وهذه المرحلة تبدأ بعد مقتل سيد الشهداء عليه السلام الى فترة الغيبة الصغرى ورغم ان التقاليد العربية السائدة في ذلك الزمان تقضي بعدم إقامة اهل المقتول المآتم عليه إلا بعد الأخذ بثأره، خوفاً من أن الحزن يطفئ نائرة الغضب والرغبة في الانتقام، وفي هذا يقول المؤرخ جواد علي: وكانت العرب لا تندب قتلاها ولا تبكي عليها حتى يثأر بها، فإذا قُتل قاتل القتيل بكت عليه وناحت[1]. وكلامه حق، شاهده قيام مشركي قريش بالامتناع على بكاء قتلاهم ببدر، إلا ان اهل البيت عليهم السلام خالفوا هذه السنة وأقيمت المآتم على سيد الشهداء من قبل اهل بيته عليه السلام وباقي المسلمين خصوصاً في المدينة، واليك أهمها:
أولاًـ أول هذه المآتم ما قام به أهل بيت الحسين عليهم السلام في كربلاء ليلة الحادي عشر من المحرم في ساحة المعركة بعدما وجدوا الحسين ـ بأبي هو وأمي ـ وأصحابه مضرجين بدمائهم الطاهرة. وقد ذكر هذا المأتم السيد ابن طاووس في كتابه الملهوف على قتلى الطفوف: 180، وابن نما الحلي في مثير الاحزان ومنير سبل الاشجان: 87، وأمالي الصدوق: 236، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين: 209، ومقتل الحسين لابن عساكر: 2/37، وتاريخ الطبري: 5/456، وابن كثير في البداية والنهاية: 8/193.
ثانياً ـ أثناء خطبة السيدة زينب عليها السلام في الكوفة، وبكاء الناس حتى ضجوا، فالحال وإن لم يقصد منه إقامة مأتم إلا ان ما حدث تنطبق عليه جميع خصائص المأتم الحسيني، من بكاء وحزن شديدين.
وقد ذكر هذا المأتم كل من الشيخ الطوسي في أماليه: 91، والطبرسي في الاحتجاج: 2/104، وابن طيفور في بلاغات النساء: 29، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول في مناقب آل الرسول: 76.
ثالثاً ـ ما قامت به عائلة الحسين عليهم السلام عند قبره أثناء عودتهم من الشام الى المدينة، كما عن السيد ابن طاووس في الملهوف: 225، والمجلسي في البحار: 45/146.
رابعاً ـ ما قام به اهل المدينة من مآتم عند سماعهم خبر استشهاده عليه السلام من أم سلمة، والتي رأته في المنام قبل رجوع عائلة الإمام الى المدينة، وقد ذكرها كل من الشيخ المفيد في أماليه: 319، والطوسي في أماليه: 90، والمجلسي في البحار: 45/230.
خامساً ـ المآتم التي أقامتها أم سلمة رضوان الله عليها وأهل المدينة بعد اعلان الحكومة نبا استشهاده صلوات الله عليه. وقد ذكر ذلك ابن طاووس في الملهوف: 207، والمفيد: 319، والطوسي: 89، في أماليهما.
سادساً ـ المآتم التي أقامها بنو هاشم في المدينة، كمأتم ابن عباس ومحمد بن الحنفية، ونساء بني هاشم. وقد فصلها المفيد في الارشاد: 2/123، والأربلي في كشف الغمة في معرفة الأئمة: 280، والطبري في تاريخه: 5/ 465.
سابعاً ـ المآتم التي أقامها اهل المدينة عند عودة عائلة الحسين عليهم السلام. ذكرها السيد ابن طاووس في الملهوف: 236، والمجلسي في البحار: 45/ 148.
ثامناً ـ المآتم التي أقامتها زوجات الإمام عليه وعليهن السلام. ذكرها أبو الفرج الاصفهاني في الأغاني: 16/149، والذهبي في تاريخ دمشق: 69، وابن كثير في البداية والنهاية: 8/210، وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص: 265، وأبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين: 90، والكليني في الكافي: 1/466، والمجلسي في البحار: 45/170.
تاسعاً ـ المأتم الذي أقامته السيدة ام البنين سلام الله عليها في البقيع، ذكره كل من: أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين: 90، والمجلسي في البحار: 45/40.
عاشراً ـ بكاء آل عبد المطلب ونواحهم يومياً في العام الذي استشهد فيه الإمام عليه السلام، وكذلك بكائهم في ذكرى استشهاده لمدة ثلاث سنوات، ومشاركة بعض الصحابة والتابعين في تلك المجالس، حتى سمي ذلك العام بعام الحزن. ذكره كل من الشجيري في أماليه: 175، والقاضي النعمان في المجالس والمسايرات: 103.
