بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) [النساء: 69].
صدق اللهُ العليُ العظيم.
إذا وقفنا على عنوان الصالحين فإن الصالح يختلف عمن عمِل صالحاً، فالقرآن الكريم تارةً يُعبّر بمَن عمِل صالحا، وتارة يُعبِّر بالصالحين.
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1 – 3].
وهذا عنوانٌ يختلف عن عنوان الصالحين، ولذلك كان دعاء نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله السلام: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء: 83].
وتحدث القرآن عن الأنبياء بهذه الصفة: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 85 – 86].
وأيضاً في قوله تعالى: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا ۖ إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ) [الأنبياء: 85 – 86].
وقال عن نبيه عيسى على محمد وآله و: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 46].
وتحدث عن نبيه يحيى على محمد وآله و: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ)[آل عمران: 39].
وتحدث عن صاحب الحوت يونس على محمد وآله و: (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القلم: 50].
ولأجل ذلك ورد في الدعاء الشريف، تقوله في ليالي شهر رمضان: أَللّهُمَّ بِرَحْمَتِكَ فِي ٱلصَّالِحِينَ فَأَدْخِلْنَا، وَفِي عِلِّيِّينَ فَٱرْفَعْنَا، وِبَكَأَسٍ مِنْ مَعِينٍ مِنْ عَيْنٍ سَلْسَبِيلٍ فَٱسْقِنَا…
وورد في زيارة مولانا أبي الفضل العباس : السَّلامُ عَلَيكَ أيُّها العَبدُ الصَّالِحُ المُطِيعُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأمير المُؤمِنِينَ وَالحَسَنِ وَالحُسَينِ صَلّى اللهُ عَلَيهِم وَسَلَّمَ..
كما ورد في ألقاب الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: العَبدُ الصَّالِح.
وكل تلك الشواهد تفيدنا أن اتصاف الإنسان بكونه من الصالحين اسمى من اتصافه بأنه يعمل صالحا.
فالصالح هو المُتقوِّم بعنصرين:
العنصرُ الأول: أن الصلاح طبعه فلا يُفكر إلا في الصلاح ولا يهم إلا بعمل الصالح ولا يصدر منه إلا ما هو صالح.. لأن الصلاح مُتمركز فيه بحيث أصبح طبعاً له.
العنصرُ الثاني: أن الصالح ما كان صلاحه في نفسه منشأً لصلاح غيره: (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس: 35].
ومعنى الآية المباركة أن هناك فرقاً بين مَن هدايته ذاتية له فهي نور لنفسه ونور لغيره، وبين من لا يستطيع أن يهدي إلا أن يُهدى بحيث تكون هدايته غيرية اكتسابية، فالأول هو الصالح والثاني هو المتقصد والمتكلف للصلاح وفرقٌ بينهما.
وإذا نظرنا لشخصية أم البنين الأربعة وجدنا أن هذه الشخصية الجليلة هي من قسم الصالحين. فإن أم البنين الأربعة صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبنائها الشهداء تتمتع بخصلتين:
الخصلةُ الأولى:
تعلقها بالإمام المعصوم تعلقاً جعلها تنسى أفلاذ كبدها في سبيل الإمام المعصوم ، وهذا لم تروه الكتب المتأخرة فقط وإنما روته حتى الكتب المتقدمة.
فلقد روى الشيخ يحيى الشجري الجرجاني في كتابه الأمالي الخميسية وهو من علماء القرن الخامس حيث توفي 499 هج، روى أن الإمام الحسين بكي عليه خمس سنين وكان ممن يبكيه ويندبه أم البنين وهي أم جعفر الكلابية، وقد كف بصرها حتى كان مروان يتقصد موضع جلوسها وبكائها على الحسين [1] .
