إليكم خلاصة ما يدور من حديث اليوم بين أوساط بعض متبني ما يعرف بـ \الفكر الإلحادي\:
إننا نعتقد – بحسب العقيدة الإسلامية – ان الله تعالى عالم بالغيب، ويعلم من سيكون مؤمناً ومن سيكون كافراً، وهنا يأتي السؤال والإشكال:
اذا كان الله تعالى يعلم بأن زيداً سيكون كافراً فلماذا خلقه، فهل خلقه ليعصي وبالتالي يعاقب بالنار؟!
ثم إن هذا يناقض قوله تعالى: {إلاّ من رحم ربك و لذلك خلقهم}، فتبين الآية الكريمة إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق ليرحمهم لا ليعذبهم!!
فمثلاً لو كان الأبوان يعلمان انهما لو انجبا طفلاً فأنه سيولد مشوهاً فمن الظلم ان ينجبا ذلك الطفل؟
حسناً، سأبين لكم ما يلي:
اولاً: هناك فرق جوهري بين حالة الكافر المستحق للعقوبة وبين حال الطفل الذي يولد مشوهاً، فالأول يملك الاختيار دون الثاني، وهذا قياس مع الفارق.
لأنّ المفروض أنّه خلقنا وأعطانا حرية الاختيار وهدانا لما فيه مصلحتنا، ولم يجبرنا على معصيته، فإن عصيناه فبإرادتنا وسوء اختيارنا، وإن أطعناه فبإرادتنا وحسن اختيارنا، فليس في خلقه إيانا مع علمه بأننا سنختار طريق المعصية أي ظلم لنا، بل نحن من ظلمنا أنفسنا، قال تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 33)، بينما الطفل المشوه لا يملك هذا الخيار.
ثانياً: وهو الجواب التام ويتوقف على بيان مقدمات:
المقدمة الأولى.. غاية الخلق
إن الله تبارك وتعالى قد تعلق غرضه الأساس في خلق اناس ليرحمهم رحمة خاصة، وهؤلاء هم الأنبياء واوصيائهم؛ لا سيما سنام الخلق اجمعين وعرفاء أهل الجنة محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام، والأحاديث في هذا الجانب مستفيضة، فبالإضافة الى ما تقدم من أحاديث تصرح بأنَّ محمداً وأهل بيته هم غاية خلق السموات والأرض نورد لك هذه الأحاديث:
في حديث المعراج بعد تصريحه تعالى باختياره نبيّه وأولياءه الأئمّة المعصومين عليهم السلام قال تعالى: «فلولاكم ما خلقت الدّنيا والآخرة ولا الجنّة والنار ـ الخبر» (البحار ج 36 ص 302).
في الحديث القدسي عن الصّادق(عليه السلام) المرويّ في المعاني والعلل بعد بيان نبوّة الرسول(صلى الله عليه وآله) وإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولولاهما ما خلقت خلقي ـ الخبر )البحار ج38 ص81).
العلل، والعيون، والإكمال: عن الرّضا، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً أفضل منّي ولا أكرم عليه منّي... إلى أن قال : ـ يا عليّ، لولا نحن ما خلق آدم ولا حوّاء ولا الجنّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض..
في النبويّ العلوي(عليه السلام): \ولولانا لم يخلق الله الجنّة ولا النار ولا الأنبياء ولا الملائكة\ ـ الخ (البحار ج36 ص337).
في رواية المفضّل عن الصّادق(عليه السلام) في وصف خلقة الأرواح قبل الأجساد بعد ما رأى آدم أسماء النبي والأئمّة صلوات الله عليهم على ساق العرش قال تعالى: «لولاهم ما خلقتكما ـ الخ. تمام الرواية في البحار\ (البحار ج11 ص172.)
فمن خلال ما تقدم يتضح ان الغرض من خلق العالم بأسره هم طائفة خاصة من الناس هم محمد وآله صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
المقدمة الثانية: لماذا ميزهم الله عن غيرهم؟!!
ولكن هذه الغاية لا تتحقق إلاّ إذا كان في هؤلاء ما يميزهم عن سائر الخلق كالملائكة والسموات والأرض، وإلاّ لجاء السؤال: لماذا اعطاهم هذه الرحمات دون غيرهم؟
فلابد من اختبار وابتلاءات ينجح ويتفوق بها هؤلاء ليستحقوا الرحمة وبعبارة أخرى لابد من تكليف.
المقدمة الثالثة:
ومما لا ريب فيه إن التكليف يقتضي الاختيار وهنا كانت الكرة في ساحة المكلف فإن شاء أطاع وإن شاء عصى، فاذا عصى البعض فهو باختياره، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} فصلت: 46.
وبعبارة مختصرة قد تعلق غرض الله تبارك وتعالى من خلق هذا العالم برمته بالرحمة الخاصة وهي لا تنال إلاّ بالاستحقاق المقتضي للتكليف، والذي سيؤدي بطبيعة الحال الى معصية البعض؛ فتكون الغاية من خلق العاصين هي غاية تبعية للغاية الأصلية وهي الخلق للرحمة.
وقد اشار كبار المفسرين لهذه الحقيقة نذكر لكم اقوال بعض المعاصرين منهم:
فقد ذكر صاحب تفسير الميزان في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ...} (الأعراف: 179.) حيث قال:
الذرء هو الخلق، و قد عرف الله سبحانه جهنم غاية لخلق كثير من الجن و الإنس، و لا ينافي ذلك ما عرف في موضع آخر أن الغاية لخلق الخلق هي الرحمة و هي الجنة في الآخرة كقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، فإن الغرض يختلف معناه بحسب كمال الفعل و نهاية الفعل التي ينتهي إليها.
ولكن كيف يكون ذلك؟ إليك هذا المثال:
النجار إذا أراد أن يصنع باباً عمد إلى أخشاب يهيئها له ثم هندسه فيها ثم شرع في النشر و النحت و الخرط حتى أتم الباب فكمال غرضه من إيقاع الفعل على تلك الخشبات هو حصول الباب لا غير، هذا من جهة، و من جهة أخرى هو يعلم من أول الأمر أن جميع أجزاء تلك الخشبات ليست تصلح لأن تكون أجزاء للباب فإن للباب هيئة خاصة لا تجامع هيئة الخشبات، و لا بد في تغيير هيئتها من ضيعة بعض الأجزاء لخروجها عن هندسة العمل فصيرورة هذه الأبعاض فضلة يرمى بها داخلة في قصد الصانع مرادة له بإرادة تسمى قصداً ضرورياً فللنجار في صنع الباب بالنسبة إلى الأخشاب التي بين يديه نوعان من الغاية: أحدهما الغاية الكمالية و هي أن يصنع منها باباً، و الثاني الغاية التابعة و هي أن يصنع بعضها باباً و يجعل بعضها فضلة لا ينتفع بها و ضيعة يرمى بها، و ذلك لعدم استعدادها لتلبس صورة الباب.
و كذا الزارع يزرع أرضاً ليحصد قمحاً فلا يخلص لذلك إلى يوم الحصاد إلاّ بعض ما صرفه من البذر، و يذهب غيره سدى يضيع في الأرض أو تفسده الهوام أو يخصفه المواشي و الجميع مقصودة للزارع من وجه، و المحصول من القمح مقصود من وجه آخر.
و قد تعلقت المشية الإلهية أن يخلق من الأرض إنساناً سوياً يعبده و يدخل بذلك في رحمته، و اختلاف الاستعدادات المكتسبة من الحياة الدنيوية على ما لها من مختلف التأثيرات لا يدع كل فرد من أفراد هذا النوع أن يجري في مجراه الحقيقي و يسلك سبيل النجاة إلاّ من وفق له، و عند ذلك تختلف الغايات و صح أن لله سبحانه غاية في خلقة الإنسان مثلاً و هو أن يشملهم برحمته و يدخلهم جنته، و صح أن لله غاية في أهل الخسران و الشقاوة من هذا النوع و هو أن يدخلهم النار و قد كان خلقهم للجنة غير أن الغاية الأولى غاية أصلية كمالية، و الغاية الثانية غاية تبعية ضرورية، و القضاء الإلهي المتعلق بسعادة من سعد و شقاوة من شقى ناظر إلى هذا النوع الثاني من الغاية فإنه تعالى يعلم ما يؤول إليه حال الخلق من سعادة أو شقاء فهو مريد لذلك بإرادة تبعية لا أصلية.
و على هذا النوع من الغاية ينزل قوله تعالى: {و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس}، و ما في هذا المساق من الآيات الكريمة و هي كثيرة (تفسير الميزان ج8ص187).
وفي نفس السياق يقول صاحب تفسير الأمثل:
وعلى كل حال، فإنّ الإشكال المهم في هذا التعبير هو كيف قال الله سبحانه {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس}؟ في حين قال في مكان آخر: {وما خلقت الجن والإِنس إلاّ ليعبدون}، وطبقاً لمعنى هذه الآية فإنّ الجن والإنس لم يخلقوا لغير عبادة الله والتكامل والسعادة، أضف إلى ذلك أنّ هذا التعبير تُشمّ منه رائحة الجبر في الخلق، ومن هنا فقد استدل بعض مؤيدي مدرسة الجبر من أمثال الفخر الرازي بهذه الآية لإثبات مذهبه.
لكنّنا لو ضممنا آيات القرآن بعضها إلى بعض وبحثناها موضوعيّاً دون أن نُبتلى بالسطحيّة، لوجدنا الجواب على هذا السؤال كامناً في الآية محل البحث ذاتها، كما هو بيّن في آيات أخرى من القرآن الكريم أيضاً ... بحيث لا يدع مجالاً لأنّ تُستغل الآية ليُساء فهمها لدى بعض الأفراد، فمثلُ هذا التعبير كمثل قول النجار إذ يقول مثلاً: إنّ قسماً كبيراً من هذا الخشب وقد هيأته لكي أصنع منه أبواباً جميلة، والقسم الآخر هو للإحراق والإضرام... فالخشب الرائق الجيّد المناسب سأستعمله للقسم الأوّل، وأمّا الخشب الرديء غير المناسب فسأدعه للقسم الثّاني.
هدفان: أصيل وتابع!!
ففي الحقيقة أنّ للنجار هدفين: هدفاً «أصيلاً» وهدفاً (تبعيّاً).
فالهدف الأصيل هو صنع الأبواب والأُطر الخشبيّة الجيّدة وما إلى ذلك، وهو يبذل قصارى جهده وسعيه في هذا المضمار...
إلاّ أنّه حين يجد أنّ بعض الخشب لا ينفعه شيئاً، فسيكون مضطراً إلى نبذه ليكون حَطباً للحرق والإشعال، فهذا الهدف «تبعيّ» لا أصلي.
والفرق الوحيد بين هذا المثال وما نحن فيه، أنّ الاختلاف بين أجزاء الخشب ليس اختياراً، واختلاف الناس له صلة وثيقة بأعمالهم أنفسهم، وهم مختارون وإرادتهم حرّة بإزاء أعمالهم.
وخير شاهد على هذا الكلام ما جاء من صفات لأهل النّار وصفات لأهل الجنّة في الآيات محل البحث، التي تدل على أنّ الأعمال هي نفسها أساس هذا التقسيم، إذ كان فريق منهم في الجنّة، وفريق في السعير.
وتعبير آخر فإنّ الله سبحانه ـ ووفقاً لصريح آيات القرآن المختلفة ـ خلق الناس جميعهم على نسق واحد طاهرين، ووفّر لهم أسباب السعادة والتكامل، إلاّ أنّ قسماً منهم اختاروا بأعمالهم جهنم فكانوا من أهلها فكان عاقبة أمرهم خُسراً ... وأن قسماً منهم اختاروا بأعمالهم الجنّة وكان عاقبة أمرهم السعادة (تفسير الأمثل ج5ص299.)