حادي عشر ـ ما كان يقوم به التوابون خصوصاً المأتم الذي أقاموه على قبر الحسين عليه السلام في طريقهم الى قتال اهل الشام[2].
وقد كانت طبيعة هذه المآتم مشابهة لما يقوم به العرب، من البكاء وإطعام المعزين، ولم تتخذ بعد هذه المآتم صفة الشعيرة، والطقس الديني، لقلة عدد اتباعه عليه السلام في هذه الفترة، بسبب تتبع السلطة لهم وقتلهم على الظنة، إلا انه عليه السلام ابتدأ الإعداد لسنها كشعيرة من شعائر الدين، فكان عليه السلام ينتهز الفرصة لتذكير الناس بما جرى على الحسين وعياله في كربلاء، فكان يبكي كلما شرب الماء[3]، واستمر بذلك حتى مقتل ابن زياد لعته الله حتى عُد من البكائين الخمسة في التاريخ[4]، كما كان يدعو الآخرين للبكاء على الحسين عليه السلام[5]، واستمر بهذا النهج الى آخر حياته الشريفة، وكان قد حضي في العقد الأخير من عمره المبارك بمكانة اجتماعية مرموقة، كما دلت عليه رواية ابيات شعر الفرزدق، وأصبح محط أنظار المسلمين.
واستمر الإمام الباقر عليه السلام بنهج والده في التذكير بما جرى بكربلاء، إلا نه عليه السلام قد اتيحت له الفرصة أكثر من سلفه الإمام زين العابدين، بسبب كثرة شيعته وتوافد طلبة العلوم الدينية للاستفادة من نمير علمه عليه السلام، فشرع في سن إقامة المآتم على الحسين شريعة دينية خالصة، فكان يقيم المأتم في بيته[6]، وبيان ما للبكاء على الحسين من أجر وفضل[7]، وحث الشيعة على إقامة المآتم في بيوتهم، مالم يعرضهم ذلك للخطر من قبل السلطة[8]، كما في رواية الجهني عنه عليه السلام: من زار الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء حتى يظل عنده باكيا .... قلت: جعلت فداك فما لمن كان في بعد البلاد وأقاصيها ولم يمكنه المصير إليه في ذلك اليوم، قال: إذا كان ذلك اليوم برز الى الصحراء أو صعد سطحا مرتفعا في داره، وأومأ إليه بالسلام واجتهد على قاتله بالدعاء، وصلى بعده ركعتين، يفعل ذلك في صدر النهار قبل الزوال، ثم ليندب الحسين (عليه السلام) ويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه، ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضا بمصاب الحسين (عليه السلام)، فانا ضامن لهم إذا فعلوا ذلك علي الله عزوجل جميع هذا الثواب.
لم يكن من الممكن فعل أكثر من ذلك أيام الحكم الأموي، بسبب مضايقتهم للشيعة آنذاك، وقد تبينت آداب إقامة وحضور المجالس الحسينية، كما في الرواية السابقة، وكذلك قيامه بجعل يوم عاشوراء عطلة رسمية كيوم عزاء عام، لقوله في رواية الجهني السابقة: فان استطعت ان لا تنتشر يومك في حاجة فافعل، فانه يوم نحس لا تقضى فيه حاجة وان قضيت لم يبارك له فيها ولم ير رشدا، ولا تدخرن لمنزلك شيئا، فانه من ادخر لمنزله شيئا في ذلك اليوم لم يبارك له فيما يدخره ولا يبارك له في اهله.
كما قام عليه السلام بحث الشعراء على رثاء الحسين عليه السلام، كما في رواية الكميت الشاعر عن الباقر عليه السلام: الكميت بن أبي المس تهل قال: دخلت على سيدي أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام فقلت: يا ابن رسول الله إني قد قلت فيكم أبياتا أفتأذن لي في إنشادها؟ فقال: إنها أيام البيض، قلت: فهو فيكم خاصة قال: هات، فأنشأت أقول: أضحكني الدهر وأبكاني * والدهر ذو صرف وألوان. لتسعة بالطف قد غودروا * صاروا جميعا رهن أكفان. فبكى عليه السلام وبكى أبو عبد الله عليه السلام وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء، فلما بلغت إلى قولي: وستة لا يتجازى بهم * بنو عقيل خير فرسان. ثم علي الخير مولاهم * ذكرهم هيج أحزاني. فبكى ثم قال عليه السلام: ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده يخرج من عينيه ماء ولو مثل جناح البعوضة إلى بنى الله له بيتا في الجنة، وجعل ذلك الدمع حجابا بينه وبين النار، فلما بلغت إلى قولي: من كان مسرورا بما مسكم * أو شامتا يوما من الآن ؟ فقد ذللتم بعد عز فما *أدفع ضيما حين يغشاني. أخذ بيدي ثم قال: اللهم اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه وما تأخر... الحديث[9].
