وَقْفَةٌ مَعَ الدُكْتور شَحْرور في آيَةِ الْحجَابِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 59].
صدق الله العلي العظيم
انطلاقا من الآية المباركة نطرح محاور ثلاثة:
المحور الأول: في الفرق بين التدبر والتفسير
التدبر عملية متاحة لكل مسلم باحث في القرآن حيث يقول القرآن الكريم: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24]، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)[ص: 29].
التدبر هو عبارة عن التأمل واقتناص العظة أو العبرة أو الدروس التربوية أو المعلومات التحليلية، فعندما يقرأ الإنسان الآيات التي تتحدث عن الآخرة يقتنص منها العظة، فهذا تبدر، وعندما يقرأ الإنسان قصة التاريخ القرآني يستلهم الدروس الاجتماعية والتربوية من خلال العرض القرآني فإن هذا تدبر، وعندما يقوم الإنسان بالمقارنة بين ألفاظ القرآن وبين ما وصلت إليه حقائق العلوم الطبيعية، مثلا عندما يقرأ الإنسان قوله تعالى(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) [فصلت: 11]، فما هو الفرق بين الدخان وبين أن هذا الكون كان كتلة غازية هلامية، وعندما يقرأ الإنسان قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) [الأنبياء: 30]، فما هي علاقة «الفتق» بنظرية الانفجار العظيم، فإن كل هذا يُعد تدبر، فهو تأمل في أجواء القرآن وآفاق القرآن، وهذه العملية متاحة لكل مسلم.
أما التفسير فإنه عملية أعمق من التدبر، فالتفسير وضع النقاط على الحروف، فهو تحديد المعنى الحقيقي للآية المباركة، أي أن الإنسان يُشخّص أن هذا هو المعنى المقصود لله تبارك وتعالى في هذه الآيات المباركات، فإن تحديد المعنى الحقيقي للآية هي عملية تفسير، وهي أعمق من التدبر وأدق منها، لذلك عملية التفسير ليست متاحة لكل أحد.
إن عملية التفسير ليست متاحة لكل أحد لكن ليس لأنها حرام بل لأنها تحتاج إلى خبرة علمية أكثر مما تحتاجها عملية التدبر، فإن عملية تفسير القرآن تعتمد على أربعة علوم أساسية:
العلم الأول: علم اللغة
فإن القرآن الكريم نزل باللغة العربية (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195») [الشعراء: 193 - 195]، فبما أن القرآن الكريم باللغة العربية فإذن فهم ألفاظه بعد 1400 سنة يحتاج إلى إلمام بعلم اللغة، واللغة العربية بطبيعتها تتغير وتخفى بعض ألفاظها وبعض معانيها وتنكمش بعض مضامينها، إذن تحتاج إلى خبرة بعلم اللغة حتى يستطيع الإنسان أن يضع الألفاظ بإزاء معانيها اللغوية العربية كما نزلت به من السماء.
العلم الثاني: علم البلاغة
القرآن قمة في البلاغة، فهل من الممكن أن أخوض فيه من دون معلومات بلاغية، فإن هذا غير ممكن، فإن القرآن يقول بنفسه (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: 88]، إذن يحتاج علم البلاغة حاضرا عندما يدخل المفسر آفاق القرآن الكريم، مثلا عندما يقول تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة: 55]، فهو عبّر بلفظ الجمع مع أنه يريد إنسانا واحدا، فلماذا عبر بلفظ الجمع؟ وما هي النكتة البلاغية في التعبير بلفظ الجمع مع أن القرآن يُريد شخصا واحدا؟ فإن هذا نوع من البلاغة، إذن علم البلاغة علمٌ أساس في تفسير القرآن الكريم.
العلم الثالث: علم القانون
القرآن هو كتاب قانون، فالقرآن ثلثه قوانين وتشريعات، هذه التشريعات وهذه القوانين منها المطلق ومنها المقيِّد، منها المجمل ومنها المفصل، منها موارد التعارض، ومنها موارد التزاحم، ومنها ما يُعمل فيه بالدليل، ومنها ما يُعمل فيه بالأصل، إذن الخوض في قوانين القرآن يحتاج إلى علم القانون، لذلك أسس الفقهاء علم الأصول، فعلم أصول الفقه هو عبارة أخرى عن علم القانون، فإن علم القانون بلغة حوزوية هو الذي يُعنى بإدارة القوانين وتحليلها والربط ما بينها سواء كانت في القرآن أو السنة النبوية.
العلم الرابع: علم الحديث
ربما يأتي إنسان ويقول لا نحتاج إلى الحديث والقرآن عربي، ونحن عرب والألفاظ واضحة فلماذا ندخل في علم الحديث؟ وما هو ربطه بالقرآن؟ نحن نقول أن القرآن نفسه يدعو لذلك، فأنت عندما تقرأ قوله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) [الجمعة: 2]، يعني الكتاب يحتاج إلى تعليم وليس واضحا كما تراه، فالكتاب مع أنه نزل بلفظ عربي واضح إلا أن المعاني الدقيقة الواقعية للكتاب تحتاج إلى تعليم، فالقرآن نفسه يقول (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران: 7] وكذا يقول (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت: 49]، إذن يحتاج القرآن إلى علم، وأهل العلم به هم من وضعهم النبي فقد اتفق المسلمون جميعا على صحة حديث الثقلين «إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُم بِهِمَا»، فالقرآن وأهل البيت، فأهل البيت شارح للقرآن ومفسر له، فلابد من الرجوع إلى أحاديث أهل البيت، ولا نقصد أيَّ حديث بل الأحاديث الصحيحة الثابتة والتي يُعتمد عليها في مجال تفسير القرآن الكريم.
هذه علوم أساسية أربعة في تفسير القرآن الكريم، وكذلك هناك علوم فرعية يحتاجها المفسر، فالقرآن يضم مضامين فلسفية، فالمفسر يحتاج إلى خلفية ثقافية فلسفية، فالقرآن يتحدث عن قصص الإنسان منذ يوم آدم إلى يوم النبي ، فالغور في هذا الباب يحتاج إلى علم الاجتماع ليكتشف الإنسان كيفية تكون المجتمعات واندراسها، وما هي السنن التاريخية التي تتحكم في مسيرة المجتمعات، فالقرآن يتحدث عن النفس وشؤونها وخواطرها وجميع تفاصيلها الدقيقة، فيحتاج الإنسان إلى العلم الإنساني علم النفس ليتدبر المعاني القرآنية في هذا المجال.
إذن عملية التفسير ليست عملية سلسة ومتاحة وبراحة الإنسان أن يسلكها بل هي عملية معقدة تحتاج مجموعة من العلوم، ولذلك رُبطت بمن يمتلك هذه الأدوات وبمن يمتلك هذه العلوم.
المحور الثاني: في تناول آيتي الحجاب
المرحوم الدكتور محمد شحرور تناول آيتي الحجاب كما تناول عدّة آيات من القرآن الكريم بمنهج خاص سلكه في تحليل مضامين القرآن الكريم.
الآية الأولى: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 59].
هنا الدكتور استند إلى عنصرين:
العنصر الأول: عنصر النبوة
في عنصر النبوة قال أن الآية افتتحت بالنبي ولم تفتتح بالرسول، فلم تقل «يا أيها الرسول» بل «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ»، وفَرْق بين النبوة والرسالة، فإن النبوة تعني من تَلقى أنباء الغيب، والرسالة تعني من حمل التشريعات وبلّغها إلى المجتمع البشري، ففرق بين المقامين والموقعين، فالنبي هو من يتلقى أنباء الغيب عِبر الوحي، بينما الرسول مُكلّفٌ برسالة يُبلغها للمجتمع، وهذا الفرق بين النبي والرسول يرجع إلى جذر آخر - ذكره الدكتور في كتابه القرآن والكتاب - وهو الفرق بين القرآن والكتاب، فالقرآن هو مجمع العلوم، بينما الكتاب هو مجمع القوانين والتكاليف، والقرآن عنصر حضوري وموضوعي، بينما الكتاب عنصر ذاتي ومتغير.
ما هو الفرق بين العنصر الموضوعي والعنصر الذاتي؟
العنصر الموضوعي هو العنصر الثابت الذي لا يتغير بتغير الإنسان، فوجود الشمس عنصر موضوعي سواء وُجد الإنسان على الأرض أو لم يوجد فالشمس باقية، مات الإنسان أو بقي فإن الشمس باقية فهذا عنصر موضوعي، البعث عنصر موضوعي فإنه سيكون يوم بعث على كل حال، سواء أراد الإنسان أم لم يرد فإن هذا شيء ثابت لا يتغير بتغير الإنسان، وهذه تُسمى عناصر موضوعية؛ لأنها لا تدور مدار اختيار الإنسان ولا حركته، وهذه العناصر الموضوعية تضمنها القرآن الكريم، فكل المعلومات عن الكون وما وراء الكون حملها جزء من الكتاب يُسمى القرآن، فالقرآن مجمع للعلوم - علوم الكون وما وراء الكون - لذلك القرآن عنصر موضوعي، سواء صار تشريع أو لا، صار إنسان أو لا، فإن هذه العلوم عناصر ثابتة وموضوعية.
بينما نأتي للكتاب فإنه تشريعات وقوانين، وهذه القوانين مربوطة بالإنسان، فلو لم يكن إنسان على الأرض لما جاءت هذه القوانين، وكما أن تفعيل هذه القوانين يحتاج إلى الإنسان وحركة الإنسان واختيار الإنسان، فلو أن الإنسان رفضها ولم يمتثلها أصبحت القوانين فاشلة وعاطلة، إذن الكتاب عنصر ذاتي يدور مدار الإنسان، ليس مثل القرآن الذي هو عنصر موضوعي ثابت، ولهذا يقول أن القرآن شيء وأم الكتاب شيء آخر، فإن أم الكتاب فيها الحدود والعبادات والتعليمات والشرائع المرحلية والظرفية والدائمة، بينما القرآن ليس فيه أي تشريع بل هو وعاء العلم، ووعاء المعلومات والكون وما وراء الكون.
من هنا «النبي» هو من تلقى القرآن، والرسول من تلقى الكتاب. صحيح أن الوحي نزل - الوحي على قسمين - فهو نزل بعنصر موضوعي ثابت وهو القرآن فتلقاه، فمن تلقاه فهو نبي، ونزل بعنصر ذاتي متغير حسب حركة الإنسان فمن تلقاه فهو رسول، هذا هو الفرق بين موقع النبي وموقع الرسول.
ويريد أن يصل من هذا الكلام إلى أنه إذا ذُكر لفظ الرسول في القرآن الكريم فإن ما بعده تشريع؛ لأن الرسول هو من يحمل التشريعات، فعندما يقول «يا أيها الرسول بلّغ» فهو تشريع، لكن عندما يقول «يا أيها النبي» فإن هذا معناه معلومات لا تشريع، فإن ما يأتي بعد النبي من مضامين فهي تعليمات وليست تشريعات، فهي ليست تكاليف إلزامية للناس بل هي مجرد تعليمات وإرشادات.
ولذا لما نأتي إلى الفرق بين هاتين الآيتين (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النحل: 90] وبين قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11] فإن الفرق أن الآية الأولى تشريع ولذلك تدخل في الكتاب، والثاني علم ولذلك تدخل في القرآن، ومن تلقى الأولى فهو رسول، ومن تلقى الثانية فهو نبي، وهذا هو الفرق بينهما، فمتى أتت لفظة «النبي» فإن ما بعدها تعليمات، ومتى ما أتت لفظة «الرسول» فإن ما بعدها تشريعات.
الآن لما نُطبقها على آية الحجاب (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ولم يقل الرسول، إذن هذه تعليمات، (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) إدناء الجلباب يعني أن تُدني المرأة على صدرها، فإنه يقول أن هذا ليس بتكليف وليس بتشريع من السماء وإنما هو مجرد تعليم لظرف معين لتدارك مفسدة معينة وليس تشريعا لأن الآية بدأت ب «النبي».
العنصر الثاني: عنصر التاريخ
قال أننا إذا قرأنا التاريخ فإنه منذ بدء السومرية فإنه تاريخٌ كان يُقدّس الأنثى فكان تاريخا أموميا، ثم بعد أن جاءت الحضارة البابلية والآشورية صار التاريخ يُقدّس الذكر، فتحول المجتمع من أمومي إلى أبوي، ثم أخذ المجتمع أدوارا تارة مع الأنثى وتارة مع الذكر، حتى الديانات السماوية تأثرت بالمجتمعات التي عاشتها. العرب قبل مجيء الإسلام كان عندهم حرائر وإماء، وكانوا يميزون بين الحرة والأمة باللباس، فالحرة لها لباس والأمة لها لباس، فالحرة مثل خديجة - الدكتور يصف لباس خديجة - فهي تلبس غطاء يغطي شعرها عن التبعثر، وتلبس ثوبا من المنكبين إلى قريب القدمين، وهذا الثوب ليس فيه فتحات بل فيه فتحة واحدة في الأعلى تُبرز أعلى صدرها، هكذا أذناها ووجهها بارزان حتى مقدار من صدرها وهذا حال الحرائر قبل الإسلام، بينما الأَمَةُ شعرها بارز وبدنها بارز لأنها بضاعة والبضاعة تُشترى وتباع فلابد أن تكون بمرأى ومسمع من أهل السوق، فإذا ذهب المشتري إلى سوق النخاسة كيف يشتري الأمة؟ فإنه لابد أن يتأملها ويتفحص شعرها ومفاتنها فإذا أعجبته اشتراها، وهذا هو المائز بين الحرة وبين الأَمَة. وانعكس هذا المائز على الإسلام، فالإسلام لما جاء لم يغير شيء، فالوضع كما هو، حرّة وأَمَة وهذه الحرة لها لباس والأمة لها لباس، ولذا بعض الحرائر - خصوصا الشابة - ليس لها مزاج بأن تجعل على شعرها غطاء، وثوب طويل - وإن كانت حرة - فهي ترغب أن تخرج إلى السوق والشارع بلباس الأمة ليكون أَكَثر حرية لها، فتخرجن، وإذا خرجت هذه يظنها الناس أمة فيتعرضون لها لأن الإماء يتعرضن لتحرشات الفساق ومرضى النفوس فتصاب الحرة بالأذى نتيجة عدم تمييزها عن الأمَة، ولذا جاء القرآن الكريم ووضع مائزا وقال (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) كلهن حرائر، (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) وهذا ليس لأنه هذا تشريع سماوي وتكليف بل لتمتاز الحرة عن الأمة فلا تؤذى، (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وهذا تعليم مرحلي، ظرفي من أجل تدارك تلك المفسدة في ذلك الظرف وإلا هو ليس تشريعا سماويا نازلا من السماء.
