كان الرسول الأكرم يعرف من هم المنافقون فلماذا لم يشخصهم على الملأ؟
كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الظروف العصيبة التي أحاطتْ بالإسلام حريصاً جداً على مصلحة الإسلام وتأليف الناس إليه وعدم إبداء أي منفر ينفرهم عنْ قبول الإسلام والدخول فيه، والناس كانوا قريبي عهد بالجاهلية والعصبية القبلية ما زالتْ متجذرةً فيهم بأعماقهم، لذا كان يقدم الأهم على المهم في هذا الموضوع، فالأهم هو الحفاظ على الإسلام وزيادة عدد الداخلين فيه، والمهم هو كشف المنافقين وفضحهم، ولنأخذْ مثالين في هذا الموضوع حتى تتضح الصورة أكثر:
(1) صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول:
روى البخاري في صحيحه: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عبد الله بن أبي سلول لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفرْ له فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فقال: آذني أصلي عليه فآذنه فلما أراد أنْ يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه فقال: أليس الله نهاك أنْ تصلي على المنافقين؟ فقال: أنا بين خيرتين قال الله تعالى: استغفرْ لهم أو لا تستغفر لهم إنْ تستغفرْ لهم سبعين مرةً فلنْ يغفر الله لهم فصلى عليه. انتهى [صحيح البخاري 2: 76].
فلماذا فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الفعل حتى اندفع عمر بن الخطاب يصده عن ذلك [والنبي صلى الله عليه وآله أعرف بما يفعله فهو الرسول المسدد من الله]؟!! نترك القسطلاني في "إرشاد الساري" يجيبنا على هذا السؤال.. قال في كتاب اللباس: (إنما فعل ذلك -أي صلاته صلى الله عليه وآله على أبن أبي- على ظاهر الإسلام واستئلافاً لقومه، مع أنه لمْ يقعْ نهي صريح، وروي أنه أسلم ألف رجل من الخزرج). [إرشاد الساري 8: 423].
وينقل ابن حجر في "فتح الباري" عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله في الحادثة نفسها: (وما يغني عنه قميص من الله وإني لأرجو أنْ يسلم بذلك ألف منْ قومه). انتهى [فتح الباري 8: 254].
(2) سكوته (صلى الله عليه وآله) عن المنافقين الذين أرادوا اغتياله:
ذكر ابن كثير في "السيرة النبوية": عنْ عروة بن الزبير قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم منْ تبوك إلى المدينة هم جماعة من المنافقين بالفتك به وأنْ يطرحوه منْ رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي وصعد هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة وحذيفة يسوقها.
فبينما همْ يسيرون إذْ سمعوا بالقوم قدْ غشوهمْ. فغضب رسول الله وأبصر حذيفة غضبه فرجع إليهم ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أنْ قدْ أظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم، فأسرعوا حتى خالطوا الناس.
وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة ووقفوا ينتظرون الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: "هلْ عرفت هؤلاء القوم؟ "قال: ما عرفت إلا رواحلهمْ في ظلمة الليل حين غشيتهمْ. ثم قال: "علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب؟ "قالا: لا. فأخبرهما بما كانوا تمالوا عليه وسماهم لهما واستكتمهما ذلك.
فقالا: يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم؟ فقال: "أكره أنْ يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه".
وقدْ ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده. وهذا هو الأشبه والله أعلم. انتهى [السيرة النبوية 4: 34].
ونحو هذه القصة منْ جهة امتناع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قتل المنافقين لئلا يقول الناس أن محمداً يقتل أصحابه، ذكرها البخاري في حق ابن أبي سلول الذي قال: لئنْ رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. [صحيح البخاري 4: 160].
فكما ترى أن الدوافع التي منعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منْ قتل هؤلاء المنافقين وفضحهم على الملأ هو المحافظة على سمعة الإسلام وهو ما زال بعد غضاً طرياً، فتحمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقاءهم بين المسلمين وتحمل أذاهم حتى يجتاز الإسلام مرحلته التأسيسية الأولى ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة التصفية، وهي المهمة التي قام بها من بعده أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حين قلده (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك الوسام الرفيع جداً حين جعل محبته عنوان الإيمان وبغضه علامة النفاق [كما في صحيح مسلم]، فعرفت الأمة المؤمنين من المنافقين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه العلامة الفارقة وهي محبة علي (عليه السلام) وبغضه، وكفى بها علامةً ترشد الطالبين إلى مبتغاهمْ.