لا تزال متلكئة.. هكذا ينبغي أن تتعامل المدارس مع الأطفال في ظل الجائحة

موقع الأئمة الاثني عشر
زيارات:1107
مشاركة
A+ A A-

الخصائص المشابهة للصعوبات التعلّميّة لأطفال ما بعد الجائحة: بين التدخّل والتشخيص

كتبت سكينة عفيف النابلسي:

جرت العادة في الكثير من المؤسّسات التعليميّة، بعد الانتهاء من الاختبارات المدرسيّة أو التقويم الختاميّ للمتعلّمين، أن تعمل هذه المدارس، عبر المتخصّصين لديها في مجال علم النفس والتربية الخاصّة، على إحالة المتعلّمين الذين يظهرون مشكلات تراكميّةً في أحد المستويات الأكاديميّة، أو النمائيّة، أو السلوكيّة، أو الانفعاليّة؛ لإجراء تشخيص نفس-تربويّ، لتحديد طبيعة المشكلة التي تواجههم.

اشترك في قناتنا ليصلك كل جديد

وهذه الإحالة غالبًا ما تكون مسبوقةً بإجراء عدد من التدخّلات التربويّة اللازمة، كتعديل الأهداف التعليميّة، أو الوضعيّة التعليميّة، أو غيرها من التعديلات على مستوى طرائق، أو استراتيجيّات التعليم التي تتناسب مع المستوى الحاليّ للمتعلّمين. وهذه التدخّلات غالبًا ما يقوم عليها معلّمو التربية الخاصّة، أو معلّم الصفّ العاديّ في حال عدم وجود فريق متخصّص لمتابعة المتعلّمين الذين يظهرون هذه المشكلات التعلّميّة.

يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الآليّة التي يجب على المدارس اعتمادها للتعامل مع الأطفال الذين يظهرون خصائص مشابهةً لخصائص الصعوبات التعلّمية الناتجة عن التعلّم عن البعد، والاعتماد على مبدأ الاستجابة للتدخّل على نطاق الصفّ برمّته.

استجابات تقليديّة

ثمّة الكثير من المدارس الحكوميّة والخاصّة في الكثير من أقطار العالم العربيّ، ما زالت متلكّئةً، أو لعلّها عاجزة عن اعتماد سياسة تعليميّة تراعي خصوصيّة المتعلّمين الذين يظهرون قصورًا في أحد جوانب التعلّم، أو الجوانب النمائيّة المصاحبة لصعوبات التعلّم مثلًا. وقد يكون أحد أسباب عزوف هذه المؤسّسات عن العمل ضمن سياسة المدارس الدامجة صعوبةُ استقبال كلّ المتعلّمين الذين تختلف الصعوبات لديهم من متعلّم إلى آخر، أو صعوبةُ تكوين فريق مدرسيّ يتخصّص بجوانب القصور كلّها لدى الأطفال، أو ربّما للتكلفة العالية التي يحتاجها هذا النوع من الخدمات.

عليه، تلجأ الكثير من المدارس إلى الاستعانة بفريق خارجيّ للتشخيص، ولإعطاء توصيف للمشكلات التي يواجهها المتعلّمون. وقد تكون التوصيات الصادرة عن جهة التشخيص غير فاعلة في بعض الأحيان في ظلّ عدم وجود فريق مدرسيّ متخصّص يعمل على تقديم الدعم لهم، أو يسير وفق التوصيات المرفقة بالتقارير التربويّة. هذا الأمر قد يقلّل من أهمّيّة التشخيص، إلّا إذا قرّر الأهل الاستعانة بهذه المراكز لتلقّي خدمات متخصّصة بعيدًا عن المدرسة، وغالبًا ما تكون هذه الخدمات رغم أهمّيّتها غير كافية لتطوير مهارات الأطفال، أو لإكسابهم الكفايات التعلّميّة الأساسيّة، لأنّ مثل هذه التدخّلات تحتاج إلى مثابرة، ومتابعة دائمة، وهذا ما قد تقدّمه المدارس لمتعلّميها حينما يكونون ضمن بيئة دامجة تراعي احتياجاتهم، وفروقهم الفرديّة.

