه حتى الحركة الإسلامية الشيعية في العراق.
-----------------
*مقتطف من كتاب دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة