ليس عمل الفقيه في استنباط الحكم الشرعيّ لهواً من عنده كما يلهو الطفل بالكرة، أو عبثاً يأتيه غافلاً غير منتبه، بل هي مسؤوليَّةٌ شرعية تقع على عاتق فقيه الأمَّة ليتعبَّد النَّاسُ الله تعالى على فتواه.
فمثلاً حين يُفتي الفقيه بحرمة الصلاة على الحائض فهو يستند إلى عدَّة رواياتٍ منها ما عن الإمام الرضا – عليه السلام – كما في كتاب علل الشرائع: إذا حاضت المرأة فلا تصوم ولا تصلي.
فهنا يُلاحظ الفقيه ثلاثة أمورٍ في الرواية:
سند الحديث وهو سلسلة الرواة بين علل الشرائع والإمام الرضا عليه السلام، فيحكم بصحته مثلاً.
وجهة الصدور، بمعنى إن كان الإمام الرضا – عليه السلام – أفتى تقيَّةً مثلاً خوفَ أحدٍ من عيون السلطان الغاشم في مجلسه فلا يردّه لتلك العلَّة (الخوف).
وكذلك ينظرُ في دلالة الحديث.
الآن قبل الفقيه الحديث، فسنده صحيح، ودلالته تامَّة، ولم يصدر تقيَّة، وليس له معارضٌ أو مخصص.
وقد خاض لإثبات ذلك الأمر في علومٍ عدَّة من الرجال والدراية، واستخدم ذائقته اللغوية وفهمه العرفيَّ للنَّص، ولربَّما راجع معاجم اللغة لمعالجة مفردةٍ واستنطاق لفظها لمعرفة معناها، وفحص عن المعارض فسبر الآيات والروايات وكتب التفسير وآيات الأحكام وأسفار الحديث والروايات.
هنا يتقدَّم خطوةً أخرى فيسلِّط أدواته الأصولية على الحديث، فها هو يرى أن صيغة (لا تفعل) ظاهرةٌ في النَّهي، وعليه إثبات أن الظهور حجَّة ليكون ظهور الحديث في نهي الحائض عن إتيان الصلاة حجة.
ثم عليه أن يعمل أدواته الفنَّية التي برهن عليها في رتبةٍ سابقةٍ في علم الأصول وهي مقدِّمتان:
نهي الشارع الحائض عن الصلاة. وهي مقدِّمة صغرى شرعية
والنَّهي عن العبادة يقتضي الفساد. وهي مقدِّمة كبرى عقلية
فالنتيجة:
صلاة الحائض فاسدة
وهنا أيضاً خاض في علم المنطق لصياغة القياس المنطقي بأشكاله المتعددة، وفتح كتب آيات الأحكام، واستخدم مباحث الألفاظ والملازمات العقلية من علم الأصول.
وعليه لإثبات رأيه أن يصنع أمرين:
إبطال الرأي المقابل بالدليل الذي تقتضيه الصناعة الفقهية
وتشييد رأيه بالبرهان الذي ترتضيه تلك الصناعة نفسها.
وقد تستغرق هذه العملية أياماً وأسابيع طوالاً من الكدح العلمي والكدِّ الفكري حتى يفرغ ذمَّة مكلفه على نحو اليقين من الاشتغال اليقيني بالتكليف.
ويأتيك البعض ليستهزئ بهذه العملية ويقول: ما الدَّاعي للتقليد؟