ما مدى صحّة حديث التائب من الغيبة آخر من يدخل الجنّة، وهل يتعارض مع الحديث التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟
يظهر من كلمات علمائنا حين تعرّضوا لهذا الحديث أنّه لا إشكال فيه، ثُمَّ إنّ هذا الحديث يُعَـدُّ من الأحاديث القدسيّة، إذْ ورد نصّه وَفْقاً لِما يلي: أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى بن عمران أنّ المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة وإن لم يتب فهو أوّل من يدخل النار. [ينظر: بحار الأنوار، ج ٧٢، العلّامة المجلسي، ص ٢٢٤، ص259].
فإذا عرفت ذلك، فهذا الحديث لا يتعارض مع الحديث المشهور: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). وإنّما يفيد أنّ التائب من الغيبة إذا حسنت توبته وندم واستغفر ربّه جلّ وعلا من ذلك العمل الشنيع، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيقبل توبته، فيرفع عنه عقوبة الغيبة، فيكون حاله كحال مَنْ لا ذنب له، ولكنْ في الوقت نفسه فإنّ الله سبحانه وتعالى سيؤخّر دخوله إلى الجنّة حتّى لا يتساوى مع من لم يرتكب الغيبة في حياته، فيتميّز بذلك صاحب السلوك الصحيح والمنهج القويم من غيره، وهذا بحدِّ ذاته يُعَـدُّ مصداقاً من مصاديق العدالة الإلهيّة في التمييز والتفضيل بين المسلمين بمختلف أصنافهم واتّجاهاتهم سواءٌ أكانوا من الأنبياء والرسل أم كانوا من أتباعهم، وهي ثقافة واضحة ينشر مفاهيمها القرآن العظيم في كثير من آياته، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة : 253]. وقال تعالى:)وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( [النحل : 76].وقال تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء : 95]، وقال تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير). [الحديد : 10].