على الرغم من دقّة تشخيص بعض الأطفال الذين يأتون إلى مراكز التشخيص دون معطيات مسبقة من المدرسة، إلّا أنّ هذا الأمر أصبح الآن أكثر تعقيدًا في ظلّ الغياب القسريّ للأطفال عن المدارس نتيجة جائحة كورونا، تلك الجائحة التي تسبّبت بحرمان الملايين من أطفال العالم من الإفادة من وجودهم في المدارس لتلقّي تعليمهم بصورة تفاعليّة مباشرة مع أقرانهم ومعلّميهم، خاصّةً الأطفال الذين لديهم إعاقات، أو صعوبات تعلّميّة. بيد أنّ غياب الأطفال عن المدارس لم يؤثّر فقط على مكتسباتهم، وتفاعلهم مع معلّميهم، أو تنافسهم مع أقرانهم، بل وإنّ تداعيات هذا الغياب القسريّ كانت متنوّعةً بصورة لم تبلغ فقط التعليم، والتعلّم، وأساليب التقييم، بل وصلت أيضًا إلى الخصائص النفسيّة، والسلوكيّة، والاجتماعيّة، والمهارات الذهنيّة للأطفال جميعًا، ما شكّل فئةً جديدة من الأطفال باتت خصائصهم متشابهةً إلى حدّ كبير مع خصائص الأطفال ذوي الصعوبات التعلّميّة، لكنّ هذا لا يعني أنّ تلك الخصائص هي أمر ثابت لديهم؛ فهي قد تتغيّر بعد مدّة من عودتهم التدريجيّة إلى مقاعدهم الدراسيّة، إن كان هذا الأمر مرتبطًا بالتعلّم عن بعد.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو كيفيّة التعامل مع هؤلاء الأطفال الذين يظهرون تلك الخصائص المشابهة مع الصعوبات التعلّميّة خاصّةً في المدارس التي لم تختبر بعدُ تجربةً من هذا القبيل، أو تلك التي ليس لديها خدمات في التربية الخاصّة، فهل يحال كلّ هؤلاء الأطفال إلى مراكز التشخيص التربويّ لمعرفة طبيعة المشكلات، أم أنّه لا بدّ من الانتظار مدّةً زمنيّةً معيّنةً؟

محكّات ضروريّة

قبل اتّخاذ قرار بالتشخيص، أو بتأجيله مدّةً معيّنةً، لا بدّ من العودة إلى المحكّات الأربعة التي وضعها قانون الأفراد ذوي الإعاقة الأمريكيّ  (IDEA, 2006)، الذي ينصّ بمجمله على ضرورة استبعاد العوامل التي قد لا تكون مسبِّبًا أساسيًّا للصعوبات التعلّميّة، مثل وجود قصور في السمع، أو البصر، أو وجود أسباب عاطفيّة، أو اجتماعيّة وغيرها، لكنّ المحكّ الأساسيّ الذي شدّد القانون على ضرورة استبعاده هو المحكّ المتعلّق بجودة التعليم، وهو الافتقار إلى التوجيه المناسب (Lack of appropriate instruction)، فلو استبعدنا محكّ الوضع الاقتصاديّ، والقصور البصريّ مثلًا، وكان التعليم الذي يتلقّاه الطفل يحقّق الجودة اللازمة، وجب علينا البحث عن أسباب أخرى لمعرفة مسبّبات الصعوبات التعلّميّة التي يظهرها الطفل، كأن نقيس بعض المهارات الذهنيّة مثل الذاكرة العاملة، والانتباه، والتركيز، أو مهارات الوعي الفونولوجيّ على سبيل المثال.

