تنويه: المعلومات والآراء الواردة في هذا المحتوى تمثل رأي مؤلفها ولا تعكس بالضرورة رأي أو سياسة «الأئمة الاثنا عشر»
مما يؤكده علم النفس سيما الاجتماعي منه وينزله منزل الحتمي والمفروغ منه، هيمنة الرواسب المستمدة من المحيط الخارجي على سلوك الانسان وتوجهاته وافكاره، وأن عملية الانقلاب الكامل في الإنسان والمجتمع بفعل عوامل خارجية وبشكل فجائي تكون اشبه بالمستحيل.
وهذا ما يجعل الصورة الطوباوية التي يرسمها طرح المخالف للشعب الاسلامي حين وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله) غير مستساغة على الصعيد العلمي فضلا عن المنطقي، فهذا الشعب هو نسيج أندك بالحياة الجاهلية الموغلة في البداوة والأحقاد والتناحر والجهل والقبلية، ولو تأملنا مكوناته عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله) سنجده ممثلا بالمسلمين الاوائل من مهاجرين وأنصار، وهؤلاء لم يخلوا من شواهد عديدة على احتفاظ نفسياتهم برواسب الجاهلية كالذي حدث في غزوة بني المصطلق ـ مثلا ـ حيث "تزاحم رجلان من المسلمين على البئر بعد أن وضعت الحرب أوزارها، هما جهجاه بن مسعود وهو من المهاجرين وسنان بن وبر الجهني وهو من الأنصار على الماء فاقتتلا. فصرخ الجهني ـ مستغيثاً بقبيلته على عادة الجاهليين ـ يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين، وكاد أن يتقاتل المسلمون من الفريقين فيما بينهم في هذه الحادثة. فلما عرف رسول اللّه (صلَّى الله عليه وآله وسلم) بذلك قال: دَعُوها فإنها منتنة".
ثم بالمكيين الذي أسلموا بعد الفتح، وهؤلاء أسلموا بعامل الاضطرار والخوف، اضافة الى القبائل المنتشرة في الجزيرة وهؤلاء حديثو عهد بالاسلام لم يدخل في صدورهم بشهادة الطرح المخالف نفسه حين يفسر حركة الردة وما أعقبها من حروب لقمعها بأمر من الخليفة الاول.
ولا نغفل هنا نقطة مهمة وهي أن المشروع الاسلامي حتى وفاة الرسول (صلى الله عليه واله) كان حركة سريعة على الصعيد الزمني حيث لم يتجاوز العشرين عاما، وقد استمد عوامل نجاحه من الغيب الى حد كبير ـ أي لم يعتمد كثيرا على التحولات النفسية من الشرك الى الايمان عند اتباع النبي الاكرم (صلى الله عليه واله)، ومن جهة أخرى فالمشروع الاسلامي يمثل عملية إنسلاخ تام عن كل رواسب العقل والنفس والارتقاء بالإنسان الى مراقي الانشداد الى الله المطلق الكامل.
نعم إن المشهد الاسلامي كما يصوره الطرح المخالف في تلك الفترة ـ وانطلاقا مما ذكرته ـ أشبه بالخيال الحالم. فمما يصوره هذا الطرح مثلا قصة اسلام عكرمة بن ابي جهل الذي ظل طوال الدعوة الاسلامية واحدا من أعتا المشركين واشدهم كفاحا في سبيل القضاء على الاسلام، وكان اليد اليمنى لابيه راس الشرك ابي جهل، وقد بلغ من شركه وحربه على الاسلام أنه كان ممن استثناهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من العفو العام الذي أعلنه عند فتح مكة فهرب الى اليمن، ولاشك أن هذا العداء والحرب التي كان عليها عكرمة للإسلام متأت من كوامن نفسه الموغلة في الكبر والشر وقد حارب في الاسلام دعوى المساواة بين الناس شأنه شأن كل سادة قريش في حربهم النبي (صلى الله عليه واله) ودعوته، ثم يأتي الطرح المخالف ليستعمل خطابا بالغ الشفافية في وصف اللحظة التي برق ـ على زعمه ـ نور الحق في خاطر عكرمة حين جاءته زوجته تعلمه ان رسول الله (صلى الله عليه واله) قد عفا عنه، فخالط الايمان لحمه ودمه وجاء النبي (صلى الله عليه واله) ليقول فيما قال له "والله ما دعوت إلا إلى الحـق، وأمر حسن جميل، قد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنتَ أصدقنا حديثاً، وأبرّنا أمانة"، ثم قال "فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".
بمعنى أن عكرمة قد تحول في لحظة من طاغية لا يرى في العبيد والبسطاء إلا خولا له وأنه السيد العالي، الى رجل يذوب في التواضع واحترام البسطاء والعبيد والاحساس بالتقوى كمعيار أساس لما يميز أي إنسان عن الاخر، ثم لا يحق للمرء ـ حسب الطرح المخالف ـ أن يشك لحظة واحدة في أن اسلام عكرمة كان بعامل الخوف على نفسه واعترافا منه بواقع الامر.
إن التاريخ الاسلامي حافل بشواهد لا حصر لها على ما كان عليه المسلمون من عدم الاستجابة التامة للقيم الاسلامية، والانفصال عن رواسب الجاهلية، فهذا سعد بن ابي وقاص الذي يعدّ من أوائل الصحابة وأجلهم، يعترف بمكانة علي عليه السلام وتفرده بما لا يدركه فيه أحد، حيث يقول لمعاوية "سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في علي خصالا ثلاثاً: لئن يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليَّ من حمر النعم، سمعته يقول: "إنّه منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي"، وسمعته يقول: "لأعطينّ الراية غداً رجلا يحبّ الله ورسولَه ويُحبّهُ الله ورسولُه"، وسمعته يقول: "أيّها الناس من وليّكم"؟ قالوا: الله ورسوله ثلاثاً، ثمّ أخذ بيد علي فأقامه ثمّ قال: "من كان الله ورسوله وليّهُ فهذا وليه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه) ثم يمتنع عن مبايعته لسبب بينّه الامام علي عليه السلام في خطبته الشقشقية بقوله (فصغا الاخر لضغنه)، أي بسبب من قتلهم علي عليه السلام في حروب الإسلام من أقارب سعد من الامويين. وهذه ام هاني بنت أبي طالب تدخل على أخيها الامام علي عليه السلام لاستلام عطاءها فدفع اليها عشرين درهما فسألت مولاتها العجمية فقالت: كم دفع اليك امير المؤمنين؟ فقالت: عشرين درهما، فانصرفت مسخطه، فقال لها الامام علي عليه السلام: انصرفي رحمك الله ما وجدنا في كتاب الله فضلا لإسماعيل على اسحاق.
إن العوامل التي ذكرتها، من تجذر الموروث الجاهلي في نفوس المسلمين وكون الدعوة الإسلامية حركة تاريخية قصيرة زمنيا واعتمدت ـ الى حد كبير ـ العامل الغيبي في تحققها، قد عالجها التخطيط الاسلامي بالإمامة حيث تمتد القيادة الالهية المدلة على حقائق الرسالة الإسلامية ومفرداتها المثالية الى زمن يستوعب عملية التحول عند الناس بشكل صحيح.
وهذا يجعلنا أمام نقاط عدة:
1. إن الصورة التي يقدمها طرح المخالف في أن المسلمين قد بلغوا ما يحمله الاسلام من مثل، واندمجوا في تعاليمه الاندماج المطلوب غير ممكنة علميا ومنطقيا.
2. وعليه فإن عملية الانحراف الذي تمت بعد رسول الله (صلى الله عليه واله) لم يشكل فيها شخص علي عليه السلام غير جزء من الدافع، وإن الدافع الحقيقي هو ان الانحراف يمثل استجابة طبيعية لعدم وصول عامة المسلمين الى الانفكاك المطلوب عن رواسبهم وعدم الوصول الى الصورة المثالية التي رسمها الاسلام، وربما كان هذا ردا على الاشكال الذي طالما أثير في أنه كيف لقلة قليلة أن تتمكن من قيادة انقلاب كلي في دولة المسلمين؟ حيث أن بذور الانقلاب كان يحملها عموم المسلمين ودور هؤلاء القلة تمثل بقيادتها.
3. إن عملية وصول عامة المسلمين الى الحالة الاسلامية النموذجية لم تكن ضمن المخطط الالهي لأنها غير ممكنة ـ كما بيّنت ـ وإن التخطيط الالهي يتمثل بالاعتماد على صفوة من المسلمين بلغوا الكمال المطلوب يقودهم الإمام المعصوم الذي يمثل استمرارية القيادة الالهية ليكونوا بذلك الحكومة الإسلامية، ومن ثم يخضع لها عامة المسلمين كرعية، أي أن هذه الحكومة ترسم للرعية الطريق الصحيح للكمال الإسلامي ثم يسعى المسلم في سلوكه كل حسب طاقته، فلا يبلغ نهايته بالضرورة ولكنه لا يحيد عنه. لا أن يفتح الباب على مصراعيه لكل من قلقل لسانه بالشهادتين، فيكون القائد والمعلم وربما كان هو أحوج الى التعليم والإرشاد، فهذا طلحة والزبير اللذان كان لهما ما كان من سابقة في الإسلام (وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه أمر عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي رافع وأبا الهيثم بن التيهان، أن يقسموا فيئاً بين المسلمين، وقال لهم:
"اعدلوا بينهم ولا تفضلوا أحداً على أحد، فحسبوا فوجدوا الذي يصيب كل رجل من المسلمين ثلاثة دنانير، فأعطوا الناس.
فأقبل عليهم طلحة والزبير ومع كل واحد منهما ابنه، فدفعوا إلى كل واحد منهم ثلاثة دنانير، فقال طلحة والزبير، ليس هكذا كان يعطينا عمر، فهذا منكم أو عن أمر صاحبكم؟
قالوا: بل هكذا أمرنا أمير المؤمنين (عليه السلام) .
فمضيا إليه (عليه السلام)، فوجداه في بعض أحواله قائما في الشمس على أجير له يعمل بين يديه، فقالا له: ترى أن ترتفع معنا إلى الظل؟
قال: نعم.
فقالا له: إنا أتينا إلى عمالك على قسمة هذا الفيء، فأعطوا كل واحد منا مثل ما أعطوا سائر الناس.
قال: وما تريدان؟
قالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر.
قال (عليه السلام): فما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطيكما؟
فسكتا.
فقال (عليه السلام): أليس كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم بين المسلمين بالسوية من غير زيادة؟
قالا: نعم.
قال: أفسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالاتباع عندكما، أم سنة عمر؟
قالا: سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن يا أمير المؤمنين لنا سابقة وعناء وقرابة، فإن رأيت أن لا تسوينا بالناس، فافعل.
قال: سابقتكما أسبق أم سابقتي؟
قالا: سابقتك، قال: فقرابتكما أقرب أم قرابتي؟
قالا: قرابتك.
قال: فعناؤكما أعظم أم عنائي؟
قالا: بل أنت يا أمير المؤمنين أعظم عناءً.
قال: فوالله ما أنا وأجيري هذا في المال، إلا بمنزلة واحدة، قالا: جئناك لهذا وغيره، قال: وما غيره؟ قالا: أردنا العمرة، فأذن لنا، قال: انطلقا، فما العمرة تريدان، ولقد أنبئت بأمركما وأريت مصارعكما، فمضيا وهو يتلو وهما يسمعان قول الله سبحانه (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما)".
4. ربما جاءت وفاة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) كحلقة ضمن التخطيط الالهي للحفاظ على الإسلام، حيث كان في علم الله أن عملية الخضوع للحكومة المعصومة من قبل المسلمين لن تتم، وأن الغلبة ستكون للرواسب الجاهلية والى تغير النفوس بفعل الانتعاش الاقتصادي الهائل الذي تحقق بفعل الفتوحات، مما يؤدي الى عملية انقلاب حتمية، كما انقلب بنو اسرائيل على نبيهم موسى عليه السلام واتخذوا العجل الها، فإذا استمر النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) بحياته الشريفة فسيواجه هو (صلى الله عليه واله) ذلك الانقلاب الذي يعني بالضرورة انقلابا على الاسلام برمته، فتوفاه الله حالما أكمل التبليغ وأتم الحجة، ليكون الانقلاب في مرحلة الامامة التي ستمكّن المنقلبين من إيجاد منفذ للاستجابة لمتطلبات واقعهم النفسي، من حيث رواسب الجاهلية واخلاقياتها واعرافها ومن حيث نوازغ الشيطان، بفعل القاعدة التي بينها الامام الحسين عليه السلام في قوله "إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ"..
مع الحفاظ على الاساس الاسلامي من حيث وجوده وكيانه.