هذا تحليل الدكتور محمد شحرور شرحناه مفصلا، ونحن نضع عدّة ملاحظات على هذا التفسير للآية المباركة:
الملاحظة الأولى: هل فعلا أن القرآن يعني قسما من الكتاب وهو المعلومات، والكتاب يعني التشريعات والتكاليف أم لا؟ نقول أن هذا ليس متطابقا مع الآيات القرآنية، لأننا إذا رجعنا إلى الآيات القرآنية نجد أن القرآن تفصيل للكتاب، فإننا عندما نقرأ قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود: 1] يعني أن القرآن خضع لمرحلتين، مرحلة إحكام وهي نُسميها قواعد عامة، كما لو أن أحدهم يريد أن يكتب كتابا في الرياضيات أو الفيزياء فهو أولا يضع قواعد عامة ثم يدخل في التفاصيل والتطبيقات، كذلك القرآن، مَرَّ بمرحلة إحكام - وضع قواعد عامة - ثم مرحلة تفصيل (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) وكلاهما منه تعالى (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود: 1]، فمرحلة الإحكام هي الكتاب، ومرحلة التفصيل هي القرآن، فالقرآن تفصيل للكتاب لا أن القرآن قسم يتضمن المعلومات، والكتاب قسم يتضمن التشريعات، بل الكتاب هو الإحكام وهو الآيات (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران: 7]، فأم الكتاب يعني القواعد العامة، والتفاصيل هي عبارة عن القرآن، وكذلك قوله تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت: 3]، كيف أنه قرآن فُصلتْ آياته قرآنا؟ لما نأتي ونعرضها على علماء النحو فإنهم يقولون أن «قرآنا» تمييز، «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ» فإن هذا الكتاب موصوف بأنه قرآن عربي، فالقرآن وصف للكتاب ولذلك وقع هنا تمييز، ويَعرِفُ من يدرس النحو الفرق بين الحال والتمييز، فالحال تسبقه المعرفة، وأما التمييز تسبقه النكرة، وهنا تمييز وليس حال لأنه سبقته النكرة، ولأجل ذلك القرآن تفصيل.
كذلك الآية الأخرى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17») [القيامة: 16 - 17]، قرآنه يعني تفصيله، فنحن نجمع ونحن نُفصّل، نحن نُحكم ونحن نفصل، (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17» فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «18» ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ «19») [القيامة: 16 - 19]، وقال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) [الإسراء: 106].
إذن القرآن هو تفصيلٌ للكتاب وليس القرآن هو مجمع علوم والكتاب مجمع تشريعات كما ذُكر وشرح سابقا.