فالمرأة التي لا تُفكِّر في أولادها وهم أفلاذ كبدها، وإنما كلّ حزنها وغمها على الحسين فإن ذلك يكشف عن فنائها في الإمام المعصوم وذوبانها فيه مما يكشف عن أسمى درجات الولاء للامام المعصوم ، وبالتالي فهي تُعلمنا جميعاً درساً تربوياً في الإخلاص لمنصب الإمامة، وهو يقتضي بذل النفس وبذل الجهد وبذل المال والتضحية بكلّ غالٍ ونفيس في سبيل هذا المنصب العظيم الذي ضحى من اجله أهل البيت منذ يوم الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها وعلى آلها الطيبين الطاهرين إلى يوم الإمام الحسن العسكري صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
الخصلةُ الثانية:
لاشك عندنا في معاصرتها لفاجعة كربلاء وتفاعلها الذي لامثيل له، ولكن لو فرضنا جدلاً أن أم البنين لم يثبت وجودها حين وقوع معركة كربلاء، وما ثبت بكاؤها على الحسين ، فإنه يكفي في عظمتها أن الله وفقها أن تكون أُمّاً لأربعة شهداء، فإن هذا منصبٌ عظيم وشرفٌ عظيم لا يناله كلُّ شخص، ولولا أنّ المرأة ذاتُ أهلية ومكانة عظيمة عند الله تعالى لما وفقها الله لهذا الشرف والوسام الكبير، بأن جعلها أُماً لأربعة شهداء، بل كلُّ أولادها مضو شهداء في سبيل الإمام الحسين وقضيته ومبادئه، فإن هذا شرفٌ لايبلغه إلا مَن محض الصلاح محضاً حتى أصبح صلاحه منهلاً لإصلاح أبنائه.
وكذلك الشأن في شخصية السيدة الحوراء زينب ، فانه لا حاجة في اثبات عظمتها أن نبحث عن هذا الحدث المعين هل حصل من السيدة زينب أو لا، وهل هذا الكلام صدر منها أو لا، فإنه يكفي في شموخ السيدة زينب وعلو مكانتها أنها شريكة الإمام الحسين ، في تحمُّل المسؤولية والنهوض بأعباء الحركة الإصلاحية المباركة.
فان توفيق الله للإنسان لبعض المواقع الخطيرة ولبعض الأوسمة العالية هو بنفسه يدل على مكانة عظيمة له عند الله تعالى.
ولذلك فإن الجدير بالمؤمنين الاستفادة من هذه الشخصية الجليلة العظيمة أم البنين الأربعة وأولادها الشهداء ، وحقيقٌ بكل ذي حاجة وكل ذي ابتلاء أن يلجأ للتوسل بهذه المرأة العظيمة.
فلقد جرت سيرة أسلافنا وعلمائنا على التوسل بهذه المرأة الجليلة العظيمة لاعتقادهم أنها تحضر عند التوسل بها وتلبي حاجيات من طلبها بما منحها الله من القرب الملكوتي الخاص منه تعالى.
فقد كان سيدنا وسيد أساتذتنا المحقق الخوئي قدس سره، مِمَن يتوسل بها، ويُنوه إلى التوسل بها، وينقل عن أستاذه المعظم المحقق الأصفهاني قدس سره أنه كان يتوسل بها. فهي محل التوسل والتيمن والتبرك سلام الله عليها وعلى أولادها الشهداء الأربعة.
إذا قسى عليك جورُ السنِين
فافزع بِشكواكَ لأُمِّ البنين
قِفْ واخلعِ النعلَ لدى قبرها
في روضةٍ قد ضمّت الطاهرين
صلِّ وسلِّم وابتهِل خاشِعاً
في زُمرِ الملائكِ الخاشعين
واطلُب بها الفضل فإن اسمها
أمُّ أبي الفضلِ على العالمين
وفقنا الله وإياكم لزيارة قبرها ووفقنا الله وإياكم للتوسل بها في حاجاتنا وأمورنا وابتلاءاتنا، ورزقنا وإياكم شفاعتها وشفاعة الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
[1] قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ أَبِي: بَلَغَنِي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: بُكِيَ الْحُسَيْنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَمْسَ حِجَجٍ، وَكَانَتْ أُمُّ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيَّةُ تَنْدُبُ الْحُسَيْنَ وَتَبْكِيهِ وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهَا، فَكَانَ مَرْوَانُ وَهُوَ وَالِي الْمَدِينَةِ يَجِيءُ مُتَنَكِّرًا بِاللَّيْلِ حَتَّى يَقِفَ فَيَسْمَعَ بُكَاءَهَا وَنَدْبَهَا. ج1/ ص230 الأمالي الخميسية.