أمّا في حالة الغياب القسريّ عن المدرسة الناتج عن جائحة كورونا، فإنّنا لا نستطيع الحكم على الأطفال بأنّ لديهم صعوبات تعلّميّةً، حتّى لو تشابهت خصائصهم مع خصائص الأطفال ذوي الصعوبات التعلّميّة، لا سيّما أنّنا لا نعرف الكثير عن استجابة الأطفال للتعلّم عن بعد، ولا نعرف عن التفاوت الحاصل بين مدرسة وأخرى، ولا بين مادّة تعلّميّة وأخرى، ولا بين معلّم وآخر، إذ إنّ المعلّم قد يواجه بنفسه تحدّيات تتعلّق بطريقة إيصال المعلومات والمفاهيم خاصّةً للأطفال الصغار. هذا إلى جانب أنّنا لا نعرف ما إذا كانت ظروف الأطفال متشابهةً؛ إذ نسمع كثيرًا عن التناوب على الحاسوب أو الهاتف الذكيّ بين أبناء البيت الواحد، والانقطاع المتكرّر أو الدائم للإنترنت والكهرباء. فوق هذا كلّه يأتي المستوى التعليميّ للأهل، وكيفيّة متابعتهم لتدريس أطفالهم، والوقت الذي يقضونه في الدرس. عليه، إنّنا لا نستطيع بأيّ صورة استبعاد المحكّ الأساسيّ الوارد في قانون الأفراد ذوي الإعاقة خاصّةً أنّنا لا نملك المعطيات الكاملة عن جودة التعليم في هذه المرحلة، إذًا ما الحلّ الذي علينا اللجوء إليه؟

بدائل ضروريّة

يأتي الحلّ عبر خطوات مدروسة يقوم عليها صانعو القرار من مديري مدارس إلى الوزارات المعنيّة، من خلال السعي الجدّيّ الحثيث إلى وضع خطط شاملة لإجراء عمليّات مسح لمستويات الأطفال، لا سيّما في مرحلة التعليم الأساسيّ، وذلك على مستوى مهارتي القراءة والكتابة، والمفاهيم الأساسيّة المرتبطة بالصفّ التعليميّ الذي يلتحقون به. بعد عمليّات المسح هذه، يأتي دور المراجعة العامّة للمفاهيم الأساسيّة في المنهاج، والتركيز على الكفايات الضروريّة، ومراجعة الأساسيّات في كلّ الموادّ الدراسيّة، إلى جانب التقييم المستمرّ (Rosenshine, 2012).

تشبه هذه الخطوة ما يعرف بالاستجابة للتدخّل، تلك المتّبعة مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة، لكن على مستوى الصفّ كلّه، ويطلق عليها حاليًّا التدخّل على نطاق الصفّ (Class-wide intervention)، ويكون هذا التدخّل موجّهًا للأطفال جميعهم. ولأنّه من المتوقّع أن يعود الكثير من الأطفال إلى المدرسة مع تأخّر واضح في مستوى مهاراتهم مقارنةً مع ما هو متوقّع منهم بوصفه متطلّبًا للصفّ الحاليّ. لذلك، فإنّ مبدأ التدخّل للصفّ كلّه سيكون أمرًا ضروريًّا في هذه المرحلة، علاوةً على ذلك، ستظهر فروق إضافيّة عند مجموعة من الأطفال تحتاج إلى مساعدة إضافيّة غير تلك التي تعطى للصفّ كلّه، وهنا يلعب المستوى الثاني من مبدأ "التدخّل للاستجابة" (Tire 2- RTI) دورًا مهمًّا فعّالًا لمساعدة الأطفال، والعمل وفق فروقهم الفرديّة. ستؤدّي هذه الخطوة أيضًا دورًا مهمًّا لدى هؤلاء الأطفال؛ لأنّها ستحدّد ما إذا كانوا سيحالون إلى المستوى الثالث، المسبوق بإجراء تشخيص شامل على المستويات كلّها، الذهنيّة، والأكاديميّة، والذكاء أيضًا عند من يراه ضروريًّا، أم سيعودون إلى المستوى الأوّل.

بعد إعطاء الوقت الكافي لهذه التدخّلات الجماعيّة والفرديّة، تأتي الخطوة الثانية، وهي إحالة بعض الأطفال إلى التشخيص النفس- تربويّ لمعرفة أسباب الصعوبات التعلّميّة التي يواجهونها، إيذانًا بوضع خطّة فرديّة تربويّة (IEP) لهم مع تلقّي خدمات التربية الخاصّة المناسبة لهم.

أودّ الإشارة هنا أنّ المدّة اللازمة لظهور الاستجابة للتدخّل ما بعد العودة إلى المدارس، سواءً كانت للصفّ كلّه، أو لبعض الأطفال فيه، يجب أن تختلف من بلد إلى آخر، وربّما من محافظة إلى أخرى في بعض البلدان الكبيرة. مثلًا، في لبنان تغيّب الأطفال عن مدارسهم بمعدّل سنتين دراسيّتين اختلطت فيها الأسباب الداعية لذلك. وفي بعض البلدان، تغيّب الأطفال لستّة أشهر، ثمّ عادوا تدريجيًّا، أو عاد بعضهم إلى التعليم بصورته المدمجة بين الذهاب إلى المدرسة، والتعلّم المتزامن عن بعد. لذلك، فإنّ مدّة التدخّل يجب أن تدرس بصورة خاصّة بكلّ دولة، وبطريقة تراعي خصوصيّة الحال، ومدّة غياب الأطفال عن الحضور إلى المدارس.

بناءً على ما سبق، فإنّ المباشرة بإحالة الأطفال إلى مراكز التشخيص النفسيّ-التربويّ مباشرةً مع بدء العودة إلى المدارس لن يكون عادلًا لأيّ جهة، وإنّ استعجال الأهل في أخذ هذا القرار على المستوى الشخصيّ لن يكون قرارًا صائبًا، لكنّ هذا لا يمنع من استشارة المعنيّين للاطمئنان، أو لمعرفة الخطوات الواجب اتّباعها. في الكفّة الأخرى، إنّ تجاهل القياس بصورة مطلقة بحجّة أنّ سبب تأخّر بعض الأطفال ناتج فقط عن التعلّم عن بعد قد يكون قرارًا خاطئًا أيضًا. لهذا السبب، فإنّه من الضروريّ بدايةً إجراء عمليّة القياس، ثم تأتي عمليّة التدخّل الكلّيّ، ثمّ الفرديّ، بعدها يأتي القرار بصورة أكثر وضوحًا حول ما إذا كان بعض الأطفال يحتاج إلى التشخيص، أو إلى خدمات متخصّصة.

على الرغم من أنّ الجميع ينتظر عودة الأطفال إلى مدارسهم، فإنّ تحدّيات كثيرةً تنتظر الجميع؛ إذ ثمّة جوانب نفسيّة وانفعاليّة تحتاج أيضًا إلى القياس، ويجب عدم الارتكاز فقط على الجوانب الأكاديميّة والمهارات. هكذا، فإنّ دور المعلّم في المرحلة القادمة سيكون فيه الكثير من البحث، والتجربة، والتشاور مع المختصّين حتّى تعود الأمور إلى مجراها الاعتياديّ.

خلاصة

إنّ عمليّة القياس أو التشخيص كانت، وما زالت، عمليّةً شائكةً دقيقةً، ولطالما كان ثمّة خلاف على قراءة نتائج التقارير الصادرة عنها بسبب اختلاف النظريّات التي ينطلق منها المتخصّصون، واختلاف خبراتهم وتجاربهم. لأجل ذلك، فإنّ المرحلة القادمة هي مرحلة دقيقة نحتاج معها إلى التروّي، وعدم الاستعجال في إطلاق الأحكام، وإنّ أيّ تسرّع سوف يؤثّر في الناحية النفسيّة للأطفال وذويهم، وقد يطبع معه مرحلةً دراسيّةً كاملةً.

ولأنّ عمليّة التشخيص تُتبع دائمًا بعمليّة التقويم، فإنّ دقّة التشخيص تعني خططًا دراسيّةً، وخططًا فرديّةً ملائمةً لاحتياجات الأطفال والفروق الفرديّة بينهم، سواءً أكان الأطفال من الأطفال الموهوبين، أو ذوي الإعاقات السمعيّة والبصريّة، أو الصعوبات التعلّميّة، فكلّها سيكون معتمِدًا بصورة أساسيّة على القياس والتشخيص الصحيحين.

لذلك، نعمد في هذا الملفّ، الذي يسلّط الضوء على الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة في ظلّ الجائحة، على نقل تجاربنا التي خبرناها، أنا وزملائيّ في جامعة العلوم والآداب اللبنانيّة، في العمل مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة في ظلّ الجائحة، كلٌّ حسب خبرته واهتماماته، لعلّ ذلك يكون مساعدًا في فتح الآفاق أمام صانعي القرار للإفادة من تجاربنا التي تغطّي كلّ فئات الأطفال ذوي الإعاقة، فضلًا عن الموهوبين.

منهجيات

مواضيع مختارة