تنقية السيرة الحسينية.. حقيقة أم روح التمرد؟!

السيد محمد رضا شرف الدين
زيارات:1114
مشاركة
A+ A A-

تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»

إنَّ ما نلاحظه عمومًا في محاولات دعاة تنقية تاريخ نهضة الطف قد يُلَخّصُ في النقاط التالية:

اشترك في قناتنا ليصلك كل جديد

1- فقدان الأطروحةٍ المنهجيّةٍ للتوثيق التاريخي، فترى البعضَ يعمَدُ في محاولته إلى طرح حفنةٍ من النماذج ليهيلَ عليها وعلى ناقليها وابلاً من لاذع النقد دون أن يرتكز في نقده على أسسٍ واضحةٍ وآليّاتٍ محددة. فتارة ينطلق من عدم اعتبار المصدر وأخرى من قصور السند وطورًا من جهة أخرى، بينما تراهُ يأخذُ بما يشتمل على هذه النقاط في موضع آخر دون إبراز ميزان لهذه الازدواجية.

ولذا نرى أن غياب الأطروحةِ المنهجيّة تولّد تلقائيًا حالةَ الفرزِ الانتقائيّ بما يتوافق مع أهواء الناقد واستذواقاته الشخصية.

2- عدم تحديد دائرة البحث مما يحول دون بنّائيته إلى حدّ الاشتغال بتتبع عثرات النعاة والتقاط هفوة هنا أو كبوة هناك فيقومون بنشرها وتخليدها بَدَلاً من وأدها مما يلزم منه نقض الغرض، فتتحول الهفوة التي ألقيت في مجتمع خاص محدود إلى مدوّنةٍ تتناقلها الأجيال ومادةَ تشنيع يتلقفها المغرضون.

 بل قد تتسرب فيما بعد إلى تاريخ النهضة فيكون للناقد شرفُ الإسهام في التحريف بعد أن كان قاصدًا تنزيه التاريخ وتنقيته من عناصر التزييف.

3- غياب الموضوعية والمنطق في عملية التنقية وغلبة الأجواء التهويلية وإطلاق الادعاءات المضخّمة بفعل تحكم الانفعالات النفسية على أقسامها.

4- تأصل عقدة النقص وفقدان الثقة بالذات والتي كثيرًا ما تنتاب أبناء الفئة المضطهدة عبر التاريخ تأثرًا بالحملات التشنيعيّة الحاقدة؛ فيتحرك الباحث ليدافع عن قضيته بإسقاط كل ما يظن أنه ثغرةٌ ينفذ الشانئون من خلالها فيبادر إلى النفي والنقد مستبقا للغير من باب النقد الذاتي قطعًا للطريق أمام نقد الآخرين للمدرسة التي ينتمي إليها.

وقد تتفاقم هذه الحالة فيصاب صاحبها بداء فقدان الهوية المعرفية.

5- عدم امتلاك الخبرويةِ المطلوبةِ في هذا المضمار، من الإحاطةِ بالمصادرِ والتمييز بين غثها وسمينها، ومعرفة المراجعِ ومآخذِها والوقوف على آلياتِ الجمع ومِلاكاتِ التنافي بين النصوص والتبحر في اللغة وأساليب البيان في سبيل فهم النص.

6- عدمُ خوض غمارِ التتبعِ المسوّغِ للبَتِّ في الواقعة نفيًا وإثباتًا إمّا لعدم توفر المصادر وإمّا للتسرع الذي قد يعود لإحدى النقاط الآنفة أو الآتية.

وهنا لا بد من الإشارة إلى ما يمتاز به النفي في إثباته إذ يحتاج إلى استقصاء شامل واستقراء تام بخلاف الإثبات الذي قد يكفي فيه العثور على نص معتبر.

7- الاشتغال بالمفردات الجزئية وإيلاؤها عظيم الاهتمام بما يؤول إلى زعزعة المكونات الأساسية في الذهنية العامة، وبذلك يسقط نداء الحقائق الهامة صريع صخب التفصيلات.

8- عدم الوقوف على منطلقات النهضة وأهدافها وآلياتها العملية المرسومة لها، مما يجرُّ الناقدَ إلى استنكار جملة من الحوادث ونفي كثير من المواقف دون استناد إلى حجة، بحجة تصادمها مع العلة الغائية المتوخاة منها.

