اسألوا أهل العلم
إن للكون مظاهر شتى لا يجمعها علم واحد، لأنها تفوق الحصر عدا بخاصة في هذا العصر الذي تشعبت فيه العلوم، وما زالت تتسع وتتنوع كلما تكشفت حقيقة من حقائق الكون، وإذا أحاط أرسطو بعلوم زمانه كافة، فيستحيل عليه لو وجد اليوم، وعلى أي عبقري سواه أن يجمع بين علومنا كلها أو جلها.
لذا اضطر العلماء إلى الاقتصار والاختصاص، وانقسم العلم بينهم، كما انقسم العمل بين التاجر والفلاح والعامل.
وهكذا تقسم الكون إلى مناطق، واكتفت كل طائفة من الباحثين بمنطقة واحدة، كالأفلاك، أو الأشكال الهندسية، أو الانسان أو الحيوان أو النبات، وغير ذلك.
وهذه العلوم، إن كانت متباينة إلا أن اتصالها بكون واحد، واستخدامها جميعا في حياة عملية واحدة جعل بينها ارتباطا قويا؛ بحيث إذا كشف بعض العلوم عن حقيقة جديدة أدى ذلك إلى التبديل أو التعديل في وجهات النظر من العلوم الأخرى، وعلى الرغم من هذا الاتصال الوثيق بين العلوم فإنك إذا سألت أحد العلماء عن مسألة لا تدخل في الفرع الذي تخصص به يجيبك بأن هذا خارج عن دائرة اختصاصه، كما لو سألت عالم النبات -مثلاً- عن أمر يتعلق بالتشريح، بل لو سألته
ما هي المادة المشتركة بين النبات وغيره من المعادن لقال لك لا أعلم، وهو محق لأنه لا يريد الكلام عن جهل.
إذن، ما بال بعض الشباب من الذين درسوا الحقوق أو الطب أو الآداب، ولم يدرسوا فلسفة ما وراء الطبيعة، ما بال هؤلاء يقفون موقف المنكر المعاند، ويصدرون أحكاما في أشياء لا يعرفون منها كثيرا ولا قليلا؟! ان مصطفى محمود تخرج من كلية الطب، ولم يدرس اللاهوت ولا الفلسفة. ومع ذلك ألّف كتابا موضوعه «اللّه والانسان»! لا يا أستاذ، إنك لا تصلح ساعتك عند «سمكري» ولا تنظف بدلتك عند «إسكافي»، ولا تتعلم الطب في كلية الزراعة. إذن كيف تكلمت عما وراء الطبيعة، وعلم ما كان قبلها، ويكون بعدها وأنت لا تعلم عنه شيئا؟ وهل ترضى أن نتكلم نحن عن الطب الذي درسته أنت في كلية الطب بالقصر العيني؟!
ومهما يكن، فإن كل فئة من علماء الكون تقتصر على ناحية خاصة لا تتجاوزها، فعالم النبات لا يتعرض للمعادن والحيوان، والطبيب البيطري لا يبحث في جسم الانسان وعلله وأمراضه، وكذلك عالم الفلك وعالم الكيمياء فإنه لا يرى إلا ناحية واحدة من الكون على أن معرفته بها تبقى ناقصة مهما اجتهد وتقدم، فكيف بمعرفة أسرار الوجود وأسبابه، وطبيعته ونظمه؟! ومن هنا تخصص لمعرفة الكائن وراء الطبيعة طائفة من العلماء لا يفكرون بشأن غير شأنه، ولا يهتمون بأمر غير أمره.
إن علماء الطبيعة يدرسون المادة، ويطلبون أسبابها القريبة، ويقفون عند الظواهر، ولا يذهبون إلى الأعماق، أما الفلاسفة، أما علماء ما وراء الطبيعة فيبحثون عن علة العلل، والسبب الغامض البعيد عن المادة والمحرك الأول لها. لقد تجرد هؤلاء، وهم عدد غير قليل من العقول الكبيرة العظيمة، تجردوا إلى البحث عن خالق الكون ومدبره، ووضعوا الأسفار الطوال في البراهين القاطعة على وجوده، ودفعوا عنها كل شبهة، حتى أصبحت كالشمس في رائعة النهار.
فإلى هؤلاء وحدهم يجب أن نرجع في معرفة الفكرة عن اللّه، وأن ندرس أقوالهم، ونحاكمها بتجرد واخلاص. أما أن نجحد ونعاند دون أن نستمع إلى أرباب العقول من ذوي الاختصاص فقد جادلنا بغير علم ولا هدى.
وبالتالي، فإذا بحثنا عن نواحي الطبيعة وحدها وتركنا البحث عما بعدها لظلت فكرة الألوهية دون حل، وتصوراتنا عما يتعلق بها دون امتحان، لأنها لا تعلل بالمادة، ولا تطرح على بساط البحث في المصانع والمختبرات، ولا يسأل عنها رجال السياسة أو علماء الأخلاق والاجتماع.
إذن لا بد من الرجوع إلى علم ما بعد الطبيعة الذي يبحث عن واجب الوجود وامتناعه و
إمكانه، وواجب الوجود هو ما اقتضت ذاته وجوده بالضرورة، وألزم العقل بافتراض وجودها على كل حال وإن عجز العلم عن إثباته بالطرق الموضوعية. وممتنع الوجود على العكس، أي ما اقتضت ذاته امتناع وجوده، وأحال العقل افتراض وجودها، أما الممكن فهو ما خلا من هذا الاقتضاء، ولم يحكم العقل لا بضرورة الوجود، ولا بضرورة العدم فيحتمل أن يكون موجودا، كما يحتمل ألا يكون له وجود.
ومن الخير أن نشير إلى أن الفلاسفة يلتقون هنا مع رجال الدين، لأن كلا من الفريقين يتطلع إلى ما وراء الطبيعة، والفرق بينهما ان الفلاسفة يعتمدون على العقل وحده، ورجال الدين يعتمدون على الوحي والعقل، لأنهم يعتقدون أن العقل إذا استقل في معرفة وجود الخالق وصفاته، وارسال الرسل وما اليه فإنه محتاج إلى معونة خارجية لإدراك كثير من المسائل.
المصدر: كتاب الإسلام والعقل