(الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل)
لا يغيبن عنك أن ما سبق من ولاية الله سبحانه لعبده ولزوم توكله عليه وحسن ظنه به لا يقتضي أن يترك المرء التمسك بالأسباب التي جعلها تعالى للأشياء، فإن ذلك جهل بمواضع الأمور.
اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام
فإنه تبارك وتعالى هو الذي خلق هذه الأسباب وجعلها وصلة إلى آثارها، وبنى عليها هذه النشأة الدنيا، فلا بد للمرء أن يتوصل في مقاصده الصحيحة الدنيوية والأخروية إلى ما جعله الله تعالى من أسبابها بمقدار جهده، من غير نقض للقيم الفاضلة، ثم يتكل في ما يتفق له عليه سبحانه.
وقد روي أنه جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل؟ قال: (اعقِلها وتوكّل).
وعلى ذلك جرت سُنَّة الله سبحانه مع عباده الصالحين ــ حيث أمرهم بتبليغ الرسالة والاجتهاد فيها ووعدهم بالنصر والغلبة، ولم يلغ في حقهم التمسك بالأسباب ــ من القتال والاحتجاج والاختفاء وسائر وجوه التدبير، حتى إذا أعوزهم ذلك كله أدركتهم العناية الإلهية متممةً لهم ما جهدوا فيه، حتى حقق نصره وأظهر رسوله، وفيما أخبر به الله تعالى من سيرته مع نبيه الخاتم (ص) وسائر الأنبياء من قبل في القرآن الكريم ما يكفي دلالة على ذلك.
ومما يندرج في هذا الباب استيفاء المرء في تشخيصه لما هو الصواب في أفعاله وأقواله لما يدركه العقل، من خلال ما مكنه الله سبحانه من أدواته من التأمل والتفكير والتتبع والاستقراء والمشورة والانتصاف من النفس وغيرها، ويسأل الله تعالى أن يوقع في قلبه ما يشاء ويختار له ما هو خير له، ولو اعتمد على الاستخارة بدلاً عن التعقل والمشورة فقد تمسك بالتوكل قبل بذل الجهد في السبب، فإن لم يجد استجابة لطلبه فلا يلومن إلا نفسه.
وعليه فإن على المرء أن يتوسل في جميع غاياته المشروعة والصحيحة إلى ما جعله الله سبحانه وتعالى من الأسباب، بلا فرق بين أموره الدنيوية من قبيل الرزق والعافية والزواج والمكانة، أو أموره الأخروية من البصيرة الثاقبة والأعمال الصالحة والدرجات العالية والتوبة النصوح وغيرها، ثم يتوكل على الله سبحانه في أن يكتب له ما هو خيره ورضاه، ويحسن الظن به في تقدير المصلحة له فيها في حاضرها وعواقبها كما عهد إنعامه عليه قبل معرفته له، وإحسانه إليه قبل إقراره به، وقد قال عزَّ من قائل : (أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) وقال : (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ).