يتردَّد على الألسنة أنَّ مولاتنا السيدة زينب بنت علي عليها السلام نادت في اليوم الحادي عشر من المحرم من يركبني على ظهر ناقتي ويصور أنَّها قد أركبتها فضة بعد محاولات من الإمام زين العابدين (عليه السلام).
والسؤال: هل في كلِّ مرَّة تنزلُ من ناقتها ثم تريد الركوب وهي كثيرة جدًا يتكرَّر لها نفس المشهد أم ماذا، وهل ذكرت في المصادر الموثوقة؟
إن المصادر المعتبرة في الجملة لم تتصدى لبيان كيفية ركوب نساء أهل البيت على النياق حين المسير بهنَّ من كربلاء إلى الكوفة، ومقدار ما ورد في ذلك هو مثل ما أفاده الشيخ المفيد في الإرشاد قال: " وأقام -عمر بن سعد- بقية يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ثم نادى في الناس بالرحيل وتوجَّه إلى الكوفة ومعه بنات الحسين وأخواته، ومن كان معه من النساء والصبيان، وعليُّ بن الحسين فيهم وهو مريض .."(1).
وأفاد السيِّد ابن طاووس في اللهوف: "وأقام بقيَّة يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس ثم رحل بمن تخلَّف عن عيال الحسين (عليه السلام) وحمل نسائه صلوات الله عليه على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء"(2).
وفي الحدائق الورديَّة قال: "ولما فرغ القوم من قتل الحسين (عليه السّلام) وأصحابه رضي الله عنهم، ساقوا حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما تُساق السبايا حتى بلغوا الكوفة"(3).
هذا وما يقربُ منه -يزيد قليلًا وينقص- هو المقدار الذي بيَّنته الكتب المعتبرة في الجملة لكيفيَّة انتقال نساء أهل البيت من كربلاء إلى الكوفة، فلم أجد في شيءٍ منها تفصيلًا لبيان كيفيَّة الركوب على النياق.
ما ورد في بعض الكتب غير المعتبرة:
نعم ورد في بعض كتب المتأخرين(4) أنَّ السيِّدة زينب (ع) والسيِّدة أم كلثوم (ع) توليتا إركاب النساء والأطفال بعد أنْ طلبت السيِّدة زينب من رجال معسكر ابن سعد الابتعاد فابتعدوا، عندها تقدَّمت السيِّدة زينب -ومعها أم كلثوم- وجعلتْ تُنادي كلَّ واحدة من النّساء باسمها، وتُركبها على المحمل، ثم أعانت السيِّدةُ زينب (ع) أختها السيِّدةَ أم كلثوم على الركوب، وبقيت هي لم تجد من يُعينها سوى الإمام زين العابدين (ع) فقام متوكِّئًا على عصا وأتى إلى عمّته، وثنى ركبته، وقال: اركبي، إلا أنَّه لشدَّة ما به من الضعف لم يقوَ على إركابها بل ارتعش وسقط على الأرض، فتحيَّرت السيِّدة زينب (ع) حيثُ لم تجد من يُركبها، فبينما هي كذلك وإذا بجاريةٍ سوداء مسنَّة قد أقبلت إلى زينب، فأركبتها، قال الراوي فسألتُ عنها، فقالوا: هذه فضّة جاريةُ فاطمة الزّهراء (عليها السّلام).
التعليق على ما أورده بعض المتأخرين:
هذا بعض ما أورده بعض المتأخرين دون أن يُحيلَ ما ذكره إلى مصدر معتبر، وتعليقًا على هذا الخبر نقول:
إنَّ ركوب الناقة -للرجال والنساء على حدٍّ سواء- لا يتمُّ عادةً إلا بعد أن تُناخَ الناقة وحينئذٍ يسهلُ ركوبها، وكذلك فإنَّ النزول مِن على الناقة لا يتمُّ إلا بعد أنْ تُناخ الناقة ولذلك لا يشقُّ على المرأة الركوب بنفسها عليها كما لا يشقُّ عليها النزول بنفسِها من عليها دون الحاجة إلى أنْ تستعينَ بغيرها خصوصًا في الظرف الذي لا تجدُ فيه المرأة العربيَّة -المعتادة على التنقُّل بهذه الوسيلة- مَن تَستعينُ به على ذلك، نعم قد تكون المسنَّة والمريض والصغيرة بحاجة للمعونة بمثل الاتكاء، على أنَّ من الممكن بل من المتعارف وضع شيءٍ -حجرٍ أو شبهه- إلى جانب الناقة تصعدُه المرأة ثم تصعدُ منه إلى ظهر الناقة.
فدعوى تحيُّر السيِّدة زينب (ع) حيثُ لم تجد مَن يُعينها على الركوب لا معنى لها سوى غفلة الناقل للخبر عن طبيعة الحياة العربيَّة، ثم إنَّ صاحب الخبر قد ذكر أنَّ السيِّدة زينب (ع) قد أعانت النساء والأطفال على الركوب، فهي إذن ليست من الضعف بحيث لا تقوى على الاستقلال بالركوب خصوصًا وأنَّ السنَّ الذي بلغته لا يحول دون ذلك، فهي لم تصل للعقد السادس من عمرها الشريف، ولو كانت فضَّة خادمةُ السيِّدة فاطمة (ع) معهم لكانت أكبر منها سنًّا بمقدارٍ بيِّنٍ، لعلَّه يصلُ إلى العقدين أو أقلَّ بقليل أو أكثر.
ثم إنَّه لم يتَّضح الوجه في صياغة الخبر بنحوٍ يُوحي أنَّ فضَّة لم تكن معهم وإنَّما ظهرتْ بعد أنْ تحيَّرت السيِّدة زينب (ع)، نعم قد تكون فضَّة معهم وركبت قبل السيِّدة زينب (ع) وحين لم تجدْ السيِّدة زينب (ع) من يُعينُها نزلت وأعانتها على الركوب لكنَّ ذلك خلاف ظاهر الخبر قال ما نصُّه: "وإذا بجاريةٍ مسنّة سوداء قد أقبلت إلى زينب، فأركبتها، فسألتُ عنها. فقالوا: هذه فضَّة جارية فاطمة الزّهراء عليها السّلام".
ولا معنى لذلك إلا افتراض أنَّ فضَّة كانت مشغولة بشأنٍ من الشؤون فحين أقبلت وجدتْ السيِّدة تبحثُ عمَّن يُعينها على الركوب فبادرت إلى ذلك. وأما افتراض أن لا تكون معهم في القافلة ثم أقبلت حين تحيَّرت السيِّدة زينب (ع) فلا وجه له سوى الإعجاز وهو مقبول لو ثبت الخبر.
وأيًّا كان فالصحيح أنَّ النساء قد ركبن بأنفسهنَّ على النياق وأعانت القويَّةُ منهنَّ مَن تضعُفُ عن الاستقلال بالركوب، وكذلك هو الشأن في النزول فإنَّ ذلك لا يشقُّ عليهنَّ في العادة خصوصًا وأنَّه ليس بينهنَّ مَن هي متقدِّمة في السنِّ، ثم إنَّ النياق المعدَّة للركوب والتنقُّل سهلةُ القياد بطبيعتها تستجيب لسائسها فتبرُك للنزول مِن عليها حين يُراد منها ذلك وتظلُّ باركةً إلى أنْ يستويَ راكبُها على ظهرها، فلا تقوم حتى يستحثَّها راكبُها أو سائقها على ذلك.
الهوامش:
1- الإرشاد -المفيد- ج2 / ص114، وقريب منه ما ورد في أنساب الأشراف -البلاذري- ج3 / ص206، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص348، مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص64.
2- اللهوف -السيد ابن طاووس- ص84.
3- الحدائق الورديَّة- حميد بن أحمد المحلي - ج1 / ص215.
4- معالي السبطين -الحائري- الفصل 12 / المجلس الرابع / ص506.