الملاحظة الثانية: صحيح أن هناك فرق بين النبي والرسول، لكن الفرق بينهما هو أن النبي هو من يتلقى أنباء الغيب للعمل بها، فليست وظيفة النبي هي وظيفة نظرية بحيث يتلقى فقط، ووظيفة الرسول هي وظيفة عملية، بل النبي من يتلقى أنباء الغيب ليعمل بها، فحيثية العمل مأخوذة في النبي، عندنا أنبياء وليسوا برسل، النبي شعيب والنبي داوود والنبي سليمان فإن هؤلاء لم يكن عندهم شريعة بل كان النبي داوود والنبي سليمان يسيرون على شريعة النبي موسى ، والنبي شعيب كان على شريعة النبي إبراهيم ، فليس لهم شرائع لكن كانت لهم حيثية عملية يتلقى أنباء الغيب ليعمل بها، فالنبي له حيثية عملية، وهذه الحيثية العملية هي عبارة عن إدارة المجتمع، فإن إدارة المجتمع تعتمد على ركنين ألا وهما التشريع والتطبيق، فحتى تُدير مجتمعا لابد أن تُشرع قانونا ومن ثم تطبق القانون على موارده، النبي مهمته عملية وهي إدارة المجتمع تشريعا وتطبيقا، لا أن النبي يتلقى المعلومات فقط والرسول هو الذي يُنفذ تلك المعلومات في المجتمع، وهاهنا أعرض لك بعض الآيات القرآنية حتى تكتشف صحة ما بينا، فإننا إذا لاحظنا الآيات القرآنية فإنها تُسند إلى النبي دائما مهمات عملية (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) [الأنفال: 65]، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ) [التحريم: 9]، هذه مهمات عملية تتطلب تشريعا وتطبيقا، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) [الطلاق: 1]، هنا دعنا نسأل الدكتور شحرور هل أن التطليق هو تشريع أم تعليم؟ هو تشريع طبعا، فلا أحد يقول أن الطلاق تعليم مرحلي لظرف معين، فالطلاق تشريع وليس تعليم، وعندما يقول القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ) [الممتحنة: 12] فهذه إدارة عملية للمجتمع، وكذا عندما يقول القرآن الكريم (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب: 6]، يعني أن النبي له مقام الولاية في إدارة المجتمع.
إذن القرآن نسب أدوارا عملية حيوية للنبي بما هو نبي، ولأجل ذلك نجد ذات الوصف الذي وصفه القرآن للأنبياء وصفه للرسول تماما، فقال: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [البقرة: 213]، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165] يعني الدور واحد، فالمتاح والموكل لوصف النبي هو الموكل لوصف الرسول ، ومن هنا نقول أن ما ذكره الدكتور شحرور من أنه إذا قالت الآية نبي فإنه ليس تشريع بعد بل تعليم وإذا قالت الآية رسول فإن ما بعدها تشريع فإن هذا شيء غير متطابق مع القرآن، فإنه يأتي لفظ «النبي» وبعده تشريع كما يأتي لفظ «الرسول» وبعده تشريع، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبدا.
الملاحظة الثالثة: تقرأ كتاب «الكتاب والقرآن للدكتور شحرور» صفحات لنقل التاريخ الإنساني كيف كان يتعامل مع المرأة، وكيف كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكيف انعكس هذا على تعاليم الإسلام، إلى أن يأتي إلى هذه الآية - آية الحجاب - فيقول أن لها ليست تشريعا سماويا بل مجرد تعليم ونصيحة لتمييز الحرة عن الأمة لا أكثر من ذلك، إلا أن المنهجية الأكاديمية الموضوعية تقتضي أن لا تُقحم التاريخ في تفسير القرآن إلا إذا كان هذا التاريخ موثوقا، فإننا لا نشرح معلقة امرئ القيس ولا زهير بن أبي سُلمى حتى يعتمد التاريخ، بل تشرح القرآن، فإن اعتماد مادة تاريخية في شرح القرآن يتوقف على أن تكون هذه المادة التاريخية مادة موثقة، فإنه من غير الممكن أن آخذ من الطبري وابن كثير بعض المعلومات وأعتبرها قرينة من قرائن تفسير القرآن لأن الطبري ذكرها أو ابن كثير، بل لابد للباحث الأكاديمي الموضوعي أن يُعمل دليل حساب الاحتمالات، فإنه بدون دليل حساب الاحتمالات لا تستطيع أن تصل إلى نتيجة يقينية إطلاقا، فإنه من خلال دليل حساب الاحتمالات تجمع القرآن المختلفة ثم تقوم بضرب الاحتمالات بعضها في البعض حتى تصل إلى الوثوق بالمعلومة التاريخية، أما مجرد معلومة تاريخية مذكورة ونستخدمها في تفسير القرآن فإنه ليس من البحث الموضوعي بمكان.
الملاحظة الرابعة: إذا كانت الآية مجرد تعليم وليست تشريع فلماذا يقول في ذيل الآية (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) فإنه ليس هناك تكليف ولا ذنب، يعني لو أن الحرة لم تسمع هذا التعليم ولم تُطبق هذه النصيحة وخرجت مثلها مثل الأمة لم تُخالف تشريعا سماويا، وإذا لم تُخالف تشريعا سماويا لم ترتكب ذنبا فلا تحتاج إلى مغفرة، إذن تعبير الآية في ذيلها (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) فيه دلالة على أن مضمون الآية كان تشريعا سماويا تُلزم به المرأة، وإذا تخلفت عنه كان ذنبا، القرآن الكريم يقول ما مضى من عملكم أنا أغفره لكن ما يأتي يجب أن يكون على طبق القانون (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).
