تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»
ينطلق التشيع من تصور خاص لخلافة النبي (ص)، يقوم على كون الإمامة منصب إلهي وليس من شأن الأمة، على غرار ولاية رسول الله (ص) على الأمة، الّتي لا تخدع لترشيح الناس وبيعتهم، وإنَّما تقوم على التعيين المباشر والانتخاب الإلهي.
هذا المنظور الخاص لخلافة المسلمين بعد رسول الله (ص) شكل خطاً معارضاً لواقع الخلافة الإسلامية تاريخياً، كما إنَّه شكل فهماً للإسلام يختلف في كثير من مبانيه عن ما هو موجود عند أهل السنة، وبهذا نتفهم الصراع الفكري والعقدي بين التوجهين، الذي وصل في كثير من محطاته التاريخية الى قطيعة حقيقية، ومازالت الأمة الى اليوم تعاني من هذا الانقسام الذي يرجع سببه الأساسي للانقسام التاريخي حول خلافة الرسول (ص) ومستقبل الرسالة، وما تشهده الساحة السياسية اليوم من اقتتال في سوريا والعراق واليمن وغيرها يؤكد على استغلال واضح لهذا التباين بين أبناء الأمة، وقد عمل الأعلام على إذكاء كل محاور الخلاف بين الشيعة والسنة، كما عملت الدول المتنافسة سياسياً على تجييش المؤيدين من خلال تبني الخطاب الطائفي الذي أصبح مشكلة حقيقية تهدد المنطقة برمتها، وتحول الكلام عن الشيعة والسنة من مجرد حديث عما وقع في التاريخ، الى اشتباكات دموية نشهدها بشكل يومي في ساحات الصراع في المنطقة، كما انتقل النقاش العلمي الذي كان يدور في مراكز البحث والتحقيق إلى شعارات سياسية ملأت شاشات التلفزة فتسممت الأجواء بشكل غير مسبوق.
ولكي نرجع هذا الخلاف لحجمه الطبيعي لابد من تفهم الخيار الشيعي في الإمامة، وذلك بعد طرحه ضمن المساحة التي يتموضع فيها كخلاف علمي ووجهة نظر أخرى لفهم الإسلام، ولو قمنا برصد ما يقال لتأجيج الخلاف بين التوجهين نجده يرجع بشكل مباشر الى موقف الشيعة من الخلافة والخلفاء الذين هم في نظر الشيعة قد تعدوا على حق أهل البيت (ع) في الإمامة والقيادة، وفي نظر السنة يمثلون شخصيات مقدسة لم يفهم الإسلام في المنظور السني إلاّ من خلالها، وبالتالي ما تعانيه الأمة اليوم من انقسام ترجع أسبابه المباشرة الى الانقسام الذي حدث بعد سقيفة بني ساعدة وما أعقبها من حروب في الجمل وصفين والنهروان وغيرها، وبذلك لا يمكن أن ننظر لتلك الحوادث التاريخية كحوادث منفصلة عما نعيشه اليوم، أو نعتبرها بعيدة عن ما يؤثر على خياراتنا السياسية والثقافية، بل أصبح واقعنا صورة أخرى عن تاريخنا، ومن هنا يمكننا أن نشخص بعض الخيارات ذات التأثير المحدود لمواجهة هذا الصراع الطائفي.
فمن يحاول أن يتجاوز تلك الفترة التاريخية بالقول: (حرب سلمت منها سيوفنا فلتسلم منها السنتنا)، لا يمكنه تقديم مساهمة حقيقية؛ طالما فهمنا للإسلام اليوم، إما قائم على تقديس الخلفاء واستلهام الشرعية من تجربتهم التاريخية، أو قائم على الوقف ضد الخلفاء وخيارات الأمة التاريخية، ومحاولة حل الأزمة الطائفية من خلال تجاوز تلك الفترة ونسيانها، أشبه بالحكم على السنة والشيعة بالتنازل عن فهمهما للإسلام والتنصل عنه، فالإسلام في المنظور الشيعي يرتكز على الحق الإلهي والشرعي لإمامة أهل البيت (ع)، وبالتالي يقوم على رفض كل الخيارات التي لا تنتمي لهم، والإسلام في المنظور السني يعتقد إنَّ صحابة رسول الله (ص) وكل ما أنجزوه في التاريخ يمثل الفهم الأصيل للإسلام، وبكلا الفهمين لا يمكن أن تقبل الدعوى القائمة على تناسي أو تجاهل ما جرى في التاريخ. فتلك الدماء التي سفكت في التاريخ هي ذاتها الدماء التي تسفك اليوم، وهذا الصراع الراهن هو امتداد لذلك الصراع.
