أوّلاً: مِن عقائدِ الشّيعةِ التي أجمعوا عليها هوَ أنّ الجنّةَ والنّارَ موجودتانِ ومخلوقتانِ الآن، قالَ الشّيخُ الصّدوقُ: واعتقادنا في الجنّةِ والنّارِ أنّهُما مخلوقتانِ، وأنَّ النّبيَّ (ص) قد دخلَ الجنّةَ، ورأى النّارَ، حينَ عُرجَ به. (الاعتقادات للصّدوق ص79).
وقالَ الشّيخُ المُفيد: إنَّ الجنّةَ والنّارَ في هذا الوقتِ مخلوقتانِ، وبذلكَ جاءَت الأخبارُ وعليهِ إجماعُ أهلِ الشّرعِ والآثار، وقد خالفَ في هذا القولِ المُعتزلة والخوارجُ وطائفةٌ منَ الزّيديّةِ. (أوائلُ المقالاتِ للمُفيد ص124).
روى الصّدوقُ بسندٍ مُعتبرٍ عَن عبدِ السّلامِ بنِ صالح الهروي - في حديثٍ طويل - عنِ الرّضا عليه السّلام، قالَ: قلتُ لهُ يا بنَ رسولِ اللهِ: أخبِرني عنِ الجنّةِ والنّار، أهُما اليومَ مخلوقتان؟ قالَ: نعَم، وإنّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله قد دخلَ الجنّةَ ورأى النّارَ لمّا عُرجَ به إلى السّماءِ، قالَ: قلتُ لهُ إنَّ قوماً يقولونَ إنّهما اليومَ مُقدّرتانِ غيرُ مخلوقتينِ، فقالَ عليه السّلام: ما أولئكَ منّا ولا نحنُ منهم، مَن أنكرَ خلقَ الجنّةِ والنّارِ فقَد كذّبَ النّبيَّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وكذّبنا، وليسَ مِن ولايتِنا على شيءٍ، ويُخلّدُ في نارِ جهنّم ). (عيونُ أخبارِ الرّضا: 1 / 106).
ثانياً: إنّ النّبيّ (ص) قد عرجَ ببدنِه وروحِه الشريفةِ إلى السّماءِ، وهذا أيضاً مِن ضروريّاتِ مذهبنا.
ثالثاً: ثبتَ أنّ النّبيَّ (ص) في رحلةِ المعراجِ قد دخلَ الجنّةَ وأكلَ مِن طعامِها، ورأى بعضَ النّاسِ مُعذّبينَ في النّار.
وعليهِ نقول: نؤمنُ بما رآهُ النّبيّ (ص) في المعراجِ، ولا ننكرُه، مِن بابِ الإيمانِ بالغيبِ وتصديقِ الرّسولِ، قالَ تعالى: (هُدىً للمُتّقينَ الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ)، فإنّ نبيّنا (ص) قد أخبرَ عنهُ، وهو صادق.
ونحنُ نعلمُ أنّه أمرٌ ممكنٌ، إذ رؤيتُه للمُعذّبينَ في النّارِ والمُنعّمينَ في الجنّةِ، على الحقيقةِ، ليسَت منَ الأمورِ التي يحيلها العقلُ أو يمنعُها الشّرعُ، كيفَ يحصلُ طيُّ الأرضِ؟! وكيفَ حصلَ إحضارُ عرشِ بلقيس منَ اليمنِ إلى فلسطين بأقلِّ مِن طرفةِ عين؟! وكيفَ كانَ عيسى يُحيي الموتى؟! وكيفَ عُرِجَ بنبيّنا (ص) إلى السّماءِ؟! هذهِ أمورٌ مُمكنةٌ وواقعة.
ولكِن نذكرُ بعضَ الاحتمالات في هذا المجال:
الاحتمال الأوّلُ: أنّ اللهَ تعالى أخرجَ نبيَّه (ص) منَ الزّمانِ الحالي وأدخلَه في الزّمانِ المُستقبلِ، رحلةٌ إلى عالمِ الآخرةِ والقيامةِ، فرأى أهلَ النّارِ وهُم يُعذّبونَ في النّار.
ولعلّهُ أخرجَه منَ الزّمانِ الماضي والحالي والاستقبالي، وأراهُ الأشياءَ مُنسلخةً منَ الزّمان.
فإنّ الماضي والحالي والمُستقبل كلّه حاضرٌ عندَ اللهِ تعالى مُنكشفٌ له، ولا يختلفُ عليهِ الزّمانُ والمكان، وحضورُ الأشياءِ ليسَت زمانيّةً عندَه تعالى، فلعلَّ اللهَ أطلعَ نبيَّه (ص) على الأشياءِ وهيَ حاضرةٌ عندَه تعالى.
وهذا الأمرُ وإن كانَ يصعبُ على العقلِ تعقّلُه، لأنَّ تعقّلنا مقترنٌ بالزّمانِ، ولكنّه أمرٌ ممكنٌ، وليسَ في حيّزِ المُستحيلات.
الاحتمال الثّاني: أن تكونَ رؤيتُه لشاكلةِ الأعمال، فإنّ الأعمالَ تتجسّمُ في عالمِ الملكوتِ والبرزخِ والقيامةِ، فإنّ بعضَ الأعمالِ السّيّئةِ باطنها وحقيقتها نارٌ وعذابٌ وجحيم، كما أنّ بعضَ الأعمالِ الحسنةِ باطنُها وحقيقتُها روحٌ وريحانٌ وجنّةٌ ونعيم، ويمكنُ لبعضِ أولياءِ اللهِ رؤيتُها ببعضِ طبقاتِ وجودِهم.
الاحتمال الثّالثُ: أن يكونَ تجسّدَ لهُ مصيرُ ومستقبلُ هؤلاءِ الرّجالِ والنّساءِ، كما تجسّدَت لهُ الدّنيا على شكلِ امرأة، فيكونُ اللهُ بعدَ أن أرى نبيَّه الجنّةَ والنّارَ، أطلعَه على لوحِ القَدَر، فرأى مصيرَهم ونتائجَ بعضِ أعمالِهم السّيّئةِ في النّار.
الاحتمال الرّابعُ: أن يكونَ رأى مثالَهم وصورَهم التي في السّماءِ، فإنّ لكلِّ إنسانٍ مثالٌ في العوالمِ الفوقانيّةِ، وهناكَ تأثيرٌ وتأثّرٌ وارتباط بينَ البدنِ الأصليّ والمثالِ الفوقيّ، فلعلَّ الإنسانَ إذا قامَ بعملٍ موجبٍ لدخولِ النّارِ، فإنّ مثالَه وصورتَه تتعذّبُ وتتنعّمُ، فيكونُ النّبيُّ (ص) قد رأى صورَهم التي في السّماء.
والاحتمال الأوّلُ أقربُ إلى ظاهرِ النّصوصِ.
والاحتمالات الثّلاثةُ الأخيرةُ مبنيّةٌ على عدمِ رؤيةِ النّبيّ (ص) لذواتِ المُعذّبينَ، وإنّما رأى أعمالَهم المُجسّمةَ، أو مصيرَهم، أو مثالَهم.