الآية الثانية: قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31].
عندما يأتي الدكتور شحرور لهذه الآية يقول أنها هذه الآية قالت (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) فإن ما ظهر يعني أن الزينة قسمين منها ظاهر ومنها خفي، والظاهر لا يجب ستره والخفي هو ما يجب ستره.
ما هي الزينة الظاهرة وما هي الزينة الخفية؟ قال الزينة الظاهرة ما أظهره الله، فالله خلقه ظاهر، فلماذا تُستره، والزينة الخفية هو ما خلقه الله خفيّا، فالفرق بين الزينة الظاهرة بحسب خلقة المرأة، فالمرأة خُلق جسمها بنوعين من الزينة، زينة ظاهرة وزينة خفية، فالزينة الظاهرة مثل شعرها ووجهها، صدرها، بطنها، ظهرها، ساقها، فالله أظهره، فهذه الزينة هي زينة ظاهرة لا يجب سترها لأن القرآن قال (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ). وأما الزينة الخفية هي الجيوب، والجيوب جمع «جيب» والجيب فتحةٌ لها طبقتان، وكل فتحة لها طبقتان فهي جيب، والجيب زينة خفية يجب سترها، فإن ما بين الإيليتين جيب، وما تحت الإبطين جيب، وما تحت النهدين جيب، وما بين النهدين جيب، فإن كل هذه جيوب لأن الله خلقها في جسم المرأة مخفية، وهذه الجيوب على المرأة أن تسترها وتغطيها تشريعا سماويا (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) يعني الزينة الظاهرة يجوز لها أن تظهرها، فطبيعي للمرأة أن تخرج بلا غطاء للرأس وبلا ستر للبدن، لأن هذه زينة الله أظهرها فلا يجب سترها. ثم لما يأتي إلى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فالخمر يعني الستور، والجيوب هي الزينة الخفية فيجب سترها بالخمار.
وهنا عندنا عدّة ملاحظات على هذا التفسير أذكرها باختصار:
الملاحظة الأولى: لم يستند الدكتور إلى مصدر لغوي معتمد، فأنت عندما تُفسر الزينة الخفية بالجيوب تحتاج إلى مصدر، وعندما تُفسر الجيوب هي كل فتحة في البدن لها طبقتان فهي جيوب، فما هو المصدر اللغوي المعتمد في ذلك؟! قد يأتي أحدهم ويحلل لكن هذا لا يصح به تفسير القرآن، بل نحتاج إلى مصادر لغوية معتمدة تؤكد لنا ذلك.
الملاحظة الثانية: نحن كلّنا عرب وعندنا لا ذوق عربي لا أقل، فهل ثمة عربي يقبل بذوقه أن يقال له ما تحت الإبطين زينة؟! أو داخل الفم زينة لأنه فتحة لها طبقتان؟! أو داخل الأنف زينة لأنه فتحة لها طبقتان؟! أو داخل الأذن زينة لأنها فتحة لها طبقتان؟! أو بين أصابع الرجلين زينة لأنه فتحة لها طبقتان؟! فإن هذا شيء ممجوج عربيا، فإن الذوق العربي السليم يمج ويستبشع أن تُفسر الزينة بالجيوب، وتُفسر الجيوب بهذا التفسير ويعتبر هذا من الزينة في جسم المرأة الخفية، مع أن أغلب هذه الجيوب موجودة في جسم الرجل أيضا، فنفس الجيوب موجودة في جسم الرجل، فما يفعل الرجل؟! إذن هي ليست زينة حتى يجب سترها وتدخل تحت إطار الزينة.
الملاحظة الثالثة: يلزم على تفسير الدكتور تكرار في الآية، لأن قوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) معناه الجيوب، فيجب سترها، ثم يعود مرة أخرى ويقول (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) وهذا تكرار في الآية لا ينسجم مع بلاغة القرآن الكريم.
ولذلك الفقهاء لما يأتون لهذه الآية المباركة هم بين فريقين:
الفريق الأول يقول: (مَا ظَهَرَ) أي ما ظهر قهرا على المرأة، فالمرأة تخرج إلى الشارع مغطاة لكن أحيانا تأتي الريح وترفع سترها قهرا عليها فيظهر شيئا من محاسنها فهي معذورة لأن هذا الظهور صار قهرا عليها، فالمقصود بقوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) يعني ما ظهر قهرا عليها فهي معذورة من جهته إذ أنها لم تتعمد كشفه وإنما ظهر قهرا عليها. ولذلك بعض الفقهاء مثل السيد الخوئي «قدس» عنده الأحوط وجوبا ستر حتى وجه المرأة لأنه يقول لا توجد زينة أبلغ من وجه المرأة، فإنه إذا كان صدرها زينة فإن وجهها أولى لأنه أشد زينة، لذلك عنده احتياط وجوبي حتى بستر وجه المرأة، فيقول أن الآية مطلقة ((وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) إلا ما ظهر قهرا على المرأة أو بدون اختيارها.
الفريق الثاني: يعتمد على الرواية، فكما قلنا أن علم الحديث علم أساس في تفسير القرآن الكريم يعتمد الرواية الصحيحة، ففي معتبرة الفضيل بن يسار يقول: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنِ الذِّرَاعَيْنِ - أي ذراعي المراة - مِنَ الْمَرْأَةِ أَ هُمَا مِنالزِّينَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى (وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) قَالَ نَعَمْ وَ مَا دُونَ الْخِمَارِ - هو ما يضرب على العنق من هذا الكتف إلى الكتف - مِنَ الزِّينَةِ وَ مَا دُونَ السِّوَارَيْن - فالسوار يُجعل على المعصم عند الكف -.
وكذلك في رواية مسعدة بن زياد سُئل جعفر بن محمد ما هي الزينة الظاهرة التي قال (إِلَّا مَا ظَهَرَ) فقال: الوجه والكفان.
إذن بالنتيجة فإن تناول الدكتور محمد شحرور لآيتي الحجاب كان تناولا غير مبتني على أسس علمية رصينة، وكذا كثير من المقالات والبحوث القرآنية التي طرقها فإنها ابتنت على منهج شخصي تحليلي ولو عُرِض - هذا البحث والتحليل - بحسب الموازين الأكاديمية فإنه لا يكون بحثا علميا، ولا يكون بحثا موضوعيا.
المحور الثالث: في القدوة الزهراء
القرآن الكريم فرضَ الحجاب على المرأة، وَضع الجلباب على صدرها، ووضع الخمار على بدنها، ولم يَفْرض الحجاب لأجل خَنق المرأة ولأجل سد باب الحرية على المرأة وإعاقتها عن مشروعها العلمي والعملي، بل هي مثل الذكر والمجال مفتوح أمامها، وإنما فرض الحجاب لهدفين أساسيين:
الهدف الأول: أن الحجاب مظهر للعفاف
فالمرأة عندما تخرج بزينتها ومفاتنها الجذابة تُصبح - شاءت أم أبت - معرضا للتحرش والأذى والتناول من قبل مرضى النفوس، وهذه الحالة أراد الإسلام أن يسد بابها، أراد أن يحافظ على عزة المرأة وكرامتها أن تتعرض لمثل هذه المحاولات المرضية المشينة، فأمرها بالحجاب كمظهر لعزتها وكرامتها وعفافها، فالمرأة عندما تتحجب كأنها تقول للرجل هذا مظهر لعتفي وكرامتي وحرمتي، صحيح الحجاب ليس لباسا بل هو مضمون وفلسفة، الحجاب ليس قماشا بل هو مضمون وفلسفة عملية وسلوكية، لكن هذه العملية القماشية اللباسية التي يأمر الإسلام بها هي عملية رمزية ترمز للعفاف وترمز للعزة والكرامة، ولذلك أمر بها الإسلام كمظهر وكرمز لحرمة المرأة وكرامتها.
الهدف الثاني: المحافظة على الترابط الأسري
أنت لو تعيش في الولايات المتحدة أو أوربا وانظر أي الأسرة، ما الذي بقي من الأسرة، فعندما ارتفعت الحواجز بين الرجل والمرأة أصبح الرجل يجد له متنوعات وآفاق يُشبع بها غريزته وعاطفته، وأصبحت المرأة لها أصدقاء تُشبع من خلالها عاطفتها وبالتالي بردت العلاقة العاطفية الحميمة بين الزوج والزوجة، بل أصبحت علاقة وظيفية كأنهما موظفان في مؤسسة، فالأواصر العائلية والروابط الأسرية تزعزت نتيجة ارتفاع الحواجز بين الرجل والمرأة، فالمرأة تجد لها متنافسين، والرجل يجد له متنافسات، فلم يعد أحدهما يحتاج للآخر لإشباع عاطفته ولإشباع غريزته، لذلك أصبحت الأسرة مهددة بانعدام الأمن العاطفي، وبانعدام الشعور العاطفي الرقيق بين الزوجين الذي تحدث عنه القرآن الكريم بقوله: (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم: 21].
من هنا وظيفتنا المحافظة على هذين الهدفين، هدف ظهور زوجاتنا وبناتنا ومتعلقينا بمظهر العفة والحرمة والكرامة، بمظهر الحجاب الكامل (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ) [التحريم: 6]، فأنت مسؤول عن زوجتك، وعن بناتك، فنحن مسؤولون عن المحافظة على هذا المجتمع المتدين، والمجتمع المحافظ، المجتمع الذي لم يعقه الحجاب عن بروز بناته في مجال الطب والهندسة وفي مجالات متعددة، فالحجاب غير عائق، فالمحافظة على الصورة الدينية الجميلة لمجتمعنا من خلال نسائنا وبناتنا وأرحامنا مسؤوليتنا المعلقة على عوتقنا وأعناقنا (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة: 71]، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 104]، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 110]، أما إذا أراد تيار معين أن يفرض نفسه على المجتمع من خلال مظاهر معينة وصور معينة فإن هذا لا يعني أن المجتمع تبخر دينه، فإن مجتمعنا لا زال - والحمد لله - واعيا ملتفتا رشيدا، فالأمل ما زال في مجتمعنا أن يحافظ على مظاهر الاحتشام والحجاب والتدين والالتزام فالزهراء قدوتنا.
الزهراء قدوتنا في الجهاد، قدوتنا في التضحية، قدوتنا في البذل، وهي القدوة في مجال الخفر والصون والحجاب، فاطمة الزهراء أول مجاهد في خط الإمامة، فاطمة الزهراء أول شهيد في درب الإمامة، فاطمة الزهراء أول أم أنجبت أبطالا بذلوا كل ما عندهم في سبيل الإسلام حسنا وحسينا وزينب وأم كلثوم، فاطمة الزهراء علمت أبناءها منذ نعومة أظفارهم على العطاء والبذل (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا «8» إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا «9») [الإنسان: 8 - 9].
المرحوم الشاعر الولائي أبو رياض محمد سعيد الجشي «رحمه الله» يقول:
صَلَى الإلهُ عَلَى البتولِ وآلِها
نَبويَّةُ الأعراقِ طَيِّبَةُ الشّذَى
مَا قُورِنَتْ شَمْسُ الضُحى بِجمالِها
هي صورةٌ مِنْ أَحْمَدٍ وضاءَةٌ
مَنْ تَخْضَعُ الأمْلاكُ عِنْدَ جَلالِها
عِطْرُ الْجِنان يفوحُ مِنْ أَذيالِها
إلا تَسامَتْ رِفْعةً بِجلالِها
والشَّمسُ تَمْنَحُ ضَوْءَها لِهلالِها
فاطمة الزهراء أقبل إليها الحسن وهو صغير، فقال لها: سمعت جدي رسول الله يقول: ما هو أفضل شيء للمرأة، فقالت يا بني: أفضل شيء للمرأة أن لا ترى أجنبيا ولا يراها أجنبي، وفي رواية أخرى: أن لا ترى الرجل ولا الرجل يراها، فالحديث يتحدث عن مرتبتين، المرتبة الأعلى من الكمال أن لا ترى الرجل ولا الرجل يراها، المرتبة الأدنى من تمام الحجاب أن لا ترى الرجل رؤية تُحرك غريزتها وأن لا يراها الرجل رؤية تُحرك غريزته.
فاطمة يقول عنها الحسن - الذي كان عاش مدة أطول من أخوته ولذا كانت له ذكريات عنها أكثر - يقول: ما رأيت أعبد من أمي فاطمة، فإنها إذا قامت في محرابها لا تنفتل من صلاتها حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها، وما رأيتها دعت لنفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات، فأقول لها: أماه فاطمة، لمَ لا تدعين لنفسك؟ فتقول: بني، الجار ثم الدار.
فاطمة حافظت على صونها وخفرها حتى عندما قامت بمهمتها، خرجت إلى المسجد تخطب في الناس، وضربت دونها ملاءة محافظة على خفرها وصونها، وخطبت خطبتها البليغة التي ما زالت تتردد أصداءها إلى هذا اليوم، فاطمة لما خطبت أنت أنة أجهش لها الحضور بالبكاء والنحيب، فأنينها يُبكي وحنينها يُبكي، فهي تحمل في قلبها آلام وأشجان، وكانت إذا وقفت على قبر أبيها بثت الأحزان والشجون:
مَاذَا عَلى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدِ
صُبَّت عَليّ مَصائِبٌ لَوْ أَنْها أَنْ لا يَشَمَّ مَدى الزمانِ غَوالِيا
صُبتْ عَلى الأيامِ صِرْنَ لَيالِيا
للحصول على آخر التحديثات اشترك في قناتنا على تليجرام:
المصدر: موقع آية الله السيد منير الخباز