وقد اتفقت الأمة على أن العلم الواجب على جميع المكلفين هو معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وكل ما يتعلق بأصول الدين والاعتقاد، مضافاً إلى العلم بالأحكام التي يلتزم بها المكلف في عباداته ومعاملاته والتي يصطلح عليها بفروع الدين، وكلٌ منهما ينقسم إلى فرض عينٍ وفرض كفاية، فهذه أربعة أقسام وبيانها بنحو الاختصار كما يلي:
1- الواجب العيني من أصول الدين: معرفة الله وصفاته وأفعاله بنحو يحصل له الاطمئنان بها وتسكن نفسه لصحّتها وإن لم يتمكّن من ردّ الشبهات والإشكالات لعدم معرفته باصطلاحات العلماء.
2- الواجب الكفائي من أصول الدين: معرفة ذلك بمستوى ردّ الشبهات وحلّ الإشكالات ودفع المغالطات.
3- الواجب العيني من فروع الدين: معرفة أحكام المسائل -من العبادات والمعاملات- التي يكون في معرض الابتلاء بها والحاجة لها.
4- الواجب الكفائي من فروع الدين: معرفة أحكام المسائل بأدلتها التفصيلية وهو المصطلح عليه بالاجتهاد.
وقد أشارت رواية الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى ما يجب على المكلف العلم به، حيث قال: (وجدت علم الناس في أربع:
أولها: أن تعرف ربك ومفادها وجوب معرفة الله تعالى التي هي اللطف.
وثانيها: أن تعرف ما صنع بك من النعم التي يتعيّن عليك لأجلها الشكر والعبادة.
وثالثها: أن تعرف ما أراد منك: فيما أوجبه عليك وندبك إلى فعله لتفعله على الحد الذي أراده منك فتستحق بذلك الثواب.
ورابعها: أن تعرف ما يخرجك من دينك، وهي أن تعرف الشيء الذي يخرجك عن طاعة الله فتتجنّبه) (كشف الغمة، 2، ص255)
وقد وردت بعض الروايات التي تحمل الناس على طلب العلم بحيث لا يكون لهم من الأمر سعة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قَالَ: (لا يَسَعُ النَّاسَ حَتّى يَسْأَلُوا، وَيَتَفَقَّهُوا وَيَعْرِفُوا إِمَامَهُمْ...) (الكافي، ج1، ص97). بمعنى لا يسع الناس نسبة اعتقاداتهم وأعمالهم إلى الدين إلا إذا تفقهوا وتعلّموا.
وفي حديث آخر سُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): هَلْ يَسَعُ النَّاسَ تَرْكُ الْمَسْأَلَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: (لا) (الكافي، ج1، ص73).
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: (أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ طَلَبُ الْعِلْمِ والْعَمَلُ بِهِ، أَلا وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِ الْمَالِ؛ إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ، قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ، وَضَمِنَهُ، وَسَيَفِي لَكُمْ، وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ؛ فَاطْلُبُوهُ) (الكافي، ج1، ص73)
وقد يفهم من هذه الروايات أن وجوب طلب العلم الذي يزيد على حد الوجوب العيني يراد به تحقيق تمام الدين وكماله على النحو التالي:
1- تدين المؤمن لا يكتمل إلا بطلب العلم والعمل به، فالعلم الذي يزيد على ما يحتاجه من تحقيق ما كلف به يكون من باب تحقيق التمام والكمال في التدين، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر (عليه السلام) قَالَ: (الْكَمَالُ كُلُّ الْكَمَالِ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ...) (الكافي، ج1، ص77)
2- صيغة التفضيل (أوجب) في رواية امير المؤمنين السابقة، تفيد أنّ طلب المال واجب وطلب العلم اوجب منه؛ وذلك باعتبار أن الغاية من العلم مقدمة على الغاية من طلب المال، وبما أن وجوب طلب المال في حدود الحاجة المعيشية، فإن طلب العلم أوجب أيضاً بمقدار ما يتوقف عليه اعتقاده وعمله، وما يزيد على ذلك فهو من باب تحقيق الكمال. كما يمكن تأويله على أن طلب العلم أوجب لأنه لا يتحصل إلا بالطلب بخلاف طلب المال الذي تكفل به المولى تعالى.
3- لا تعارض بين طلب المال وطلب العلم، بل قد يكون المال عوناً لطلب العلم، أما إذا كان طلب المال يمنع من تحصيل العلم الواجب، حينها يتعين تركه من اجل تحصيل العلم الواجب، وهذا في العادة غير متصور فبإمكان الإنسان تعلم ما هو واجب عليه من أمور الدين في كل ظروف العمل.
4- منظور الروايات في طلب العلم هو تحقيق البصيرة في الدين وهو أمر واجب لا يسع المكلف الاستغناء عنه، وليست ناظرة لتحصيل العلم التفصيلي بكل ما فيه، نقل عن الشيخ البهائي أنّه قال: "ليس المراد بالفقه الفهم ولا العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة عن أدلّتها التفصيليّة فإنّه معنى مستحدث بل المراد به البصيرة في أمر الدّين والفقه أكثر ما يأتي في الحديث بهذا المعنى والفقيه هو صاحب هذه البصيرة" (المازندراني ج2، ص33)، وتحقيق البصيرة موقوف على الاعتقادات الحقة والإتيان بالتكاليف الشرعية، وهذا هو المقدار الواجب تعلمه على كل مكلف.
المقال رداً على سؤال: هل يجب عليه التعمق في الدين ودراسة العقائد والفقه والتاريخ وغير ذلك من الامور المهمة؟ وجنابكم تعلمون أن دراسة ذلك يستغرق العمر بأكمله، وفي المقابل الحياة محدودة وامام الإنسان مسؤوليات أخرى تتعلق بأمر معاشه، فكيف يمكنه الموازنة بين هموم الحياة وبين طلب العلم الديني؟ ولكم جزيل الشكر.