في جهود النبي (صلى الله عليه وآله) لصالح الإسلام الحق
من الظاهر أن رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) لا تختص بالدعوة والتبليغ بالإسلام بكيانه العام الجامع بين الفرق المختلفة، والتي يكفًر بعضها بعضا أو يحكم بضلاله، والذي انتهى إلى ما هو عليه اليوم من وضع مأساوي.
بل تختص رسالته بالإسلام الحق، والفرقة الناجية المنحصرة بخط أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وبالإسلام المذكور تنحصر السعادة في الدنيا، والفوز بالثواب والأمن من العقاب في الآخرة.
وعليه لا يكون المعيار في مدى نجاحه (صلى الله عليه وآله) في قيام المجتمع الإسلامي بكيانه العام بل نجاحه في قيام الإسلام الحق.
ومن هنا قد يأتي التساؤل عن دور النبي (صلى الله عليه وآله) في إظهار الحقيقة، وفي الحفاظ على جوهر الإسلام القويم، وعما صنعه على الأرض في سبيل ذلك.
توهم فشل النبي (صلى الله عليه وآله) في مشروعه
بل قد يتوهم بعض الناس فشله (صلى الله عليه وآله) -ولو نسبيا- في ذلك، حيث لم يتفاعل عامة المسلمين معه في عصره، ولم يستطع إصلاحهم، بحيث ينهضون بحمل الدعوة بواقعها وصفائها.
فكانت الغلبة للمنحرفين والمنافقين، مما أدى إلى انحراف مسار السلطة في الإسلام من بعده (صلى الله عليه وآله)، لعجزه عن إقناع المسلمين، بحيث يتأثرون بحديثه وسريته ويتفاعلون معه تشريعاً وسلوكا، ويتمسكون بتعاليم الإسلام، ويتأدبون بآدابه.
توهم ضعف إدارة النبي (صلى الله عليه وآله)
كما قد يصل الأمر إلى توهم ضعف إدارته (صلى الله عليه وآله)، وفقده السيطرة على المسلمين، بتغاضيه عن مواقف المنافقين، واهتمامه بكثرة المسلمين كيف كانوا، وعدم أخذه بالحزم والاحتياط في الأمور، حتى تسنى للمنافقين ما أرادوا، وانهار مشروعه بواقعه المشرف، حتى كاد يقضى عليه من بعده، لولا جهود أهل بيته (عليهم السلام) وخاصة أصحابه (رضوان الله تعالى عليهم).
وغاية ما استطاعوا -بسبب الانحراف الذي حصل- أن أقاموا لدعوة الحق أمة مغلوبة على أمرها، والكثرة الكاثرة من المسلمين على خالفها، قد رضوا بالإسلام المحرّف الخاضع للسلطة، والجاري على ما تريد في السلوك والتشريع، والتي انتهت أخيراً بالتخلي رسميا عن تبني الإسلام كنظام حاكم.
بل أغرق كثير منهم في الإرهاب والوحشية، بنحو يعكس صورة سيئة عن الإسلام القويم ونبيه العظيم (صلى الله عليه وآله) -تشريعاً وسلوكا- يستغلها أعداؤها، كما نراه هذه الأيام.
بل سبق أن حصل ذلك في فترات متعاقبة من تاريخ الإسلام الطويل، كما في بعض فرق الخوارج، وثورة صاحب الزنج، وفرقة القرامطة، وغيرها، على ما أشرنا إليه آنفا.
التشنيع على الشيعة في دعوى انحراف السلطة
وربما يتغاضى بعض المتعصبين عن أدلة الإمامة المحكمة، وعن الواقع التاريخي المؤسف لكثير من الصحابة، وعن حال المسلمين المزري نتيجة انحراف السلطة في الإسلام، ثم يغرق في التشنيع على الطائفة المحقة التي تتبنى خط أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وتدعي انحراف مسار السلطة في الإسلام، وخفاء الإسلام الحق على جمهور المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وخروجهم عن كثير من تعاليمه (صلى الله عليه وآله).
وذلك بدعوى: أن ذلك طعن في شخصه (صلى الله عليه وآله) الكريم وتوهين له، حيث لم يستطع بعد جهوده المكثفة في تلك المدة الطويلة أن يصلح جماعة معتدا بها من أتباعه، تصلح لحمل دعوته القويمة بصفائها ونقائها، والمحافظة عليها، وتبليغها الأجيال اللاحقة.
بل لم يثبت على الحق في ذلك الوقت إلا قلة قليلة لا تتجاوز عدد الأصابع، ولا تستطيع الوقوف أمام الكثرة الكاثرة التي خفيت عليها تعاليم الإسلام القويم بحقيقتها الصافية، وانحرفت عنها.
رد الدعاوى المذكورة
والحديث في التعقيب على ذلك ودفع هذه الشبهات، وإيضاح موقف النبي (صلى الله عليه وآله) ومدى جهوده ونجاحه في مشروعه، يحتاج إلى جهد قد لا ننهض به، ولا نؤدي حقه المناسب في هذه العجالة.
