أخلاقية التعاطي مع وسائل التواصل الاجتماعي
(الأخلاقية) تعني ما يتفق مع قواعدِ الأخلاق، أو ضوابط السلوك المقرَّرة في مجتمع ما، وعندما نقول (أخلاقيات العمل) فإنّنا نريد بذلك ما يتعلَّق بالعمل من مبادئ وقيم ومُثل أخلاقية تعارف عليها الناس، واستحسنوها، وعابوا على مَن يخالفها أو يعاكسها إلى غيرها ممّا لا يدخل تحت طائلة الحكم الأخلاقي. ومن بين أخلاقيات التعامل الإيجابي مع وسائل التواصل الاجتماعي، ما يأتي:
1- معرفة أنّ وسائل التواصل سلاحٌ ذو حدّين: الأمر الذي يعني أنّ ما من وسيلة من الوسائل سيِّئة أو صالحة بذاتها، وإنّما تعتمدُ على طريقة مُستعمِلها أو مُستخدِمها لها، فإذا استعملها في الخير تحوَّلت إلى أداة نافعة، وإذا وظَّفها في الشرّ، استحالت إلى أداة ضررٍ وإضرار. وهذا هو شأن أي وسيلة قديمة أو حديثة أو مُستحدثة، أي إنّ الوسيلة بطبيعتها (حيادية) حتى السكّين التي نقطِّع بها شرائح اللحم والفاكهة، هي أداة مصنوعة لغرض النفع والاستخدام الصالح.. أمّا إذا استخدمت كأداة طعن وجَرح وتخويف، فإنّ شفرتها الحادّة والمستعدّة للقطع لا تتردَّد عن أداء هذا الدور السلبي أيضاً، هي (بريئة) كأداة، ولذلك لم نرَ أنّ أداة جارحة أو قاتلة حوكمت بمحاكمة مُستخدمها، هو وحده الذي يتحمَّل المسؤولية. وإذا قيل: لسنا ضدّ الوسائل الحديثة، أيّاً كانت، وإنّما نحنُ ضدّ استخدامها في الخبث، والشرّ، والإساءة، والفساد، والتهريج، والتحريف، والتزييف، فإنّ ذلك يُشكِّل قاعدة حياتية وأخلاقية عامّة لا تخصّ وسائل تواصل مثل (الفيس بوك) و(الهاتف النقّال) و(الإنترنت) و(البريد الإلكتروني) و(التغريدات) وغيرها.. وبمعنى آخر، فإنّ الأخلاق هي الأخلاق، تلازمُ كلَّ وسيلة حديثة أو مستحدثة اتّسع فيه فضاء الحرّية، أو ارتفع سقفها، ولا يشذّ عن هذه القاعدة أيّة وسيلة تعبيرية أو تواصلية (تفاعلية).
2- للحرّية حدود: لا يمكن القول في أي زمن - مهما اتّسع فيه فضاءُ الحرّية - بأنّه زمنٌ مفتوحٌ على مصراعيه، بمعنى أنّه يكسرُ كلَّ الحواجز والحدود والضوابط والقوانين لدرجة الانفلات والتسيُّب والاستهتار بالقيم، حتى حالات الطوارئ لها ضوابطها ومحدِّدات حرّيتها.. فكما كان للحرّية، قبل دخول وسائل التواصل الاجتماعي إلى عالمنا، ضوابطها من قبيل إنّ حرّيتك تنتهي حيث تبدأ حرّية الآخرين، أو أنّك لست حرّاً في إيذاء نفسك أو استجلاب المهانة والذلّة لها، وكما أنّك لست حرّاً في مخالفة تعليمات وقيود المرور المنصوص عليها، فأنت لست مخوَّلاً في إرعاب الناس وإدخال القلق والاضطراب إلى نفوسهم، تحت أي عنوان أو مبرر، ولست مرخَّصاً أن تُدخِّن في مكان مغلق يشاطرك الآخرون العمل أو السكن فيه. نعم، يمكنك أن تفعل ذلك، بتجاهل متعمَّد؛ ولكنّك بذلك تتغافل عن الأضرار التي يمكن أن تلحق بالذين تتعدّى حرّيتك عليهم، وهذا هو بيتُ القصيد في الاحتراز للحرّية، وحمايتها من الانفلات، ذلك أنّ السيل الكاسح إذا لم يجد سدّاً في طريقه يكبحه أو يُقلِّل من قوّة اندفاعه وضراوته، فإنّ أحداً لا يستطيع التكهُّن بمدى الخسائر المترتِّبة عليه، أو الناجمة عنه. وسائل التواصل الاجتماعي ليست خارجة عن هذه النظرة إلى مفهوم الحرّية.. نعم، نحن اليوم في فضاء مفتوح على مصراعيه؛ لكنّنا لسنا في (غابة بشرية) يعتدي فيها (الأشرس) على (الأضعف)، إلّا إذا قرَّرنا ذلك بمحض إرادتنا، وهذا ما نلاحظه ونشاهده اليوم من دعوات الإباحية والتحرُّر من كلّ قيد أو ضابط أو قانون أو أخلاقية مرعيّة.
3- التقنياتُ والقنوات (التواصليةُ) الحديثةُ مسارحٌ للإبداع والتنمية: هي مسارحُ ومنصّات للعطاء والإبداع والتواصل الإيجابي، والتعارف، والتعاطف، وتبادل الخبرات والتجارب، وصفوف تعليمية، ومنابر توجيهية، وأسواق ترويجية، وقنوات خبرية، وكلّ ذلك لما يصلح أن يكون عاملاً من عوامل تيسير الخدمة، وسرعة إيصال المعلومة، وفتح أبواب العلاقة مع الآخر أينما كان، وإيصال الرسائل إلى أوسع نطاق مُتصوَّر وربّما غير مُتخيَّل أو متصوَّر أيضاً.
ومن أخلاقيات التعاطي الإيجابي مع وسائل التواصل هو اغتنامها في التوظيف السليم، وهذا عنوان عريض ومطّاط بعض الشيء، إذ إنّ سلامة التوظيف تتوقَّف على ثقافة المُستخدِم، ورعايته لضميره الأخلاقي، ومدى إحساسه بتنظيم قِيَمه وأحكامه لحركة سيره، وحسابه للعواقب والنتائج لأي فعل يُقدِم عليه، فقد تُطلق (شرارةُ كلمة) وتُحدثُ حريقاً هائلاً، وربّما يمكن أو لا يمكن السيطرة عليه بعد أن تمتد ألسنةُ اللهيب إلى أماكن واسعة؛ لكنّ مُطلِق الشرارة يتحمَّل الوِزر الأكبر، كما سيتبيَّن في أثناء البحث.. وفي المحصلة، فإنّ مسارح (التنوير) و(الإبداع) و(التوعية) و(التنمية) يمكن أن تتحوَّل إلى مسارح للجريمة أيضاً!
(السرعةُ).. لها.. وعليها: للسرعة إيجابياتها ولها سلبياتها أيضاً، فالسباقُ إلى الخير والتنافس على الصالحات النافعات المباركات من الأعمال تحتاج إلى إيقاع سريع «خيرُ البرِّ عاجلهُ»، بل إنّ شرطاً من شروط نجاح العمل واستقباله من المتلقِّي استقبالاً حسناً، هو (تعجيلُ) القيام به وإنجازه، خاصّة إذا لم تكن هناك موانع تحول دون إنزاله إلى الواقع بالسرعة الممكنة. لكنّ السرعة - حتى في زمن يقالُ عنه أو يوصف بأنّه زمن السرعة - خطيرة إذا كانت تَسلِقُ الأشياء والأعمال والإنجازات والعلاقات والنتاجات سَلقاً، أي إنّ فترة حَمل الشجرة معيَّنة؛ لكنّ الإسراع في إنضاج ثمارها بأسمدة كيمياوية معُجِّلة، مُسرِّعة من نموّها، تعطينا ثماراً متشابهة في الشكل؛ لكنّها غير متماثلة في القيمة الغذائية، وهذا المثل يمكن قياسُه على كثير من الأعمال التي لا تُراعي (أمد الإنجاز)، أو (فترة الحمل)، أو (شروط النمو)، ولعلّ هذا هو الذي يُقال عنه بأنّ «العجلة من الشيطان». والفرق واضحٌ بين (سرعة) محسوبة لتخطّي عقبات الروتين، وتُسهم في اختصار المسافة والوقت والتكاليف والجهود المبذولة، وبين (العجلة) التي هي (إنجازٌ سريع) مع (أداء سيِّئ) أو نتيجة رديئة.
والمتأمِّل في أُسلوب التعاطي مع وسائل التواصل - وليس الرأي بالمطلق، إذ هناك شواهد إيجابية كثيرة- يرى أنّ (أُسلوبَ التسلُّق) أو (الإنجاز غير المختمر) هو الشائع والمُعتَمد، فما أن نسمع كلمة، أو نرى صورة، حتى نبادر للتعليق عليها رفضاً وتأييداً، من غير أن يكون قد وصل (بريدُها) إلى العقل ليزنها في ميزانه، فيقبل منها ما يمكن قبوله واستحسانه، ويرفض منها ما يستحقّ الرفض والاستهجان، وكأنّنا مُطالَبون - في جميع الأحوال - عن ردّة فعل واجبة. (العَجلةُ) في زمن السير البطيء، أو في (زمن السرعة) خطيرة، ولذلك قال العقلاء بعد أن جرَّبوا نتائجها الوخيمة، وعرفوا آثارها الأليمة: «في العجلة الندامة»؛ لكنّنا يجب أن نُميِّز بين (العجلة) التي تعني الخَبزَ قبل الاختمار، وبين (التعجيل) الذي هو حركة إيجابية لفعل الخير، وإنجاز الأعمال، وتنفيذ المهام من غير تفريط في عامل الجودة. نعم، تسريع الوتيرة البطيئة بشحذ الهمّة، واستحضار شروط النجاح، واغتنام الوقت، لا يعني (عجلةً) أو (تعجُّلاً)، بل (تعجيلاً)، وهذا هو الفرق.
البلاغ