إنّ فلسفة الأحكام التي تقع في مدار المعرفة البشرية لا تكون شاملة وعامّة لمختلف الأفراد. وفي جميع الظَّروف والمتغيّرات، بل هي مبتنية على أساس مصلحة الأكثرية من الناس وهي جارية في الغالب من الأفراد لا الكل.
وتوضيح ذلك هو: أنّ فلسفة أيّ حكم من الأحكام لا تكون متجانسة مع خصوصيات كل الأفراد، كما أنّها ليست منسجمة مع خصوصيات الفرد الواحد على الدّوام وفي كل الحالات، وبتعبير آخر: ليس فيها عمومية إفرادية ولا عمومية حالاتية، بل هي مبتنية على أساس أغلب الحالات وأغلب الأفراد.
ولكن هذا الأمر لا يقدح بعمومية الحكم، أي أنّ هذا الحكم يجب أن يطبّق حتى على الأفراد والحالات الفاقدة لتلك الفلسفة والحكمة، ولا فرق في هذه المسألة بين الأحكام الشرعية والمقررات والقوانين الاجتماعية.
ولمزيد من التوضيح إليك الأمثلة التالية:
1 - من قوانين شرطة المرور أنّه يمنع مرور السّيارات إلَّا من جهة واحدة في بعض الشوارع.
وفلسفة ذلك هي الحدّ من حوادث المرور وتخفيف الزحام، ولكن هذه الفلسفة قد لا تصدق لكل الأفراد وفي كل الحالات، نعم هي صادقة في الأعم الأغلب من الأفراد والحالات، ولكن القانون لابدّ أن يطبّق على الجميع.
فلو أنّ سائقاً كان على درجة عالية من المهارة والانتباه بحيث يمكنه السّير في الاتجاه المعاكس في تلك الشّوارع بدون أن يتسبب في حادثة أو يعرقل المرور، ففلسفة ذلك القانون غير صادقة في حقّه، ومع ذلك لا يجوز له أن يخالف القانون، ولو فعل ذلك عوقب من قبل السلطات المختصة.
وهكذا مثال هذا القانون من قوانين المرور والسياقة كمنع اجتياز التّقاطعات في حالة الضوء الأحمر، والتوقف في الأماكن التي يمنع التّوقف فيها.
سؤال: إذا لم تكن فلسفة الأحكام دائمية وشاملة، فلماذا أضحت نفس الأحكام دائمية وشاملة؟ ففي المثال السابق لماذا لا يكون مرور الأشخاص الذين يمكن أن يؤدي مرورهم من تلك الشوارع إلى حدوث حوادث واصطدامات أو يؤدي إلى عرقلة السير ممنوعاً، ويكون مسموحاً للآخرين ؟
والإجابة على هذا السّؤال جليّة: فإن القانون إذا لم يكن عاماً وشاملا، كان ضعيفاً ومضطرباً ولا يمكن تطبيقه بالمرّة، إذ إنّ كل شخص حينئذ سيدعي أنّه مستثنى من ذلك القانون ولذا ينبغي أن تكون صياغة القانون بشكل يوفّر له الشمولية على الرغم من كون فلسفة هذا القانون تابعة للأعم الأغلب لا للكل.
2 - يعتبر اعتداد المرأة بعد طلاقها أحد القوانين الإسلامية، ومن فلسفة هذا الحكم هو معرفة ما إذا كانت الزوجة قد حملت من زوجها السابق، فلا تضيع الأنساب وإلَّا فقد يتداخل النسب ويشكل معرفة ذلك فيما لو تزوجت المرأة مباشرة بعد طلاقها ثم حملت، فلا يعلم من هو أب الولد هل هو الزوج الأول؟ أو الثاني؟ فهذه جزأين فلسفة الاعتداد، ولكن هذه الفلسفة قد لا تصدق في حقّ بعض النّساء، كالنّساء العقيمات اللائي نعلم بعدم إنجابهنّ، ومع ذلك فإنّ الاعتداد واجب عليهن في حال طلاقهنّ.
كما أنه يمكن أن لا يكون لهذا الغرض موردٌ في نساء أخريات في بعض الحالات، ومع ذلك يجب عليهنّ الاعتداد، ولكي لا يكون ذلك حجّة للفرار من الاعتداد وأن يقول كل شخص: إني أعلم بأنّ تلك المرأة ليست بحامل.
3 - المثال الثّالث: مسألة أسهم الإرث لكل من الذكر والأنثى - التي يتوجّه بالاعتراض إليها اليوم بعض الناس، وحتى بعض الهيئات الدولية وأثاروا حولها ضجّة دون أن يلتفتوا إلى فلسفتها - وعلَّة كون سهم الذكر ضعف سهم الأنثى هو أنّ النفقة تكون على عاتق الرّجل وليست على المرأة مسؤولية الإعاشة في الأسرة.
ولكن هذه الفلسفة أيضاً ليست متحققة دائماً وإنما هي غالبة ومع ذلك فالقانون كلي ويجب تطبيقه في كل الأحوال والموارد، فالطفل الصغير لا يتعهد بشيء من النفقة على عائلته، ومع ذلك فهو مشمول لهذا الحكم، وكذا لو كبر ربّ الأسرة وعجز عن العمل فأخذت زوجته تعمل وتصرف عليه، فإنّها مع ذلك لا تستثنى من هذا الحكم مع أنّ فلسفة الإرث مفقودة هنا.
ومن الواضح أنّ الأحكام لو خضعت لمثل هذه المتغيّرات لنشب الجدل العقيم بين النّساء والرجال فلا ينقطع أبداً.
4 - الإسلام يحكم بأن دية المرأة نصف دية الرّجل، أي لو قتل رجل وحكم على القاتل بدفع الدّية وجب عليه أن يدفع ألف دينار ذهب إلى أولياء المقتول، أما إذا كان المقتول امرأة وجب عليه دفع خمسمائة دينار ذهب فقط.
وفلسفة هذا الحكم أنّ الدّية ليست ثمناً للدم إذ أنّ دم الإنسان لا يقيم بثمن، وإنّما الدّية شرعت لتعويض الخسارة النّاشئة من فقدان القتيل، ومن المسلَّم أنّ الخلل الاقتصادي والخسارة المادية النّاشئة من فقد الرّجل أكبر من الفراغ النّاشئ من فقد المرأة من جهة مدلولاته الاقتصادية على العائلة، ولذا كانت دية الرّجل ضعف دية المرأة.
ولكن هذه الفلسفة قد لا تكون متحققة دائماً بل أخذت فيهما جهة الأغلبية فمثلا لو كان المقتول طفلا فلا تصدق هذه الغاية عليه، ومع ذلك فالحكم ثابت ولا يتغيّر بارتباك بعض الموارد.
ولو كان الفراغ الحاصل من فقد المرأة أكبر من الفراغ الاقتصادي الحاصل من فقد الرّجل في بعض الأسر، فالقانون يبقى عاماً وشاملًا لمثل هذه الموارد مع أنّ الغاية غير متحققة ظاهراً.
والنّتيجة، هي أنّ الحكم الشرعي والقانون الإلهي عام من حيث التطبيق، وأمّا فلسفة الحكم فهي مبتنية على الأعم الأغلب، وبالالتفات إلى هذه النكتة تتضح الكثير من الإشكالات التي يثيرها البعض حول الأحكام الإسلامية.