فالآيةُ تصلحُ شاهداً على وقوع عذاب القبر في الجملة، وأما ثبوتُ ذلك بما هو أكثرُ وضوحاً فيتمُّ من ملاحظة السنَّة الشريفة والتي أكَّدت على أنَّ العذابَ في القبر وعالم البرزخ واقعٌ لا محالة على أقوامٍ وأنَّ آخرين سوف يحظونَ في ذلك العالم بالنعيم، فهذا المقدار لا يسعُ المؤمن إنكاره، فإنَّ الروايات الواردة من طرقنا عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) في هذا الشأن تبلغُ بل تتجاوزُ حدَّ التواتر الإجمالي، فإذا ضممنا إليها ما ورد عن الرسول الكريم (ص) من طُرقِ العامَّة فإنَّها بذلك تفوقُ حدَّ التواتر بمراتب.
نعم التفاصيل الواردة حول عذاب القبر لم تصل إلينا إلا من طريق الآحاد، ولهذا لا يكون من غضاضةٍ على أحدٍ لو بنى على التوقُّف وعدم الإذعان بوقوعها أو وقوع بعضِها وذلك نظراً لعدم وجود ما يقتضي التثبُّت القطعي من الوقوع. وأما الإنكار لأصل وقوع العذاب في القبر والبرزخ على إجماله فهو ممَّا لا يسعُ المؤمن البناء عليه والإذعان به بعد قيام التواتر عن مَعدِن الوحي(ع) على وقوعه.
وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى أمرٍ وهو أنَّ عذابَ القبر من القضايا التي ينحصرُ طريقُ التثبُّت من وقوعها بالنقل، وذلك لأنَّها من القضايا الغيبيَّة المتَّصلة بالنشأةِ الأخرى التي لم ننتقل إليها، فهي لذلك غيرُ خاضعةٍ للمعاينة من أبناءِ هذه النشأة، وإنَّما يُعاينُها مَن انتقل إلى تلك النشأة، ولهذا لا سبيل إلى التثبُّت من وقوعها بواسطة الحسِّ والتجربة بل يتمحَّضُ سبيلُ التثبُّت من وقوعِها في الإخبار من طريقِ الوحي عن عالِم الغيبِ والشهادة، فحيثُ إنَّ وقوع العذاب في القبر وعالم البرزخ أمرٌ لا يُحيله العقل ، وحيثُ ثبت بالتواتر القطعيِّ عن النبيِّ(ص) وأهل بيتِه(ع) أنَّ ثمة عذاباً يقعُ بين النشأتين على أقوامٍ لذلك وجَبَ التسليم إذ هو مقتضى الإيمان بنبوَّة النبيِّ محمد (ص) وأنَّه لا ينطقُ عن الهوى إنْ هو إلا وحيٌّ يُوحى.
وأما دعوى أنَّ وقوع العذاب في القبر أمرٌ ينفيه الوجدان، لأنَّه كثيراً ما يتَّفقُ فتحُ قبور الموتى بعد دفنِها بيومٍ أو يومين فلا يُرى على أجسادِهم أثراً لعذاب، ولا يُرى أثراً لضغطةِ القبر أو غيرها من الأهوال التي تحدَّثت عنها الروايات. ألا يُؤشِّر ذلك إلى عدم صحَّةِ ما ورد في الروايات من وقوع العذاب في القبر؟!
فالجوابُ عن ذلك أنَّ هذه الدعوى نشأتْ عن توهُّم أنَّ العذاب في القبر يقعُ على أجساد الموتى والحال أنَّ أكثر الروايات لم تتصدَّ لبيان حقيقة وماهيَّة العذاب الذي سيقعُ في تلك النشأة وهل هو عذابٌ يقعُ على الأجساد أو هو عذابٌ يقعُ على الأرواح.
وثمة رواياتٌ عديدة أفادت أنَّ المعذَّب والمُنعَّم في عالَم البرزخ هي الأرواح الماثلة في قوالبَ برزخيَّة، فأجسادُ الموتى تظلُّ في قبورِها كما هي إلى أنْ تتلاشى، والذي ينالُه العذابُ والنعيم إنَّما هي الأرواح الماثلة في قوالبَ برزخيَّة لا علم لنا بحقيقتِها وكُنْهها، فإذا كان المرادُ من عذاب القبر والبرزخ هو هذا المعنى فإنَّه أمرٌ غيرُ قابلٍ للوقوف عليه بواسطة الحسِّ ومن طريق الإطلاع على أجساد الموتى بعد دفنِها، والذي يُؤكِّد أنَّ العذاب لا يقعُ على أجساد الموتى الماديَّة هو ما أفادته الكثيرُ من الروايات بأنَّ العذاب في القبر وكذلك النعيم قد يستمرُّ لبعض الكفار والعصاة ولبعض المؤمنين طويلاً أو إلى أنْ تقوم الساعة، ومن المعلوم أنَّ الجسد يتلاشى بعد الموت في مدَّةٍ يسيرة، وهذا أمر يُدركُه الجميع منذُ عصر النصِّ وقبله وبعده، وذلك يدلُّ بوضوح أنَّ مراد النصوص من عذاب القبر والبرزخ ليس عذاباً ماديَّاً يقعُ على الأجساد، وما يظهرُ من بعض الروايات أنَّ العذاب في القبر وعالَم البرزخ ماديٌّ يتعيَّنُ حملُه على إرادة الترميز والإشارة إلى العذاب البرزخيِّ وذلك لتقريب المعنى للأذهان أو يُحمل على أنَّ العذاب وإنْ كان يقعُ في القبر قبل تلاشي الجسد ولكنَّ هذا العذاب يقع بنحوٍ لا يكون قابلاً للرؤية من قِبل أبناء هذه النشأة، فالميِّتُ يتعذَّبُ دون أنْ يشعرَ بعذابه مَن هم حولَه من الأحياء، وذلك لأنَّ طبيعة العذاب الذي يقعُ على الميِّت مناسبٌ للنشأة البرزخيَّة التي لا يسعُ الأحياء من أبناء هذه النشأة الإطَّلاع عليها.
فحين يردُ في الروايات أنَّ الميِّت يُضغطُ في قبرِه أو يُعذَّبُ بلدغ ولسع الحيَّات والعقارب فإنَّه قد يكونُ المراد من ذلك أنَّه يجدُ أَلمَاً يُساوقُ ألمَ الضغط واللسع دون أنْ يكون ثمة ضغطٌ أو لسْعٌ أو يكون المرادُ أنَّه يجدُ ألمَ الضغط أو اللسْع دون أنْ يكون ثمة ضغطٌ ولسعٌ ظاهريٌّ يُشاكِلُ الضغطَ واللسع الذي يقعُ في عالَم الدنيا، فالضغطُ واللسعُ وإنْ كانا حقيقيين ولكنَّهما من طبيعةٍ أخرى مناسبةٍ للحياة البرزخيَّة، ولذلك يتعذَّر على الأحياء من أبناء هذه النشأة الإطَّلاع عليها، وكم هي الوجودات الواقعيَّة التي لا يُمكن الوقوف عليها بواسطة السمع والبصر الحسِّيين؟ فهل يسعُ العاقلُ أنْ يُنكرَ كلًّ ما لا يُبصرُه بعينِه ولا يَسمعُه بأُذنِه؟!.
ويمكن تقريبُ حالة الميِّت المعذَّب بالنائم الذي يُشاهد الأهوال وينتابُه منها الرعبُ والهلَع، فيُشاهدُ وحشاً كاسراً ينهشُ فى لحمه أو يُهشِّمُ عظامَه أو يجثمُ على صدره أو يجدُ ناراً تشتعلُ في جسدِه ويتألمُ لذلك، وقد يجدُ نفسَه يصرخُ أو يركُض أو يسقطُ من شاهقٍ وجسدُه في موضعِه على الفراش لا يتحرَّك، ولا يشعرُ مَن حولَه مِن المستيقِظين بما يُشاهدُه هذا النائم وبما يشعرُ به.
فمثلُ هذه الحالة التي يكونُ عليها النائم يُمكن أنْ تكونَ مؤشِّراً للإستئناس بإمكانيَّة أنْ يقعَ العذابُ على الميِّت ويَشعرُ به ويتألَّم منه دون أنْ يشعُرَ الأحياءُ ممَّن حولَه بما يشعُرُ به وما يُشاهدُه من أهوال وما يتألَّم منه، والفرقُ بين ما يجدُه النائم وبين ما يجدُه الميِّت هو أنَّ النائم إنَّما يجدُ صوراً ذهنيَّة، وأمَّا الميِّت فيُعذبُ بصنوفٍ من العذاب الواقعيِّ إلا أنَّ مَن حولَه لا يسعُهم المعاينة له، وذلك لأنَّ طبيعة العذاب مناسبةٌ لطبيعة النشأة التي انتقل إليها والتي هي مغايرةٌ لطبيعة هذه النشأة.
وخلاصة القول: إنَّ عدم الرؤية لآثار العذاب أو النعيم على أجساد الموتى بعد فتح قبورِهم لا ينفي وقوع ذلك عليهم بعد إمكانيَّة أنْ لا تكون طبيعة العذاب والنعيم مناسبةً لهذه النشأة ، وهذا أمرٌ لا يُحيلُه العقل ، فالتغايرُ بين النشأتين يقتضي التغايُر للقوانين المجعولة لكلٍّ منهما وهو ما يقتضي الحيلولة دون اطَّلاع أبناء هذه النشأة على أحوال مَن انتقل إلى النشأة الأخرى .
ثم إنَّ هنا أمراً يحسنُ بنا الإشارةُ إليه وقد نُفصِّله في مقالٍ لاحقٍ وهو أنَّ العذابَ والنعيم في القبرِ وعالَم البرزخ ليس حتماً على كلِّ الموتى كما أفادت ذلك الروايات ، فليس كلُّ ميِّتٍ إمَّا أنْ يكون في عذابٍ وإمَّا أنْ يكون في نعيم ، فثمة مَن يقعُ عليه العذاب ، وثمة مَن يحظى بالنعيم ، وثمة من يُتركُ حتى يُبعثَ يوم القيامة كما هو شأنُ المستضعفين من الرجالِ والنساء ، وثمة مَن يقعُ عليه العذاب لمدَّةٍ ثم يُرفعُ عنه فإمَّا أنْ يحظى بعده بنعيمٍ أو يُتركُ إلى يوم البعث .
اللهمِّ إنَّا نعوذ بك من عذاب القبر ونسألك العافية في المحيا والممات.