فما وقع من حروب بين علي ومعاوية، وبين الحسين ويزيد، وما تبعها من ثورات العلويين ضد النظام الأموي والعباسي، كل ذلك يمثل الجذر التاريخي لكثير مما يحدث في ساحتنا الإسلامية اليوم، من اختلاف مذهبي، وتباين سياسي، وصراع عسكري، وبالتالي كل الدماء التي جرت في التاريخ مازالت يجري في واقعنا المعاصر، سواء في سوريا، أو العراق، وحتى اليمن، وما زالت الأنظمة الحاكمة تستغل الاختلاف المتجذر بين السنة والشيعة لتحقيق مكاسب سياسية آنية، وقد وصل واقع المنطقة السياسي الى شفا جرف سوف ينهار بالجميع وحينها لن يكون هناك رابح.
وفي ظني إنَّ العقدة الكبرى امام الوضع الثقافي المتحكم في الوسط الإسلامي، هو هيمنة التاريخ الذي مازال يتحكم في خياراتنا المعاصرة، فما دام أهل السنة ينظرون الى التاريخ كهوية إسلامية يؤدي الانفكاك عنها انفكاك عن الإسلام، وما دامت خيارات الأمة السياسية مستمدة من واقع التجربة التاريخية، وما دام الموقف من الحاكم محكوم برؤية دينية مستمدة من التاريخ أيضاً، لا يمكن ضمن هذه الهيمنة التاريخية أن نتأمل في صنع واقع تمليه علينا قناعاتنا وخياراتنا التي تفرضها علينا ضرورات الحياة الراهنة، ولا يمكن أن تحلم الأمة بمستقبل تتمتع فيه المنطقة بالاستقرار والتنمية، ولذلك من الضروري أن تكون هناك مواجهة تفتح فيها ملفات التاريخ من جديد، ودراستها ضمن السياق الذي تفرضه الضرورة المنهجية والأكاديمية بدون تحامل او تقديس، وحينها سوف تتمكن الأمة من تحقيق وعي خاص للإسلام، تكون قد ساهمت في صنعه وليس مجرد واقع موروث. وما لم تنجز الأمة هذه المهمة، سوف تستمر الأنظمة باللعب على هذه الاختلافات، فما لم نستطع أن نحسم الصراع التاريخي لا يمكن أن نحسم ما يجري في العراق وسوريا وغيرها من مواقع الاحتكاك الشيعي السني.
ومن هنا فإنَّ خيار الهروب من مواجهة التاريخ والتعفف عن تقييم ما وقع بين الصحابة، هو خيار خادع ومراوغ يتستر بالورع عما وقع بين الصحابة؛ وفي المقابل لا نجد هذا التورع فيما يقع اليوم بين المسلمين من صراع، فلا دمائهم سلمت من سيوفهم، ولا ألسنتهم كفت عن صب الزيت على النار، من تحريض وتكفير وإباحة دماء وأعراض، ومازالت تلك السيوف مشهورة في وجه بعضنا البعض، ولم تسلم الألسن من خلال هذا الضخ الإعلامي والتحريضي الذي دخل كل بيت عبر شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي.
وقد يرى البعض إنَّه ليس من الإنصاف اتهام السنة أو بعضهم بهذا التحريض الطائفي، فالشيعة يتحملون أيضاً نصيباً كبيراً مما يجري اليوم من صراع، وليس بوسعي الدفاع عن الشيعة مع إني أتمكن من أجراء مقارنة بين الفتاوى التي صدرت من الطرفين حول هذا التحريض، وسوف يصدم القارئ بحجم الفتاوى التي أصدرها أهل السنة في إباحة دماء الشيعة وفي المقابل لم أجد فتوى واحدة أصدرها مرجعاً شيعياً يحرض فيها على السنة، وما يثار إعلامياً عن ممارسات الشيعة ضد سنة العراق لا يثبت الكثير منه أمام التحقيق المحايد والمنصف، وإن ثبت بعضه لا يحسب على الشيعة لأنّه خلاف إرادة المؤسسة الدينية التي حرّمت ذلك بشكل واضح وصريح، وفي واقع الأمر إنَّ ما يثار من تهويل على الشيعة المقصود منه هو تهييج السنة وتحريضهم حتى يُستغلوا في هذا الصراع، حتى نتج عن ذلك داعش وجبهة النصرة وغيرها.
وما يهمني في هذا المقال هو التأكيد على تأثير التاريخ في خياراتنا الدينية والسياسية والاجتماعية، ويظهر هذا التأثير بشكل واضح في خيارات المذهب السني، أما الشيعة فهم لا يجدون حرج في مناقشة ما جرى في التاريخ وبالتالي لا يعانون من عقدة التاريخ كما يعاني أهل السنة.