ثم يأتي دور الإمام ابي عبد الله الصادق عليه السلام لترسيخ شعائرية المأتم الحسيني وتبيين أسسه ووضع الإطار العام له، لما أُتيح له من فسحة تاريخية أثناء فترة ضعف الأمويين وبداية عصر العباسيين، وما وصلنا من كلام الصادق في هذا المجال، يرسم لنا بوضوح هيكلية المأتم الحسيني، وهو المعيار المعتمد الذي انبنت عليه مجالس التعزية ليومنا هذا، كما سنوضح ذلك قريباً، هذا بالإضافة الى ما قام به الإمامان الكاظم والرضا عليهما السلام، وإن كانت فترة إمامة الأول عليه السلام تتصف بعودة التضييق على الشيعة، وشطراً من إمامة الثاني ايضاً عليه السلام.
وقد ابدى الإمام الصادق عليه السلام اهتماماً بالغاً بإقامة المآتم يوم عاشوراء، وزيارة الحسين فيه، والتذكير بعظمة المصاب، وما لهذا اليوم من أهمية، وضرورة أحياء ذكراه[10]، والامتناع عن الملذات فيه، والإمساك فيه عن الطعام والشراب حتى الغروب[11]، وارتداء السواد، وإقامة المأتم وإن كان الشخص بمفرده[12].
ويمكن تلخيص ما تقدم: ان الإمام السجاد عليه السلام قام بالتمهيد لجعل المأتم الحسيني شعيرة دينية، وأن الإمام الباقر عليه السلام قام بتأسيسها بنحو جلي وواضح، ثم جاء دور الإمام الصادق عليه السلام ليرسخ هذه الشعيرة ويبين أطارها العام، لليتم إكمال العمل على المأتم في أيام الإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام.
ومن مجموع ما تقدم يمكن رصد أهم ملامح المآتم الحسينية التي أقامها أهل البيت عليهم السلام، وهي:
- البكاء على الحسين واستذكار مصائبه.
- ضرورة استذكار المصاب بصورة منتظمة ومستمرة، ولو بشكل فردي.
- إقامة المآتم في البيوت، وجمع الأهل لاستذكار مصيبة الحسين.
- آداب ذكر مصاب الحسين عليه السلام، وكيفية تعزية بعض المؤمنين بعضاً.
- استذكاره عليه السلام عند شرب الماء.
- الرثاء بطريقة حزينة وجعلها في قالب الأشعار وجعل الآخرين يبكون.
- استثناء الجزع على الحسين عليه السلام من حرمة الجزع، من خلال الحكم بحلية اللطم وشق الجيوب التي هي من مظاهره.
- زيارة الحسين ورثائه والبكاء عليه في الأوقات كافة، وخصوصاً عند نزول بلاء يستدعي البكاء.
وقد كان ليوم عاشوراء في ذلك خصوصية، فبالإضافة الى الحث على ما تقدم، حث الأئمة عليهم السلام على:
- استقبال يوم عاشوراء من أول يوم من المحرم، وجعل الحزن تصاعدياً الى يوم العاشر منه.
- الحرص على زيارة الحسين فيه.
- التوقف عن العمل في هذا اليوم.
- إقامة مجالس التعزية في البيوت، وبصورة جماعية.
- الامتناع عن الملذات فيه الى الغروب.
[1] المفصل في تاريخ العرب: ج5، ص156. [2] تاريخ الطبري: 5/ 589. [3] ابن شهر آشوب، مناقب آل ابي طالب: 4/166. [4] في الخصال: 1/272، روى الصدوق عن الصادق عليه السلام: البكاءون خمسة: آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد وعلي بن الحسين. [5] الخصال: 517، أمالي الصدوق: 204، كامل الزيارات: 168. [6] المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، 3/142، الخزاز القمي، كفاية الأثر في النص على الأئمة الأثني عشر: 248، المجلسي، البحار:36/39. [7] الخصال: 517. [8] كفاية الأثر: 248، البحار: 36/291. [9] المجلسي، البحار: 36/392. [10] راجع: علل الشرايع، الصدوق، 1/225، مصباح المتهجد، 773. [11] المفيد، مسار الشيعة: 43. [12] مصباح المتهجد:177.