غير أننا نحاول أن نؤدي ما يتيسر لنا بيانه هنا من ذلك بعد الاتكال على الله تعالى، وطلب العون والتسديد منه جل شأنه، وذلك ببيان أمور:
الوظيفة الأهم للنبي (صلى الله عليه وآله)
الأول: أن الأوهام المذكورة ناشئة عن عدم تحديد الأولويات في وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله) الشرعية، حيث سبق في مقدمة هذا البحث بتفصيل أن أول وظائفه وأهمها -كما هو حال سائر الأنبياء (عليهم السلام)- ليس هو إصلاح الناس واهتدائهم، بحيث يتقبلون تعاليم الدين، ويتمسكون بها ويحافظون عليها، ولا يخرجون عنها، بل هو تبليغ الناس بما عليهم وإيضاح معالم دينهم، وبيان أحكام الله تعالى وما فرضه عليهم عقيدة وعمال، وإقامة الحجة عليهم في جميع ذلك، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وقد سبق أن من المعلوم -من الكتاب المجيد والسنة والشريفة- قلة المهتدين والمؤمنين.
ومع ذلك كله بقي النبي (صلى الله عليه وآله) مصمما على المضي في أداء وظيفته وتبليغ رسالته مهام كلفه ذلك من ثمن، ومهام كانت النتائج على أرض الواقع، نتيجة تقصير الناس أنفسهم، والسلبيات الكثيرة في المجتمع الإسلامي الذي كان يعمل معه (صلى الله عليه وآله)، من دون تقصير منه (صلى الله عليه وآله) في التبليغ وأداء الوظيفة.
حتـى إنـه (صلى الله عليه وآله) قـال ـ كما في حديـث العربـاض بـن سـارية ـ:
«قـد تركتكـم على البيضـاء ليلهـا كنهارهـا، لا يزيـغ بعـدي عنهـا إلا هالـك...» (1).
مشيراً إلى وضـوح الإسلام الـحق نتيجـة جهـوده (صلى الله عليه وآله) في التبليـغ، بحيـث لا تحجبه الشـبهات، والفتـن التـي هـي كقطـع الليـل المظلم، ومحاولات التعتيـم والتضليـل مهما كانـت.
وقال الله عزوجل: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (2).
فإنه صريح في أن ما حصل من خلاف في اليوم الأول من وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وما حصل بعد ذلك ويحصل، كله بعد البينة ووضوح الحجة، حيث يكون أحد الطرفين بمنزلة الكافر الذي يسود وجهه يوم القيامة، ولا يعذر في موقفه، وإن انتحل الإسلام، وانتسب له.
كما تضمنته كثير من الآيات الشريفة في حق الأمم السابقة. قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد) (3).
ما يقتضيه كون الإسلام خاتم الأديان
الثاني: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمتاز عن بقية الأنبياء (عليهم السلام) بأن دينه خاتم الأديان وشريعته خاتمة الشرائع، فلابد من أن يكون التبليغ بها بواقعها المشرف بحيث يصل إلى الناس كلهم مهما امتد بهم الزمن وتعاقبت الأجيال، بحيث يؤمن عليها من الضياع، لوضوح حجتها وإن تغاضى فيها من تغاضى، أو كابر في إنكارها من أنكر.
وقد حصل ذلك منه (صلى الله عليه وآله) فعلاً بوجه لافت للنظر، كما يتضح بأدنى نظرة موضوعية في أدلة مذهب أهل البيت (صلوات الله عليهم) وحججه.
ويتجلى ذلك حين نرى المستبصرين -مهما امتد بهم الزمن وتعاقبت الأجيال- يفاجأون بوضوح الحقيقة، وقوة أدلتها، بل قد يشعرون بالغبن والغباء لغفلتهم عنها قبل استبصارهم.
كما أنهم يدركون إجرام علماء السوء وغيرهم ممن كان يحاول التعتيم عليها، وإغفال عامة المسلمين عنها، وتشويه واقعها، بحيث ينصرفون عن التعرف عليها وعن النظر في أدلتها.
ولذا يتميز شيعة أهل البيت (أعزهم الله تعالى) عن غيرهم بالانفتاح والدعوة للنظر في الأدلة والبحث عن الحقيقة بموضوعية وإنصاف، بعيدا عن التعصب.
بينما يجِّد الآخرون في الانغلاق، والنهي عن الفحص، والتحذير من التعرف على الشيعة والاطلاع على واقع دعوتهم، فضلا عن النظر في أدلتهم وثقافتهم، كل ذلك لثقة الشيعة بأنفسهم وقوة أدلتهم، بخلاف الآخرين.
ولم يحصل ذلك إلا بسبب جهود النبي (صلى الله عليه وآله) المكثفة في التبليغ، وبعد نظره للمستقبل، وإحكام تخطيطه له، ولو بتسديد الله عز وجل له في ذلك.
الهوامش:
(1) مسند أحمد ج:٤ ص: ١٢٦ حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم، واللفظ له. تفســر القرطبي ج:٧ ص:١٣٨. ســنن ابن ماجة ج:١ ص:١٥ باب اتباع ســنة الخلفاء الراشــدين المهديين. المستدرك على الصحيحين ج:١ ص: ١٧٥ كتاب العلم. المجازات النبوية، ص:٤٤٢. وغيرها من المصادر.
(2) سورة آل عمران الآية: ١٠٥-١٠٧.
(3) سورة البقرة الآية: ٢٥٣.
* المصدر: خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله)، المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم، ص149-155.