وبالجملة يمكننا إرجاع التباين المذهبي، والعقدي، والسياسي، بين الشيعة والسنة، الى التباين الذي حصل في التاريخ، ومازالت معالم هذا الصراع تتجذر كل يوم أكثر مما مضى، وقد حاول كل من الشيعة والسنة الدفاع عن رؤيتهم التاريخية وخياراتهم العقائدية والفقهية، وقد أُلفت كتب كثيرة في هذا الشأن، وبرغم ما وقع على الشيعة من تهميش واستبعاد، إلاّ إنَّهم قد تمكنوا من توضيح خياراتهم والدفاع عنها في عشرات الكتب، وإذا حاولنا عرض ما كتب في عصرنا فقط من كتب كان لها الدور الكبير في جعل التشيع حاضراً في ساحة الجدل والنقاش المذهبي، فإنَّه يفوق قدرة هذا المقال ويخرجه عن مساره المرسوم له، وقد نشط السنة في الفترة الأخيرة في تكثيف الجهود في الرد على الشيعة بعد الاختراق الواضح الذي أحدثه الشيعة في بعض المجتمعات السنية، فطبعت عشرات الكتب وأُسست قنوات فضائية مختصة في مناقشة الشيعة والرد عليهم، ولا يهمنا هنا عرض أدلة كلا الطرفين ومناقشتها، فالذي نسعى إليه هو التدليل على أثر التجربة التاريخية على الواقع المعاصر للأمة الإسلامية.
وسوف نكتفي هنا بذكر بعض النصوص التي تكرس التجربة التاريخية كخيار يجب أن يمضي عليه المسلمين إلى يوم القيامة.
فقد روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير قال: كنا جلوساً في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة.
فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت ([1] ).
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ سَفِينَةُ: امْسِكْ عَلَيْكَ خِلاَفَةَ أَبي بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ: وَخِلاَفةَ عُمَرَ وَخِلاَفَةَ عُثمان، ثُمّ قَالَ لي: امسِكْ خِلاَفَةَ عَلِيّ قال: فَوَجَدْنَاهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً ([2] )
والذي ينظر الى هذه الروايات يجدها قد وضعت على طبق النسق التاريخي، ورويت بالشكل الذي يجعلها دالة على إخبار النبي بالغيب، الأمر الذي يخلق لها قداسة خاصة تجعل الإنسان المسلم يقف أمامها مسلّم غير معترض، وكأن ما حصل قدر لا يمكن الخروج عنه، وهذا الفهم الغيبي للتاريخ والاعتماد على هذه الأخبار، يساعد على تعطيل العقل التحليلي لما وقع في التاريخ، طالما المسار الإنساني قد نقش في هذا اللوح القدري، وما تنادي به داعش اليوم هو الدور الختامي الذي سكت عنده الحديث )ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت)، وقد تسالم أهل السنة على هذا المسار، فبعد النبوة والخلافة التي فسرت بالخلافة الراشدة، والملك الذي فسر بالدولة الأموية والعباسية، والحكومات الجبرية التي تمثل هذه الأنظمة المتحكمة في العالم الإسلامي، فالنتيجة الحتمية لأي تحرك إسلامي لابد أن يكون بالسعي لهذه الخلافة التي تكون على منهاج النبوة، ولا يخفى ما في هذه الدعوة من رجوع قهري الى الماضي لأي عملية إحياء سياسي إسلامي، ومن هنا يكون النموذج الذي يعمل على إعادته هو نموذج الخلافة الإسلامية، وقبل قيام هذه الخلافة لا يكون هناك أي موقف سلبي اتجاه ما هو قائم من انظمة طالما أخبر بوجودها الرسول، وبذلك نفهم مروياتهم في ضرورة السمع والطاعة للحاكم وإن كان ظالماً فاجراً. كما أخرج مسلم في صحيحه (1847) عن حذيفة قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لا يَـهْتَدُونَ بِـهُدَايَ، وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُـثمان إنَّسٍ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ الله إنَّ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟، قَالَ: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأمِيرِ، وَإنَّ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ؛ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ)
وينكشف مما قدمنا الحدود التي يمكن أن يتحرك فيها العقل السياسي السني، وهي حدود تتحرك من الماضي لتعود اليه من جديد، ولا تسمح للعقل المعاصر تأسيس أي تصور سياسي يرتكز على اجتهاداته التي تناسب المرحلة، ومحاولة التمرد على هذا النمط من التفكير هو تمرد على نفس الإسلام المحكوم بروايات البخاري ومسلم -المقطوعة الصحة عند أصحاب هذه المدرسة- والتمرد على ما أُنجز سابقاً من سلف الأمة هو خروج عن هذه المدرسة، فالذي لا يُسلّم بصحة كل هذه الأخبار ولا يرى في تجربة الخلافة الأولى فهم نهائي للإسلام لا يكون مسلم بالمنظور السني.
وفي المحصلة لا يمكن لهذه الامة الخروج من ازماتها إلا من خلال إعادة وعيها الديني من خلال الاجتهاد في النصوص الشرعية بعيداً عن التجارب التاريخية، ولا يمكن حسم الصراع بين جناحي الامة الشيعة والسنة إلا من خلال مواجهة علمية وموضوعية للتاريخ.
[1] - مسند الامام احمد بن حنبل، مسند العشرة المبشرين بالجنة، اول مسند الكوفيين، رقم الحديث 18031
[2] - سنن الترمزي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الخلافة، رقم الحديث 2226