9- النقص المعرفي ولا سيما في الجنبة العقائدية، حيث لا سبيل لورود مشرعة هذه النهضة دون توفر المخزون المعرفي العقدي الذي يمثل الإطار الجوهري الأساس في توثيق المنقولات التي تحكي خطوطها وخيوطها وترسم ملامحها بكلّ تفاصيلها.

10- فقدان السمو الروحي والتأصّل الأخلاقي، إذ كيف يمكن لمن هو أجنبي عن روح الواقعة بتمام ما للكلمة من معنى، ومن يحكم أفكاره وأفعاله النمطُ المادي الدنيوي أن ينفذ إلى لُباب نهضة إلهيّة إنسانيّة ترتكز على البُنيَةِ الأخلاقيّة القيمية وتستقي مدادها من عالم الغيب، هيهات، هيهات أن يلامس مثل هذا قِرابَها فضلاً عن استجلاء لُبابها.

11- طغيان روح التمرد على التراث: لقد مُنينا في عصرنا بحالة هي الأولى من نوعها بحسب ما وصل إلينا من أنباء الماضين. ألا وهي روح التمرد على التراث وهاجس الولع بالتجديد. لقد وصل الأمر ببعضهم إلى أن يَعُدَّ نسفَ المسلّمات التاريخية فتحًا مُبينًا.

إننا لا نأبى التجديد ولا ننكر أهميته، بل نرى بأنه الوسيلة الناجعة للحفاظ على المضمون إذا ما اقتصر على جهة الأسلوب، أما إذا انقلب إلى هدف في حد ذاته فلا نرى فيه إلا محقًا للدين بل سائر الشرايع والقيم.

وإننا مع التحقيق والتدقيق في التراث لكن بشرط أن لا يتضخم كخلية سرطانية فيفتك بالجذور لنصبح كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

إنّ موجة التمرد هذه أصبحت واقعًا لا يمكن أن يضمر، وقد تجلت في بعض النتاجات التي عالجت بعض مفردات تاريخ النهضة فعاجلتها بالإنكار.

 

12- سيطرة روح التشكيك: لا شك في أن الشك ضرورة فكرية تشكل الجسر للوصول إلى الحقيقة إنه القنطرة التي إذا ما أحسن المرء سلوكها وصلت به إلى اليقين المقصود.

لكن الشك هذا بإمكانه أن يتحول إلى حالة مَرَضيّة يقعد بالإنسان عن الرُّقيِّ المعرفيّ، فإنَّ من أكبر آفات العقل البشري -ومنذ القِدَم- هو اختناقه في شرنقة قاتلة من الشكوك.

وقد تبلورت هذه الحالة في العهد الإغريقي على يد رمزين من رموز هذا المنهج وهما تيمون وبيرون ثم سرعان ما تلاشت بفعل كفاح سقراط وغيره من رواد منهج اليقين لتعود بحلة جديدة بعد الانفجار المنبثق عن روح التمرد على عهد الاستبداد الكنسي في الغرب لتتردد أصداء منهج الشك في الساحة الفكرية الإسلامية والعربية في عملية اجترار نمطي على يد ثلة من المنبهرين بالنتاج الهجين، حيث قدَّموا للأمة ما أكل الدهر عليه وشرب من أفكار الأغارقة ملبّسًا لَبوسَ التجديد، ليدور المثقف في دوامة من الشك لا يخرج منها حتى خروجِ النَّفسِ عن رَوح آخرِ الأنفاس.

13- الإسقاط: باتخاذ نتائج وقناعات مسبقة قد تكون ناشئة عن خلفيات كوّنتها ظروفٌ مرحلية تحجب الرؤية المجردة وتدفعه نحو إسقاط الوقائع عليها.

14- الأغراض التعبوية: تفسير الواقعة بما يُجَيّرُها لمصلحة مشروع سياسي أو عسكري معين يدفع بأصحابه لإزالة جميع المفردات التاريخية التي تعاكس خطابهم التعبوي.

إنَّ هذه الهنات لوحظت على تلك المحاولات من حيث المجموع، بمعنى أنها ليست مجتمعة في محاولة واحدة بل بعضُها يجل عنه بعضُ من ابتُلي ببعضها الآخر.

مواضيع مختارة